الجمعة، 5 ديسمبر 2025

04 - اليوم الآخر

 

الميزان 

 

 الْمِيزَانُ لُغَةً: مَا ‌تُقَدَّرُ ‌بِهِ ‌الْأَشْيَاءُ، خِفَّةً وَثِقَلًا.

 وَشَرْعًا: هُوَ مِيزَانٌ حَقِيقِيٌّ، لَهُ كِفَّتَانِ يَضَعُهُ اللَّهُ -تَعَالَى- يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لِوَزْنِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ، وَهُوَ مِيزَانٌ دَقِيقٌ، لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَلَا يَقْدِرُ قَدْرَ هَذَا الْمِيزَانِ إِلَّا اللَّهُ -سُبْحَانَهُ.

وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُؤْمِنُونَ بِالْمِيزَانِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَأَقْوَالُ السَّلَفِ: قَالَ -تَعَالَى"وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ"الْأَنْبِيَاءِ: 47؛ وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: "وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ"الْأَعْرَافِ: 8، 9.

الطُّهُورُ شَطْرُ الإيمانِ، والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ المِيزانَ، وسُبْحانَ اللهِ والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ -أَوْ تَمْلأُ- ما بيْنَ السَّمَواتِ والأرْضِ، والصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ، والصَّبْرُ ضِياءٌ ، والْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها، أوْ مُوبِقُها "الراوي : أبو مالك الأشعري- صحيح مسلم.

والحمدُ للهِ تَملَأُ الميزانَأي: إنَّها تُوزنُ وتَملأُ الميزانَ بالأجرِ والثَّوابِ، فتُرَجَّحُ كِفَّتُها، وذلك يومَ القيامةِ يومَ تُوزَنُ أعمالُ العبادِ، ويُجازي عليها اللهُ عزَّ وجلَّ، والميزانُ الذي تُوزَنُ به الأعمالُ يَومَ القيامةِ ميزانٌ حَقيقيٌّ لا يُشبِه مَوازينَ الخَلقِ، وهو من أُمورِ الغَيبِ التي يَجِبُ الإيمانُ بها.الدرر السنية.

ما مِن شيءٍ يوضَعُ في الميزانِ أثقلُ من حُسنِ الخلقِ، وإنَّ صاحبَ حُسنِ الخلقِ ليبلُغُ بِهِ درجةَ صاحبِ الصَّومِ والصَّلاةِ"خلاصة حكم المحدث : صحيح -الراوي : أبو الدرداء - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترمذي.

 

قال الخازِنُ: إن قُلتَ: أليسَ اللهُ عزَّ وجَلَّ يَعلَمُ مَقاديرَ أعمالِ العِبادِ؟ فما الحِكمةُ في وزنِها؟ قُلتُ: فيه حِكَمٌ، منها: إظهارُ العَدْلِ، وأنَّ الله عزَّ وجَلَّ لا يَظلِمُ عِبادَه. ومنها: امتِحانُ الخَلقِ بالإيمانِ بذلك في الدُّنيا، وإقامةُ الحُجَّةِ عليهم في العُقبى. ومنها: تَعريفُ العِبادِ ما لهم من خَيرٍ وشَرٍّ وحَسنةٍ وسيِّئةٍ. ومنها: إظهارُ عَلامةِ السَّعادةِ والشَّقاوةِ...تفسير الخازن:2/ 182.ا.هـ.

 

الثلاثاء، 4 نوفمبر 2025

03- اليوم الآخر

الْحَوْض

 وقت الحوض ومكانه:

الصحيح الراجح: أن حوض النبي صلى الله عليه وسلم يكون في عَرَصَات يوم القيامة قبل المرور على الصراط، فالذي يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا.

إن أهل السنة والجماعة يعتقدون بأن الحوض ثابت لإغاثة هذه الأمة من ظمأ الموقف وهوله كرامة منه تعالى لهم. والحوض لغة: مكان تجمع الماء في الأرض، وقيل: هو مجتمع الماء.

"إنَّ لِكلِّ نبيٍّ حَوضًا وإنَّهم يتباهونَ أيُّهم أَكثَرُ واردةً ، وإنِّي أرجو أن أَكونَ أَكثرَهم وارِدةً"الراوي : سمرة بن جندب المحدث : الألباني المصدر : صحيح الترمذي-الصفحة أو الرقم: 2443 خلاصة حكم المحدث : صحيح.

أي: كما أنَّ لي حوضًا سوف تَشْربونَ منه، فإنَّ لكُلِّ نبيٍّ مِنْ الأنبياءِ حوضًا تَشْرَبُ منه صَالحُ  أُمَّتِهِ وتَرِدُ عليه. وحوض نبينا أعظم الحياض.

"أنا أكْثَرُ الأنْبِياءِ تَبَعًا يَومَ القِيامَةِ، وأنا أوَّلُ مَن يَقْرَعُ بابَ الجَنَّةِ."الراوي : أنس بن مالك -صحيح مسلم.
و من مَناقِبِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ القيامةِ، أنه أكثرُ الأنبياءِ أتباعًا مُؤمنينَ به وبِرِسالتِه يومَ القيامةِ.

فإذا بُعث الناس وقاموا من قبورهم ذهبوا إلى أرض المحشر ، ثم يقومون في أرض المحشر قيامًا طويلًا ، تشتد معه حالُهم وظمؤُهُم ، ويخافون في ذلك خوفًا شديدًا ؛ لأجل طول المقام ، ويقينهم بالحساب ، وما سيُجري الله - عز وجل – عليهم .
فإذا طال المُقام رَفَعَ الله - عز وجل - لنبيه صلى الله عليه وسلم أولًا حوضه المورود ، فيكون حوضُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في عَرَصَات القيامة ، إذا اشتد قيامهم لرب العالمين ، في يوم كان مقداره خمسينَ ألف سَنة .فمن مات على سنّتِهِ ، غير مغَيِّرٍ ولا مُحْدِثٍ ولا مُبَدِّل : وَرَدَ عليه الحوض ، وسُقِيَ منه ، فيكونُ أول الأمان له أن يكون مَسْقِيًّا من حوض نبينا صلى الله عليه وسلم ،ثم بعدها يُرْفَعُ لكل نبي حوضه ، فيُسْقَى منه صالح أمته. موقع الإسلام سؤال وجواب.

صفة نهر الكوثر وصفة الحوض:

"لَمَّا عُرِجَ بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى السَّمَاءِ، قالَ: أتَيْتُ علَى نَهَرٍ، حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ مُجَوَّفًا، فَقُلتُ: ما هذا يا جِبْرِيلُ؟ قالَ: هذا الكَوْثَرُ " .الراوي : أنس بن مالك - صحيح البخاري.

الكَوثرُ نهَرٌ مِنْ أنهارِ الجنَّةِ، أعطاه اللهُ لنَبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ زيادةً في إكرامِهِ ولُطفِه به وبأُمَّتِه، وهو مُتَّصِلٌ بالحَوضِ.

وورد في حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" وَسُئِلَ عن شَرَابِهِ فَقالَ: أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ العَسَلِ، يَغُتُّ فيه مِيزَابَانِ يَمُدَّانِهِ مِنَ الجَنَّةِ، أَحَدُهُما مِن ذَهَبٍ، وَالآخَرُ مِن وَرِقٍ. " الحديث الراوي : ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - صحيح مسلم.

الميزاب: قَنَاةٌ أَوْ أُنْبُوبٌ يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ مِنِ المواضع العالية.

"والميزابُ" ما يُركَّبُ في السَّقفِ ويُمَدُّ منهُ؛ ليَسيلَ منهُ الماءُ؛ "يَمُدَّانِه" أي: يَزيدانه ويُكثِرانِه "منَ الجنَّةِ"، أي: مِن أَنهارِها.

قال صلى الله عليه وسلم "حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، ماؤُهُ أبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، ورِيحُهُ أطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، وكِيزانُهُ كَنُجُومِ السَّماءِ، مَن شَرِبَ مِنْها فلا يَظْمَأُ أبَدًا."الراوي : عبدالله بن عمرو - صحيح البخاري

- قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ما آنِيَةُ الحَوْضِ؟ قالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِن عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَكَوَاكِبِهَا، أَلَا في اللَّيْلَةِ المُظْلِمَةِ المُصْحِيَةِ، آنِيَةُ الجَنَّةِ مَن شَرِبَ منها لَمْ يَظْمَأْ آخِرَ ما عليه، يَشْخَبُ فيه مِيزَابَانِ مِنَ الجَنَّةِ، مَن شَرِبَ منه لَمْ يَظْمَأْ، عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ، ما بيْنَ عَمَّانَ إلى أَيْلَةَ ، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ العَسَلِ."الراوي : أبو ذر الغفاري - صحيح مسلم.

الحوْضُ مَجمَعُ ماءٍ عَظيمٌ يَرِدُهُ المؤمِنون في عَرَصاتِ القِيامةِ، وهو مِن فضْلِ اللهِ الَّذي أعطاهُ لنَبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ زِيادةً في إكرامِهِ ولُطفِه به وبأُمَّتِه، وسيَشرَبُ منه المؤمِنون الموحِّدون باللهِ عزَّ وجلَّ.

أَلَا في اللَّيْلَةِ المُظْلِمَةِ المُصْحِيَةِ : أي: اللَّيلةِ الَّتي لا يَظهَرُ فيها القَمَرُ، المُصْحِيَةِ :وهي الصَّافيةُ الَّتي ليسَ فيها سَحابٌ، وخَصَّ اللَّيلةَ المُظلِمةَ المُصْحيةَ لأنَّ النُّجومَ تُرى فيها أكثَرَ، وهذا تَأكيدٌ على كَثرتِها.

آخِرَ ما عليه : والمعنى أنَّه لا يُعاودُه ظَمأٌ بعْدَ شُربِه بها، وهذا الحوضُ يَشْخَبُ فيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الجَنَّةِ :أي: يَتدَفَّقُ ويَسيلُ فيهِ ويُغذِّيهِ مِيزابانِ منَ الجنَّةِ، والميزابُ: هو ما يَسيلُ منه الماءُ مِن مَوضِعٍ عالٍ.

ما بيْنَ عَمَّانَ إلى أَيْلَةَ : عَمَّانَ :وهيَ عاصِمةُ الأُردُنِّ اليومَ إِلى ، أَيْلَةَ: وهِي مَدينةٌ بطَرَفِ الشَّامِ، ويُقالُ لها اليومَ: العَقبةُ، في الأردنِّ على ساحلِ خَليجِ العَقَبةِ، وهذا مِن تَقريبِ سَعةِ الحَوضِ يوْمَ القيامةِ.

وهذا الحوضُ ماؤُه أشدُّ بَياضًا منَ اللَّبنِ، وأَحلى طَعمًا منَ العَسلِ، وقدْ ذَكَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أوصافًا مُتعدِّدةً لحَوضِه؛ تَرغيبًا للأُمَّةِ في بَذلِ الأسبابِ الموجِبةِ لوُرودِه والشُّربِ منه.

والمؤمن الصِاد ق إذا سمع  بمثل هذه الأحاديث  اشتاقت نفسه ، وعلت همته ليعمل كلَّ ما يمكنه حتى لا تفوت هذه الشربة الهنيئة .

اللهم ارزقنا شربة لا نظمأ بعدها أبدًا بفضلك وجودك وعفوك.

"أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أتَى المَقْبُرَةَ، فقالَ: السَّلامُ علَيْكُم دارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وإنَّا إنْ شاءَ اللَّهُ بكُمْ لاحِقُونَ، ودِدْتُ أنَّا قدْ رَأَيْنا إخْوانَنا قالوا: أوَلَسْنا إخْوانَكَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: أنتُمْ أصْحابِي وإخْوانُنا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ .فقالوا: كيفَ تَعْرِفُ مَن لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِن أُمَّتِكَ؟ يا رَسولَ اللهِ، فقالَ: أرَأَيْتَ لو أنَّ رَجُلًا له خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ ألا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟ قالوا: بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قالَ: فإنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الوُضُوءِ، وأنا فَرَطُهُمْ علَى الحَوْضِ ألا لَيُذادَنَّ رِجالٌ عن حَوْضِي كما يُذادُ البَعِيرُ الضَّالُّ أُنادِيهِمْ ألا هَلُمَّ فيُقالُ: إنَّهُمْ قدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ فأقُولُ سُحْقًا سُحْقًا . وفي رواية: فَلَيُذادَنَّ رِجالٌ عن حَوْضِي."الراوي : أبو هريرة -  صحيح مسلم.

ضَرَبَ لهُمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَثَلًا فقالَ: أرَأَيْتَ لو أنَّ رَجُلًا له خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ ألا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟: والغُرَّةُ: هيَ البياضُ في الوَجهِ، والتَّحجيلُ: هو البَياضُ في الأقدامِ، والخَيلُ البُهمُ الدُّهمُ: السَّوداءُ، والمقصودُ أنَّه إذا اختلَطَت هذه الخُيولُ تَميَّزَ بعضُها من بعضٍ بِبيَاضِ الغُرَّةِ والتَّحجيلِ، فكذَلكَ المُسلِمونَ يوم القيامةِ؛ "فإنَّهمْ يأتونَ غُرًّا مُحَجَّلينَ"، أي: بهم نُورٌ مُضيءٌ على جِباهِهم وأيديهم وأرجُلِهم من أثرِ الوُضوءِ، نُورًا ظاهرًا على أعضاءِ الوُضوءِ.

 "وأَنا فرَطُهُمْ على الحَوْضِ"، أي: والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو سابِقُهُم ومُتقدِّمُهم على الحَوضِ يومَ القيامةِ، وهو حوضُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الذي يَسقي منه الوارِدينَ عليه من أُمَّتِه.

ألا لَيُذادَنَّ رِجالٌ عن حَوْضِي كما يُذادُ البَعِيرُ الضَّالُّ أُنادِيهِمْ ألا هَلُمَّ : أخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الملائكةَ سوفَ تُبعِدُ وتَطرُدُ عنِ الحوضِ أُناسًا وهُم مُقبِلونَ ومُتوجِّهونَ إليه، وهم من المسلِمينَ، كما يَمنَعُ ويَطرُدُ صاحبُ الإبلِ الجَمَلَ الذي ليس من إبلِه، وهو يُزاحِمُها في الطَّعامِ والشَّرابِ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُنادي هؤلاء النَّاسَ ليأتُوا إلى الحَوضِ، قَبل أن يعرِفَ لماذا يُطرَدونَ؟ " إنَّهُمْ قدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ "، أي: غيَّروا الدِّينَ أو حرَّفوه وانحَرَفوا بعدَك عمَّا تَركتَهم عليه من الالتِزامِ بأمرِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى والانتهاءِ عمَّا نَهى عنه؛ فاللَّهُمَّ ارزُقنا الثَّباتَ على دِينِكَ وسُنَّةِ نبيِّكَ

فيَقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عندَ ذلك " سُحْقًا سُحْقًا" أي: بُعدًا بُعدًا، وكرَّرَه للتَّأكيدِ، وهُو دُعاءٌ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عليهم بالإبعادِ عن حَوضِه أو عنِ الرَّحمةِ.

يَتَلَخَّص في صفة الحوض من الأحاديث السابقة ما يلي:

سعته: مسيرة شهر، وهذا تحديد بالزمان، ومَن أراد التحديد بالمسافة فليتأمل المسافة بين البلدان السابقة.

لونه: أبيض من اللبن، وأبيض من الوَرِق؛ أي: الفضة.

طعمه:أحلى من العسل، ومَنْ يشرب منه لا يظمأ أبدًا.

رائحته: أطيب من ريح المسك.

آنيته: كنجوم السماء في العدد والنور واللمعان.

يصب فيه: مِيزَابَانِ يَمُدَّانِهِ مِنَ الجَنَّةِ : أحدهما من ذهب، والآخر من فضة.

هل كل من يشرب من حوض النبي عليه الصلاة والسلام يدخل الجنة؟

أجاب الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك : إي والله، مَنْ شربَ مِن حوضِه لا يدخلُ النَّار،لأنه قال مَن شَرِبَ مِنْها فلا يَظْمَأُ أبَدًا.  نعم .

اللهم اجعَلنا من الوارِدين على النبي - صلى الله عليه وسلم -، الشارِبين من حوضه برحمتِك يا أرحم الراحمين.

فالحوض بإذن الله ورحمته، ملتقى أهل الإيمان، و بداية فرح المؤمنين في الْآخرة؛ لأنه لا يشرب منه إلا الفائزون المفلحون . قبل دخولهم الجنان، وهو موعد لقاء مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم،هناك يطفأ ظمأهم، ويَسكن خوفهم، وتَقر عيونهم، برؤية نبيهم وحبيبهم صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، وسادة الأمَّه الأعلام..نسأل الله الكريم من فضله ورحمته ..

ثم يقوم الناس مُقامًا طويلاً ، ثم تكون الشفاعة العظمى:

الشفاعة العظمى

الشفاعة شرعًا:هي التوسط للغير في جلب المنفعة أو دفع المضرة.

الشفاعة الحسنة : هي التي يتم التوصل بها إلى إيصال الحق لصاحبه دون أن يكون في ذلك ظلم لطرف آخر،بصيغة أخرى الشفاعة الحسنة هي الوساطة في إيصال الخير أو دفع الشر سواء كانت بطلب من المنتفع أم لا.

وأن يعلم أن هذا الشافع لا يعدو كونه سببًا أَذِنَ الله به، وأن النفع والضر بيد الله وحده.

"كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أوْ طُلِبَتْ إلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، ويَقْضِي اللَّهُ علَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما شَاءَ".الراوي : أبو موسى الأشعري - المحدث : البخاري - المصدر : صحيح البخاري-الصفحة أو الرقم: .1432.

"ويَقْضي اللهُ على لِسانِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما شاءَ" يعني: أنَّ ما قدَّره اللهُ وقَضاهُ واقعٌ؛ فإنْ قدَّر تحقيقَ الرَّغبةِ فإنَّها ستقَعُ، وإنْ قدَّر عدَمَ تحقيقِها فإنَّها لا تقَعُ، وكلُّ شَيءٍ بقضاءِ اللهِ وقدَرِه، والأجرُ للشَّفيعِ لا يَتوقَّفُ على تَحقُّقِ الغرَضِ مِن الشَّفاعةِ؛ فهو مأجورٌ لِمُجرَّدِ السَّعيِ.

وفي الحديثِ: التَّرغيبُ في الشَّفاعةِ والسَّعيِ في قَضاءِ حَوائجِ النَّاسِ.

وقوله صلى الله عليه وسلم" تُؤْجَرُوا"موافق لقوله -تبارك وتعالى" مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا"النساء:58"، فهو يؤجر سواء كان الأمر المطلوب قد تحقق تحصيله أو لم يتحقق، فأجره على الله، ويكون قد بذل الأسباب، وأعان أخاه المسلم، وحصل بذلك على الأجر.

الشفاعة التي تكون في الآخرة نوعان :

🍃 النوع الأول: الشفاعة الخاصة:وهي التي تكون للرسول صلى الله عليه وسلم خاصة لا يشاركه فيها غيره من الخلق وهي أقسام :

أولها: الشفاعة العظمى:

الشفاعة العظمى لتعجيل الحساب وهي من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.

 وهي من المقام المحمود الذي وعده الله إياه، في قوله تعالى" وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا "سورة الإسراء/79.

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله :

الشفاعة العظمى هي أن الله عز وجل إذا بعث الخلائق لحقهم من الكرب والغم ما لا يطيقون الصبر عليه ، فيبحث الناس عن من يشفع لهم ، فيأتون إلى آدم فيعتذر ثم إلى نوح فيعتذر ثم إلى إبراهيم فيعتذر ثم إلى موسى فيعتذر ثم إلى عيسى فيحيلهم على النبي صلّى الله عليه وسلم ، ويقول اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .ا.هــ.

"أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُتِيَ بلَحْمٍ فَرُفِعَ إلَيْهِ الذِّرَاعُ، وكَانَتْ تُعْجِبُهُ فَنَهَشَ منها نَهْشَةً، ثُمَّ قالَ: أنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَومَ القِيَامَةِ، وهلْ تَدْرُونَ مِمَّ ذلكَ؟ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ في صَعِيدٍ واحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي ويَنْفُذُهُمُ البَصَرُ، وتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الغَمِّ والكَرْبِ ما لا يُطِيقُونَ ولَا يَحْتَمِلُونَ، فيَقولُ النَّاسُ: ألَا تَرَوْنَ ما قدْ بَلَغَكُمْ، ألَا تَنْظُرُونَ مَن يَشْفَعُ لَكُمْ إلى رَبِّكُمْ؟ فيَقولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: علَيْكُم بآدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ عليه السَّلَامُ فيَقولونَ له: أنْتَ أبو البَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بيَدِهِ، ونَفَخَ فِيكَ مِن رُوحِهِ، وأَمَرَ المَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ، ألَا تَرَى إلى ما نَحْنُ فِيهِ، ألَا تَرَى إلى ما قدْ بَلَغَنَا؟ فيَقولُ آدَمُ: إنَّ رَبِّي قدْ غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، ولَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وإنَّه قدْ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إلى غيرِي، اذْهَبُوا إلى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فيَقولونَ: يا نُوحُ، إنَّكَ أنْتَ أوَّلُ الرُّسُلِ إلى أهْلِ الأرْضِ، وقدْ سَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ، ألَا تَرَى إلى ما نَحْنُ فِيهِ؟ فيَقولُ: إنَّ رَبِّي عزَّ وجلَّ قدْ غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، ولَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وإنَّه قدْ كَانَتْ لي دَعْوَةٌ دَعَوْتُهَا علَى قَوْمِي، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إلى غيرِي، اذْهَبُوا إلى إبْرَاهِيمَ، فَيَأْتُونَ إبْرَاهِيمَ فيَقولونَ: يا إبْرَاهِيمُ أنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وخَلِيلُهُ مِن أهْلِ الأرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ ألَا تَرَى إلى ما نَحْنُ فِيهِ، فيَقولُ لهمْ : إنَّ رَبِّي قدْ غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، ولَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وإنِّي قدْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ - فَذَكَرَهُنَّ أبو حَيَّانَ في الحَديثِ - نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إلى غيرِي، اذْهَبُوا إلى مُوسَى فَيَأْتُونَ، مُوسَى فيَقولونَ: يا مُوسَى أنْتَ رَسولُ اللَّهِ، فَضَّلَكَ اللَّهُ برِسَالَتِهِ وبِكَلَامِهِ علَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ، ألَا تَرَى إلى ما نَحْنُ فِيهِ؟ فيَقولُ: إنَّ رَبِّي قدْ غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، ولَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وإنِّي قدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إلى غيرِي، اذْهَبُوا إلى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فيَقولونَ: يا عِيسَى أنْتَ رَسولُ اللَّهِ، وكَلِمَتُهُ ألْقَاهَا إلى مَرْيَمَ ورُوحٌ منه، وكَلَّمْتَ النَّاسَ في المَهْدِ صَبِيًّا، اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ ألَا تَرَى إلى ما نَحْنُ فِيهِ؟ فيَقولُ عِيسَى: إنَّ رَبِّي قدْ غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ قَطُّ، ولَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، ولَمْ يَذْكُرْ ذَنْبًا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إلى غيرِي اذْهَبُوا إلى مُحَمَّدٍ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فيَقولونَ: يا مُحَمَّدُ أنْتَ رَسولُ اللَّهِ وخَاتِمُ الأنْبِيَاءِ، وقدْ غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ ألَا تَرَى إلى ما نَحْنُ فِيهِ، فأنْطَلِقُ فَآتي تَحْتَ العَرْشِ ، فأقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عزَّ وجلَّ، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِن مَحَامِدِهِ وحُسْنِ الثَّنَاءِ عليه شيئًا، لَمْ يَفْتَحْهُ علَى أحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ ،فأرْفَعُ رَأْسِي، فأقُولُ: أُمَّتي يا رَبِّ، أُمَّتي يا رَبِّ، أُمَّتي يا رَبِّ، فيُقَالُ: يا مُحَمَّدُ أدْخِلْ مِن أُمَّتِكَ مَن لا حِسَابَ عليهم مِنَ البَابِ الأيْمَنِ مِن أبْوَابِ الجَنَّةِ، وهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيما سِوَى ذلكَ مِنَ الأبْوَابِ، ثُمَّ قالَ: والذي نَفْسِي بيَدِهِ، إنَّ ما بيْنَ المِصْرَاعَيْنِ مِن مَصَارِيعِ الجَنَّةِ، كما بيْنَ مَكَّةَ وحِمْيَرَ - أوْ كما بيْنَ مَكَّةَ وبُصْرَى - "الراوي : أبو هريرة -صحيح البخاري.

مَجيءُ الرَّبِّ سُبحانَه وإتيانُه يَومَ القيامةِ ونُزولُ المَلائِكةِ

وإتيانُه سُبحانه يكونُ على صِفةٍ تَليقُ بذاتِه مِن غيرِ تَأويلٍ، أو تَعطيلٍ، أو تَشبيهٍ.

قال اللهُ تعالى"كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا"الفجر: 21، 22.

قال ابنُ كثيرٍ:إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا :أي: وُطِئَت ومُهِّدَت وسُوِّيتِ الأرضُ والجِبالُ، وقامَ الخَلائِقُ من قُبورِهم لرَبِّهم، وَجَاءَ رَبُّكَ يَعني: لفَصلِ القَضاءِ بينَ خَلقِه، وذلك بَعدَ ما يَستَشفِعونَ إليه بَسَيِّدِ ولَدِ آدَم على الإطلاقِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بَعدَما يَسألونَ أُولي العَزمِ من الرُّسُلِ واحِدًا بَعدَ واحِدٍ، فكُلُّهم يَقولُ: لَستُ بصاحِبِ ذاكم، حَتَّى تَنتَهيَ النَّوبةُ إلى مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَقولُ: "أنا لها، أنا لها" ا.هـ.

وذلك أنَّ اللهَ تعالى يَطوي السَّمَواتِ والأرضَ، وتُنثَرُ الكَواكِبُ، وتُكَوَّرُ الشَّمسُ والقَمَرُ، وتَنزِلُ المَلائِكةُ الكِرامُ، فتُحيطُ بالخَلائِقِ، ويَنزِلُ الباري تَبارك تعالى: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ؛ ليَفصِلَ بينَ عِبادِه بالقَضاءِ العَدْلِ.

قال تعالى "هَل يَنظُرونَ إلَّا أن يَأتيَهُمُ اللهُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ" البقرة:210. يَعني: يَومَ القيامةِ، لفَصلِ القَضاءِ بينَ الأوَّلينَ والآخِرينَ، فيَجزي كُلَّ عامِلٍ بعَمَلِه؛ إنْ خَيرًا فخيرٌ، وإنْ شَرًّا فشَرٌّ؛ ولِهذا قال بنفس الآية " وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ"   .

قال السَّعديُّ: يُخبِرُ تعالى عن عَظمةِ يَومِ القيامةِ وما فيه من الشِّدَّةِ والكُروبِ، ومُزعِجاتِ القُلوبِ، فقال: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالغَمَامِ وذلك الغَمامُ الذي يَنزِلُ اللهُ فيه، يَنزِلُ من فوقِ السَّمَواتِ فتَنفَطِرُ له السَّماواتُ وتَشَقَّقُ وتَنزِلُ مَلائِكةُ كُلِّ سَماءٍ، فيَقِفونَ صَفًّا صَفًّا، إمَّا صَفًّا واحِدًا مُحيطًا بالخَلائِقِ، وإمَّا كُلُّ سَماءٍ يُكونونَ صَفًّا، ثُمَّ السَّماءُ التي تَليها صَفًّا، وهَكَذا.

القَصدُ أنَّ المَلائِكةَ -على كثرَتِهم وقوَّتِهم- يَنزِلونَ مُحيطينَ بالخَلقِ مَذعِنينَ لأمرِ رَبِّهم، لا يَتَكَلَّمُ منهم أحَدٌ إلَّا بإذْنٍ من الله، فما ظَنُّك بالآدَميِّ الضَّعيفِ خُصوصًا الذي بارَز مالِكَه بالعَظائِمِ، وأقدَمَ على مَساخِطِه ثُمَّ قَدِمَ عليه بذُنوبٍ وخَطايا لَم يَتُبْ منها؟! فيَحكمُ فيه المَلِكُ الحَقُّ بالحُكمِ الذي لا يَجورُ ولا يَظلِمُ مِثقالَ ذَرَّةٍ؛ ولِهذا قال "الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ  وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا" الفرقان: 26. وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا لصُعوبَتِه الشَّديدةِ، وتَعَسُّرِ أمورِه عليه، بخِلافِ المُؤمِنِ فإنَّه يَسيرٌ عليه خَفيفُ الحِملِ.

"وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ" الزمر:69. قال الشيخ السَّعديُّ :عُلِمَ من هذا أنَّ الأنوارَ المَوجودةَ تَذهَبُ يَومَ القيامةِ وتَضمَحِلُّ، وهو كذلك؛ فإنَّ اللهَ أخبَرَ أنَّ الشَّمسَ تُكَوَّرُ، والقَمَرَ يُخسَفُ، والنُّجومَ تَندَثِرُ، ويَكونُ النَّاسُ في ظُلمةٍ، فتُشرِقُ عِندَ ذلك الأرضُ بنورِ رَبِّها، عِندَما يَتَجَلَّى ويَنزِلُ للفَصلِ بينَهم، وذلك اليَومُ يَجعَلُ اللهُ للخَلقِ قوَّةً، ويُنشِئُهم نَشأةً يَقْوَونَ على ألَّا يَحرِقَهم نُورُه، ويَتَمَكَّنونَ أيضًا من رُؤيَتِه، وإلَّا فنُورُه تعالى عَظيمٌ، لَو كشَفَه لأحرَقَت سُبُحاتُ وَجْهِه ما انتَهى إليه بصَرُه .

قال جرير بن عبدالله "كُنَّا عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَنَظَرَ إلى القَمَرِ لَيْلَةً - يَعْنِي البَدْرَ - فَقَالَ: إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كما تَرَوْنَ هذا القَمَرَ، لا تُضَامُّونَ في رُؤْيَتِهِ،....."الراوي : جرير بن عبدالله -صحيح البخاري.

"ستُرَونَ رَبَّكم يَومَ القيامةِ كما تَرَوْنَ هذا القَمَرَ " رُؤيةً مُحقَّقةٌ لا شَكَّ فيها، وهذا مِن تَشبيهِ الرُّؤيةِ بالرُّؤيةِ، وليس تَشبيهًا للمرئيِّ بالمرئيِّ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ليس كمِثلِه شيءٌ سُبحانَه.وقوله"لا تَضامُّونَ" رُوِيَ بفَتحِ التاءِ والميمِ المُشدَّدةِ، ومَعناه: لا يَنضَمُّ بَعضُكم إلى بَعضٍ في وَقتِ النَّظَرِ، كما تَفعَلونَ في وَقتِ النَّظَرِ لإشكالِه وخَفائِه كما تَفعَلون عندَ النَّظَرِ إلى الهلالِ ونحْوِه، ويُروَى"تُضامُونَ " بضَمِّ التَّاءِ وتَخفيفِ المِيمِ، أيْ: لا يُصيبُكم ظُلمٌ في رُؤيَتِه ولا تَعَبٌ، فلا يَراه بَعضُكم دُونَ بَعضٍ، بل كُلُّكم تَشتَرِكونَ في الرُّؤيةِ، "تُضامُّونَ" بضَمِّ التاءِ وتَشديدِ الميمِ، أي: لا تَتزاحمون ولا تَختلِفون.

إذا جاء الله تعالى يوم القيامة من الذي يراه؟

يراه أهل المحشر ، ثم يحجب عن الكفار، فيشعرون بأشد الحسرة والندم أن حجبوا عن الرب، وأما المؤمنون فإن وجوههم يومئذٍ وجوه ناضرة إلى ربها ناظرة، وقال الله" لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ "سورة يونس 26.

-    للذين أحسنوا، لهم ‏"‏ الْحُسْنَى ‏"‏ وهي الجنة الكاملة في حسنها و ‏"وَزِيَادَةٌ "وهي النظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، والفوز برضاه والبهجة بقربه، فبهذا حصل لهم أعلى ما يتمناه المتمنون-

"كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ" المطففين:15.

قال الحُسَينُ بنُ الفضلِ : كما حَجَبَهُم في الدنيا عنْ توحيدِهِ حَجَبَهُمْ في الآخرِةِ عن رؤيتِهِ .

وسُئِلَ مالكٌ عن هذه الآيةِ فقالَ : لمَّا حَجَبَ  اللهُ  أعداءَهُ فلَمْ يروه تجلَى لأوليائِهِ حتَى رَأَوَهُ .تفسير السعدي للآية.

هل أهل المحشر مؤمنهم وكافرهم يروا الله عز وجل ؟

اختلف العلماء في رؤية المنافقين لله تعالى يوم القيامة ، بل اختلفوا في رؤية الكفار – عمومًا – لله تعالى يوم القيامة .

وسبب هذا الاختلاف أنه لم يرد نص قاطع ، أو ظاهر ظهورًا قويًّا ، يدل على الإثبات أو النفي ، فاجتهد العلماء في فهم النصوص الواردة في ذلك ، ولهذا فليست هذه المسألة من مسائل الاعتقاد التي يجب على كل مسلم أن يعتقدها ، كما أنها ليست من المسائل التي يبدع فيها المخالف ، بل لا حرج على من أثبتها أو نفاها أو توقف فيها، حسب ما ظهر له من الأدلة الشرعية .

اختلف في رؤية أهل المحشر لله على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه لا يراه إلا المؤمنون. قالَ الله تَعَالَى"وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ " القيامة: 22، 23.

الثاني: يراه أهل الموقف مؤمنهم وكافرهم ثم يحتجب عن الكفار ولا يرونه بعد ذلك. قالَ الله تَعَالَى" كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ " المطففين: 15.

الثالث: يراه مع المؤمنين المنافقون دون بقية الكفار؛ وكذلك الخلاف في تكليمه لأهل الموقف. اهـ. شرح الطحاوية للحوالي.إسلام ويب.

فقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله اختلاف العلماء في رؤية الكفار لله تعالى يوم القيامة ، فقال :

"فَأَمَّا " مَسْأَلَةُ رُؤْيَةِ الْكُفَّارِ " : فَأَوَّلُ مَا انْتَشَرَ الْكَلَامُ فِيهَا وَتَنَازَعَ النَّاسُ فِيهَا - فِيمَا بَلَغَنَا - بَعْدَ ثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ الْهِجْرَةِ ، وَأَمْسَكَ عَنْ الْكَلَامِ فِي هَذَا قَوْمٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَتَكَلَّمَ فِيهَا آخَرُونَ فَاخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ....

أَحَدُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ بِحَالِ ، لَا الْمُظْهِرُ لِلْكُفْرِ وَلَا الْمُسِرُّ لَهُ ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ عُمُومُ كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ.

الثَّانِي: أَنَّهُ يَرَاهُ مَنْ أَظْهَرَ التَّوْحِيدَ مِنْ مُؤْمِنِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمُنَافِقِيهَا وَغَبَرَاتٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَذَلِكَ فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ ، ثُمَّ يَحْتَجِبُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ ، فَلَا يَرَوْنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ بْنِ خُزَيْمَة مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى نَحْوَهُ فِي حَدِيثِ إتْيَانِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ فِي الْمَوْقِفِ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ.

الثَّالِثُ: أَنَّ الْكُفَّارَ يَرَوْنَهُ رُؤْيَةَ تَعْرِيفٍ وَتَعْذِيبٍ - كَاللِّصِّ إذَا رَأَى السُّلْطَانَ - ثُمَّ يَحْتَجِبُ عَنْهُمْ لِيَعْظُمَ عَذَابُهُمْ ، وَيَشْتَدَّ عِقَابُهُمْ . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ سَالِمٍ وَأَصْحَابِهِ ، وَقَوْل غَيْرِهِمْ؛ وَهُمْ فِي الْأُصُولِ مُنْتَسِبُونَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِلَى سَهْلٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْتَسْتَرِي" .

انتهى من "مجموع الفتاوى" (6/486-488) .

عن أَبي هُرَيْرَةَ : " أَنَّ نَاسًا قَالُوا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللهِ ! هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ؟ " ، قَالُوا : لَا ، يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ"هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ ؟ " ، قَالُوا : لَا ، يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ" فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ ؛ يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَقُولُ : مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ ... وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ ، فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ ، فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ . فَيَقُولُونَ : نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا ، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ ، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ تَعَالَى فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ ، فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ . فَيَقُولُونَ : أَنْتَ رَبُّنَا ، فَيَتَّبِعُونَهُ ، وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ " رواه البخاري (7437) ، ورواه مسلم (182) واللفظ له .

وعن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ، قَالَ : " قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَة ِ؟ ، قَالَ" هَلْ تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ إِذَا كَانَتْ صَحْوًا ؟ " ، قُلْنَا : لاَ ، قَالَ "فَإِنَّكُمْ لاَ تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَئِذٍ ، إِلَّا كَمَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا ، ثُمَّ قَالَ : يُنَادِي مُنَادٍ : لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ... حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ ، فَيُقَالُ لَهُمْ : مَا يَحْبِسُكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ ؟ فَيَقُولُونَ : فَارَقْنَاهُمْ ، وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ اليَوْمَ ، وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي: لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ، وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا ، قَالَ : فَيَأْتِيهِمُ الجَبَّارُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ، فَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ ، - وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين زيادة: فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم- فَيَقُولُونَ : أَنْتَ رَبُّنَا ، فَلاَ يُكَلِّمُهُ إِلَّا الأَنْبِيَاءُ ، فَيَقُولُ : هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ ؟ فَيَقُولُونَ : السَّاقُ ، فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً ، فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ، فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ ..." رواه البخاري (7439) ، ومسلم (183) ..

وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى في "لقاء الباب المفتوح" : "الناس يوم القيامة على ثلاثة أقسام: كفار خُلَّص، ومؤمنون خُلَّص ، ومنافقون .
أما الكفار الخلص فإنهم لا يرون الله أبدًا ، لقول الله تعالى "كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ" المطففين/15 .
وأما المؤمنون الخُلَّص فيرون الله عز وجل يوم القيامة وفي الجنة؛ لقول الله تعالى"وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" القيامة/22-23 .
وأما المنافقون فإنهم يرون الله في عرصات القيامة ولا يرونه بعد ذلك، وهذا أشد حسرةً عليهم.. أن يستمتعوا بالنظر إلى الله عز وجل، ثم بعد ذلك يحجبون عنه.
فهذه أقسام الناس يوم القيامة بالنسبة للنظر إلى الرب عز وجل، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يرون ربهم في عرصات القيامة وبعد دخول الجنة" انتهى .

والأهم في هذه المسألة :
- إثبات أن المؤمنين سيرون الله تعالى في موقف الحساب ، وفي الجنة ، وأن هذه الرؤية الحاصلة لهم في الجنة : هي أعظم نعيمهم .
-
أن أحدًا لن يرى الله تعالى في الدنيا ، ولم يختلف العلماء في حصول ذلك لأحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، مع أن الصحيح في ذلك أنه لم ير ربه .الإسلام سؤال وجواب

العرض والحساب وتطاير الصحف

قال الله جل وعلا "يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ" الحاقة:١٨ ، وقوله تعالى"وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا" الكهف:٤٨ ، فالناس يُعرضون على الله جل وعلا، بل الخلق كلهم يعرضون ويحشرون إلى رب العالمين، فيقضي الله جل وعلا فيهم بما يشاء.

قال صلى الله عليه وسلم "أَما إنَّكُمْ سَتُعْرَضُونَ علَى رَبِّكُمْ، فَتَرَوْنَهُ كما تَرَوْنَ هذا القَمَرَ".الراوي : جرير بن عبدالله -صحيح مسلم.

قال صلى الله عليه وسلم "ما مِنكُم مِن أحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، ليسَ بيْنَهُ وبيْنَهُ تُرْجُمانٌ، ولا حِجابٌ يَحْجُبُهُ ."الراوي : عدي بن حاتم الطائي - صحيح البخاري.

ما هو الفرق بين العرض والحساب؟

الفرق بين العرض والحساب، أن الحساب جزء من العرض، والعرض أشمل من الحساب، فالعرض يشمل الوقوف والحساب، أما الحساب فهو بعد الوقوف. كتاب شرح لمعة الاعتقاد - ناصر العقل.

المقصود من تطاير الصحف:

الصحف هي : الكتبُ التي كَتَبَتْ فيها الملائكةُ ما فعلَهُ البشرُ في الحياةِ الدنيا. التطاير: يُقصد به توزيع هذه الصحف على الناس.

 

الأصل أن يحاسب الناس كلهم في موقف القيامة ، إلا صنفا من الناس ، يتفضل الله عليهم ، فيدخلهم الجنة من غير سبق حساب ، ولا عذاب وهم :

قال صلى الله عليه وسلم "يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِن أُمَّتي سَبْعُونَ ألْفًا بغيرِ حِسابٍ، هُمُ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ، ولا يَتَطَيَّرُونَ، وعلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ." الراوي : عبدالله بن عباس -صحيح البخاري.

العَرضُ يَومَ القيامةِ على ثَلاثةِ أنواعٍ:

النَّوعُ الأوَّلُ: عَرضٌ عامٌّ : وَهُوَ عَرْضُ الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ, بَادِيَةٌ لَهُ صَفَحَاتُهُمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ، هَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ وَمَنْ لَا يُحَاسَبُ. فهو لجَميعِ الخَلائِقِ بَرِّهم وفاجِرِهم أمامَ اللهِ تعالى.الحكمي مقتبس بتصرف يسير من معارج القبول للحكمي.

ومن أدَلَّتِه قَولُ اللهِ تعالى " وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ" الكهف: 48 .

قال ابنُ جَريرٍ: قَولُه" وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا "الكهف:48.  يَقولُ عَزَّ ذِكرُه: وعُرِضَ الخَلقُ على رَبِّكَ يا مُحَمَّدُ صَفًّا .

" لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ " الكهف:48.   يَقولُ عَزَّ ذِكْرُه: يُقالُ لهم إذ عُرِضوا على اللهِ: لَقد جِئْتُمونا أيُّها النَّاسُ أحياءً كهيئَتِكم حينَ خَلَقْناكم أوَّلَ مَرَّةٍ.ا.هــ.

وقال الشَّوكانيُّ " وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا " الكهف:48.  انتِصابُ صَفًّا على الحالِ، أي: مَصفوفينَ كُلُّ أمَّةٍ وزُمرةٍ صَفًّا، وقيلَ: عُرِضوا صَفًّا واحِدًا، كما في قَولِه: ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أي: جَميعًا، وقيلَ: قيامًا. وفي الآيةِ تَشبيهُ حالِهم بحالِ الجَيشِ الذي يُعرَضُ على السُّلطانِ.

النَّوعُ الثَّاني: عَرضٌ خاصٌّ بالمُؤمِنينَ وهو الحِسابُ اليَسيرُ.

" نَحْنُ الآخِرُونَ مِن أهْلِ الدُّنْيا، والأوَّلُونَ يَومَ القِيامَةِ، المَقْضِيُّ لهمْ قَبْلَ الخَلائِقِ."الراوي : حذيفة بن اليمان- صحيح مسلم.

فإنَّ هَذه الأُمَّةَ وإنْ تَأخَّرَ وُجودُها في الدُّنيا عَنِ الأُممِ السَّابقةِ، فهيَ سابِقةٌ لَهمْ في الآخِرةِ بأنَّهُم أوَّلُ مَن يُحشَرُ، ويُحاسبُ، وأَوَّلُ مَن يُقضَى لهم قَبْلَ النَّاس لِيَدخُلوا الجنَّةَ. وفي الحَديثِ: إكرامُ اللهِ تَعالى لِهَذهِ الأُمَّةِ وتَفضيلُها على غيرِها مِن الأُمَمِ الَّتي سبَقَتْها.الدرر السنية.

حساب عَرْض ، وهذا يخص المؤمن ، يُسأل عن عمله وعلمه ونعمة الله التي منّ بها عليه ، فيجيب بما يشرح صدره ويثبت حجته.وإذا عُرِضَتْ عليه ذنوبُهُ أقرَّ بها فيسترها اللهُ عليه ويتجاوزُ عنه .
فهذا لا يناقش الحساب ولا يدقق عليه ولا يحقق معه ، ويأخذ كتابه بيمينه ، وينقلب إلى أهله في الجنة مسرورًا ؛ لأنه نجا من العذاب وفاز بالثواب .

عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال"مَن نُوقِشَ الحِسابَ عُذِّبَقالت: قُلتُ: أليسَ يَقولُ الله تعالى: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا "الانشقاق: 8 ؟ قال"ذلكِ العَرضُ" .

قال البَغَويُّ: قَولُه"مَن نوقِشَ الحِسابَ يَهْلِك " فالمُناقَشةُ: الِاستِقصاءُ في الحِسابِ حَتَّى لا يُترَكَ منه شَيءٌ، يُقالُ: انتَقَشتُ منه جَميعَ حَقِّي، ومنه نَقشُ الشَّوكةِ من الرِّجْلِ، وهو استِخراجُها منهـا . ا.هــ.

وقال القسطَلانيُّ "قالت" عائِشةُ "قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ أليسَ يَقولُ الله تعالى: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا" الانشقاق: 8. أي: سَهلًا هيِّنًا بأن يُجازِيَ على الحَسَناتِ ويَتَجاوَزَ عن السَّيِّئاتِ "قال" صلَّى اللهُ عليه وسلَّم "ذلكِ" بكِسرِ الكافِ وتُفتَحُ، أي: الحِسابُ المَذكورُ في الآيةِ "العَرضُ" أي: عَرضُ أعمالِ المُؤمِنِ عليه حَتَّى يَعرِفَ مِنَّةَ اللهِ عليه في سَترِها عليه في الدُّنيا وفي عَفْوه عنها في الآخِرةِ . . ا.هــ.

وعن صَفوانَ بنِ محرزٍ المازِنيِّ قال: بينَما أنا أمشي مَعَ ابنِ عُمرَ رَضِيَ الله عنهما آخِذٌ بيَدِه، إذ عَرضَ رَجُلٌ فقال: كيفَ سَمِعتَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في النَّجوى؟ فقال: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ"إنَّ اللهَ يُدْني المُؤمِنَ فيَضَعُ عليه كَنَفَه، ويَستُرُه فيَقولُ: أتَعرِفُ ذَنْبَ كذا؟ أتَعرِفُ ذَنْبَ كذا؟ فيَقولُ: نَعَم أيْ رَبِّ. حَتَّى إذا قَرَّرَه بذُنوبِه ورَأى في نَفسِه أنَّه هَلَك قال: سَتَرتُها عليك في الدُّنيا، وأنا أغفِرُها لَك اليَومَ، فيُعطى كِتابَ حَسَناتِه، وأمَّا الكافِرُ والمُنافِقونَ، فيَقولُ الأشهادُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ "هود: 18  . الراوي : عبدالله بن عمر - صحيح البخاري.

قال المهلَّبُ: في هذا الحَديثِ عَظيمُ تَفَضُّلِ اللهِ على عِبادِه المُؤمِنينَ وسَتْرِه لذُنوبِهم يَومَ القيامةِ، وأنَّه يَغفِرُ ذُنوبَ من شاءَ منهم بخِلافِ قَولِ من أنفَذَ الوَعيدَ على أهلِ الإيمانِ؛ لأنَّه لَم يَستَثنِ في هذا الحَديثِ عليه السَّلامُ مِمَّن يَضَعُ عليه كنَفَه وسِتْرَه أحَدًا إلَّا الكُفَّارَ والمُنافِقينَ، فإنَّهم الذينَ يُنادى عليهم على رُؤوسِ الأشهادِ باللَّعنةِ لهم . ا.هــ. .

وقال الكَرْمانيُّ: قَولُه"النَّجوى" أي: الذي يَقَعُ بينَ اللهِ وبينَ عَبدِه المُؤمِنِ يَومَ القيامةِ، وهو فضلٌ من الله يَومَ القيامةِ حَيثُ يَذكُرُ المَعاصيَ للعَبدِ سِرًّا.

وقال العَينيُّ"إنَّما أطلَقَ النَّجوى لمُخاطَبةِ الكُفَّارِ على رُؤوسِ الأشهادِ" .

وقال ابنُ المُلقِّنِ: هذا الحَديثُ يُبَيِّنُ أنَّ قَولَه تعالى" ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ "التكاثر: 8،  أنَّ السُّؤالَ عن النَّعيمِ الحَلالِ إنَّما هو سُؤالُ تَقريرٍ وتَوقيفٍ له على نِعَمِه التي أنعَمَ بها عليه، ألا تَرى أنَّه تعالى يوقِفُه على ذُنوبِه التي عَصاه فيها ثُمَّ يَغفِرُها له، وإذا كان ذلك فسُؤالُه تعالى عِبادَه عن النَّعيمِ الحَلالِ أَولى أن يَكونَ سُؤالَ تَقريرٍ، لا سُؤالَ حِسابٍ وانتِقامٍ. ا.هــ. .

قال ابن القيم رحمه الله : قال قتادة  " إن الله سائل كل عبد عما استودعه من نعمه وحقه .

والنعيم المسئول عنه نوعان : نوع أخذ من حله وصرف في حقه فيسأل عن شكره ونوع يأخذ بغير حله وصرف في غير حقه فيسأل عن مستخرجه ومصرفه " انتهى من "إغاثة اللهفان" 1 /84 .

وقال أيضًا :

" كلُّ أحدٍ يُسألُ عن نعيمِهِ الذي كان فيه في الدنيا هل ناله من حلاله ووجهه أم لا ؟ فإذا تخلص من هذا السؤال سُئل سؤالا آخر هل شكر الله تعالى عليه فاستعان به على طاعته أم لا ؟ فالأول سؤال عن سبب استخراجه والثاني عن محل صرفه " انتهى من "عدة الصابرين" (ص 157) .

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" اختلف العلماء رحمهم الله في قوله" ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ "التكاثر: 8،   هل المراد الكافر، أو المراد المؤمن والكافر؟ والصواب: أن المراد به المؤمن والكافر، كل يسأل عن النعيم، لكن الكافر يسأل سؤال توبيخ وتقريع ، والمؤمن يسأل سؤال تذكير... سؤال المؤمن سؤال تذكير بنعمة الله عز وجل عليه ، حتى يفرح ويعلم أن الذي أنعم عليه في الدنيا ، تكرم عليهم بنعمته في الآخرة، أما الكافر فإنه سؤال توبيخ وتنبيه " انتهى ، باختصار من "لقاء الباب المفتوح" (98 /9) 

عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ " .صححه الألباني في " صحيح الترمذي " .

 

النَّوعُ الثَّالِثُ: عَرضٌ خاصٌّ بالكُفَّارِ والمُنافِقينَ، وهو المُناقَشةُ، وهو عَرضُ فضيحةٍ على رُؤوسِ الأشهادِ، لا سَتْرَ فيه ولا مَغفِرةَ.

وقد دلَّ على هذا قولُ اللهِ تعالى" وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" هود: 18 .

قال السَّمعانيُّ: مَعناه: لا أحَدَ أظلَمُ مِمَّنِ افتَرى على اللهِ كذِبًا، ثُمَّ قال"أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ "العَرضُ: هو إظهارُ الشَّيءِ ليُرى ويُوقَفَ على حالِه، ومنه قَولُهم: عَرضَ السُّلطانُ الجُندَ. وقَولُه" وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ "اختَلَفَ القَولُ في الأشهادِ، رُوِيَ عن ابنِ عَباسٍ أنَّه قال: همُ الأنبياءُ والمُرَسَلونُ. وقال مَجاهدٌ: همُ المَلائِكةُ. وقال بَعضُهم: الخَلائِقُ كُلُّهم .ا.هـ.

وقال ابنُ كثيرٍ: يُبَيِّنُ تعالى حالَ المُفتَرينَ عليه وفَضيحَتَهم في الدَّارِ الآخِرةِ على رُءوسِ الخَلائِقِ من المَلائِكةِ، والرُّسُلِ، والأنبياءِ، وسائِرِ البَشَرِ والجانِّ.ا.هـ. .

وقال السَّعديُّ: يُخبِرُ تعالى أنَّه لا أحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ويَدخُلُ في هذا كُلُّ من كذَبَ على اللهِ بنِسبةِ الشَّريكِ له، أو وصفِه بما لا يَليقُ بجَلالِه، أوِ الإخبارِ عنه بما لَم يَقُلْ، أوِ ادِّعاءِ النُّبوَّةِ، أو غَيرِ ذلك من الكَذبِ على الله؛ فهؤلاء أعظَمُ النَّاسِ ظُلمًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ ليُجازيَهم بظُلمِهم، فعِندَما يَحكمُ عليهم بالعِقابِ الشَّديدِ يَقُولُ الأَشْهَادُ أي: الذينَ شَهِدوا عليهم بافتِرائِهم وكَذِبِهم: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ أي: لَعنةٌ لا تَنقَطِعُ؛ لأنَّ ظُلمَهم صارَ وصفًا لهم مُلازِمًا، لا يَقبَلُ التَّخفيفَ .ا.هـ. . الموسوعة العقدية . الدرر السنية.

قال أبو القاسِمِ الأصبَهانيُّ: قال بَعضُ العُلَماءِ: يُحاسِبُ اللهُ عِبادَه في القيامةِ ويُناقِشُهم. يُحاسِبُ بالعَرضِ من قَضى له بالمَغفِرةِ، ويُناقِشُ بالحِسابِ من قَضى عليه بالعَذابِ.ا.هـ.

تطاير الصحف والحساب

"وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا""الكهف: 49.

" وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ  وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا" الإسراء :13.

فالناس بعد صدورهم من الحوض ومَجيء الرَّبِّ سُبحانَه وإتيانِه، ونُزولُ المَلائِكةِ وبعد العرض والحساب الأول يوقفون ليأخذوا صحفهم، ويروا ما عملوا في دار الابتلاء.

الصحف هي : الكتبُ التي كَتَبَتْ فيها الملائكةُ ما فعلَهُ البشرُ في الحياةِ الدنيا. التطاير: يُقصد به توزيع هذه الصحف على الناس.

قال اللهُ تعالى" وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ "الانفطار: 10 -11.
قال ابنُ جَريرٍ قَولُهوإنَّ عليكم لحافِظينَيَقولُ: وإنَّ عليكم رُقباءَ حافِظينَ يَحفَظونَ أعمالَكم، ويُحصونَها عليكم. كِرامًا كاتِبينَ يَقولُ: كِرامًا على الله كاتِبينَ، يَكتُبونَ أعمالَكم... وقَولُه: يَعلَمونَ ما تَفعَلونَ يَقولُ: يَعلَمُ هؤلاء الحافِظونَ ما تَفعَلونَ من خَيرٍ أو شَرٍّ، يُحصونَ ذلك عليكم.وقال السَّمعانيُّ  قَولُه" كاتِبينَ" همُ المَلائِكةُ يَقعُدونَ عن يَمينِ الإنسانِ ويَسارِه، فيَكتُبونَ ما عليه وله .ا.هـ .
 
قال اللهُ سُبحانَهإِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ اليمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ "ق: 17-18.

"وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا" الإسراء:13." اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا"14.

وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ: أي: ما عمل من خير وشر يجعله الله ملازمًا له لا يتعداه إلى غيره، فلا يحاسب بعمل غيره ولا يحاسب غيره بعمله.

وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا: أي: نَجمَعُ له عَمَلَه كُلَّه في كِتابٍ يراه مفتوحًا ، مَنْشُورًا أي: مَفتوحًا يَقرَؤُه هو وغَيرُه،  قد سُجِّلت فيه  ما عمله من الخير والشر حاضرًا صغيره وكبيره ، يُعطاه يَومَ القيامةِ؛ إمَّا بيَمينِه إن كان سَعيدًا، أو بشِمالِه إن كان شَقيًّا.

اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا: أي: يُقالُ له اقرَأْ كِتابَك مُحاسِبًا نَفْسِك ، فكُلُّ أحَدٍ يَقرَأ كِتابَه من كاتِبٍ وأمِّيٍّ. قال قتادةُ: سَيَقرَأُ يَومَئِذٍ من لَم يَكُن قارِئًا في الدُّنيا.ا.هـ.

قال اللهُ سُبحانَه" فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَه "الحاقة: 19 – 29.

والكِتابُ: هو صَحيفةُ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ.

قال القُرطُبيُّ: فإذا وُقِفَ النَّاسُ على أعمالِهم من الصُّحُفِ التي يُؤتَونَها بَعدَ البَعثِ حُوسِبوا بها، قال اللهُ تعالى" فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا "الانشقاق: 7، 8، فدَلَّ على أنَّ المُحاسَبةَ تَكونُ عِندَ إتيانِ الكُتُبِ؛ لأنَّ النَّاسَ إذا بُعثوا لا يَكونُون ذاكِرينَ لأعمالِهم. قال اللهُ تعالى" يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ "المجادلة: 6.

كيف نجمع بين قوله تعالى" وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ " وقوله" وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ

قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: "الجمع بينهما أن يقال: يأخذه بشماله لكن تخلع الشمال إلى الخلف من وراء ظهره، والجزاء من جنس العمل، فكما أن هذا الرجل جعل كتاب الله وراء ظهره، أعطي كتابه يوم القيامة من وراء ظهره، جزاءً وفاقًا.مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين:2 /42.

هل من يأخذ كتابه بيمينه هل يدخل النار ؟

دلت نصوص الكتاب والسنة على أن الناس يوم القيامة فريقان : فريق يأخذ كتابه بيمينه ، وهم أهل الإيمان ، وفريق يأخذ كتابه بشماله ، وهم أهل الكفران .

والدليل على أن أهل الشمال هم الكفار قوله تعالى في سياق الآيات "وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَه "الحاقة: 19 – 29. وهذا كالصريح في أن الأخذ بالشمال مقصور على الكفار .

وأما عصاة الموحدين ، ممن يدخل النار ثم يخرج منها ، فقد اختُلف فيهم

فمن أهل العلم من قال : إنهم يأخذون كتبهم بأيمانهم . ومنهم من قال : يأخذونها بشمائلهم .

قال السفاريني رحمه الله  " يعطى الكافر كتابه بشماله من وراء ظهره ، ويعطى المؤمن العاصي كتابه بشماله من أمامه . ويعطى المؤمن الطائع كتابه بيمينه من أمامه . ا.هـ.

وقد جزم الماوردي: بأن المشهور أن الفاسق الذي مات على فسقه دون توبة يأخذ كتابه بيمينه ، ثم حكى قولا بالوقوف -أي التوقف في المسألة- قال : ولا قائل بأنه يأخذه بشماله .

وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : بالنسبة للعاصي المؤمن هل يأخذ كتابه بيمينه أو بالشمال ؟ 

فأجاب  " يأخذه بيمينه " انتهى من الأسئلة الملحقة بشرح السفارينية :ص 500 .

والذي يظهر - والله أعلم - أنه لا يأخذ كتابه بشماله إلا الكافر ، كما هو ظاهر الآيات المتقدمة .

والذي ينبغي للمسلم أن يجتهد في تحصيل الطاعات ، وفعل الخيرات ، ليكون من أهل اليمين ، جعلنا الله تعالى منهم .الإسلام سؤال وجواب.

فكل مسلم مات على التوحيد يتناول كتابه بيمينه ، وهذا هو سرّ فرحه ، ولكن ذلك لا يمنع أن يعذب الله بعض عصاة الموحدين في النار بذنوبهم ، وإن تناولوا كتبهم بأيمانهم .

سُئِلَ الشيخُ صالح آل الشيخ - حفظه الله - :

هل العاصي يُعْطَى كتابه بيمينه أم بشماله ؟

فأجاب : " العاصي يُعْطَى كتابه بيمينه ، أما الذي يُعْطَى كتابه يوم القيامة بشماله فهو الكافر ، يُعْطَى كتابه بشماله وراء ظهره ، أما المؤمن فيُعْطَى كتابه باليمين سواءٌ أكَانَ من السابقين ، أم من المقتصدين ، أم ممن ظلم نفسه ، ثم يأتي بعد ذلك الحساب والوزن ، ثم تأتي الْمُجَازاة " انتهى من " شرح الطحاوية " (ص 686) بترقيم الشاملة .

وسُئِلَ الشيخُ صالح الفوزان - حفظه الله - :

هل المسلم العاصي يأخذ كتابه بشماله أم بيمينه ؟ فأجاب :

" المسلم العاصي يأخذ كتابه بيمينه ، لكن ولو أخذ كتابه بيمينه قد يعذب بسيئاته ، لكن لا يخلد في النار كما يخلد الكافر " ا.هـ. الإسلام سؤال وجواب.

هل تمحى الذنوب التي تاب منها العبد أم يجدها مكتوبة في صحيفته يوم القيامة؟ 

قال العلامة السفاريني- رحمه الله- في شرحه على معتقده: والصحيح كتبهم الصغائر المغفورة، وإن غفرت باجتناب الكبائر، قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -: لا تمحى الذنوب من صحائف الأعمال بتوبة، ولا غيرها، بل لا بد أن يوقف عليها صاحبها ويقرأها يوم القيامة. واستدل بقوله - تعالى "وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا  وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا"الكهف: 49، وبقوله - تعالى "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ " الزلزلة : 8،7 .

وقد ذكر بعض المفسرين أن هذا القول هو الصحيح عند المحققين، وقد روي هذا القول عن الحسن البصري، وبلال بن سعد الدمشقي، قال الحسن في العبد يذنب ثم يتوب ويستغفر: يغفر له ولكن لا يمحاه من كتابه دون أن يقفه عليه، ثم يسأله عنه، ثم بكى الحسن بكاء شديدًا، وقال: لو لم نبك إلا للحياء من ذلك المقام لكان ينبغي لنا أن نبكي. وقال بلال بن سعد: إن الله يغفر الذنوب ولكن لا يمحاها من الصحيفة، حتى يوقفه عليها يوم القيامة، وإن تاب. انتهى.إسلام ويب.

قال القُرطُبيُّ: فإذا وُقِفَ النَّاسُ على أعمالِهم من الصُّحُفِ التي يُؤتَونَها بَعدَ البَعثِ حُوسِبوا بها، قال اللهُ تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا "الانشقاق: 7، 8، فدَلَّ على أنَّ المُحاسَبةَ تَكونُ عِندَ إتيانِ الكُتُبِ؛ لأنَّ النَّاسَ إذا بُعثوا لا يَكونُون ذاكِرينَ لأعمالِهم. قال اللهُ تعالى"يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ "المجادلة: 6.

"وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ" ق: 21.

أي وجاءت كل نفس معها مَلَكان، أحدهما يسوقها إلى المحشر، والآخر يشهد عليها بما عملت في الدنيا من خير وشر.

الحساب الثاني و إقامةُ الشُّهودِ

قال القُرطُبيُّ: يَومُ الحِسابِ، ومَعناه: أنَّ الباري سُبحانَه يُعَدِّدُ على الخَلقِ أعمالَهم من إحسانٍ وإساءةٍ، يُعَدِّدُ عليهم نِعَمَه، ثُمَّ يُقابِلُ البَعضَ بالبَعضِ، فما يَشِفُّ منها على الآخَرِ حُكِمَ للمَشفوفِ بحُكمِه الذي عَينه، للخَيرِ بالخَيرِ، ولِلشَّرِّ بالشَّرِّ.ا.هـ.

الحساب ويكون بإتمام الحجة على الناس من خلال قراءتهم لما في كتب أعمالهم الخاصة بهم. لقطع المعذرة.والإشهاد على جرمهم.

مَن كمالِ عَدلِ الله تعالى أنَّه يُطلِعُ عِبادَه على سِجِلَّاتِ أعمالِهم فلا يَكونُ لأحَدٍ منهم عُذرٌ.قال اللهُ تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا "آل عمران:30 .

قال اللهُ تعالى" إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ "غافر: 51.

الأشهاد" تعني جمع "شاهد" وتشمل في القرآن الكريم الملائكة، الأنبياء، والمؤمنين، ويوم القيامة حيث يقوم الجميع للشهادة على أعمال الأمم. الملائكة والأنبياء: يشهدون على تبليغ الرسل للناس وعلى الكافرين بتكذيبهم، وعلى المؤمنين بإيمانهم.

"يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ"المجادلة: 18.

حتى تشهد الجوارح والأعضاء بما عملت، فلا نكير ولا عتاب" وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"فصلت: 19 - 20.

فمِنَ الشُّهودِ يَومَ القيامةِ المَلائِكةُ عليهمُ السَّلامُ قال اللهُ تعالى" وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ"ق: 20، 21.

ومنَ الشُّهودِ يَومَ القيامةِ الرُّسُلُ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فيَشهَدُ كُلُّ رَسولٍ على أمَّتِه بالبَلاغِ كما يَشهَدُ على تَكذيبِهم له.قال اللهُ سُبحانَه" فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا "النساء: 41.

والمراد  بالشَّهيدِ من كُلِّ أمَّةٍ نَبيَّها، وشَهيدُ هذه الأمَّةِ: نَبيُّنا صلى الله عليه وسلم.

ومنَ الشُّهودِ يَومَ القيامةِ أمَّةُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .قال اللهُ تعالى" وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا "البقرة: 143.

قال السَّمعانيُّ"لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ" وذلك يَومُ القيامةِ، حينَ يَسألُ الأممَ عن إبلاغِ الرُّسُلِ، فيُنكِرونَ تَبليغَهمُ الرِّسالةَ. فيَسألُ الرُّسُلَ فيَقولونَ: بَلَّغْنا، فيُقالُ لهم: ومَن يَشهَدُ لَكم؟ فيَأتون بهذه الأمَّةِ فيَشهَدونَ لهم بالبَلاغِ. فتَقولُ الأممُ: إنَّهم أتَوا بَعْدَنا فكَيفَ يَشهَدونَ بذلك؟ فيَسألُ هذه الأمَّةَ. فيَقولونَ: أرسَلْتَ إلينا رَسولًا، وأنزَلْتَ علينا كِتابًا، وأخبَرْتَنا فيه ببَلاغِ الرُّسُلِ، وأنتَ صادِقٌ فيما أخبَرْتَ، فبِذلك نَشهَدُ لهم بالبَلاغِ. وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا على أعمالِكم. وقيلَ: مَعناه مُزكِّيًا مُصدِّقًا على شَهادَتِكم .ا.هـ.

ومنَ الشُّهودِ يَومَ القيامةِ: أعضاءُ الإنسانِ وجَوارِحُه . قال اللهُ تعالى" وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ "فصلت: 21 - 23.

قال ابنُ جَريرٍ: قَولُه" حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ يَقولُ: حَتَّى إذا ما جاؤوا النَّارَ شَهِدَ عليهم سَمعُهم بما كانوا يُصْغُونَ به في الدُّنيا إليه، ويَستَمِعونَ له، وأبصارُهم بما كانوا يُبصِرونَ به ويَنظُرونَ إليه في الدُّنيا وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .فصلت: 20.

ومنَ الشُّهودِ يَومَ القيامةِ: الأرضُ:

قال تعالى" إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا "الزلزلة: 1-5.

قال السَّعديُّ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ الأرضُ أَخْبَارَهَا أي: تَشهَدُ على العامِلينَ بما عَمِلوا على ظَهرِها من خَيرٍ وشَرٍّ، فإنَّ الأرضَ من جُملةِ الشُّهودِ الذينَ يَشهَدونَ على العِبادِ بأعمالِهم، ذلك بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا أي: وأمرَها أن تُخبِرَ بما عُمِلَ عليها، فلا تَعصي لأمْرِه.ا.هـ.

اقتِصاصُ المَظالِمِ بينَ الخَلقِ

هذا القصاص الأول  ويكون في عَرَصاتِ يَومَ القيامةِ، فالقصاص نوعان: قصاص عام :وهو الذي يكون بين جميع الخلائق قبل عبور الصراط، وقصاص خاص :وهو للمؤمنين فقط، بعد عبورهم الصراط، وقبل دخول الجنة. لأجلِ أن يَذهَبَ الغِلُّ والحِقدُ والبَغضاءُ التي في قُلوبِ النَّاسِ، فيَكون هذا بمَنزِلةِ التَّنقيةِ والتَّطهيرِ؛ وذلك لأنَّ ما في القُلوبِ لا يَزولُ بمُجَرَّدِ القِصاصِ.

اقتِصاصُ المَظالِمِ بينَ الخَلقِ يقول الله عز وجل " وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ "الأنبياء/47.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " يَقْتَصُّ الْخَلْقُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ، حَتَّى الْجَمَّاءُ مِنْ الْقَرْنَاءِ ، وَحَتَّى الذَّرَّةُ مِنْ الذَّرَّةِ " رواه أحمد (2/363) وصححه محققو المسند ، والألباني في "السلسلة الصحيحة" (1967) .  

 عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"مَن كانت له مَظلَمةٌ لأحَدٍ من عِرْضِه أو شَيءٍ فليَتَحَلَّلْه منه اليَومَ، قَبلَ أن لا يَكونَ دينارٌ ولا دِرهَمٌ، إن كان له عَمَلٌ صالِحٌ أُخِذَ منه بقَدرِ مَظلَمَتِه، وإن لَم تَكُنْ له حَسَناتٌ أُخِذَ من سَيِّئاتِ صاحِبِه فحُمِلَ عليه ".صحيح البخاري.

قال الخَطَّابيُّ: مَعنى أخذِ الحَسَناتِ والسَّيئاتِ، أن يَجعَلَ ثَوابَ الحَسَناتِ لصاحِبِ المَظلَمةِ، ويَجعَلَ عُقوبةَ السَّيِّئاتِ على الظَّالِمِ بَدَلَ حَقِّه.