الأحد، 21 سبتمبر 2025

02- اليوم الآخر

اليَومُ الآخِرُ:

 إذا أذن الله بانصرام هذه الدنيا؛ وانتهاء أجلها؛ وأفول شمسها؛ أمر إسرافيل -عليه السلام- أن ينفخ في الصور النفخة الأولى نفخة الصعق؛ والصورُ قرن عظيم كهيئة البوق -الله أعلم بكيفيته- وقد التقمه إسرافيل منذ زمن بعيد؛ وأصغى بأُذُنِه منتظرًا الأمر بالنفخ؛ وهذا دليل على قرب الساعة؛ وأنها كلمح البصر أو هو أقرب.

واليَومِ الآخِرِ : هُوَ يَوْمُ القِيَامَةِ وَأوَّلُهُ مِنْ خُرُوجِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِم إلى اسْتِقْرَارِ أهْلِ الجنَّةِ فِي الجَنَّةِ وأهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ، وَفي ذلِكَ اليومِ تدْنُو الشَّمْسُ مِنْ رُؤُوسِ العِبَادِ وَتَحْصُلُ فِيهِ أحْوَالٌ صَعْبَةٌ يَنْجُوَ مِنْها المؤْمِنُونَ الأتْقِيَاءُ، ويُجْمَعُ النَّاسُ للحِسَابِ فَتُعْرَضُ عَلَيْهِمْ أعْمالُهُمْ سَوَاءٌ كَانَتْ خَيْرًا أم شَرًّا، وتُوزَنُ أعْمَالُهُم بِميزانٍ فَتُوضَعُ الحَسَنَاتُ في كَفَّةٍ والسَّيّئاتُ في الكفّةِ الأخْرى.

أسماء اليَومِ الآخِرِ:

ليوم القيامة أسماء كثيرة ذكرها أهلُ العلمِ، أخذوها من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم،فليس  ليومِ القيامةِ عددٌ محصورٌ ومحدّدٌ مِنَ الأسماءِ؛ وهذا راجع إلى أن أهل العلم يأخذون ويشتقون أسماء هذا اليوم العظيم من أحداثِهِ وأحوالِهِ وأوصافهِ، وهذه الأحداث والأوصاف والأحوال قد ذكر منها القرآن الكريم والسنة الثابتة عددًا كبيرًا، فيصح للإنسان أن يخبر عن يوم القيامة بأي اسم يشير إلى حدث أو حال أو وصف سيكون فيه. ومن ذلك:
1- يوم القيامة: قال الله تعالى" لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا "النساء:87. قال البغوي "وسُميت القيامة قيامة لأن الناس يقومون من قبورهم".
2- اليوم الآخر: قال تعالى"وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ"البقرة:177. قال ابن حجر في "فتح الباري" "وأما اليوم الآخر فقيل له ذلك لأنه آخر أيام الدنيا، أو آخر الأزمنة المحدودة".
3- يوم الآزفة: قال تعالى"وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ"غافر:18. قال السعدي" أي: يوم القيامة التي قد أزِفت وقرُبَت".

4 - يوم البعث: قال تعالى"وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ"الروم:56. قال الطبري"يقول: فهذا يوم يبعث الناس من قبورهم".
5- يوم التغابن: قال الله تعالى"يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ"التغابن:9. قال السعدي "أي: يظهر فيه التغابن والتفاوت بين الخلائق ".
6-يوم التلاق: قال تعالى"رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ"غافر:16:15. قال ابن عباس "يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض". وقال قتادة وأبو العالية "يلتقي فيه الخَلق والخالق"، وقال البغوي"وقيل: الظالم والمظلوم"، وقيل "يلقى كل إنسان جزاء عمله"، وقال القرطبي: "وكله صحيح".
7
- يوم التناد: قال عز وجل"وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ"غافر:32. قال ابن كثير "يعني: يوم القيامة". وقال القرطبي "سُمي بذلك: لمناداة الناس بعضهم بعضًا، فينادي أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار.. وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة.. وينادي المنادي أيضًا بالشقوة والسعادة: ألا إن فلان بن فلان قد شقي شقاوة لا يسعد بعدها.. وتنادي الملائكة أصحاب الجنة.. وينادَى حين يُذبح الموت"يا أهل الجنة، خلود لا موت، ويا أهل النار، خلود لا موت" رواه البخاري، وينادى كل قوم بإمامهم، إلى غير ذلك من النداء".
8-يوم الجمع: قال الله تعالى"وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ"الشورى:7. قال القرطبي: وسُمي يوم الجمع لأنه "يوم يجمع الله الأولين والآخرين، والإنس والجن، وأهل السماء وأهل الأرض، وقيل: هو يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله، وقيل: لأنه يجمع فيه بين الظالم والمظلوم، قيل: لأنه يجمع فيه بين كل نبي وأمته، وقيل: لأنه يجمع فيه بين ثواب أهل الطاعات وعقاب أهل المعاصي".
9
-يوم الحساب: قال الله عز وجل"وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ"غافر:27. قال القرطبي "وسمي يوم الحساب: لأن الباري سبحانه يعدد على الخلق أعمالهم، من إحسان وإساءة، يعدد عليهم نعمه ثم يقابل البعض بالبعض".
10- الحاقة: قال الله تعالى"الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ"الحاقة:3:1. قال ابن حجر "سُميت الحاقة لأنها أحقت لقوم الجنة، ولقوم النار، وقيل: لأنها تحاقق الكفار الذين خالفوا الأنبياء، أي: تخاصمهم، وقيل: لأنها حق لا شك فيه".

11- يوم الحسرة: قال تعالى"وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ"مريم:39. قال السعدي "وأحق ما يُنْذَر به ويُخَوّف به العباد، يوم الحسرة حين يقضى الأمر، فيُجمع الأولون والآخرون في موقف واحد، ويسألون عن أعمالهم.. وأي: حسرة أعظم من فوات رضا الله وجنته، واستحقاق سخطه والنار، على وجه لا يتمكن من الرجوع، ليستأنف العمل".
12- يوم الخروج: قال الله تعالى"يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ"ق:24. قال الطبري "وسمي يوم الخروج: لخروج الناس فيه من قبورهم للبعث".
13-يوم الخلود: قال تعالى"ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ"ق:34. قال الشوكاني في "فتح القدير" سماه يوم الخلود لأنه لا انتهاء له، بل هو دائم أبدًا.
14-يوم الدين: قال الله تعالى"مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ"الفاتحة:4. قال ابن عباس رضي الله عنه "يوم الدين: يوم الحساب للخلائق وهو يوم القيامة، يدينهم بأعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، إلا من عفا عنه".
15-الساعة: قال تعالى"إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى"طه:15. قال الطبري "يقول تعالى: إن الساعة التي يبعث الله فيها الخلائق من قبورهم لموقف القيامة جائية". وقال السعدي"إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ" أي: لا بد من وقوعها.. فعلمها قد أخفاه عن الخلائق كلهم، فلا يعلمها مَلك مقرب، ولا نبي مرسل".
16- الصاخة: قال الله عز وجل"فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ"عبس:37:33. قال أبو السعود " والصاخة هي: صيحة القيامة لأنها تصخ الآذان أي تصمها".
17 - الطامة : قال الله عز وجل "فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى"النازعات:35:34. قال القرطبي "معناها الغالبة، من قولك: طم الشيء إذا علا وغلب، ولما كانت تغلب كل شيء كان لها هذا الاسم حقيقة دون كل شيء". وقال السعدي: "أي: إذا جاءت القيامة الكبرى، والشدة العظمى، التي يهون عندها كل شدة".
18- الغاشية: قال الله تعالى"هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ"الغاشية:1. قال السعدي "يذكر تعالى أحوال يوم القيامة وما فيها من الأهوال الطامة، وأنها تغشى الخلائق بشدائدها، فيجازون بأعمالهم، ويتميزون إلى فريقين: فريقًا في الجنة، وفريقًا في السعير".
19- يوم الفصل: قال عز وجل"إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا" النبأ:17. قال الطبري: "وسمي يوم الفصل: لأنه يوم عظَّمَهُ اللهُ، يفصلُ اللهُ فيه بين الأولينَ والآخرينَ بأعمالِهم".
20-القارعة: قال الله عز وجل"الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ"القارعة:3:1. قال القرطبي "سُميت بذلك لأنها تقرع القلوب بأهوالها".
21-الواقعة: قال الله تعالى"إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ"الواقعة:2:1. قال الطبري "عن ابن عباس في قوله"إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ" الواقعة والطامة والصاخة، ونحو هذا من أسماء القيامة، عظَّمه الله، وحذره عباده. وقوله"لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ" يقول تعالى: ليس لوقعة الواقعة تكذيب".
 22- يوم الوعيد: قال عز وجل"وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ"ق:20. قال الشوكاني "سمي يوم الوعيد لأن الله أوعد به الكفار، قال مقاتل: يعني بالوعيد العذاب في الآخرة، وخصص الوعيد مع كون اليوم هو يوم الوعد والوعيد جميعاً لتهويله".
23- يوم الفزع الأكبر: قال الله تعالى"لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ "الأنبياء:103. قال السعدي"لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ: أي: لا يقلقهم إذا فزع الناس أكبر فزع، وذلك يوم القيامة".
24- يوم قيام الأشهاد، قال الله تعالى "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ"غافر:51. قال ابن كثير "أي: يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل".
25- يوم الآزفة: قال الله تعالى"وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ"غافر:18. قال السعدي"وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ:أي: يوم القيامة التي قد أزِفت وقرُبت، وآن الوصول إلى أهوالها وقلاقلها وزلازلها".إسلام ويب.

ثمرات الإيمان باليوم الآخر

قال ابنُ عُثَيمين: لِلإيمانِ باليَومِ الآخِرِ ثَمَراتٌ جَليلةٌ؛ مِنها:
الأولَى: الرَّغبةُ في فِعلِ الطَّاعةِ والحِرصُ عليها رِجاءً لِثَوابِ ذلك اليَومِ.
الثَّانيةُ: الرَّهبةُ من فِعلِ المَعصيةِ والرِّضا بها خَوفًا من عِقابِ ذلك اليَومِ.
الثَّالِثةُ: تَسليةُ المُؤمِنِ عَمَّا يَفوتُه مِنَ الدُّنيا بما يَرجوه من نَعيمِ الآخِرةِ وثَوابِها. كتاب شرح ثلاثة الأصول للعثيمين.

ذِكر اليومِ الآخرِ يمسحُ على قلوبِ المستضعفينَ والمضطهدينَ والمظلومينَ مسحة يقين، تسكن معه القلوب؛ لأنهم يتطلعون لِمَا أعدَّه الله للصابرين، من نعيم يُنسَى معه كل ضُرٍّ وبلاءٍ، وسوء وعناء، ويهوِّن عليهم ويعزِّيهم، وما أعدَّه الله للظالمين من بؤس يُنْسَى معه كل هناء.

قيام الساعة على شرار القوم:

قال صلى الله عليه وسلم "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ علَى أَحَدٍ يقولُ: اللَّهُ، اللَّهُ."الراوي : أنس بن مالك - صحيح مسلم. أي: تَقومُ على خَلقٍ لا يَذكُرُون اسمَ اللهِ، وهذا كِنايةٌ عن أنَّها تَقومُ على قَومٍ لا يَعبُدون اللهَ سُبحانَه، فتَقومُ على شِرارِ الخَلقِ.

وذلك أنَّ اللهَ سُبحانَه يَقبِضُ أرواحَ المؤمِنين، كما في صَحيحِ مُسلِمٍ :قال صلى الله عليه وسلم  "....لا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِن أُمَّتي يُقَاتِلُونَ علَى أَمْرِ اللهِ ، قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَالَفَهُمْ، حتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ علَى ذلكَ. فَقالَ عبدُ اللهِ: أَجَلْ ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا كَرِيحِ المِسْكِ مَسُّهَا مَسُّ الحَرِيرِ، فلا تَتْرُكُ نَفْسًا في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنَ الإيمَانِ إلَّا قَبَضَتْهُ، ثُمَّ يَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ عليهم تَقُومُ السَّاعَةُ. "الراوي : عقبة بن عامر - صحيح مسلم.

  حتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ علَى ذلكَ :أي أنَّهم لا يَزالُون على الحقِّ حتَّى تَقبِضَهم هذه الرِّيحُ اللَّينةُ قُربَ القيامةِ وعندَ تَظاهُرِ أشراطِها، فأطلَقَ في هذا الحديثِ بَقاءَهم إلى قيامِ السَّاعةِ على أشراطِها ودُنوِّها المُتناهي في القُربِ.

أحداث يوم القيامة بالترتيب:

اختلف أهل العلم في ترتيب أحوال يوم القيامة.فإنَّ ما يحصل يوم القيامة، وما يكون مِمَّا ورد في الكتاب والسُّنَّة، أشياء كثيرة: قيام الناس، والحوض، والميزان، والصُّحُف، والحساب، والعرض، وتطاير الصُّحُف، وأخذ الكتاب، الصراط، والظلمة، وهذه أشياء متنوعة.....

فكيف يكون ترتيبها؟ أحداث يوم القيامة ذكرت في نصوص متفرقة .ولا يوجد نصٌّ صريح في ترتيبها، ولذا وقع الخلاف في ترتيب بعض الأحداث.فعلى المسلم الموحد أن يؤمن بجميع أحداث ذلك اليوم المذكورة في الكتاب والسنة الصحيحة ، مع التماس العذر والتطاوع دون إنكار في ترتيب هذه الأحدث.

ينفخ في الصور نفختان :

أولًا نفخة الصعق: يَمُوتُ بِسَبَبِهَا جَمِيعُ الْمَوْجُودِينَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ; إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقِيلَ: هُمْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَجِبْرِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ، وَمَلَكُ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: هُمُ الشُّهَدَاءُ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.     

قال صلى الله عليه وسلم "صاحبُ الصورِ واضعٌ الصورَ على فِيهِ، منذُ خُلِقَ، ينتظِرُ متى يؤمَرُ أنْ ينفُخَ فيه، فينفُخَ".خلاصة حكم المحدث : صحيح- الراوي : البراء بن عازب وأبو سعيد الخدري - المحدث : الألباني -صحيح الجامع.

قال صلى الله عليه وسلم "كيفَ أنعَمُ وقدِ التقَمَ صاحبُ القرنِ القرنَ وحنَى جبهتَهُ وأصغى سمعَهُ ينتَظِرُ أن يؤمَرَ أن ينفخَ فينفخ .قالَ المسلمونَ: فَكَيفَ نقولُ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: قولوا حَسبُنا اللَّهُ ونعمَ الوَكيلُ توَكَّلنا على اللَّهِ ربِّنا .وربَّما قالَ سفيانُ: على اللَّهِ توَكَّلنا "الراوي : أبو سعيد الخدري -المحدث :الألباني - صحيح الترمذي.

تستمر الحياة حتى إذا شاءَ الله أن تقوم الساعة ، يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً مِن قِبَلِ الشَّأْمِ، فلا يَبْقَى علَى وَجْهِ الأرْضِ أَحَدٌ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِن خَيْرٍ أَوْ إيمَانٍ إلَّا قَبَضَتْهُ، ثم  أمرَ إسرافيلَ عليه السلامُ بالنفخ في الصور ،فينفخ نفخة عظيمة تفزع جميع الخلائق فيصعقون منها ويهلكون ، وتنتهي الدنيا بأكملها .. كل ما تراه سيفنى .. لن تبقى القوى البشرية ، ولا قدراتهم التكنلوجية ، ولا وكالاتهم الفضائية ، ولا مراكبهم وأقمارهم الصناعية .

ثم يمكثون على ذلك مدة ، الله أعلم بمقدارها ، فتتحلل أجسادهم في هذه المدة ولا يبقى منها إلا عجب الذنب ، وهو العظم المستدير الذي في أصل الظهر ، ثم يرسل الله سحابًا فتمطر مطرًا فإذا أصاب الماء هذا العظم نبت منه الجسم كما ينبت النبات ويتركب الخلق من هذا العظم ، ثم ينفخ في الصور نفخة البعث فتعود الأرواح إلى الأجساد ، فيخرجون من القبور سراعًا إلى أرض المحشر.

" يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً مِن قِبَلِ الشَّأْمِ، فلا يَبْقَى علَى وَجْهِ الأرْضِ أَحَدٌ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِن خَيْرٍ أَوْ إيمَانٍ إلَّا قَبَضَتْهُ، حتَّى لو أنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ في كَبِدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْهُ عليه حتَّى تَقْبِضَهُ، قالَ: سَمِعْتُهَا مِن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ. قالَ: فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ في خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ؛ لا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، فَيَتَمَثَّلُ لهمُ الشَّيْطَانُ، فيَقولُ: أَلَا تَسْتَجِيبُونَ؟ فيَقولونَ: فَما تَأْمُرُنَا؟ فَيَأْمُرُهُمْ بعِبَادَةِ الأوْثَانِ، وَهُمْ في ذلكَ دَارٌّ رِزْقُهُمْ، حَسَنٌ عَيْشُهُمْ، ثُمَّ يُنْفَخُ في الصُّورِ، فلا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا، قالَ: وَأَوَّلُ مَن يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إبِلِهِ، قالَ: فَيَصْعَقُ، وَيَصْعَقُ النَّاسُ..." الراوي : عبدالله بن عمرو -صحيح مسلم.

قال تعالى "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ  ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ". الزمر : 68.

" فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ" وهُم خُبثاؤهم ورَذائلُهم، فإنَّهم يَبْقَون على حالٍ يُشبِهُ " في خِفَّةِ الطَّيْرِ " أي: اضطرابَها ونُفورَها وسُرعتَها، " وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ" أي: في عقولِ السِّباعِ النَّاقصةِ، ومعنى ذلك أنَّهم يَكونون في سُرعتِهم إلى الشُّرورِ وقَضاءِ الشَّهواتِ والفسادِ كسُرعةِ طَيَرانِ الطَّيرِ، ويكونونَ في حالةِ كَونِهم في المعاداةِ وظُلمِ بعضِهم بعضًا في أخلاقِ السِّباعِ العاديةِ بعضِها على بَعض، " وَهُمْ في ذلكَ" أي: والحالُ أنَّهم فيما ذُكِر مِن الأوصافِ الرَّديئةِ والعباداتِ الوَثَنِيَّةِ دَارٌّ " أي: نازلٌ عليهم " رِزْقُهُمْ" بكَثرةٍ كدُرورِ الضَّرعِ اللَّبَنَ غيْرَ المنقطِعِ والسَّماءِ بالمطَرِ الغزيرِ، " حَسَنٌ عَيْشُهُمْ" فهم في سَعةٍ في مَعاشِهم مِن مَطْعَمٍ ومَشرَبٍ ومَلبَسٍ وعافيةٍ.

ثُمَّ يُنْفَخُ في الصُّورِ :والصُّورُ: قَرنٌ أو بوقٌ يُنفَخُ فيه، والنَّافخُ هو ملَكٌ مِن الملائكةِ، واسمُه إسرافيلُ عليه السَّلامُ، "فلا يَسْمَعُه أحدٌ إلَّا أَصْغَى لِيتًا ورَفَع لِيتًا"، والمرادُ: أنَّ كلَّ مَن يَسمَعُ نَفخةَ الصُّورِ، فإنَّه يُصْغي جانبًا مِن عُنقِه للسُّقوطِ على الأرضِ، ويَرفَعُ الجانبَ الآخَرَ لاستماعِ النَّفخةِ، وهو كنايةٌ عن سُقوطِ رَأسِه على أحدِ الشِّقَّينِ بسَببِ الصَّعقةِ الَّتي تَأخُذُه عندَ ذلك، فلا تُمهِلُه، "وأوَّلُ مَن يَسمَعُه رَجلٌ يَلُوطُ"، أي: يُطيِّنُ ويُصلِحُ "حَوْضَ إبِلِه" بالطِّينِ حتَّى لا يَتسرَّبَ الماءُ، ويُنظِّفُه مِن الغُثاءِ لِيَسقِيَ الإبلَ الماءَ، "فيَصعَقُ"، أي: يَموتُ هو أوَّلًا "ويَصْعَقُ النَّاسُ" كلُّهم معه. 

وهي نفخة هائلة مدمرة، يسمعها المرء فلا يستطيع أن يوصي بشيء، ولا يقدر على العودة إلى أهله وخلانه "مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ - فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ"يس: ٤٩-٥٠.

تقوم الساعة يوم الجمعة:

"خيرُ يومٍ طلَعت فيهِ الشَّمسُ يومُ الجمُعةِ فيهِ خُلِقَ آدمُ وفيهِ أُهْبِطَ وفيهِ تيبَ عليهِ وفيهِ ماتَ، وفيهِ تقومُ السَّاعةُ، وما من دابَّةٍ إلَّا وَهيَ مُسيخةٌ يومَ الجمُعةِ مِن حينَ تُصبحُ حتَّى تطلعَ الشَّمسُ شفقًا منَ السَّاعةِ إلَّا الجنَّ والإنسَ ،وفيهِ ساعةٌ لا يصادفُها عبدٌ مسلمٌ وَهوَ يصلِّي يسألُ اللَّهَ حاجةً إلَّا أعطاهُ إيَّاها..." الراوي : أبو هريرة وعبد الله بن سلام - المحدث :الألباني - صحيح أبي داود.

"إلَّا وهي مُسِيخَةٌ يومَ الجمعةِ"، أي: مُصغِيَة ومُستَمِعة "مِن حِين تُصبِحُ حتَّى تَطلُعَ الشَّمسُ شفقًا مِن السَّاعةِ"، أي: خوفًا مِن السَّاعةِ؛ وذلك لِمَا جَبَلها اللهُ عليه، هذا الحديث يُدلنا على أنَّ الساعة تقوم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس "إلَّا الجِنَّ والإنسَ"، أي: فإنَّهم لا يَترقَّبون ولا يَخافون قيامَ السَّاعةِ في هذا اليومِ؛ لعِظَمِ غفلتِهم.

ثم تمر أربعون:

قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم " ما بيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ، قالَ: أرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قالَ: أبَيْتُ ، قالَ: أرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قالَ: أبَيْتُ ، قالَ: أرْبَعُونَ سَنَةً؟ قالَ: أبَيْتُ ، قالَ: ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيَنْبُتُونَ كما يَنْبُتُ البَقْلُ ، ليسَ مِنَ الإنْسانِ شَيءٌ إلَّا يَبْلَى، إلَّا عَظْمًا واحِدًا، وهو عَجْبُ الذَّنَبِ ، ومِنْهُ يُرَكَّبُ الخَلْقُ يَومَ القِيامَةِ."الراوي : أبو هريرة - صحيح البخاري.

وفي هذا الحديثِ يُبيِّن النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُدَّةَ ما بيْن النَّفختَين، فيقولُ"ما بَينَ النَّفختَين أربعونَ"، ولَم يُبيِّن هل هي سَنةٌ، أو يومٌ، أو شَهْرٌ.

فسُئِل أبو هُرَيرةَ: هلْ هي أَربعونَ يومًا؟ فقال: أَبَيتُ -أي: امتنَعْتُ عن القولِ بتَعيينِ ذلك-، فقالوا: أربعونَ شَهرًا؟ فقال: أَبيتُ. فقالوا: أربعون سَنةً؟ فقال: أَبيتُ، وقد أبَى إخبارَهم بذلك.

فتتحلل أجسادهم في هذه المدة كما تحللت أجساد من مات قبلهم ؛ ولا يبقى منها إلا عَجْبُ الذَّنَبِ ، ومِنْهُ يُرَكَّبُ الخَلْقُ يَومَ القِيامَةِ ، وهو العظم المستدير الذي في أصل الظهر.

لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ:

اختلف العلماء هل هذا الموقف بعد النفخة الأولى نفخة الصعق،  أم بعد النفخة الثانية نفخة البعث.المهم أن نعتقد الحدث نفسه بقطع النظر عن ترتيبه بين أهوال القيامة.

قال ابن الجوزي رحمه الله :
" قوله تعالى" لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ " اتفقوا على أن هذا يقوله الله عزّ وجلّ بعد فَناء الخلائق. 
واختلفوا في وقت قوله عزّ وجلّ له على قولين :
أحدهما: أنه يقوله عند فَناء الخلائق إِذا لم يبق مجيب. فيَرُدّ هو على نفسه فيقول: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ، قاله الأكثرون.
والثاني: أنه يقوله يوم القيامة.
وفيمن يُجيبه حينئذ قولان: أحدهما: أنه يُجيب نفسه ، وقد سكت الخلائق لقوله تعالى . قاله عطاء.
والثاني: أن الخلائق كلَّهم يُجيبونه فيقولونللهِ الواحدِ القهارِ ، قاله ابن جريج ".انتهى من "زاد المسير" 7/212.

"  وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ  سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ" سورة الزمر: 67.

"يَوْمَ هُم بَارِزُونَ  لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ  لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ،  لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ "غافر: 16.

هذا مقام إظهار كبريائه وعظمته سبحانه ، وأن من كان ينازعه الملك في الدنيا ، بقوله ودعاواه وأكاذيبه ، لا يملك في ذلك اليوم العسير شيئًا من أمره ، ولو بمجرد القول والدعوى باللسان ، ولا يقوى أن يتقدم بين يدي رب العالمين بقول ، ولا فعل .

وَذِكْرُ الصِّفَتَيْنِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الصِّفَاتِ الْعُلَى لِأَنَّ لِمَعْنَيَيْهِمَا مَزِيدَ مُنَاسَبَةٍ بِقَوْلِهِ" لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ " ، حَيْثُ شُوهِدَتْ دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ لله ، وقهره جَمِيع الطغاة والجبارين " .انتهى من "التحرير والتنوير

"يَقْبِضُ اللَّهُ الأرْضَ يَومَ القِيامَةِ، ويَطْوِي السَّماءَ بيَمِينِهِ ، ثُمَّ يقولُ: أنا المَلِكُ أيْنَ مُلُوكُ الأرْضِ."الراوي : أبو هريرة - صحيح البخاري.

 

النفخة الثانية نفخة البعث:

بعدَ النفخةِ الأولى نفخة الصعقِ وقبض أرواح من بقي حيًا إلا من شاء الله ؛وقبلَ النفخةِ الثانيةِ نفخة النشورِ؛ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيَنْبُتُونَ كما يَنْبُتُ البَقْلُ ، ليسَ مِنَ الإنْسانِ شَيءٌ إلَّا يَبْلَى، إلَّا عَظْمًا واحِدًا، وهو عَجْبُ الذَّنَبِ ، ومِنْهُ يُرَكَّبُ الخَلْقُ يَومَ القِيامَةِ.فتكون أجساد بلا روح ،

قال النبي صلى الله عليه وسلم : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ "رواه أبو داود 1047، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود.

قال النبي صلى الله عليه وسلم ".... إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ، قد حرَّمَ علَى الأرضِ أن تأكلَ أجسادَ الأنبياءِ"خلاصة حكم المحدث : صحيح- الراوي : أوس بن أبي أوس وقيل أوس بن أوس والد عمرو - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح النسائي.

"إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ حرَّم على الأرضِ"، أي: منَعَها أن تُبلِيَ "أجسادَ الأنبياءِ"، أي: وهُم في قُبورِهم.

 ثُمَّ يُنْفَخُ في الصور أُخْرَى،فَتُرَدُّ الأَروَاحُ إلى الأَجسَادِ ،  فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ.

وإنبات الأجساد – مِنْ عَجْبِ الذَّنَبِ - من التراب بعد إنزال الله ذلك الماء الذي ينبتها يماثل إنبات النبات من الأرض إذا نزل عليها الماء من السماء في الدنيا، ولذا فإن الله قد أكثر في كتابه من ضرب المثل للبعث والنشور بإحياء الأرض بالنبات نزول الغيب، قال تعالى"وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" الأعراف: ٥٧ . وقال في موضع آخر"وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ"فاطر: ٩ .ولاحظ في كلا الموضعين قوله"كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى" ، "كَذَلِكَ النُّشُورُ"، فإنهما يدلان على المماثلة والمشابهة بين إعادة الأجسام بإنباتها من التراب بعد إنزال الماء قُبيل النفخ في الصورِ، وبين إنبات النبات بعد نزول الماء من السماء. ونحن نعلم أن النبات يتكون من بذور صغيرة، تكون في الأرض ساكنة.

قال ابن كثير رحمه الله :

" نَفْخَةُ الصَّعْقِ ، هِيَ الَّتِي يموت بها الأحياء من أهل السموات وَالْأَرْضِ ، إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ يَقْبِضُ الله أَرْوَاحَ الْبَاقِينَ ، حَتَّى يَكُونَ آخِرُ مَنْ يَمُوتُ مَلَكَ الْمَوْتِ ، وَيَنْفَرِدُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي كَانَ أَوَّلًا وَهُوَ الْبَاقِي آخِرًا بِالدَّيْمُومَةِ وَالْبَقَاءِ ، ثُمَّ يُحْيِي أَوَّلَ مَنْ يُحْيِي إِسْرَافِيلَ ، وَيَأْمُرُهُ أَنْ يُنْفَخَ فِي الصُّورِ أُخْرَى. ا.هـ.

وقيل إن إسرافيل عليه السلام ممن استثناهم الله تعالى من الموت ، قال الله تعالى " وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ " الزمر/ 68 . انظر " تفسير ابن جرير " 21/330.

فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ : لا يلزم من لفظ الآية أن أول من يصعق من في السموات ثم من في الأرض ، فمن المعلوم أن الترتيب في الذِّكْرِ، لا يلزم منه الترتيب في الوجود، وأن حرف العطف الوارد في الآية "الواو" لا يقتضي ترتيبًا بين المتعاطفات، ولا تراخيًا؛ بل هي لمطلق العطف.الإسلام سؤال وجواب.

قال تعالى "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ"الزمر/ 68 .

اختلف أهل العلم في النفخ في الصور ، هل هو نفختان ، أم ثلاث ؟ والراجح أنهما نفختان ، كما تدل عليه الآية السابقة .

قال الشيخ ابن باز رحمه الله :

" الصُّور قرن عظيم ، ينفخ فيه إسرافيل النفخة الأولى للموت والفزع ، والنفخة الثانية للبعث والنشور . هاتان النفختان جاء بهما القرآن الكريم . إحداهما يقال لها : نفخة الصعق ، ويقال لها : نفخة الفزع ، وبها يموت الناس ، والثانية نفخة البعث ، وقال جماعة من العلماء : إنها ثلاث : نفخة الفزع ، وقد يفزع الناس فقط ، ثم تأتي بعدها نفخة الموت ، ثم نفخة البعث والنشور . والمحفوظ نفختان فقط ، كما دل عليهما كتاب الله العظيم " انتهى من " فتاوى نور على الدرب " 4/ 327 .

وقد ثَبَتَ في صَحيحِ مُسلِمٍ من حَديثِ عَبدِ الله بن عَمْرٍو أنَّهما نَفخَتانِ، ولَفظُه :

".....ثُمَّ يُنْفَخُ في الصُّورِ، فلا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا، قالَ: وَأَوَّلُ مَن يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إبِلِهِ، قالَ: فَيَصْعَقُ، وَيَصْعَقُ النَّاسُ ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ -أَوْ قالَ: يُنْزِلُ اللَّهُ- مَطَرًا كَأنَّهُ الطَّلُّ -أَوِ الظِّلُّ؛ نُعْمَانُ الشَّاكُّ- فَتَنْبُتُ منه أَجْسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فيه أُخْرَى، فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ، ثُمَّ يُقَالُ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمَّ إلى رَبِّكُمْ، وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْؤُولونَ،

.... " الراوي : عبدالله بن عمرو -صحيح مسلم.

الزلزلة :

"إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا" الزلزلة:1.

اختلف العلماء في وقت الزلزلة المذكورة في قوله تعالى"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ  إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ" الحج:1.هل الزلزلة قبل نفخة البعث أم بعدها؟

قال صاحب أضواء البيان: اختلف العلماء في وقت هذه الزلزلة المذكورة هنا، هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عَرَصَات القيامِةِ - قال ابن حجر في الفتح :181/6 :العَرْصَة: هي البقعة الواسعة بغير بناء من دار و غيرها. "ومنه: عرصات يوم القيامة، وهي المكان الواسع الذي يقف فيه الناس للحساب. - ، أو هي عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من القبور؟

 فقالت جماعة من أهل العلم: هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر هذه الدنيا، وأول أحوال الساعة، وممن قال بهذا القول، علقمة والشعبي وإبراهيم وعبيد بن عبيد، وهذا القول من حيث المعنى له وجه من النظر، لكنه لم يثبت ما يؤيده من النقل؛ بل الثابت من النقل يؤيد خلافه وهو القول الآخر.

القول الآخر القائلين بأن الزلزلة المذكورة كائنة يوم القيامة بعد البعث من القبور، فهي ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من تصريحه بذلك، وبذلك تعلم أن هذا القول هو الصواب كما لا يخفى.

قال تعالى " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ  إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) الحج.

قال البخاري رحمه الله في صحيحه في التفسير في باب قوله : وترى الناس سكارى : قال :حدثنا عمر بن حفص ، قال حدثنا أبي ، قال: حدثنا الأعمش ، قال: حدثنا أبو صالح ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم  " يقول الله عز وجل يوم القيامة : يا آدم . فيقول : لبيك ربنا وسعديك . فينادى بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار . قال : يا رب ، وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف - أراه قال - تسعمائة وتسعة وتسعين ، فحينئذ تضع الحامل حملها ، ويشيب الوليد ، وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى ، ولكن عذاب الله شديد . فشق ذلك على الناس ، حتى تغيرت وجوههم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ، ومنكم واحد ، وأنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض ، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود ، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة . فكبرنا ، ثم قال : ثلث أهل الجنة . فكبرنا ، ثم قال : شطر أهل الجنة . فكبرنا " . انتهى من صحيح البخاري .

وفيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأن الوقت الذي تضع فيه الحامل حملها ، وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى   : هو يوم القيامة لا آخر الدنيا .

مَنْ أول مَنْ يُبْعَث  :                                  

أولُ مَنْ يُبْعَث رسولنا صلى الله عليه وسلم ، وهو أول من تنشق عنه الأرض ، كما جاء في الصحيحين .

قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ" أنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر، وأنا أولُ من تنشقُّ الأرضُ عنه يومَ القيامةِ ولا فخر وأنا أولُ شافعٍ وأولُ مشفَّعٍ ولا فخر ولواءُ الحمدِ بيدي يومَ القيامةِ ولا فخرَ"خلاصة حكم المحدث : صحيح- الراوي : أبو سعيد الخدري- المحدث : الألباني- المصدر : صحيح ابن ماجه.

"عَنِ الزُّهْرِيِّ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَسَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ ، فَقَالَ المُسْلِمُ : وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى العَالَمِينَ ، فِي قَسَمٍ يُقْسِمُ بِهِ ، فَقَالَ اليَهُودِيُّ : وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى العَالَمِينَ ، فَرَفَعَ المُسْلِمُ عِنْدَ ذَلِكَ يَدَهُ فَلَطَمَ اليَهُودِيَّ ، فَذَهَبَ اليَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ المُسْلِمِ ، فَقَالَ: لاَ تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى ، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ العَرْشِ ، فَلاَ أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي ، أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ"صحيح البخاري  كتاب أحاديث الأنبياء.

ثم بعد إفاقة  النبي صلى الله عليه وسلم  يخرج الناس جميعًا من قبورهم حفاة ؛عراة ؛غُرْلًا أي: غير مختونين.

"يُحْشَرُ النَّاسُ يَومَ القِيامَةِ حُفاةً عُراةً غُرْلًا، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، النِّساءُ والرِّجالُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ! قالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: يا عائِشَةُ، الأمْرُ أشَدُّ مِن أنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ."الراوي : عائشة أم المؤمنين -صحيح مسلم.

شرح الحديث : يومُ القيامةِ يَومٌ عَظيمٌ وشَديدٌ، يقومُ فيه النَّاسُ بيْنَ يَدَي ربِّ العالَمِين للحسابِ، وفيه مِن الأهوالِ ما يُذهِلُ العقولَ والألبابَ، ويَظهَرُ النَّاسُ فيه كالسُكارى مِن شِدَّةِ الخوفِ. وفي هذا الحديثِ يَصِفُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعضَ ما في هذا اليومِ، حيث يقولُ"يُحْشَرُ النَّاسُ يومَ القيامةِ"، فيُجْمَعون بعْدَ البَعثِ مِن الموتِ، ويَقُومون للحسابِ، وهم حُفاة الأقدامِ بلا أحذيةٍ ولا نِعالٍ، وعُراةُ الأجسادِ بلا ثِيابٍ ولا سُتُورٍ، غُرْلًا غيرَ مَخْتونِين، قد ذهَب عنهم كلُّ ما كَانوا فيهِ في الدُّنيا وعَادُوا كما خَلَقَهم اللهُ؛ كما في قولِه تعالَى"كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ"الأنبياء: 104 ، فلمَّا سَمِعَت عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها ذلكَ قالتْ مُتسائلةً مُتعجِّبةً"يا رسولَ اللهِ، النِّساءُ والرِّجالُ جميعًا يَنظُرُ بعضُهم إلى بعضٍ؟!"، وهذا اسْتِفهامٌ واسْتِغرابٌ من أنْ يُجْمَعَ النُّاسُ عُراةً وعَوْراتهم ظَاهِرة أمام بعضِهم رجالًا ونساءً؛ فهل يَنظُرون إلى بعضِهم البَعضِ؟! فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"يا عائشةُ، الأمرُ أَشَدُّ مِن أنْ يَنظُرَ بعضُهم إلى بعضٍ"، أيْ: إنَّ شأنَ المُوقِفِ والحَشْرِ بَعْدَ البَعْثِ مِن الموتِ فيه مِن الأهوالِ ما يَأخُذُ اهْتِمامَ النَّاسِ وأَبْصارَهم عن النَّظرِ إلى العَوْراتِ، ومِنْها ما قال اللهُ تعالى"يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ"الحج: 2.

انتقال الناس إلى أرض المحشر:

الْحَشْرُ هو إخراج الجماعة عن مقرهم .الْحَشْرُ في الشرع عند الإطلاق إخراج الموتى من قبورهم ، وسوقهم إلى الموقف للحساب والجزاء . والنشر إحياء الميت بعد موته . ومنه قوله تعالى  " ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ" عبس: 22. أي أحياه .والْحَشْر يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ النَّشْرِ لِاتِّصَالِهِ بِهِ.

" يُحْشَرُ النَّاسُ يَومَ القِيامَةِ علَى أرْضٍ بَيْضاءَ عَفْراءَ، كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ. قالَ سَهْلٌ أوْ غَيْرُهُ: ليسَ فيها مَعْلَمٌ لأحَدٍ. "الراوي : سهل بن سعد الساعدي -صحيح البخاري.

عَفْراءَ : أي: ليْس بَياضُها بالنَّاصعِ، أو تَضرِبُ إلى الحُمرةِ قليلًا، كَقُرْصَةِ خُبْزٍ نَقِيٍّ سالمٍ دَقيقُه مِن الغشِّ والنُّخالةِ.

ليسَ فيها مَعْلَمٌ لأحَدٍ : ليْس في الأرضِ المذكورةِ شيءٌ مِنَ العلاماتِ التي يُهتدَى بها ويُستدَلُّ بها على الطَّريقِ، وفي هذا تعريضٌ بأنَّ أرضَ الدُّنيا ذهبت وانقطعت العَلاقةُ منها.

وَوَقَعَ خِلافٌ في أرضِ المَحْشَرِ فهَل هيَ أرضٌ أخرى غَيرُ أرضِ الدُّنيا أو هيَ ذاتُها مَعَ تَبديلِ صِفاتِها إلى صِفاتٍ أخرى؟

قال اللهُ تعالى" يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ "إبراهيم: 48.

وقال السَّعديُّ " يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيرَ الأَرْضِ والسَّمَوَاتُ" وهذا التَّبديلُ تَبديلُ صِفاتٍ، لا تَبديلُ ذاتٍ؛ فإنَّ الأرضَ يَومَ القيامةِ تُسوَّى وتُمَدُّ كمدِّ الأديمِ ويُلقى ما على ظَهرِها من جَبَلٍ ومَعلَمٍ، فتَصيرُ قاعًا صَفْصفًا – أي مستويًا لا يرى فيه أيها الناظر عِوَجًا، هذا من تمام استوائها ، لا تَرى فيها عِوَجًا ولا أَمْتًا. أَمْتًا :الروابي والنشوز.

".......يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ في صَعِيدٍ واحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي ويَنْفُذُهُمُ البَصَرُ، وتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الغَمِّ والكَرْبِ ما لا يُطِيقُونَ ولَا يَحْتَمِلُونَ...."الراوي : أبو هريرة - صحيح البخاري.

وفي رواية أخرى:

"...يَجْمَعُ اللَّهُ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ في صَعِيدٍ واحِدٍ، فيُبْصِرُهُمُ النَّاظِرُ ويُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وتَدْنُو منهمُ الشَّمْسُ ...." الراوي : أبو هريرة - صحيح البخاري.

قال القُرطُبيُّ: المَعنى أنَّهم يُجمَعونَ في مَكانٍ واحِدٍ بحَيثُ لا يَخفى منهم أحَدٌ لَو دَعاهم داعٍ لسَمعوه، ولَو نَظَرَ إليهم ناظِرٌ لأدرَكَهم.

وقال ابنُ عُثَيمين: إنَّ اللهَ تَبارَكَ وتعالى يَجمَعُ الأوَّلينَ والآخِرينَ في صَعيدٍ واحِدٍ مُتَساوٍ، يُسمِعُهمُ الدَّاعي ويَنفُذُهمُ البَصَرُ، نَحنُ في الدُّنيا لَسنا على أرضٍ مُتَساويةٍ، بَل على أرضٍ تُشبِه الكُرةَ؛ ولِذلك لا يَنفُذُ البَصَرُ إلى ما وراءَ المُنحَنى؛ مُنحَنى الكُرةِ، ولا يُسمعُ الدَّاعي، لَكِن في الآخِرةِ يَقولُ الله عزَّ وجَلَّ"وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ"الانشقاق: 3.  يَعني: تُمَدُّ مَدًّا واحِدًا ليس فيها جِبالٌ ولا انحِناءٌ ولا مَساكِنُ؛ ولِهذا يُسمِعُهمُ الدَّاعي؛ لأنَّه لا يوجَدُ شَيءٌ يَرُدُّ الصَّوتَ، ويَنفُذُهمُ البَصَرُ: يُرى أقصاهم كما يُرى أدناهم، فيُحشَرُ الخَلائِقُ كُلُّهم على هذه الأرضِ المَسطوحةِ، لا جِبالَ ولا أنهارَ ولا شِعابَ ولا غَيرَها. لقاء الباب المفتوح: رقم اللقاء: 234.

صِفةُ حَشرِ الخَلْقِ:

هناك صِفاتٌ عامَّةٌ يُحشَرُ عليها جَميعُ البَشَرِ، وهيَ حَشرُهم حُفاةً عُراةً غُرْلًا.

" إنَّكُمْ مُلَاقُو اللهِ مُشَاةً حُفَاةً، عُرَاةً غُرْلًا." الراوي : عبدالله بن عباس -صحيح مسلم .

"إنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفاةً عُراةً غُرْلًا ، ثُمَّ قَرَأَ"كما بَدَأْنا أوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وعْدًا عليْنا إنَّا كُنَّا فاعِلِينَ"الأنبياء: 104، وأَوَّلُ مَن يُكْسَى يَومَ القِيامَةِ إبْراهِيمُ....." الراوي : عبدالله بن عباس - صحيح البخاري .

والمَقصودُ أنَّهم يُحشَرونَ كما خُلِقوا لا شَيءَ مَعَهم ولا يُفقَدُ منهم شَيءٌ حَتَّى الغُرلةُ تَكونُ مَعَهم.شرح صحيح مسلم.فمن بُتِرَ منه أي عضو في الدنيا يعود كما كان في هذا اليوم العصيب.

فكَما أنَّ الإنسانَ يَخرُجُ من بَطنِ أمِّه هَكَذا عاريًا غَيرَ مُنتَعِلٍ، غَيرَ مَختونٍ، ليس معه مالٌ، فكَذلك يَخرُجُ من بَطنِ الأرضِ يَومَ القيامةِ على هذه الصِّفةِ.

ذكَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ أوَّلَ مَن يُكْسى مِن الأنبياءِ يَومَ القيامةِ إبراهيمُ الخَليلُ عليه السَّلامُ، ولا يَلزَمُ مِن تَخصيصِ نَبيِّ اللهِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ بأنَّه أوَّلُ مَن يُكْسَى، أفْضلِيَّتُه على نَبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فاللهُ عزَّ وجلَّ قَد يَخُصُّ أحدًا مِن الأنبياءِ أو غيرِهم بشَيءٍ يَتمَيَّزُ به عَن غيرِه، ولا يُوجِبُ ذلكَ الفضْلَ المُطلَقَ.

وهناك صِفاتٌ خاصَّةٌ يَأتي بها بَعضُ الخَلائِقِ، وهيَ هَيئاتٌ مُختَلِفةٌ بَعضُها حَسَنٌ، وبَعضُها قَبيحٌ، بحَسَبِ ما قَدَّموه من خَيرٍ وشَرٍّ.

يَبعثُ اللهُ كلَّ إنسانٍ على ما ماتَ عليه مِن اعتقادٍ وعملٍ فيُجازِيه عليه.

"يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ علَى ما ماتَ عليه." الراوي : جابر بن عبدالله - صحيح مسلم .

فعلى الإنسانِ أنْ يَجتَهِدَ في فِعْلِ الأعْمالِ الصالِحَةِ؛ لأجْلِ أنْ يَبعَثَه اللهُ عزَّ وجلَّ على عَمَلٍ صالِحٍ، وعليه أنْ يَتَمسَّكَ بالإسلامِ وحدُودِهِ في حَياتِه؛ لِيَموتَ على ذلكَ الحال .

يَبعثُ اللهُ كلَّ إنسانٍ على ما ماتَ عليه مِن اعتقادٍ وعملٍ فيُجازِيه عليه.ومن ذلك:

موت الحاج:

"أنَّ رَجُلًا كانَ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَوَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ وهو مُحْرِمٌ، فَمَاتَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اغْسِلُوهُ بمَاءٍ وسِدْرٍ، وكَفِّنُوهُ في ثَوْبَيْهِ، ولَا تَمَسُّوهُ بطِيبٍ، ولَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فإنَّه يُبْعَثُ يَومَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا."الراوي : عبدالله بن عباس - صحيح البخاري .

أَمَر النبيُّ صَلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يَغسِلوه بِماءٍ وسِدْرٍ، وهو ورقُ شجرِ النَّبْقِ، له رائحةٌ طيِّبةٌ، ولكنْ لا يُستخدَمُ كطِيبٍ، وأن يُكَفِّنوه في ثَوبَينِ، ولا يُحَنِّطوه بوضعِ الطِّيبِ الَّذي يُخلطُ ويوضَعُ للمَيتِ؛ لأنَّه قد مات متلبِّسًا بالحجِّ، والحاجُّ لا يَتطيَّبُ، ولا يُخَمِّروا رَأْسَه، فلا يُغَطُّوه؛ لِأَنَّه مُحرِمٌ، وعلَّل ذلك بأنَّه يُبعَثُ يَومَ القيامةِ يُلَبِّي، وهي الصورةُ التي مات عليها. وفي الحَديثِ: أنَّ المُحرِمَ إذا مات فإنَّه يَبقى في حَقِّه حُكمُ الإحْرامِ، فلا يُحَنَّطُ، ولا يُغَطَّى رَأْسُه، ولا يُكَفَّنُ في ثَلاثةِ أثْوابٍ كغَيرِه. وفيه: الكَفَنُ في ثَوبَيْنِ لِلمُحْرِمِ. وفيه: مَشروعيَّةُ تَكْفينِ المُحرِمِ في ثيابِ إحْرامِه.الدرر السنية.

الشهيد: قال النبي صلى الله عليه وسلم :"كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ المُسْلِمُ في سَبيلِ اللَّهِ، يَكونُ يَومَ القِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا، إذْ طُعِنَتْ، تَفَجَّرُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، والعَرْفُ عَرْفُ المِسْكِ." الراوي : أبو هريرة - صحيح البخاري

يُبيِّنُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ كلَّ جُرحٍ يُجرَحُه المسلمُ في القتالِ في سَبيلِ اللهِ، يكونُ يومَ القِيامةِ على حالتِه الَّتي جُرحِ به في الدُّنيا عندَما طُعِنَ، يَسيلُ ويَتفجَّرُ منها الدَّمُ، ولكنَّ هذا الدَّمَ وإنْ كان لوْنُه لوْنَ الدَّمِ إلَّا أنَّ عَرْفَه -يعني: رائحتَه- تكونُ طَيِّبةً مِثلَ رائحةِ المِسْكِ. وقيل: الحِكمةُ في كَونِ الدَّمِ يَأتي يومَ القِيامةِ على هَيئتِه أنَّه يَشهَدُ لِصاحِبِه بفَضْلِه، وعلى قاتِلِه بفِعلِه، وفائدةُ رائحتِه الطَّيِّبةِ أنْ تَنتشِرَ في أهلِ الموقفِ؛ إظهارًا لفَضيلتِه أيضًا، ومِن ثَمَّ لم يُشرَعْ غَسْلُ شَهيدِ المَعركةِ.

حَشرُ المُتكَبِّرينَ يَوم القيامةِ:

"يُحشَرُ المتَكَبِّرونَ يومَ القيامةِ أمثالَ الذَّرِّ في صُوَرِ الرِّجالِ يغشاهمُ الذُّلُّ من كلِّ مَكانٍ، يُساقونَ إلى سجنٍ في جَهَنَّمَ يسمَّى بولُسَ تعلوهُم نارُ الأَنْيارِ يُسقونَ من عُصارةِ أَهْلِ النَّارِ طينةَ الخبالِ"خلاصة حكم المحدث : حسن-الراوي : عبدالله بن عمرو - المحدث : الألباني -المصدر : صحيح الترمذي .

توَعَّد اللهُ تعالى المتكبِّرين الَّذين يتَكبَّرون على عِبادةِ اللهِ تعالى، وعلى خلْقِ اللهِ بأشَدِّ أنواعِ العذابِ يومَ القيامةِ. والكِبرُ: إنكارُ الحقِّ وتَحقيرُ النَّاسِ.

"يومَ القيامةِ"، أي: يَحشُرُهم يَومَ القيامةِ في أرضِ المَحشَرِ، وهُم "أمثالُ"، أي: مِثلُ وفي حَجْمِ، "الذَّرِّ"، أي: النَّملِ الصَّغيرِ،وقيل: الذَّرَّةُ يُرادُ بها ما يُرى مِن هباءٍ وغُبارٍ في شُعاعِ الشَّمسِ الدَّاخِلِ في النَّافذةِ، في "صُورِ الرِّجالِ"، أي: على صُورِ الرِّجالِ في هيئَتِهم، ولكنَّ حَجْمَهم حَجمُ النَّملِ في الصِّغَرِ والحقارةِ، "يَغْشاهم"، أي: يأتيهم ويَنالُهم، "الذُّلُّ"، أي: المهانةُ، "مِن كلِّ مكانٍ" ومِن كلِّ جانبٍ بأنْ يطَأَهم الخلائقُ ويَدوسوا عليهم بأرجُلِهم؛ وذلك الجَزاءُ مِن جِنسِ عَملِهم؛ فإنَّهم لَمَّا تَكبَّروا وأرادوا العِزَّةَ والعُلوَّ بغيرِ الحقِّ، أذلَّهم اللهُ تعالى وصَغَّرَ وحَقَّرَ شأنَهم؛ فعُومِلُوا بنقيض قَصدِهم جَزاءً وفاقًا. ، يُساقونَ إلى سجنٍ في جَهَنَّمَ يسمَّى بولُسَ: ويُسحَبون ويُجَرُّون، أي: تَسوقُهم الملائكةُ بأمرِ ربِّها إلى "سِجْنٍ"، وهو المكانُ المُظلِمُ الضَّيِّقُ المُعَدُّ للحبسِ "في جَهنَّمَ"، أعَدَّه اللهُ تعالى للمُتكبِّرين، "يُسمَّى" هذا السِّجنُ باسمِ "بَولَسَ"- بفتحِ الباءِ وقيل: بضَمِّها، وسكونِ الواو وفتحِ اللَّامِ- قيل: هو مِن الإبلاسِ، بمعنى: اليأسِ، ولعلَّ هذا السِّجنَ إنَّما سُمِّي به؛ لأنَّ الدَّاخِلَ فيه يائسٌ مِن الخَلاصِ عمَّا قريبٍ، "تَعْلوهُم"، أي: تأتي مِن فوقِهم، وتَغْشاهم وتُحيطُ بهم "نارُ الأنيارِ"، جمعُ نارٍ، وأُضيفَ إليها لفظُ نارٍ؛ للمُبالَغةِ في الإحراقِ وشِدَّةِ الحرِّ، وقيل: إنَّها أصلُ نيرانِ العالَمِ، "يُسقَون" بصيغةِ المجهولِ، أي: تَسْقيهم الملائكةُ مِن خزَنةِ جَهنَّمَ بأمرِ ربِّها، "مِن عُصارةِ أهلِ النَّارِ"، وهو ما يَسيلُ مِن دَمٍ وقيحٍ وصديدٍ مِن أهلِ النَّارِ، ونَتنِهم، وهذه العُصارةُ تُسمَّى "طِينةَ الخَبالِ"، أي: الفسادَ الَّذي يَفسُدُ به البدَنُ.

وفي الحديثِ: ذَمُّ الكِبْرِ والمتكبِّرين، وبيانُ سُوءِ عاقِبَتِهم.

وفيه: تَعدُّدُ أنواعِ العَذابِ في النَّارِ، أعاذَنا اللهُ منها.الدرر السنية.

حَشْرُ السَّائِلينَ غَيرِ المُحتاجينَ:

"ما يَزالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حتَّى يَأْتِيَ يَومَ القِيامَةِ وليسَ في وجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ."الراوي : عبدالله بن عمر-صحيح مسلم.

المالُ مِن فِتَنِ الحياةِ الدُّنيا التي يَنبغي لِلمُؤمِنِ أنْ يَصُونَ نفْسَه عن الحِرصِ عليه، ويَحترِزَ مِن أنْ يَتطلَّعَ إلى ما في أيْدي الناسِ، ويَجترِئَ على سُؤالِهم بغَيرِ حاجةٍ، فيَبَوءَ بخِزْيِ الدُّنيا والآخرةِ. وفي الحديثُ بَيَّنَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الإنسانَ الذي يَسأَلُ الناسَ عن غَيرِ فَقْرٍ وَفاقةٍ، وإنَّما يَسأَلُ تَكثُّرًا، ويُذِلُّ نفْسَه، ويَمتهِنُ كَرامتَه الَّتي أوجَبَ اللهُ عليه صِيانتَها -يَغضَبُ اللهُ عليه، فيُذِلُّه ويُهِينُه يومَ القيامةِ كما أذَلَّ نفْسَه في الدُّنيا، ويَفضَحُه على رُؤوسِ الأشهادِ، فيَسلَخُ له وَجْهَه كلَّه، حتَّى يَأتيَ أمامَ النَّاسِ وليس في وَجْهِه قِطعةُ لحمٍ؛ جَزاءً وِفاقًا لِما فَعَله في الدُّنيا مِن إراقةِ ماءِ وَجْهِه.الدرر السنية.

حَشْرُ أصحابِ الغُلولِ:

قال اللهُ تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ "آل عمران: 161 .

يَعني لا تَغُلُّوا من الغَنيمةِ شَيئًا؛ فإنَّ من غَلَّ منها شَيئًا يَكونُ يَومُ القيامةِ حامِلًا لذلك الشَّيءِ؛ ليَكونَ أفضَحَ له.

قال القُرطُبيُّ: قَولُه تعالى: وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أي: يَأتي به حامِلًا له على ظَهرِه ورَقبَتِه، مُعَذَّبًا بحَملِه وثِقلِه، ومَرعوبًا بصَوتِه، ومُوبَّخًا بإظهارِ خيانَتِه على رُءوسِ الأشهادِ.

"أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اسْتَعْمَلَ عامِلًا، فَجاءَهُ العامِلُ حِينَ فَرَغَ مِن عَمَلِهِ، فقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، هذا لَكُمْ، وهذا أُهْدِيَ لِي. فقالَ له: أفَلا قَعَدْتَ في بَيْتِ أبِيكَ وأُمِّكَ، فَنَظَرْتَ أيُهْدَى لكَ أمْ لا؟! ثُمَّ قامَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلاةِ، فَتَشَهَّدَ وأَثْنَى علَى اللَّهِ بما هو أهْلُهُ، ثُمَّ قالَ: أمَّا بَعْدُ؛ فَما بالُ العامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ، فَيَأْتِينا فيَقولُ: هذا مِن عَمَلِكُمْ، وهذا أُهْدِيَ لِي؟! أفَلا قَعَدَ في بَيْتِ أبِيهِ وأُمِّهِ فَنَظَرَ: هلْ يُهْدَى له أمْ لا؟! فَوالَّذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَغُلُّ أحَدُكُمْ مِنْها شيئًا إلَّا جاءَ به يَومَ القِيامَةِ يَحْمِلُهُ علَى عُنُقِهِ؛ إنْ كانَ بَعِيرًا جاءَ به له رُغاءٌ ، وإنْ كانَتْ بَقَرَةً جاءَ بها لها خُوارٌ، وإنْ كانَتْ شاةً جاءَ بها تَيْعَرُ، فقَدْ بَلَّغْتُ. "الراوي : أبو حميد الساعدي -صحيح البخاري .

الوِلَايَةُ والإِمَارَةُ مِن الأَمانةِ التي سَيُسأَل عنها الوَالِي والأَمِيرُ؛ فكلُّ مَن تَولَّى أمرًا للمُسلِمين فإنَّه مَسؤُول عنه أمامَ اللهِ تعالَى، ولا يَنبغي لِمَن تَولَّى أمرًا أنْ يَستغِلَّ هذا الأمرَ لِتَحقيقِ مَصلحةٍ خاصَّةٍ له لم يكُنْ لِيُحقِّقَها إلَّا بتَوَلِّيه هذا المنصبَ.

ولذلك لَمَّا استَعْمَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عاملًا لِيَجْمَعَ الزَّكاةَ.فجاء هذا الرَّجُلُ إلى المدينةِ بعدَ رُجوعِه مِن عمَلِه، وأَعْطَى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مالًا وقال له"هذا مالُكم"، وقال لِمَالٍ معه"وهذا أُهْدِيَ لي"، فقَالَ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُنكِرًا عليه: لوْ قَعَدْتَ في بيْتِ أَبِيك أو بيْتِ أُمِّك، لم يكُنْ لِيُهْدَى إليك شَيْءٌ، وإنَّما أُهدِيَ إليك لأجْلِ العملِ الذي تَقَلَّدْتَه.الدرر السنية.

ثم أقسم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باللهِ الذي يملِكُ قَبْضَ رُوحِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه لا يَأخُذُ أحدٌ شيْئًا مِن الصَّدَقَةِ بغَيْر حَقٍّ، إلَّا أتى يوْمَ القِيامةِ حاملًا ما أَخَذَ وسَرَق منها على عُنقِه؛ فإنْ كان ما أَخَذه بَعيرًا مِن الجِمالِ، فإنَّه يَأْتي به حاملًا إيَّاهُ على عُنقِه، ويكونُ له رُغَاءٌ، وهو صَوْتُ البَعِير، وإنْ كانتْ بَقَرةً جاءتْ لها خُوَارٌ، وهو صَوْتُ البَقَرِ، وإن كانت شَاةً جاء بها تَيْعَرُ، أي: تَصِيح، وَاليُعَارُ: صَوْتُ الغَنَمِ.الدرر السنية.

حَشرُ أهلِ الوُضوءِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِن آثارِ الوُضوءِ:

رَقِيتُ مع أبِي هُرَيْرَةَ علَى ظَهْرِ المَسْجِدِ، فَتَوَضَّأَ، فقالَ: إنِّي سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ" إنَّ أُمَّتي يُدْعَوْنَ يَومَ القِيامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِن آثارِ الوُضُوءِ".  فَمَنِ اسْتَطاعَ مِنكُم أنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ. "الراوي : أبو هريرة -صحيح البخاري.

يَحكي نُعَيْمٌ المُجْمِرُ أنَّه صَعِدَ مع أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه على ظَهْرِ المَسجِدِ النَّبويِّ، فتَوضَّأَ وُضوءًا كاملًا وأسْبَغَه، وأعْطى كلَّ عُضْوٍ حَقَّه مِن الماءِ والغَسلِ، ثمَّ أخبَرَ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَشَّر أُمَّتَه الذين اسْتَجابوا له بأنَّ اللهَ تعالى يُميِّزُهم بعَلامةٍ يومَ القِيامةِ، ويُنادَوْنَ على رُؤوسِ الأشهادِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِن آثارِ الوُضوءِ، والغُرَّةُ: بَياضٌ في الجَبهةِ - أصلُ الغُرَّةِ لمْعةٌ بَيضاءُ تَكونُ في جَبهةِ الفَرَسِ، ثُمَّ استُعمِلَت في الجَمَالِ والشُهرةِ وطِيبِ الذِّكرِ -، والمرادُ بها هنا النُّورُ الكائنُ في وُجوهِ أُمَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والتَّحجيلُ: بَياضٌ في السَّاق، والمرادُ به هنا أيضًا النُّورُ؛ فإنَّ الوُضوءَ يَترُكُ أثرًا في الوجْهِ والسَّاقِ واليَدينِ يكونُ بَياضًا ونُورًا يومَ القِيامةِ، تَختصُّ به هذه الأُمَّةُ مْن بيْن الأُمَمِ.

  فَمَنِ اسْتَطاعَ مِنكُم أنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ : هذا الجزء من الحديث إدراج ،وقول لأبي هريرة وليس من قول الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقال ابنُ المُلقنِ: أهلُ الوُضوءِ يُبعَثونَ يَومَ القيامةِ غُرًّا مُحَجَّلينَ من آثارِه إكرامًا لهم، وشَهادةً لهم تُثبِتُ عَمَلَهم في الدُّنيا ليَتَمَيَّزوا بها.ا.هـ.

حَشرُ الشُّهَداءِ :

الشهداء ثلاثة: شهيد الدنيا والآخرة، وشهيد الدنيا دون الآخرة، وشهيد الآخرة دون الدنيا.

الأول: شهيد الدنيا والآخرة هو: المؤمن الصادق الذي يموت في معركة القتال، فهذا شهيد الدنيا، تطبق عليه أحكام الشهيد، فنكفنه بثيابه، ولا نغسله، ولا نصلي عليه، وفي الآخرة هو عند الله بمنزلة الشهداء.

الثاني: شهيد الدنيا دون الآخرة، وهو: الذي جاهد ولم يكن جهاده في سبيل الله، مثل المنافق الذي يحضر المعركة ولا يطلب وجه الله، فهذا إذا قتل في المعركة بين المسلمين يطبق عليه في الدنيا أحكام الشهيد، فيكفن في ملابسه، ولا يصلى عليه إلى آخره، لكنه في الآخرة ليس بشهيد.

الثالث: شهيد الآخرة دون الدنيا، وهو: ميت الحريق والمبطون وميت الهدم ونحو ذلك، فهذا في الدنيا لا تُطبق عليه أحكام الشهيد، فإن هؤلاء يعاملون مثلما يعامل الذي يموت على فراشه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنه يكون يوم القيامة شهيدًا، وأما منزلة هذه الشهادة فدلائل النصوص -والعلم عند الله سبحانه وتعالى- تدل على أنها نوع من الشهادة، لكنها دون شهادة القتيل في المعركة، فالقتيل في المعركة له خصوصيات، منها: تنعمه في الحياة البرزخية، قال تعالى"وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا"آل عمران:١٦٩ .

"أن مسروق بن الأجدع قال: سَأَلْنَا عَبْدَ اللهِ عن هذِه الآيَةِ"وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ"آل عمران: 169، قالَ: أَمَا إنَّا قدْ سَأَلْنَا عن ذلكَ، فَقالَ صلى الله عليه وسلم : أَرْوَاحُهُمْ في جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بالعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إلى تِلكَ القَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إليهِم رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً، فَقالَ: هلْ تَشْتَهُونَ شيئًا؟ قالوا: أَيَّ شَيءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا؟ فَفَعَلَ ذلكَ بهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِن أَنْ يُسْأَلُوا، قالوا: يا رَبِّ، نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا في أَجْسَادِنَا حتَّى نُقْتَلَ في سَبيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ ليسَ لهمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا. "خلاصة حكم المحدث : صحيح - الراوي : عبدالله بن مسعود-  صحيح مسلم.

"الشهيدُ يشفَعُ في سبعينَ مِنَ أهلِ بيتِهِ "خلاصة حكم المحدث : صحيح - الراوي : أبو الدرداء - المحدث : الألباني-المصدر : صحيح الجامع .

"لا يُكْلَمُ أحَدٌ في سَبيلِ اللهِ، واللَّهُ أعْلَمُ بمَن يُكْلَمُ في سَبيلِهِ، إلَّا جاءَ يَومَ القِيامَةِ وجُرْحُهُ يَثْعَبُ، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، والرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ." الراوي : أبو هريرة -صحيح البخاري . 

أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: والذي نَفْسِي بيَدِهِ لا يُكْلَمُ أَحَدٌ في سَبيلِ اللَّهِ، واللَّهُ أَعْلَمُ بمَن يُكْلَمُ في سَبيلِهِ إلَّا جَاءَ يَومَ القِيَامَةِ، واللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، والرِّيحُ رِيحُ المِسْكِ." الراوي : أبو هريرة -صحيح البخاري .

يُكْلَمُ : أي يُجْرَح.

للشَّهادةِ في سَبيلِ اللهِ تعالى فضْلٌ عظيمٌ، وللشُّهداءِ مَنزلةٌ عاليةٌ عِندَ اللهِ سُبحانه، وفي هذا الحَديثِ بَيانٌ لبَعضِ فضْلِ الشَّهيدِ في سَبيلِ اللهِ، وفيه يُبيِّنُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ كلَّ جُرحٍ يُجرَحُه المسلمُ في القتالِ في سَبيلِ اللهِ، يكونُ يومَ القِيامةِ على حالتِه الَّتي جُرحِ به في الدُّنيا عندَما طُعِنَ، يَسيلُ ويَتفجَّرُ منها الدَّمُ، ولكنَّ هذا الدَّمَ وإنْ كان لوْنُه لوْنَ الدَّمِ إلَّا أنَّ عَرْفَه -يعني: رائحتَه- تكونُ طَيِّبةً مِثلَ رائحةِ المِسْكِ.

قال السبكي في فتاواه عندما سُئِلَ عنِ الشهادةِ وحقيقتِها ، قال: إنها حالة شريفة تحصل للعبد عند الموت لها سبب وشرط ونتيجة. ا.هــ .

ومن هذه الشروط: الصبر والاحتساب وعدم الموانع كالغلول، والدَّين، وغصب حقوق الناس ، ومن الموانع كذلك: أن يموت بسبب معصية كمن دخل دارًا ليسرق فانهدم عليه الجدار فلا يقال له شهيد، وإن مات بالهدم ، وكذلك الميتة بالطلق الحامل من الزنا.سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية: عن رجل ركب البحر للتجارة فغرق فهل مات شهيدًا؟ فأجاب:نعم مات شهيدًا إذا لم يكن عاصيًّا بركوبه... ا.هــ .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى" وقد اجتمع لنا – في أسباب الشهادة - من الطرق الجيدة أكثر من عشرين خصلة " انتهى من"فتح الباري" 6 / 43.

ومن هذه الخصال الآتي:

قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ "الشهادةُ سبعٌ سوى القتلُ في سبيلِ اللهِ ؛ المقتولُ في سبيلِ اللهِ شهيدٌ ، والمطعونُ شهيدٌ ، والغريقُ شهيدٌ ، وصاحبُ ذاتِ الجنبِ شهيد ، والمبطونُ شهيدٌ ، وصاحبُ الحريقِ شهيدٌ ، والذي يموتُ تحتَ الهدْمِ شهيدٌ ، والمرأةُ تموتُ بجُمْعٍ شهيدة" خلاصة حكم المحدث : صحيح -الراوي : جابر بن عتيك - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الجامع  - التخريج : أخرجه أبو داود (3111)، والنسائي (1846)، وأحمد (23804) باختلاف يسير، وابن ماجه (2803) بنحوه.

يعني: أنَّ الشهادةَ أنواعٌ غيرُ الذي يُجاهِدُ في سبيلِ اللهِ فيُقتَلُ لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا، دون غرَضٍ من أغراضِ الدُّنيا، وبه فقط تَختصُّ أحكامُ الشَّهيدِ الدُّنيويَّةُ -كعَدَمِ الغُسل والتَّكفينِ والصَّلاةِ عليه، وكونِه يُدفَنُ في ثِيابِه التي استُشهِدَ فيها-؛ فلا تَتناوَلُ غيرَه مِن أنواعِ الشُّهداءِ المذكورينَ في هذا الحديثِ وغيرِه.وأمَّا الذي سيُذكَرون هنا في هذا الحديثِ فلهم أجرُ الشَّهيدِ في الآخِرَةِ لكنَّه في الدنيا يُطبَّق عليه ما يُطبَّقُ على الميِّتِ العاديِّ، مِن الغُسلِ والتَّكفينِ، وأوَّلُ هؤلاء "المطعونُ شهيدٌ"، وهو الذي مات بالطاعونِ، وهو نوعٌ مِن الأوبئةِ، وقِيلَ: كُلُّ وَبَاءٍ طاعونٌ  ....... "وصاحبُ ذاتِ الجَنْبِ شهيدٌ"، وهو المريضُ بذاتِ الجَنبِ؛ وهو الْتِهابُ غِلافِ الرِّئةِ، ويُسبِّبُ سُعالًا وحُمَّى ووجَعًا في الجنبِ يَظهَرُ عندَ التَّنفُّسِ،....والمرأةُ تَموتُ بجُمْعٍ شهيدةٌ"، والمرادُ بها الحاملُ فيكونُ الحملُ أو الولادةُ سببًا لموتِها.

الذي يقتل بسبب دفاعه عن حقّه ومظلمته:

عَنْ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ " خلاصة حكم المحدث : صحيح لغيره - الراوي : سويد بن مقرن - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترغيب.

"من قُتِلَ دونَ مالِهِ فَهوَ شَهيدٌ، ومن قتلَ دونَ دِينِهِ فَهوَ شَهيدٌ ،ومن قتلَ دونَ دمِهِ فَهوَ شَهيدٌ ،ومن قتلَ دونَ أَهلِهِ فَهوَ شَهيدٌ"خلاصة حكم المحدث : حسن - الراوي : سعيد بن زيد - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترمذي .

هذا الفضل لمن أخلَصَ نيَّتَه لله تعالى وخَرجَ ابتِغاءَ مَرضاتِه ونَصْرِ اللهِ، وظاهرُ السَّبيلِ هنا الجِهادُ، وقيلَ: قد يَكونُ هذا الفَضلُ عُمومًا لكُلِّ من خَرجَ في سَبيلِ الله من جِهادِ الكُفَّارِ وغَيرِهم من المارِقينَ اللُّصوصِ والبُغاةِ، وفي الأمرِ بالمَعروفِ.

أهَوال يوم القيَامَة وأحوالُ النَّاسِ يَومَ القيامةِ:

يوم القيامة يوم عظيم أمره، شديد هوله،قال تعالى "أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ  لِيَوْمٍ عَظِيمٍ  يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ"المطففين: ٤-٦.

وقال تعالى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ"الحج: ١-٢.

"وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ"غافر: ١٨.

لاأنساب كل يريد أن يفتدي نفسه حتى لو بفلذة كبده لهول الموقف.

"يُبَصَّرُونَهُمْ  يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14)" المعارج.

"فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ"المؤمنون: ١٠١.

قال ابن مسعود : إنما عنى في هذه الآية النفخة الثانية . والمراد بنفي الأنساب: انقطاع آثارِها التي كانت مترتبة عليها في الدنيا، من التفاخر بها، والانتفاع بهذه القرابة في قضاء الحوائج.

أي: فإذا نفخ إسرافيل- عليه السلام- في الصور- وهو آلة نفوض هيئتها إلى الله-تبارك وتعالى-، فلا أنساب ولا أحساب بين الناس نافعة لهم في هذا الوقت، إذ النافع في ذلك الوقت هو الإيمان والعمل الصالح، بل كل يفر بنفسه.

"فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ - يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ - وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ - وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ - لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ"عبس: ٣٣-٣٧.

قبضُ الأرضِ وطيُّ السماءِ وتُدنَى الشمسُ من الخلائقِ:

يقبض الحق تبارك وتعالى الأرض بيده في يوم القيامة، ويطوي السماوات بيمينه، كما قال تبارك وتعالى:

"وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ"الزمر: 67.

وقد أخبرنا في موضع آخر عن كيفية طيه للسماوات فقال" يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ"الأنبياء: 104.

قال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"" يأخذُ الجبَّارُ سماواتِهِ ، وأرضيهِ بيدِهِ ، وقبضَ يدَهُ فجعلَ يقبضُها ، ويبسطُها ، ثمَّ يقولُ : أنا الجبَّارُ ، أنا الملِكُ ، أينَ الجبَّارونَ ؟ أينَ المتَكَبِّرونَ ؟ " الراوي : عبدالله بن عمر -المحدث :الألباني - المصدر :صحيح ابن ماجه .

وتُدنى الشمس من الخلائق فتكون على قدر ميل من رؤوسهم -إما ميل الأرض أو ميل المكحلة-؛ ويعرق الناس على قدر ذنوبهم؛ فمنهم من يصل العَرق إلى كعبيه؛ ومنهم من يصل إلى وسطه؛ ومنهم من يُلجمه العرق إلجامًا؛ قال -صلى الله عليه وسلم:

" تُدْنَى الشَّمْسُ يَومَ القِيامَةِ مِنَ الخَلْقِ، حتَّى تَكُونَ منهمْ كَمِقْدارِ مِيلٍ -قالَ سُلَيْمُ بنُ عامِرٍ: فَواللَّهِ ما أدْرِي ما يَعْنِي بالمِيلِ؛ أمَسافَةَ الأرْضِ، أمِ المِيلَ الذي تُكْتَحَلُ به العَيْنُ؟- قالَ: فَيَكونُ النَّاسُ علَى قَدْرِ أعْمالِهِمْ في العَرَقِ؛ فَمِنْهُمْ مَن يَكونُ إلى كَعْبَيْهِ، ومِنْهُمْ مَن يَكونُ إلى رُكْبَتَيْهِ، ومِنْهُمْ مَن يَكونُ إلى حَقْوَيْهِ، ومِنْهُمْ مَن يُلْجِمُهُ العَرَقُ إلْجامًا. قالَ: وأَشارَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بيَدِهِ إلى فِيهِ."الراوي : المقداد بن عمرو بن الأسود.صحيح مسلم .

تدنو الشمس من الخلائق مقدارَ مِيل ، ويفيضُ العرقُ منهم بحسب أعمالهم، فمنهم من يبلغ عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حِقْوَيه، ومنهم يبلغ إلى مَنْكِبَيه، ومنهم من يُلْجِمه العرق إلجامًا، وتبقى طائفة في ظل الله جل جلاله ، يوم لا ظل إلا ظله .

لَكِنَّ هذه الشَّمسَ يَنجو منها من شاءَ اللهُ، فإنَّ اللهَ تعالى يُظِلُّ أقوامًا بظِلِّه يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه:

"سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ في ظِلِّهِ، يَومَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ في خَلَاءٍ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسْجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا في اللَّهِ ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إلى نَفْسِهَا، قالَ: إنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما صَنَعَتْ يَمِينُهُ."الراوي : أبو هريرة - صحيح البخاري.

" من نفَّس عن غريمِه، أو محا عنه، كان في ظِلِّ العرشِ يومَ القيامةِ "خلاصة حكم المحدث : صحيح - الراوي : أبو قتادة الحارث بن ربعي - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترغيب.

قال صلى الله عليه وسلم " مَن أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عنْه، أَظَلَّهُ اللَّهُ في ظِلِّهِ." الراوي : كعب بن عمرو - صحيح مسلم .

"مَن نفَّسَ عن غَريمِه"، والغَريمُ هو المَدينُ، والمُرادُ: أجَّلَ له قَضاءَ دَيْنِه، وجعَلَ له مِن تَسهيلاتِ السَّدادِ، "أو مَحا عنه" أسقَطَ عنه جَميعَ دُيونِه، "كان في ظلِّ العَرشِ يومَ القِيامةِ"، كان جَزاؤُه في الآخِرةِ أنْ يوقِفَهمُ اللهُ تحتَ عَرشِه ويَستَظِلُّونَ به من حرِّ المَوقِفِ يومَ القِيامةِ في ذلك اليومِ الَّذي تَدْنو فيه الشَّمسُ مِن رُؤوسِ العِبادِ، ويَشتَدُّ عليهم حَرُّها، وتَنْفيسُ الكُرَبِ وقَضاءُ الدُّيونِ عنِ المُعسِرينَ إحْسانٌ، فَجَزاه اللهُ جَزاءً وِفاقًا. وفي الحديثِ: دَعوةٌ للأغْنياءِ وأصحابِ الدُّيونِ ليُيَسِّروا على المُعْسِرينَ، ويُخَفِّفوا عنهم مَذلَّةَ الدُّيونِ .الدرر السنية.

"كلُّ امرئٍ في ظِلِّ صَدَقَتِه حتى يُقْضَى بين الناسِ. قال يزيد: فكَانَ أبُو مرثدٍ لا يُخْطِئُهُ يَوْمٌ إلَّا تَصَدَّقَ فيهِ بِشيءٍ، و لَوْ كَعْكَةً أوْ بَصَلَةً "خلاصة حكم المحدث : صحيح -الراوي : عقبة بن عامر - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترغيب.

"كُلُّ امْرِئٍ في ظِلِّ صَدَقَتِهِ" يَومَ القِيامةِ حِينَ تَدْنو الشَّمْسُ مِنَ الرُّؤوسِ، "حتى يُقْضى بيْنَ النَّاسِ" بأنْ تُجسَّدَ الصَّدَقةُ مِظلَّةً عَظيمةً لِصاحِبِها، فيَقِفَ فِي ظِلِّها مُدَّةَ الحِسابِ، فالمُتَصَدِّقُ يُكْفَى المَخاوِفَ، وَيصيرُ في كَنَفِ اللهِ وسِتْرِهِ يَومَ القيامةِ. والصَّدَقةُ المَقْصودةُ هي الصَّدَقةُ الخالِصةُ لِوَجهِ اللهِ.

" إِنَّ المتحابَّيْنِ باللهِ فِي ظِلِّ العرشِ " خلاصة حكم المحدث : صحيح -الراوي : معاذ بن جبل - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الجامع.

" المُتَحابُّونَ في اللهِ في ظِلِّ العرشِ يومَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ ، يَغْبِطُهُمْ بِمَكَانِهِمْ النبيُّونَ والشُّهَدَاءُ ." خلاصة حكم المحدث : صحيح -الراوي : معاذ بن جبل - المحدث : الألباني - صحيح الترغيب والرهيب .

 

"اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإنَّه يَأْتي يَومَ القِيامَةِ شَفِيعًا لأَصْحابِهِ، اقْرَؤُوا الزَّهْراوَيْنِ البَقَرَةَ، وسُورَةَ آلِ عِمْرانَ، فإنَّهُما تَأْتِيانِ يَومَ القِيامَةِ كَأنَّهُما غَمامَتانِ، أوْ كَأنَّهُما غَيايَتانِ، أوْ كَأنَّهُما فِرْقانِ مِن طَيْرٍ صَوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصْحابِهِما، اقْرَؤُوا سُورَةَ البَقَرَةِ، فإنَّ أخْذَها بَرَكَةٌ، وتَرْكَها حَسْرَةٌ، ولا تَسْتَطِيعُها البَطَلَةُ.. "الراوي : أبو أمامة الباهلي -صحيح مسلم

البَطَلَةَ: السَّحَرَةُ. وبيَّن النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنَّهما تَتشكَّلانِ وتَتجسَّدانِ وتَحْضُرانِ، أو تَتصوَّرانِ كأنَّهما "غَمامتانِ"، أي: سَحابتانِ، تُظِلَّانِ صاحبَهما عن حَرِّ الموقِفِ، وإنَّما سُمِّيَ الغَمامِ غَمامًا لأنَّه يَغُمُّ السَّماءَ، فيَستُرُها، " أو كأنَّهما غَيايتانِ"، والغَيايَةُ: كُلُّ ما أَظَلَّ الإنسانَ فَوْقَ رأسِهِ؛ مِن سَحابةٍ، وغيرِها، "أو كأنَّهما فِرْقانِ"، أي: طائفتانِ وجَماعتانِ، "مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ"، وهي جَماعةُ الطَّيرِ الباسِطةُ أجنحَتَهَا متَّصلًا بعضُها ببعضٍ، والمرادُ أنَّهما يَقِيانِ قارِئَهما مِن حَرِّ الموقِفِ، وكَرْبِ يومِ القِيامةِ، وتُدافِعانِ الجحيمَ والزَّبانيَةَ. الدرر السنية