الأربعاء، 8 يناير 2025

04- تفسير سورة آل عمران

 

تفسير سورة آل عمران
من آية 133إلى آية 152

"وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ"133.
لمَّا بيَّن تعالى أنَّ أهل الجنَّة هم المتَّقون، أَعقَب ذلك بذِكْر قيام هؤلاء المتَّقِين بالمبادرة بأعمالٍ صالحة جليلة تؤهلهم لنَيل هذا الفضل العظيم ، فأمرهم - سبحانه - بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة التى توصلهم إلى مغفرة اللهِ ورضوانِهِ وإدراك جنته التي عرضها السماوات والأرض، فكيف بطولها ، ولقد عظم - سبحانه - بذلك شأن هذه المغفرة التي ينبغي طلبها بإسراع ومبادرة ، بأن جاء بها منكرة ، وبأن وصفها بأنها كائنة منه - سبحانه - هو الذي خلق الخلق بقدرته ، ورباهم برعايته .عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ: قال الزهري : إنما وصف عرضها فأما طولها فلا يعلمه إلا الله ، وهذا على التمثيل لا أنها كالسماوات والأرض لا غير.ا.هـ. فالأصل أن ما اتسع عرضه لم يضق ، وما ضاق عرضه دق ، فجعل العرض كناية عن السعة.
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ:أي هيئت للمتقين الذين صانوا أنفسهم عن محارم الله ، وجعلوا بينهم وبينها وقاية وساترًا ، وخافوا مقام ربهم ونهوا أنفسهم عن الهوى.
"الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"134.
ثم وصف المتقين وأعمالهم، فقال : الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ: أي: في حال عسرهم ويسرهم، إن أيسروا أكثروا من النفقة، وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئًا ولو قل. أي: إنَّ من صِفات المتَّقِين، أنَّهم يَتصدَّقون باستمرارٍ، وفي جميع الأحوال، سواء كانوا في حال سُرورٍ- بتوفُّر المال ورَغَد العيش؛ فلا يُلْهيهم ذلك عن مساعدة الآخرين- أو أصابَهم الضرُّ وضيقُ العيش؛ لقِلَّة ذاتِ اليد، فلا يَصرِفهم ذلك أيضًا عن مواصلةِ العطاء .فأصبحَ الإنفاقُ سَجِيَّةً دائمةً لهم، لا يَشغَلهم عنه أيُّ حالٍ أصابهم، ولا يَنشأ ذلك إلَّا عن نَفْس طاهرة.
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ: أي: إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم -وهو امتلاء قلوبهم من الحنق، الموجب للانتقام بالقول والفعل-، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم.
قال صلى الله عليه وسلم"مَن كَظَمَ غيظًا وهو قادرٌ على أن يَنْفِذَه دعاه اللهُ عزَّ وجلَّ على رؤوسِ الخلائقِ يومَ القيامةِ حتى يُخَيِّرُه اللهُ مِن الحُورِ ما شاءَ".الراوي : معاذ بن أنس - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح أبي داود - الصفحة أو الرقم: 4777 - خلاصة حكم المحدث : حسن.
أَيْ: احتملَ الغضبَ في نفسِه وأمسَك عليه ولَم يُخرِجْه، وهو قادِرٌ على أن يَنتَصِر لنفسِه، وإمضاءِ غضبِه. دعاه اللهُ عزَّ وجلَّ على رؤوسِ الخلائقِ يومَ القيامةِ: أيْ: تباهَى اللهُ به يومَ القيامةِ، وشهَرَه بيْن النَّاسِ بأنَّه صاحِبُ هذه الخَصْلَةِ العظيمةِ؛ وذلك لأنَّه قهَر النفسَ الأمَّارةَ بالسُّوءِ، وتغلَّب عليها، وتجرَّع مرارَةَ الصَّبرِ في ذاتِ الله.
حتى يُخَيِّرُه اللهُ مِن الحُورِ ما شاءَ : أي: حتَّى يُدْخِلَه الجَنَّة، ويَأخُذَ ما أَعْجبَه مِن نِساءِ أهلِ الجَنَّةِ، وفي هذا مِن الرِّفْعة والمَكانَة ما لا يعلمُه إلا اللهُ.
*الكاظم غيظه يخير من الحور، فماذا للمرأة؟
الجواب : الأصل في أجور الأعمال الصالحة أن تكون للنساء كما هي للرجال.عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِرواه أبو داود :236، والترمذي :113، وصححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" 6 / 860.
قال الله تعالى" وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا" النساء/124.
ويستثنى من هذا : الجزاء المختص بالرجال دون النساء، فمن المعلوم أن الحور العين هي جزاء للرجال في الجنة لا للنساء، لكن المرأة تنال أصل هذا الجزاء وهو الوعد بالجنة؛ لأن الله تعالى إذا خير عبدًا في أي الحور شاء، فلازم هذا أن يدخل الجنة التي هي دار التمتع بالحور العين. فالمرأة التي تكظم غيظها وهي قادرة على إنفاذه ، موعودة بدخول الجنة ، ولها من الثواب الجزيل ما يشاؤه الله عز وجل لها .*الإسلام سؤال وجواب.
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ: يدخل في العفو عن الناس، العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم، لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحسانا إليهم، وكراهة لحصول الشر عليهم، وليعفو الله عنه، ويكون أجره على ربه الكريم، لا على العبد الفقير، كما قال تعالى "فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ"الشورى :40.
ثم ذكر حالة أعم من غيرها، وأحسن وأعلى وأجل، وهي الإحسان، فقال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ :والإحسان نوعان:
-الإحسان في عبادة الخالق. والإحسان إلى المخلوق، فالإحسان في عبادة الخالق. فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: قالَ في حديث جبريل الطويل : ما الإحْسَانُ؟ قالَ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ "صحيح البخاري.
-الإحسان إلى المخلوق، فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم، ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم، فيدخل في ذلك أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليم جاهلهم، ووعظ غافلهم، والنصيحة لعامتهم وخاصتهم، والسعي في جمع كلمتهم، وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة إليهم، على اختلاف أحوالهم وتباين أوصافهم، فيدخل في ذلك بذل الندى وكف الأذى، واحتمال الأذى، كما وصف الله به المتقين في هذه الآيات، فمن قام بهذه الأمور، فقد قام بحق الله وحق عبيده.
فالندى هو الكرم والجود. يعني أن تبذل الكرم والجود، والكرم ليس كما يظنه بعض الناس هو أن تبذل المال.- بل الكرم يكون في بذل النفس، وفي بذل الجاه، وفي بذل المال.- إذا رأينا شخصًا يقضي حوائج الناس يساعدهم يتوجه في شئونهم إلى من لا يستطيعون الوصول إليه، ينشر علمه بين الناس، يبذل ماله بين الناس، فإنا نصفه بحسن الخلق؛ لأنه بذل الندى.كتاب العلم للعثيمين .
"وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ"135.
والمعنى : سارعوا أيها المؤمنون إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدها خالقكم - عز وجل - للمتقين الذين من صفاتهم أنهم ينفقون أموالهم فى السراء والضراء ، ويكظمون غيظهم ، ويعفون عن الناس ، وأنهم إذا فعلوا فعلة فاحشة متناهية فى القبح ، أو ظلموا أنفسهم ، بارتكاب أي نوع من أنواع الذنوب " ذَكَرُوا اللَّهَ " أي تذكروا حقه العظيم ، وعذابه الشديد ، وحسابه العسير للظالمين يوم القيامة "فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ " أي طلبوا منه - سبحانه - المغفرة لذنوبهم التى ارتكبوها ، وتابوا إليه توبة صادقة نصوحًا .
قال الفخر الرازى : واعلم أن وجه النظم من وجهين : الأول : أنه - تعالى - لما وصف الجنة بأنها معدة للمتقين بين أن المتقين قسمان : أحدهما : الذين أقبلوا على الطاعات والعبادات ، وهم الذين وصفهم بالانفاق فى السراء والضراء ، وكظم الغيظ والعفو عن الناس . وثانيهما : الذين أذنبوا ثم تابوا وهو المراد بقوله - تعالى " والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً " وبيَّنَ - سبحانه - أن هذه الفرقة كالفرقة الأولى فى كونها متقية . والوجه الثاني : أنه في الآية الأولى ندب إلى الإحسان إلى الغير ، وندب فى هذه الآية إلى الإحسان إلى النفس ، فإن المذنب إذا تاب كانت توبته إحسانًا منه إلى نفسِه " .
وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ : للإنكار والنفي. أي : لا أحد يقبل توبة التائبين ، ويغفر ذنوب المذنبين ، ويمسح خطايا المخطئين ، إلا الله العلي الكبير " الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل .
"إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِهَا." الراوي : أبو موسى الأشعري - صحيح مسلم .
وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ: بيان لشروط الاستغفار المقبول عند الله - تعالى - . أى أن من صفات المتقين أنهم إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ، سارعوا بالتوبة إلى الله - تعالى - ، ولم يصروا على الفعل القبيح الذي فعلوه ، وهم عالمون بقبحه ، بل يندمون على ما فعلوا ، ويستغفرون الله - تعالى - مما فعلوا ، ويتوبون إليه توبة صادقة .
فهذه الآية الكريمة قد فتحت باب التوبة أمام المذنبين ، وحرضتهم على ولوجه بعزيمة صادقة ، وقلب سليم ، ولم تكتف بذلك بل بشرتهم بأنهم متى أقلعوا عن ذنوبهم ، وندموا على ما فعلوا ، وعاهدوا الله على عدم العودة على ما ارتكبوه من خطايا ، وردوا المظالم إلى أهلها ، فإن الله - تعالى - يغفر لهم ما فرط منهم ، ويحشرهم فى زمرة عباده المتقين.
"أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ"136.
أي : أولئك الموصوفون بتلك الصفات السابقة من الإنفاق في السراء والضراء ، وكظم الغيظ ، والعفو عن الناس . . إلخ " أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ " يعني: مغفرة كائنة من ربهم ،تستر ذنوبهم ، وتمسح خطاياهم . قال الشيخ العثيمين رحمه الله:المغفرة تتضمن الستر والمجاوزة وهي مأخوذة من المغفر ، والمغفر ألة يلبسها المقاتل على رأسه تغطيه وتحميه من ضرب السهام.أهل الحديث والأثر. .
جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ : ونُكرت المغفرة، وهذا التنكير يُفيد التعظيم، يعني مغفرة عظيمة، يمحو الله بها خطاياهم وجرائرهم، وهذه المغفرة كائنة من الرب -تبارك وتعالى-، مِّن رَّبِّهِمْ: وإذا أُضيفت إليه مِّن رَّبِّهِمْ فهذا يعني أن هذا الذي أضيف إلى العظيم الأعظم أنه عظيم وكبير.

وهذا الاسم الكريم هنا في هذا الموضع مِّن رَّبِّهِمْ معنى التربيب والتربية، وهو الذي يتعاهد خلقه بما يغذوهم به، من النِعم الظاهرة والباطنة، وما إلى ذلك، فهذا من ألطافه ورحمته بعباده، وأنه يغفر ذنوبهم، ويقبل توبتهم، ويمحو خطاياهم.
وَجَنَّاتٌ : والجنات هي البساتين، كثيرة الأشجار، تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار. والتنكير في جنات أيضًا يدل على التعظيم، فإذا كانت شجرة واحدة في الجنة، كما يقول النبي"إنَّ في الجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الجَوادَ المُضَمَّرَ السَّرِيعَ، مِئَةَ عامٍ ما يَقْطَعُها."الراوي : أبو سعيد الخدري -صحيح مسلم.
المُضَمَّرَ: أي: القَوِيَّ. مِئَةَ عامٍ ما يَقْطَعُها: أي: يَمْشي الرَّاكبُ برَكوبَتِه في ظلها ونَعيمها لا يصِلُ إلى نِهايتِها مع سَيرِه هذه المدَّةِ وبهذه السرعة؛ مُبالغةً في امتدادِ ظِلِّها.هذه شجرة واحدة بالجنة فكيف بسعة الجنة التي عرضها السماوات والأرض.
وفي الحَديثِ: بَيانُ سَعَةِ الجنَّةِ وعِظَمِ خَلْقِها.
تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ: أنهار المياه العذبة، وأنهار اللبن، وأنهار الخمر، وأنهار العسل المُصفى.قال تعالى "مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ" محمد : 15.
" فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ: غير متغير، لا بوخم ولا بريح منتنة، ولا بمرارة، ولا بكدورة، بل هو أعذب المياه وأصفاها، وأطيبها ريحًا، وألذها شربًا.
خَالِدِينَ فِيهَا : الخلود:أي البقاء الأبدي السرمدي. أي: لا يخرجون منها أبدًا.
وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ: فهذا مدح وثناء وإطراء للجزاء الذي منَّ عليهم به ، عملوا لله قليلا فأجروا كثيرًا ، وسماه أجرًا، وهذا من فضله على عباده، وإلا فإن أعمالهم بحد ذاتها لا تكون موفية لبعض نِعمه عليهم، ومع ذلك شرع لهم الأعمال، وهداهم إليها،وأرباهها لهم وأثابهم عليها أضعاف ما يستحقونه، وسمى هذا الثواب أجرًا، كالأجر الذي يُعطى للعامل كحق له على عمله ، مع أنه هو الموفق لهم لهذا العمل، وهو الذي شرعه وبينه، وأرسل الرسل، وهو الذي هداهم، وهو الذي قبل منهم وأرباه لهم ، فسماه أجرًا ، وهذا من فضله وكرمه ورحمته.
قال تعالى "يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ"276البقرة: . يعني: يُنمّي الصَّدقات ويُكثرها ويُضاعفها.
قال البخاري في صحيحه: حدَّثنا عبدالله بن منير:قال: أخبرنا كثير، أنه سمع أبا النَّصر: قال :حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ:صلى الله عليه وسلم "مَن تَصَدَّقَ بعَدْلِ تَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ، وإنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ" صحيح البخاري.
"قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" 137.
وهذه الآيات الكريمات، وما بعدها في قصة "أحد" يعزي تعالى عباده المؤمنين ويسليهم، ويخبرهم أنه مضى قبلهم أجيال وأمم كثيرة، امتحنوا، وابتلي المؤمنون منهم بقتال الكافرين، فلم يزالوا في مداولة ومجاولة، حتى جعل الله العاقبة للمتقين، والنصر لعباده المؤمنين، وآخر الأمر حصلت الدولة على المكذبين، وخذلهم الله بنصر رسله وأتباعهم.
" قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ"
وأصل الخلو في اللغة : الانفراد . والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه . ويستعمل أيضًا في الزمان بمعنى المضي : لأن ما مضَى انفرد عن الوجود وخلا عنه ، وكذا الأمم الخالية . يقول تعالى مخاطبًا عباده المؤمنين الذين أصيبوا يوم أحد ، وقُتل منهم سبعونَ ،قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء ، ثم كانت العاقبة لهم والدائرة على الكافرين .تفسير السعدي. ولهذا قال : فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ : أي : فسيروا في الأرض متأملين متبصرين ، فسترون الحال السيئة التي انتهى إليها المكذبون من تخريب ديارهم ، وبقايا آثارهم. فهذه الآية وأشباهها من الآيات ، تدعو الناس إلى الاعتبار بأحوال من سبقوهم . وإلى الاتعاظ بأيام الله ، وبالتاريخ وما فيه من أحداث ، وبالآثار التي تركها السابقون.
"هَذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ"138.
والبيان : هو الدلالة التى تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت حاصلة . والهُدَى : هو الإرشاد إلى ما فيه خير الناس فى الحال والاستقبال . والموعظة : هي الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي من الأمور الدينية أو الدنيوية .
هَذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ :أي: دلالة ظاهرة، تبين الحق من الباطل للناس جميعا بر وفاجر ، وتبين أهل السعادة من أهل الشقاوة، وهو الإشارة إلى ما أوقع الله بالمكذبين سواء ماذُكِرَ في القرآن أو ما شوهد آثاره .
وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ: أما من يهتدي ويتعظ من هذا البيان هم المتقون ، لأن المتقين هم المنتفعون بالآيات فتهديهم إلى سبيل الرشاد و الطَّريق القويم ، وتعظهم وتزجرهم عن طريق الغي والضلال والفساد، وأما باقي الناس فهي بيان لهم، تقوم به عليهم الحجة من الله، ليهلك من هلك عن بيِّنَة.
قال الفخر الرازي ما ملخصه : اعلم أن الله - تعالى - لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية ، الغفران والجنات ، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية . وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين فقال " قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ".
وفي الآية تذكير لمن خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلميوم أحد وإرشاد لهم إلى أنهم بين عاملي خوف ورجاء، فهي بشارة لهم بالنصر على عدوهم وإنذار بسوء العاقبة إذا هم حادوا عن سننه، وساروا في طريق الضالين ممن قبلهم، وعلى الجملة فالآية خبر وتشريع وتتضمن وعدًا ووعيدًا وأمرًا ونهيًا.
"وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ "139.
وبعد هذا البيان الحكيم ، يتجه القرآن إلى المؤمنين بالتثبيت والتعزية فينهاهم عن أسباب الفشل والضعف ، ويأمرهم بالصمود وقوة اليقين بأنهم الأعلون والعاقبة للمتقين إذا كانوا مؤمنين حقًا .
وَلَا تَهِنُوا : أي: لا تَضعُفوا، وأصله ضعف الذات كما فى قوله - تعالى - حكاية عن زكريا"قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي" مريم : 4.أي ضعف جسمي . وهو هنا مجاز عن خور العزيمة ، وضعف الإرادة ، وانقلاب الرجاء يأسًا والشجاعة جبنًا ، واليقين شكًا ، ولذلك نُهُوا عنه .
أي ولا تضعفوا عن القتال وما يتبعه من التدبير بسبب ما أصابكم من الجروح والفشل في يوم أُحد. ولا تحزنوا على من فقد منكم في هذا اليوم. وكيف يلحقكم الوهن والحزن وأنتم الأعلون. فقد مضت سنة الله أن يجعل العاقبة للمتقين الذين لا يحيدون عن سنته. بل ينصرون من ينصره ويقيمون العدل. فهم أجدر بذلك من الكافرين الذين يقاتلون لمحض البغي والانتقام، أو للطمع فيما في أيدي الناس.
فهمة الكافر على قدر ما يرمي إليه من غرض خسيس، ولا كذلك همة المؤمن الذي يرمي إلى إقامة صرح العدل في الدنيا والسعادة الباقية في الآخرة - إن كنتم مؤمنين بصدق وعد الله بنصر من ينصره. وجعل العاقبة للمتقين المتبعين لسنته في نظم الاجتماع، حتى صار ذلك الايمان وصفًا ثابتًا لكم حاكمًا نفوسكم وأعمالكم.
" إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ "140.
فقال الفخر الرازى : واعلم أن هذا من تمام قوله - تعالى " وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ " فبيَّنَ - تعالى - أن الذين يصيبهم من القرح لا يصح أن يزيل جدهم واجتهادهم في جهاد العدو ، وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله قبل ذلك ، فإذا كانوا مع باطلهم وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب ، فبأولى لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة، والتمسك بالحق أولى .
" إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ : والمراد هنا : الإصابة بالجراح ونحوها .
والمعنى : إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر ، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ، ولم ثبطهم عن معاودتكم بالقتال فأنتم أولى أن لا تضعفوا . ونحوه " وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا "النساء: 104. " وقيل : كان ذلك يوم أحد ، فقد نالوا منهم قبل أنيخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : إن المعنى إن تصبكم الجراح في أُحد فقد أصيب القوم بجراح مثلها في هذه المعركة ذاتها . ويبدو لنا أن الظاهر هو الرأي الأول، وهو أن الكلام عن غزوتي بدر وأحد ، لأن الله - تعالى - قد ساق هذه الآية الكريمة لتسلية المؤمنين بأن ما أصابهم في أُحد من المشركين قد أصيب المشركون بمثله على أيدي المؤمنين في غزوة بدر ، فلماذا يحزنون أو يضعفون ؟ ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك " وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس " ، ويؤيد هذا المعنى - كما سنبينه بعد قليل - .تفسير الوسيط.
نُدَاوِلُهَا : من المداولة ، وهي نقل الشىء من واحد إلى آخر .
أيام الدنيا هي دُول بين الناس ، لا يدوم سرورها ولا غمها لأَحدٍ منهم ، فمن سره زمن ساءته أزمان ، ومن أمثال العرب . الحرب سجال : والأيام دُول فهي تارة لهؤلاء وتارة لأولئك.
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا:
هذا أيضا من الحكم أنه يبتلي الله عباده بالهزيمة والابتلاء، ليتبين المؤمن من المنافق؛ لأنه لو استمر النصر للمؤمنين في جميع الوقائع لدخل في الإسلام من لا يريده، فإذا حصل في بعض الوقائع بعض أنواع الابتلاء، تبين المؤمن حقيقة الذي يرغب في الإسلام، في الضراء والسراء، واليسر والعسر، ممن ليس كذلك.
وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ : وهذا أيضًا من بعض الحكم، لأن الشهادة عند الله من أرفع المنازل، ولا سبيل لنيلها إلا بما يحصل من وجود أسبابها، فهذا من رحمته بعباده المؤمنين، أن قيَّض لهم من الأسباب ما تكرهه النفوس، لينيلهم ما يحبون من المنازل العالية والنعيم المقيم.
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ : أي : والله - تعالى - لا يحب الذين ظلموا أنفسهم بسبب كفرهم ونفاقهم وتخاذلهم عن نصرة الحق ، وإنما يحب المؤمنين الثابتين على الحق ، المجاهدين بأنفسهم وأموالهم فى سبيل إعلاء دين الله ، ونصره شريعته.
"وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ"141.
وَلِيُمَحِّصَ: أي: ليُطهِّر، ويَختبر، ويُنقِّي، والتمحيصُ: الابتلاءُ والاختبارُ، وأصلُ المحْص: تخليصُ الشَّيءِ، وتنقيتُه ممَّا فيه من عَيب . يقال : محصت الذهب بالنار ومحصته إذا أزلت عنه ما يشوبه من خبث .
وَيَمْحَقَ: يُهلك، ويَنقص، وأصل المَحْق: النُّقصانُ، أو نقصانُ الشيءِ قليلًا قليلًا حتى يفنى .
ولقدقدَّرَ- سبحانه - ما قدَّرَ فى غزوة أحد ، لكي يمحص أي يطهر المؤمنين ويصفيهم من الذنوب ، ويخلصهم من المنافقين المندسين بينهم ، ولكىي يهلك الكافرين ويمحقهم بسبب بغيهم وبطرهم .
"أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ "142.
بيَّنَ - سبحانه – في هذه الآية أن طريق الجنة محفوف بالمكاره ، وأن الوصول إلى رضا الله - تعالى - يحتاج إلى جهاد عظيم ، وصبر طويل،
فهذا استفهام إنكاري، أي: لا تظنوا، ولا يخطر ببالكم أن تدخلوا الجنة من دون مشقة واحتمال المكاره في سبيل الله وابتغاء مرضاته، فإن الجنة أعلى المطالب، وأفضل ما به يتنافس المتنافسون، وكلما عظم المطلوب عظمت وسيلته، والعمل الموصل إليه، فلا يوصل إلى الراحة إلا بترك الراحة، ولا يدرك النعيم إلا بترك النعيم، ولكن مكاره الدنيا التي تصيب العبد في سبيل الله عند توطين النفس لها، وتمرينها عليها ومعرفة ما تئول إليه، تنقلب عند أرباب البصائر منحا يسرون بها، ولا يبالون بها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
قال صلى الله عليه وسلم"حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكارِهِ، وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ".الراوي : أنس بن مالك - صحيح مسلم.
قال صلى الله عليه وسلم "حُجِبَتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ، وحُجِبَتِ الجَنَّةُ بالمَكارِهِ."الراوي : أبو هريرة -صحيح البخاري.
شرح الحديث : ما عِندَ اللهِ لا يُنالُ بالتَّمنِّي، وإنَّما ببَذلِ الجُهدِ في الطَّاعةِ، والتَّغلُّبِ على شَهَواتِ النَّفْسِ، وحَملِها على ما يُحِبُّه اللهُ ويَرضاهُ. وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ قدْ حَجَبَ النَّارَ وسَتَرَها بالشَّهَواتِ؛ فلا يُوصَلُ إلى النَّارِ إلَّا بتَعاطي الشَّهَواتِ؛ إذْ هي مَحجوبةٌ بها، فمَن هَتَكَ الحِجابَ وَصَلَ إلى المَحجوبِ ووَقَعَ فيه. وقدْ حَجَبَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ الجَنَّةَ بالمَكارِه، والمُرادُ بالمكارِهِ ما أُمِرَ المُكلَّفُ به؛ كمُجاهَدةِ النَّفْسِ في العِباداتِ، والصَّبرِ على مَشاقِّها، والمُحافَظةِ عليها، واجتِنابِ المَنهيَّاتِ، وكَظْمِ الغَيظِ، والعَفْوِ والحِلْمِ، والصَّدَقةِ، والإحسانِ إلى المُسيءِ، والصَّبرِ عن الشَّهَواتِ، ونَحوِ ذلك. وأُطلِقَ عليها مَكارِهُ؛ لِمَشَقَّتِها على العامِلِ، وصُعوبَتِها عليه. وفي هذا تَحذيرٌ مِن اتِّباعِ الشَّهَواتِ، وحَثٌّ على الصَّبرِ على المَكارِه؛ لِأنَّه الطَّريقُ إلى الجَنَّةِ. وفي الحَديثِ: بَيانٌ لجَوامعِ كَلِمِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبَديعُ بَلاغتِه. وفيه: الأمرُ بالابتعادِ عن الشَّهواتِ؛ لأنَّها الطَّريقُ إلى النَّارِ، والصَّبرِ على المَكارهِ؛ لأنَّها الطَّريقُ إلى الجنَّةِ.الدرر السنية.
" وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ"143.
قال ابن جرير ما ملخصه : كان قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ممن لم يشهدوا بدرًا ، يتمنون قبل يوم أحد يومًا مثل يوم بدر ، فيعطون الله من أنفسهم خيرًا ، وينالون من الأجر مثل ما نال أهل بدر ، فلما كان يوم أحد ، فر بعضهم وصبر بعضهم ، حتى أوفى بما كان عاهد الله عليه قبل ذلك ، فعاتب الله من فر منهم بقوله " وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت " . . . الآية .
والخطاب فى الآية الكريمة للمؤمنين الذين لم يفوزوا بالشهادة في غزوة أُحد ، وهو خطاب يجمع بين الموعظة والملام . والمراد بالموت هنا الشهادة في سبيل الله ، أو الحرب والقتال لأنهما يؤديان إلى الموت .
فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ: أي: ها قدْ حصَل لكم ما تمنَّيتموه من لِقاءِ الأعداءِ، وشاهدتُم بأمِّ أعينِكم يومَ أُحُد الموتَ وأسبابَه وشِدَّته، ومَن يموتُ مِن الناس، أبصرتُم ذلك عِيانًا، فلِمَ لمْ تَثبُتوا وتَصبروا؛ حتى تنالوا ما أردتموه من قبلُ.!
ويجدر الإشارة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن:
عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عن كِتَابِ رَجُلٍ مِن أَسْلَمَ، مِن أَصْحَابِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يُقَالُ له: عبدُ اللهِ بنُ أَبِي أَوْفَى، فَكَتَبَ إلى عُمَرَ بنِ عُبَيْدِ اللهِ حِينَ سَارَ إلى الحَرُورِيَّةِ، يُخْبِرُهُ، أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ كانَ في بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتي لَقِيَ فِيهَا العَدُوَّ، يَنْتَظِرُ حتَّى إذَا مَالَتِ الشَّمْسُ قَامَ فيهم، فَقالَ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، ثُمَّ قَامَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وَقالَ: اللَّهُمَّ، مُنْزِلَ الكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الأحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ، وَانْصُرْنَا عليهم."الراوي : عبدالله بن أبي أوفى - صحيح مسلم.
العَافِيةُ نِعمةٌ مِنَ النِّعَمِ التي يَنبَغي على المَرءِ أنْ يُدَاوِمَ على سُؤالِ المَوْلَى سُبحانَه وتَعالى إيَّاها. وفي الحَديثِ: النَّهيُ عن تَمَنِّي لِقاءِ العَدُوِّ، وهذا غَيرُ تَمَنِّي الشَّهادةِ. وفيه: أنَّ الإنسانَ إذا لَقيَ العَدُوَّ فإنَّ الواجِبَ عليه أنْ يَصبِرَ. وفيه: الدُّعاءُ على المُشرِكينَ بالهَزيمةِ والزَّلزَلةِ.
"أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ عَادَ رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ قدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الفَرْخِ، فَقالَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: هلْ كُنْتَ تَدْعُو بشَيءٍ، أَوْ تَسْأَلُهُ إيَّاهُ؟ قالَ: نَعَمْ؛ كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ ما كُنْتَ مُعَاقِبِي به في الآخِرَةِ، فَعَجِّلْهُ لي في الدُّنْيَا، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: سُبْحَانَ اللهِ! لا تُطِيقُهُ -أَوْ لا تَسْتَطِيعُهُ- أَفلَا قُلْتَ: اللَّهُمَّ آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً، وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، قالَ: فَدَعَا اللهَ له، فَشَفَاهُ."الراوي : أنس بن مالك - صحيح مسلم.
اللَّهُمَّ آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً، وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً:وحَسَنةُ الدُّنيا يَدخُلُ فيها كُلُّ ما يَحسُنُ وُقوعُه عِندَ العَبدِ؛ مِن رِزقٍ هَنيءٍ واسعٍ حَلالٍ، وزَوجةٍ صالحةٍ، ووَلدٍ تقَرُّ به العَينُ، وراحةٍ، وعِلمٍ نافعٍ، وعَملٍ صالحٍ، ونَحوِ ذلكَ مِنَ المطالبِ المَحبوبَةِ والمُباحةِ.
وحسنَةُ الآخرَةِ هي: السَّلامةُ منَ العُقوباتِ في القَبرِ والموقِفِ والنَّارِ، وحُصولُ رِضا اللهِ، والفوزُ بالنَّعيمِ المُقيمِ في الجَنَّة، والقُربُ مِنَ الله الرَّحمن الرَّحيم، والدُّعاءُ بالوقايةِ مِن عَذابِ النَّارِ، وما يُقرِّبُ إليها مِن شَهوةٍ وعَملٍ في الدُّنيا، فهذا الدُّعاءُ مِن الجوامعِ الَّتي تَتضمَّنُ خيْرَ الدُّنيا والآخرةِ.
وفي الحديثِ: أنَّه لا يَنْبغي للعبدِ أنْ يَطلُبَ لنَفسِه البلاءَ، وإذا سَأل فإنَّما يَسأَلُ ما فيه خيرٌ.
"وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ"144.
ثم تمضي السورة الكريمة في حديثها عن غزوة أُحد ، فتذكِّر المؤمنينَ بما كان منهم عندما أُشِيعَ بأن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد قُتِلَ ، وترشدهم إلى أن الآجال بيد الله ، وأن المؤمنين الصادقين قاتلوا مع أنبيائهم في سبيل إعلاء كلمة الله بدون ضعف أو ملل فعليهم أن يتأسوا بهم في ذلك ، وأن الله - تعالى - قد تكفل بأن يمنح المؤمنين الصادقين المجاهدين في سبيله أجرهم الجزيل في الدنيا والآخرة .
قال ابن كثير : لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أُحد ، وقُتِلَ منً قُتِلَ مِنهم ، رجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم : قتلتُ محمدًا . وإنما قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشجه في رأسه . فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس ، واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فحصل ضعف ووهن وتأخر - بين المسلمين - عن القتال . ففى ذلك أنزل الله تعالى " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ....".
"أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَومَ أُحُدٍ، وَشُجَّ في رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عنْه، ويقولُ: كيفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهو يَدْعُوهُمْ إلى اللهِ؟! فأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ"لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ"آل عمران: 128.الراوي : أنس بن مالك - صحيح مسلم.
فأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ"لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ :أي: ليس إليكَ مِن إصلاحِهم ولا مِن عذابِهم شيءٌ، وقيل: ليس إليكَ من النصرِ والهزيمةِ شيءٌ؛ فإنَّما هو لِأَجْلِنا وفِينَا ومِن جَرَّانَا، ونحن المُجازُون عليه.الدرر السنية.
يُخبرهم اللهُ تعالى أنَّ محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غيرُ مخلَّد في الدُّنيا، إنما رسالته هي الخالده الباقية ، فمن تمسك بها فقد سعد وفاز . ومن أعرض عنها فلن يضر الله شيئًا ،فإنَّما هو رسولٌ كباقي رُسل الله الذين من قبلِه؛ قد انقضتْ آجالهم في الدُّنيا بالموت أو القتْل؛ فهل إذا انقضَى أجلُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يكون هذا مبرِّرًا لأن تنقلبوا على أعقابكم بترك ما جاءكم من إيمان أو جهاد، أو غير ذلك.! وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا :ومَن يَرتدِدْ عن دِينه أو يخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يضر نفسه، بتعريضها للسخط والعذاب ، وبحرمانها من الأجر والثواب . فالله تعالى غني عنه، وسيقيم دينه، ويعز عباده المؤمنين، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ: وسيُثيب الله الشَّاكرين. الثابتين على الحق والصابرين على الشدائد الشاكرين له نعمه في السراء والضراء ، والشكر لا يكون إلا بالقيام بعبودية الله تعالى في كل حال. وفي هذه الآية الكريمة إرشاد من الله تعالى لعباده أن يكونوا بحالة لا يزعزعهم عن إيمانهم أو عن بعض لوازمه حتى ولو فُقِدَ القائد.
وعبر هنا بالشاكرين ولم يعبر بالصابرين مع أن الصبر في هذا الموطن أظهر ، وذلك لأن الشكر في هذا المقام هو أسمى درجات الصبر ، لأن هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين وقفوا إلى جانب النبى - صلى الله عليه وسلم - في ساعة العُسْرة ، لم يكتفوا بتحمل البلاء معه فقط ، بل تجاوزوا حدود الصبر إلى حدود الشكر على هذه الشدائد التى ميزت الخبيث من الطيب ، فالشكر هنا صبر وزيادة ، وقليل من الناس هو الذي يكون على هذه الشاكلة.
فالآية الكريمة قد تضمنت عتابا وتوبيخا لأولئك المسلمين الذين ضعف يقينهم ، وفترت همتهم ، عندما أرجف المرجفون في غزوة أُحد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قُتِل .
كما تضمنت الثناء الجزيل على أولئك الثابتين الصابرين الذين لم تؤثر في قوة إيمانهم تلك الأراجيف الكاذبة ، بل مضوا في جهادهم وثباتهم بدون تردد أو تزعزع ولقد كان الثابتون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد كثيرين ومن بينهم أنس بن النضر - رضي الله عنه - ، فقد ورى البخارى عن أنس - رضى الله عنه – قال: غَابَ عَمِّي أَنَسُ بنُ النَّضْرِ عن قِتَالِ بَدْرٍ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، غِبْتُ عن أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ المُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ ما أَصْنَعُ ، فَلَمَّا كانَ يَوْمُ أُحُدٍ وانْكَشَفَ المُسْلِمُونَ، قالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعْتَذِرُ إلَيْكَ ممَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي أَصْحَابَهُ- وأَبْرَأُ إلَيْكَ ممَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي المُشْرِكِينَ-، ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ، فَقالَ: يا سَعْدُ بنَ مُعَاذٍ، الجَنَّةَ ورَبِّ النَّضْرِ، إنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِن دُونِ أُحُدٍ، قالَ سَعْدٌ: فَما اسْتَطَعْتُ يا رَسولَ اللَّهِ ما صَنَعَ، قالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا به بِضْعًا وثَمَانِينَ ضَرْبَةً بالسَّيْفِ، أَوْ طَعْنَةً برُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بسَهْمٍ، ووَجَدْنَاهُ قدْ قُتِلَ وقدْ مَثَّلَ به المُشْرِكُونَ، فَما عَرَفَهُ أَحَدٌ إلَّا أُخْتُهُ ببَنَانِهِ، قالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى -أَوْ نَظُنُّ- أنَّ هذِه الآيَةَ نَزَلَتْ فيه وفي أَشْبَاهِهِ: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ"الأحزاب: 23، إلى آخِرِ الآيَةِ. وَقالَ: إنَّ أُخْتَهُ -وهي تُسَمَّى الرُّبَيِّعَ- ....."الراوي : أنس بن مالك - صحيح البخاري.

"وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ" 145.
ثم أخبر تعالى أن النفوس جميعها متعلقة بآجالها بإذن الله وقدره وقضائه، فمن حتَّم عليه بالقدر أن يموت، مات ولو بغير سبب، ومن أراد بقاءه، فلو أتى من الأسباب كل سبب، لم يضره ذلك قبل بلوغ أجله، وذلك أن الله قضاه وقدره وكتبه إلى أجل مسمى " وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ" الأعراف 34. فالآية الكريمة قد تضمنت تحريض المؤمنين على القتال . وتحذيرهم من الجبن والفرار ، لأن الجُبن لا يؤخر الحياة ، كما أن الإقدام لا يؤدي إلى الموت قبل حلول وقته ، فإن أَحدًا لا يموت قبل أجله ، وإن خاض المهالك واقتحم المعارك
ثم مدح - سبحانه - الذين يبتغون بأعمالهم ثواب الآخرة فقال " وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا " . أي ومن يرد بعمله وجهاده ثواب الآخرة وما ادخره الله فيها لعباده المتقين من أجر جزيل نؤته منها ما نشاء من عطائنا الذين تشتهيه النفوس ، وتقر له العيون . فتضمنت الآية الكريمة دعوة المؤمنين إلى الزهد في متع الحياة الدنيا ، وإلى أن يجعلوا مقصدهم الأكبر في تحصيل ما ينفعهم في آخرتهم ، فإن هذا هو المقصد الأسمى ، والمطلب الأعلى ، وإن الذين خالفوا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا أماكنهم التي أمرهم بالثبات فيها جريا وراء الغنائم ، لم يحصلوا منها شيئًا ، بل فقدوها وفقدوا أرواحهم وعزتهم وكرامتهم ، وكان فعلهم هذا من أسباب هزمية المسلمين في غزوة أحد.
فكان أمر رسول الله كما ورد في الحديث الصحيح الثبات والالتزام بمواقعهم .قال لاصلى الله عليه وسلم " انضَحوا الخيلَ عنَّا بالنَبلِ، لا يَأتونا مِن خلفِنا ! إن كانَت الدَّائرةُ لَنا أو علَينا فالزَموا أماكنَكم، لا نُؤتينَّ مِن قِبلِكم وفي روايةٍ قال لهم: احموا ظُهورَنا، إن رأيتُمونا نُقتَلُ فلا تنصُرُونا، وإن رأيتُمونا نَغنمُ فلا تَشرَكونا ."الراوي : محمد بن إسحاق - المحدث : الألباني - المصدر : فقه السيرة.- الصفحة أو الرقم : 251 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
الشرح: احموا ظُهورَنا، أي: خَلْفَنا، فإن رَأيتُمونا نُقتَلُ فلا تَنصُرونا، وإن رَأيتُمونا نَغنَمُ فلا تَشرَكونا، أي: لا تَكونوا مُشارِكينَ لَنا؛ لأنَّكُم إن فعَلتُم ذلك تَرَكتُم ظُهورَنا للعَدوِّ فيَتَمَكَّنوا مِنَّا، وهذا ما حَصَلَ في تلك الغَزوةِ؛ فقد خالَف الرُّماةُ ما أمَرَهمُ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وذلك أنَّهم لَمَّا رَأوا المُسلمينَ انتَصَروا على الكُفَّارِ، وبَدَأ المُسلِمونَ يَأخُذونَ الغَنائِمَ، نَزَلَ الرُّماةُ مِنَ الجَبَلِ حَتَّى يَأخُذوا نَصيبَهم مِنَ الغَنائِمِ، فالتَفَّ المُشرِكونَ مِن خَلفِ الجَبَلِ وصَعِدوا عليه ووقَعَتِ الدَّائِرةُ على المُسلمينَ وأُصيبَ فيها النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم!
وفي الحَديثِ بَيانُ مَعرِفةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بإدارةِ الحَربِ والمَعرَكةِ.
وفيه أهَمِّيَّةُ طاعةِ الأميرِ وعَدَمِ مُخالَفةِ أمرِه .الدرر السنية.
وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ : تذييل مقرِّرٌ لمضمون ما قبله ، ووعد من عطاء الله لمن شكره على نعمه ويثبت على شرعه .أي وسنجزي الشاكرين في دنياهم بما يسعدهم ويرضيهم . وسنجزيهم في الآخرة بما يشرح صدورَهُم ، ويُدخِل البهجةَ على نفوسِهم .ولم يذكر جزاءهم ليدل ذلك على كثرته وعظمته، وليعلم أن الجزاء على قدر الشكر، قلة وكثرة وحسنا.
"وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ"146.
ثم بيَّنَ - سبحانه - ما كان عليه أتباع الأنبياء السابقين من إيمان عميق ، وعزم وثيق ، حتى يتأسى بهم كل ذي عقل سليم.
والربيون جمع رِبي وهو المتبع لشريعة الرب مثل الرباني ، والمراد بهم هنا أتباع الرسل وتلامذة الأنبياء . ويجوز في رائه الفتح ، على القياس ، والكسر ، على أنه من تغييرات النسب وهو الذي قرئ به في المتواتر .
ومحل العبرة هو ثبات الربانيين على الدين مع موت أنبيائهم ودعاتهم .
والمعنى : وكثير من الأنبياء قاتل معهم مؤمنون صادقو الإيمان من أجل إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه وأصيبوا وهم يقاتلون بما أصيبوا من جراح وآلام ، " فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله " أي فما عجزوا أو جبنوا بسبب ما أصابهم من جراح ، أو ما أصاب أنبياءهم وإخوانهم من قتل واستشهاد . لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ، ونصرة رسله . وقوله " وَمَا ضَعُفُواْ " أي : عن قتال أعدائهم وعن الدفاع عن الذى آمنوا به وقوله " وَمَا اسْتَكَانُوا " أي ما خضعوا وذلوا لأعدائهم .
الله - تعالى - قد نفى عن هؤلاء المؤمنين الصادقين ثلاثة أوصاف لا تتفق مع الإيمان . نفى عنهم - أولا - الوهن وهو اضطراب نفسي ، وهلع قلبي ، يستولى على الإنسان فيفقده ثباته وعزيمته .
ونفى عنهم - ثانيا - الضعف الذى هو ضد القوة ، وهو ينتج عن الوهن . ونفى عنهم - ثالثًا - الاستكانة وهي الرضا بالذل والخضوع للأعداء ليفعلوا بهم ما يريدون . وقد نفى - سبحانه - هذه الأوصاف الثلاثة عن هؤلاء المؤمنين الصادقين مع أن واحدًا منها يكفي نفيه لنفيها لأنها متلازمة - وذلك لبيان قبح ما يقعون فيه من أضرار فيما لو تمكن واحد من هذه الأوصاف من نفوسهم .
وجاء ترتيب هذه الأوصاف في نهاية الدقة بحسب حصولها في الخارج ، فإن الوهن الذي هو خور في العزيمة إذا تمكن من النفس أنتج الضعف الذي هو لون من الاستسلام والفشل . ثم تكون بعدهما الاستكانة التي يكون معها الخضوع لكل مطالب الأعداء وإذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة في حياته كان الموت أكرم له من هذه الحياة.
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ: تذييل قُصِدَ به حض المؤمنين على تحمل المكاره وعلى مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره من أجل إعلاء دينهم حتى يفوزوا برضا الله كما فاز أولئك الأنقياء الأوفياء . أي والله - تعالى - يحب الصابرين على آلام القتال ، ومصاعب الجهاد ، ومشاق الطاعات ، وتبعات التكاليف التى كلف الله - تعالى - بها عباده .
"وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ "147.
أي أن هؤلاء الأنقياء الأوفياء الصابرين ما كان لهم من قول في مواطن القتال وفي عموم الأحوال إلا الضراعة إلى الله - بثلاث أمور :
أولها: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا : والإسراف: هو مجاوزة الحد إلى ما حرم، أي : إنهم يدعون الله - تعالى - بأن يغفر لهم ذنوبهم ما كان صغيرا منها وما كان كبيرا : وأن يغفر لهم إسرافهم فى أمرهم أي ما تجاوزوه من الحدود التي حدها لهم سبحانه وأمرهم بعدم تجاوزها. فقد علموا أن الذنوب والإسراف من أعظم أسباب الخذلان، وأن التخلي منها من أسباب النصر، فسألوا ربهم مغفرتها.
ثانيها : وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا : ثم إنهم لم يتكلوا على ما بذلوا جهدهم به من الصبر، بل اعتمدوا على الله، وسألوه أن يثبت أقدامهم عند ملاقاة الأعداء الكافرين، أي أجعلنا يا ربنا ممن يثبت لحرب أعدائك وقتالهم ولا تجعلنا ممن يوليهم الأدبار .
ثالثها: وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ: وسألوه سبحانه أن ينصرهم عليهم، فجمعوا بين الصبر وترك ضده، والتوبة والاستغفار، والاستنصار بربهم، لا جرم أن الله نصرهم، وجعل لهم العاقبة في الدنيا والآخرة.
" فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" 148.
ثم بين - سبحانه - الثمار التى ترتبت على هذا الدعاء الخاشع والإيمان الصادق والعمل الخالص لوجهه. الفاء فى قوله " فَآتَاهُمُ "لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
لَمَّا أتمَّ سبحانه الثناءَ على فِعل الرِّبِّيِّين في الصَّبر، وطريقتِهم في الدُّعاء، ذكَر ما سبَّبه لهم ذلك من الجَزاء في الدُّنيا والآخِرة.
" فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ : أي: إنَّ الله تعالى قد منَحهم بفضله جزاءً في الدنيا، كالنَّصرِ على الأعداءِ، والظَّفر بالغنائمِ، وغيرِ ذلك، وضمَّ لهم مع أجْر الدنيا جزاءَ الآخرة الحَسَن، من الفوز برِضوانِ الله تعالى، والخلودِ في دار السَّعادة الأبديَّة.
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ: فالإحسان مع الله تعالى: هو أن يعلم العبد أن الله لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وأن يراقبه في صلاته أو غيرها، في خشوع ورهبة حتى كأنه يرى الله عيانًا، فإذا لم يستطع فليعلم أن الله مطلع عليه، وأنه بين يدي علَّام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، كما قال جبريل عليه السلام لمحمد صلوات الله وسلامه عليه حينما سأله عن الإحسان فقال له "الإِحْسَانُ: أَنْ تَعْبَدَ الله كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ"
فالإحسان مع الله: هو أن يراقب الإنسان الله في حركاته وسكناته، وأن يدرك تمام الإدراك أن الله علّام الغيوب يراه؛ وأنه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.فتُري اللهَ منك كل خير،بأداء الواجبات وترك المحرمات والاجتهاد في أنواع الخير التي لا تجب عليك. هكذا المحسن، يحرص على كل خير من واجب ومستحب ويتباعد عن كل شر وعن كل ما ينبغي تركه ولو كان غير محرم .سبحانه يحب المحسنين في عبادة الخالق ومعاملة الخلق، ومن الإحسان أن يفعل عند جهاد الأعداء، كفعل هؤلاء الموصوفين.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ "149.
وجه القرآن نداء إلى المؤمنين ، نهاهم فيه عن طاعة أعداء الله وأعدائهم ، وأمرهم بالتمسك بتعاليم دينهم وبشرهم بسوء عاقبة أعدائهم .
والنداء متوجه ابتداء للمؤمنين المجاهدين الذين حضروا غزوة أحد ، وسمعوا ما سمعوا من أراجيف أعدائهم وأكاذيبهم ، إلا أنه يندرج تحت مضمونه كل مؤمن في كل زمان أو مكان لأن الكافرين في كل العصور لا يريدون بالمؤمنين إلا كل شر وفساد ، ولا يتمنون لهم إلا الشرور والمصائب .
فقد كانت الهزيمة في أُحد مجالا لدسائس الكفار والمنافقين واليهود في المدينة . وكانت المدينة لم تخلص بعد للإسلام ؛ بل لا يزال المسلمون فيها نبتة غريبة إلى حد كبير . نبتة غريبة أحاطتها " بدر " بسياج من الرهبة ، بما كان فيها من النصر الأبلج . فلما كانت الهزيمة في أُحُد تغير الموقف إلى حد كبير ؛ وسنحت الفرصة لهؤلاء الأعداء المتربصين أن يُظهروا أحقادَهم ، وأن ينفثوا سمومهم ؛ وأن يجدوا في جو الفجائع التي دخلت كل بيت من بيوت المسلمين - وبخاصة بيوت الشهداء ومن أصابتهم الجراح المثخنة - ما يساعد على ترويج الكيد والدس والبلبلة في الأفكار والصفوف .
قال الآلوسي : ما ملخصه : قوله تعالى " يَا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ " شروع في زجر المؤمنين عن متابعة الكفار ببيان مضارها ، إثر ترغيبهم في الاقتداء بأنصار الأنبياء ببيان فضائله وتصدير الخطاب بالنداء والتنبية لإظهار الاعتناء بما في حيزه ،ووصَفَهُم بالإيمان لتذكيرهم بحال ينافي تلك الطاعة فيكون الزجر على أكمل وجه . والمراد من الذين كفرواإما المنافقون لأنهم هم الذين قالوا للمؤمنين عند هزيمتهم فى أحد : ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم . . وإما أبو سفيان وأصحابه وحينئذ فالمراد بطاعتهم الاستكانة لهم وطلب الأمان منهم . . وإما اليهود والنصارى لأنهم هم الذين كانوا يلقون الشُّبه في الدين ويقولون : لو كان محمدٌ نبيًا حقًا لما غلبه أعداؤه . . وإما سائر الكفار " .ا.هـ.
وجاء التعبير : بإن الشرطية "إِن تُطِيعُوا " دون " إذا " ؛ لأن إذا لتحقق الشرط والجزاء أما إن فإنها لا تفيد التحقق بل تفيد الشك ، وهذا هو المناسب لحال المؤمنين لأن إيمانَهم يمنعهم عن الوقوع في طاعة الذين كفروا .
ثم بين - سبحانه - النتيجة - السيئة التى تترتب على طاعة المؤمنين للكافرين فقال :يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ: أي : إن تطيعوهم يرجعوكم إلى ما كنتم عليه قبل الإسلام من ضلال وكفران أو يردوكم إلى الحالة التى كنتم عليها قبل مشروعية الجهاد وهي حالة الضعف والهوان التي رفعها الله عنكم بأن أذن لكم في مقاتلة أعدائكم الذين أخرجوكم من دياركم بغير حق . وقوله : فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ : أي فترجعوا هالكين، قد خسرتم أنفسكم، وضللتم عن دينكم، وذهبت دنياكم وآخرتكم.
"بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ"150.
بعد أن حذر المؤمنين من طاعة الكافرين وما يترتب عليها من مضار ، انتقل إلى توجيههم إلى ما فيه عزتهم وكرامتهم وسعادتهم . أي لا تتخذوا الذين كفروا أولياء ، ولا تأبهوا لإغوائهم فإنهم لا يستطيعون لكم نصرًا، وإنما الله هو الذي ينصركم بعنايته التي وعدكم بها في قوله" فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ"الأنفال:40.
والمولى هنا بمعنى النصير والمعين. والمعنى إني أنهاكم - أيها المؤمنون - عن طاعة الكافرين ، لأنهم ليسوا أولياء لكم فتطيعوهم ، بل الله - تعالى - هو وليكم ومعينكم وهو خير الناصرين ، لأنه هو الذي لا يعجزه شىء في الأرض ولا في السماء فأخلصوا له العبادة والطاعة .
"سَنُلقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعبَ بِمَا أَشرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَم يُنَزِّل بِهِسُلطَا وَمَأوَىهُمُ ٱلنَّارُ وَبِئسَ مَثوَى ٱلظَّـٰلِمِينَ" 151.
من ولايته ونصره لهم سبحانه أنه وعدهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم من الكافرين الرعب، وهو الخوف العظيم الذي يمنعهم من كثير من مقاصدهم، وقد حدث ذلك بالفعل، وذلك أن المشركين -بعدما انصرفوا من واقعة "أُحد" - تشاوروا بينهم، وقالوا: كيف ننصرف، بعد أن قتلنا منهم من قتلنا، وهزمناهم ولما نستأصلهم؟ فهموا بالرجوع لقتال المسلمين مرة أخرى، فألقى الله الرعب في قلوبهم، فانصرفوا خائبين، ولا شك أن هذا من أعظم النصر، لأنه قد تقدم أن نصر الله لعباده المؤمنين لا يخرج عن أحد أمرين: إما أن يقطع طرفًا من الذين كفروا أي: جانبًا منهم وركنا من أركانهم، إما بقتل، أو أسر، أو استيلاء على بلد، أو غنيمة مال، فيقوى بذلك المؤمنون ويذل الكافرون ، أو يكبتهم أي يرجعون بخسارة وغم وحسرة، فينقلبوا خائبين، أي : لم يحصلوا على ما أملوا . وهذا من الثاني. ثم ذكر السبب الموجب لإلقاء الرعب في قلوب الكافرين،فقال:
......بِمَا أَشرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَم يُنَزِّل بِهِسُلطَا: أي: ذلك بسبب ما اتخذوا من دونه من الأنداد والأصنام، التي اتخذوها على حسب أهوائهم وإرادتهم الفاسدة، من غير حجة ولا برهان، وانقطعوا من ولاية الواحد الرحمن، فمن ثم كان المشرك مرعوبا من المؤمنين، لا يعتمد على ركن وثيق، وليس له ملجأ عند كل شدة وضيق، هذا حاله في الدنيا، وأما في الآخرة فأشد وأعظم، ولهذا قال وَمَأوَىهُمُ ٱلنَّارُ :أي: مستقرهم الذي يأوون إليه وليس لهم عنها خروج، وَبِئسَ مَثوَى ٱلظَّـٰلِمِينَ :بسبب ظلمهم وعدوانهم صارت النار مثواهم.
المأوى والمثوى كلمتان تدلّان على مكان اللجوء ومكان الإقامة، ولا علاقة لأي منهما في ذاتها بالجنة والنار.
"وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ"152.
أنَّه لَمَّا وعَد اللهُ تعالى المؤمنين في الآية المُتقدِّمة إلقاءَ الرُّعبِ في قلوب الذين كفروا، أكَّدَ ذلك بأنْ ذَكَّرهم ما أَنجَزهم من الوعدِ بالنَّصرِ في واقعةِ أُحُد؛ فإنَّه لَمَّا وعدَهم بالنُّصرةِ بشرْط أنْ يتَّقُوا ويَصبِروا؛ فحينَ أَتَوْا بذلك الشَّرطِ لا جَرَمَ وفَّى اللهُ تعالى بالمشروطِ وأعطاهم النُّصرةَ، فلمَّا تَركوا الشَّرطَ لا جرَمَ فاتَهم المشروطُ ، فقال:
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ:
أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد أَنجَز لكم ما وعَدَكم به يومَ أُحدٍ أيُّها المؤمنون، وهو نصْركم على عَدوِّكم، وكان ذلك في بدايةِ المعركة حين طفِقتُم تَستأصِلونهم بقتْلهم قتلًا ذريعًا، وذلك قد وقَع عن أَمرِ اللهِ تعالى شرعًا وقدَرًا .
حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ
أي: لَمَّا استولَى عليكم الضَّعفُ والخَوَرُ، وجَبُنتم عن القِتال، ووقَع الخلافُ بين رُماتكم؛ هل يَلزَمون ثُغُورَهم- كما عهِد إليهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أم يتحرَّكون لجمْعِ الغنائم، وعصَى بعضُكم في النِّهاية أمْرَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مِن بعدِ أنْ أَظهَر الله تعالى لكم ما تُحِبُّونه من انهزام الكفَّار، وتوليتهم الأدبار، فلمَّا وقع ذلك كلُّه، حلَّت بكم الهزيمةُ .
عن البَرَاءِ بن عازبٍ رضِي اللهُ عنه، قال"لَقِينا المشركين يومئذٍ، وأجلَسَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جيشًا مِن الرُّماةِ، وأمَّرَ عليهم عبدَ الله - عَبدَ اللهِ بنَ جُبَيرٍ -، وقال: لا تَبرَحوا ، إنْ رأيتمونا ظهَرْنا عليهم فلا تَبرَحوا، وإنْ رأيتموهم ظهَروا علينا فلا تُعينونا، فلمَّا لَقِيناهم هرَبوا حتى رأيتُ النِّساءَ يَشتَدِدْنَ في الجبلِ، رفعْنَ عن سُوقِهنَّ، قد بدَتْ خَلاخلُهنَّ، فأخذوا يقولون: الغنيمةَ الغنيمةَ، فقال عبدُ اللهِ: عهِد إليَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ألَّا تَبرَحوا! فأَبَوا، فلمَّا أبَوْا صُرِفت وجوهُهم، فأُصِيبَ سبعون قتيلًا، وأَشَرَفَ أبو سفيان، فقال: أفي القومِ محمدٌ؟ فقال: لا تُجيبوه، فقال: أفي القومِ ابنُ أبي قُحافَةَ؟ قال: لا تُجيبوه، فقال: أفي القوم ابنُ الخطابِ؟ فقال: إنَّ هؤلاء قُتِلوا، فلو كانوا أحياءَ لأجابوا، فلم يَملِكْ عمرُ نفسَه، فقال: كذبتَ يا عدوَّ اللهِ، أبقى اللهُ عليك ما يُخْزِيك، قال أبو سفيان: اعْلُ هُبَلُ! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أجيبوه، قالوا: ما نقولُ؟ قال: قولوا: اللهُ أعلى وأجلُّ، قال أبو سفيانَ: لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم! قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أجيبوه، قالوا: ما نقولُ؟ قال: قولوا: اللهُ مولانا ولا مولى لكم، قال أبو سفيان: يومٌ بيومِ بدرٍ، والحربُ سِجَالٌ، وتجدون مُثْلَةً، لم آمرْ بها ولم تَسؤْني ".صحيح البخاري.
والمُثْلةُ: قَطعُ الأُنوفِ وبَقْرُ البُطونِ، ونَحوُ ذلك لِلقَتْلى- ثمَّ نَوَّهَ أنَّ تِلكَ المُثْلةَ لم يَأمُرْ بها؛ لِأنَّها تُعَدُّ نَقيصةً في أدبِيَّاتِ الحُروبِ، ومع ذلك يُشيرُ أبو سُفيانَ إلى أنَّهُ لم تَسُؤْهُ تلك المُثْلةُ، فلم يَكرَهْ ما فُعِلَ بالمُسلِمينَ مِن تَمثيلٍ بالقَتْلى، وقدْ رَضيَ أبو سُفيانَ بتلك المُثلةِ في حَقِّ المُسلِمينَ، باعتِبارِ أنَّهم أعداءٌ له،
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ
أي: إنَّ بعضًا منكم- أيُّها المؤمنون- قد ابتَغَوا الدُّنيا، وهم الرُّماةُ الذين تَرَكوا أماكنَهم وأخَذوا في جمْعِ الغنائمِ والحُطامِ الفاني يَومَ أُحُد، والبعضَ الآخَرَ كانوا يَرغبونَ في أجْرِ الآخرةِ الباقي، وهم الرُّماةُ الذين لزِموا مَقاعدَهم التي أَقعَدَهم فيها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ:
أي: بعدَ أنِ انصرفَ بعضُ الرُّماة من المؤمنين من أماكنهم، مُنصرِفين بذلك عن طاعةِ رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وانصرَفتْ قلوبُهم للدُّنيا، ردَّ الله وجوهَكم عن الكفَّار، فصارتِ الدَّائرة عليكم؛ امتحانًا مِن الله تعالى لكم، ليَتميَّز الطَّائعُ من العاصي، والصَّابرُ على البلاء من الجازِع .
وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ:
أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد تَجاوَز عن عقوبة استئصالِكم جميعًا أيُّها الرُّماة، لمعصيتكم الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ واستبدَل بها عقوبةً أخفَّ وطأة عليكم، وهي إلحاقُ الهزيمة بكم، وقَتْل بعضكم .
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ:
أي: إنَّ اللهَ تعالى صاحِبُ الفضلِ على جميعِ المؤمنين؛ لأجْلِ ما معهم من إيمانٍ، ومن ذلك: العَفوُ عمَّا يَقَعُ منهم من عِصيان .
__________________

الاثنين، 11 نوفمبر 2024

03- تفسير سورة آل عمران

 

تفسير سورة آل عمران

من آية  93 إلى آية  108  

 

"كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ  قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ"93.

هذه الآية رد على اليهود ، قبحهم الله ، وبيان أن النسخ الذي أنكروا وقوعه وجوازه قد وقع  ودليل ذلك في كتابهم الذي بين أيديهم.

 فإن الله ، عز وجل ، قد نص في كتابهم التوراة أن نوحًا ، عليه السلام ، لما خرج من السفينة أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها ، ثم بعد هذا حرم إسرائيل على نفسه لحمان الإبل وألبانها ، فاتبعه بنوه في ذلك ، وجاءت التوراة بتحريم ذلك.

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ:لَمَّا أخبر اللهُ تعالى أنَّه لا يَنال المرءُ البرَّ إلا بالإنفاق ممَّا يحبُّ في قوله: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ- فالمشروعُ في الإسلام هو الإنفاقُ في طاعةِ الله مما يُحِبُّه العبدُ ويَشتهيه؛ كما قال سبحانه: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ "البقرة: 177 ، وقال" وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ "الإنسان: 8

ذكَر سبحانه عقِبَ قوله تعالى في الآية  السابقة : لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ: عقَّب بأنَّ يعقوبَ عليه السَّلام، قد حرَّم أحبَّ الأشياءِ إليه وترَكها لله تعالى- وكان هذا سائغًا في شَريعتهم- فكلّ أنواعِ الأطعمة كان أَكْلُها حلالًا لذُريَّة يعقوب عليه السَّلام، قبل نزولِ التَّوراة على موسى عليه السَّلام، عدا نوعًا واحدًا حرَّمه أبوهم يعقوبُ على نَفْسِه، من غير أن يُحرِّمه اللهُ عزَّ وجلَّ عليه، وهو لحومُ الإبل وألبانُها، واتَّبعه اليهودُ على ذلك واقتدوا به ، فلمَّا نزلت التَّوراة بعدُ، حرَّم الله تعالى عليهم فيها ما شاء، وأحلَّ لهم فيها ما شاء وَفقِ حِكمته، فكان هذا نَسْخًا لِمَا سبَق مِن حِلِّه جميعَ الأطعمة لهم. وهذا رد على اليهود بزعمهم الباطل أن النسخ غير جائز فاعترضوا على الله ، وكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، لأنهما قد أتيا بما يخالف بعض أحكام التوراة بالتحليل والتحريم.

"حضَرتْ عِصابةٌ من اليهودِ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالوا: يا أبا القاسمِ، حدِّثْنا عن خِلالٍ نسألُكَ عنها، لا يعلَمُهنَّ إلَّا نبيٌّ، فكان فيما سألوه: أيُّ الطعامِ حرَّم إسرائيلُ على نفسِه قبلَ أنْ تُنزَّلَ التوراةُ؟ قال: فأنشُدُكم باللهِ الذي أنزَلَ التوراةَ على موسى، هل تعلَمونَ أنَّ إسرائيلَ يعقوبَ عليه السَّلامُ مرِضَ مرضًا شديدًا، فطال سَقَمُه، فنذَر للهِ نذرًا لئِنْ شَفاه اللهُ من سَقَمِه، ليُحرِّمَنَّ أحَبَّ الشرابِ إليه، وأحَبَّ الطعامِ إليه، فكان أحَبُّ الطعامِ إليه لُحْمانُ الإبِلِ، وأحَبُّ الشرابِ إليه ألبانُها؟، فقالوا: اللَّهُمَّ نعَمْ.الراوي : عبدالله بن عباس - المحدث : شعيب الأرناؤوط - المصدر : تخريج المسند لشعيب -الصفحة أو الرقم : 2471 - خلاصة حكم المحدث : حسن..

"أقبلَتْ يَهودُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فقالوا : يا أبا القاسمِ أخبِرنا عنِ الرَّعدِ ما هوَ قالَ ملَكٌ منَ الملائكةِ موَكَّلٌ بالسَّحابِ معَهُ مَخاريقُ مِن نارٍ يسوقُ بِها السَّحابَ حَيثُ شاءَ اللَّهُ فقالوا فما هذا الصَّوتُ الَّذي نسمعُ قالَ زَجْرُهُ بالسَّحابِ إذا زَجرَهُ حتَّى ينتَهيَ إلى حَيثُ أُمِرَ قالوا صدَقتَ. فقالوا فأخبِرنا عمَّا حرَّمَ إسرائيلُ علَى نفسِهِ قالَ اشتكَى عِرقَ النَّسا فلم يجِدْ شيئًا يلائمُهُ إلَّا لُحومَ الإبلِ وألبانَها فلذلِكَ حرَّمَها قالوا : صدَقتَ.

الراوي : عبدالله بن عباس - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترمذي-الصفحة أو الرقم : 3117 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.

قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ: أي: قُلْ لهم- يا محمَّدُ- محاجًا إياهم : احضروا كتابكم الذي فيه شَريعتكم الذي هو التوراة  إنْ كنتم مُحِقِّين في دعواكم فاقرؤوها علينا بأنفسكم؛ ففيه إقامةُ الحُجَّة على الخَصْم بما يَعتقِد صحَّته ويؤمن به، فهذا أعظمُ مَحاجَّة ،لتجدوا النسخ المثبت في كتابكم من قبل  .  

لما أنكر اليهود -قبحهم الله- النسخ وقالوا: إنه غير ممكن؛ وهذا من جهلهم وضلالهم وإنكارهم لآيات الله، فالله تعالى ينسخ لحكمة، وهو يعلم بأحوال عباده.فالشرائع من عهد آدم عليه الصلاة والسلام إلى زمن نبينا صلى الله عليه وسلم تختلف، فقد كان في شريعة آدم أن الأخ يتزوج أخته، لكن من البطن الآخر، فكانت حواء تأتي بذكر وأنثى في كل حمل، فهذان الذكر والأنثى اللذان يكونان في بطن واحد أخوان يحرم عليهما أن يتزوج أحدهما الآخر، لكن يجوز له أن يتزوج من بطن آخر؛ حتى يكثر الناس، ثم نسخ ذلك  وحرم الله الزواج بالأخت، وفي شريعة يعقوب عليه الصلاة والسلام كان يجوز الجمع بين الأختين، وقد نُسِخَ ذلك  وحُرِّمَ ذلك في شريعة التوراة وما بعدها، وفي شريعة التوراة: يجب على القاتل القصاص، وفي شريعة الإنجيل تجب الدية ، وفي شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم - التي هي أكمل الشرائع وختامها والناسخة لكل ما يخالفها في الشرائع السابقة : يخير فيها أولياء القتيل بين القصاص وبين العفو إلى الدية وبين العفو مجانًا، فالله تعالى يشرع لعباده ما يناسب حالهم ثم ينسخ ذلك؛ لما يعلمه من المصلحة لهم.

"فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" 94.

افترى: من الافتراء وهو اختلاق الكذب، وأصله من فرى الأديم إذا قطعه لأن الكاذب يقطع القول من غير حقيقة له في الوجود.

قوله: الكَذِبَ، فيه تأكيدٌ للافتراء؛ لأنَّ اسمَ الافتراءِ بمعنى الكَذِب والاختِلاق؛ فكان في إردافِه بقوله: الكَذِبَ تأكيدٌ للافتراء.

ذَلِكَ : تعود على تلاوة التوراة وقيل تعود حكم التوراة.

الظَّالِمُونَ :الجائرون المتجاوزون للحد بالكفر أو الفسق أو نحوهما.

أي : فمن تعمد الكذب على الله- تعالى- بأن زعم بأن ما حرمته التوراة على بني إسرائيل من المطاعم بسبب ظلمهم وبغيهم، كان محرمًا عليهم وعلى غيرهم قبل نزولها، فأولئك الذين قالوا هذا القول الكاذب هم المتناهون في الظلم:أي المتجاوزون للحدود التي شرعها الله- تعالى، وسيعاقبهم- سبحانه- على هذا الظلم والافتراء عذابًا أليمًا لا مهرب لهم منه ولا نصير.

"قُلْ صَدَقَ اللَّهُ  فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ"95.

أي: قل- يا محمد- لهؤلاء اليهود الذين جادلوك بالباطل ولكل من كان على شاكلتهم في الكذب والظلم، قل لهم جميعا: صدق الله فيما أخبرنا به في قوله- تعالى- كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ وفي كل ما أخبرنا به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وأنتم الكاذبون في دعواكم.

وإذ كنتم تريدون الوصول إلى الطريق القويم حقا فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي فاتبعوا ملة أبيكم إبراهيم عليه السلام بالتوحيد وترك الشرك .

حَنِيفًا : الميل عن الشِّرك، أي كان متجها إلى الحق لا ينحرف عنه إلى غيره من الأديان أو الأقوال أو الأفعال الباطلة.

ثم نفى الله- تعالى- عن إبراهيم كل لون من ألوان الشرك بأبلغ وجه فقال: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.كان مخلصًا عبادته الله وحده.

وفي ذلك تعريض بشرك اليهود وغيرهم من أهل الكفر والضلال، وتنبيه إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه هم المتبِعون حقًا لإبراهيم، فقد أمر الله- محمدًا صلّى الله عليه وسلّم أن يسير على طريقة أبيه إبراهيم فقال: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ .النحل: 123.

وبذلك نرى أن الآيات الكريمة قد حكت قضية من القضايا الكثيرة التي جادل اليهود فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد لقنت الآيات النبي صلّى الله عليه وسلّم الجواب الذي يخرس ألسنتهم، ويكشف عن كذبهم وافترائهم وظلمهم، ويرشدهم ويرشد كل من يتأتى له الخطاب إلى الملة القويمة إن كانوا حقًا يريدون الاهتداء إلى الصراط المستقيم.

ثم أخبر القرآن عن مسألة أخرى جادل اليهود فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي مسألة أفضلية المسجد الحرام على غيره من المساجد، وقد رد القرآن عليهم وعلى أمثالهم في الكفر والعناد بما يثبت أن المسجد الحرام الذي نازعوا في أفضليته هو أفضل المساجد على الإطلاق فقال تعالى:

"إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ "96.

إن البيت الحرام الذي بمكة هو أول بيت وضعه الله- تعالى- للناس في الأرض ليكون متعبدًا لهم.

عَنْ أبِي ذَرٍّ، قالَ: قُلتُ يا رَسولَ اللهِ، : أيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ في الأرْضِ أوَّلُ؟ قالَ: المَسْجِدُ الحَرَامُ قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: المَسْجِدُ الأقْصَى قُلتُ: كَمْ بيْنَهُمَا؟ قالَ: أرْبَعُونَ سَنَةً، وأَيْنَما أدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ فَهو مَسْجِدٌ. صحيح مسلم.

وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد منه فقال: معلوم أن سليمان بن داود هو الذي بنى المسجد الأقصى، والذي بنى المسجد الحرام هو إبراهيم وابنه إسماعيل، وبينهما وبين سليمان أكثر من ألف سنة فكيف قال صلّى الله عليه وسلّم: إن بين بناء المسجدين أربعين سنة!

والجواب أن الوضع غير البناء، فالذي أسس المسجد الأقصى ووضعه في الأرض بأمر الله سيدنا يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وبين إبراهيم ويعقوب هذه المدة التي جاءت في الحديث، أما سليمان فلم يكن مؤسسًا للمسجد الأقصى أو واضعًا له وإنما كان مجددًا فلا إشكال ولا منافاة.

وإذًا فالبيت الحرام أسبق بناء من المسجد الأقصى، وأجمع منه للديانات السماوية، وهو- أي البيت الحرام- أول بيت جعل الله الحج إليه عبادة مفروضة على كل قادر على الحج، وجعل الطواف حوله عبادة، وتقبيل الحجر الأسود الذي هو ضمن بنائه عبادة. ولا يوجد بيت سواه في الأرض له من المزاياوالخصائص ما لهذا البيت الحرام.

وبذلك ثبت كذب اليهود في دعواهم أن المسجد الأقصى أفضل من المسجد الحرام، وأن في تحول الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى الكعبة في صلاته مخالفة للأنبياء قبله.

ثم مدح الله- تعالى- بيته بكونه مُبارَكًا أي كثير الخير دائمه، من البركة وهي كثرة الخير مع النماء والزيادة والدوام.

أي أن هذا البيت كثير الخير والنفع لمن حجه أو اعتمره أو اعتكف فيه، أو طاف حوله، بسبب مضاعفة الأجر، وإجابة الدعاء، وتكفير الخطايا لمن قصده بإيمان وإخلاص وطاعة الله رب العالمين.

وإن هذا البيت في الوقت ذاته وفير البركات المادية والمعنوية.

فمن بركاته المادية: قدوم الناس إليه من مشارق الأرض ومغاربها ومعهم خيرات الأرض، يقدمونها على سبيل تبادل المنفعة تارة وعلى سبيل الصدقة تارة أخرى لمن يسكنون حول هذا البيت الحرام، إجابة لدعوة سيدنا إبراهيم حيث قال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ" إبراهيم: 37.

 ومن بركاته المعنوية: أنه مكان لأكبر عبادة جامعة للمسلمين وهي فريضة الحج، وإليه يتجه المسلمون في صلاتهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأماكنهم، وأفئدة المؤمنين تهوي إليه وتشتاق.

ثم مدحه بأنه هُدىً لِلْعالَمِينَ :  أي بذاته مصدر هداية للعالمين، لأنه قبلتهم ومتعبدهم، وفي استقباله توجيه للقلوب والعقول إلى الخير وإلى ما يوصلهم إلى رضا الله وجنته.

" فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ  وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا  وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا  وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" 97.

ثم مدحه- ثالثًا- بقوله: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ: أي فيه علامات ظاهرات، ودلائل واضحات تدل على شرف منزلته، وعلو مكانته.وهذه الجملة الكريمة مستأنفة لبيان وتفسير بركته وهداه.

ثم بيَّن- سبحانه- بعض هذه الآيات البينات الدالة على عِظَمِهِ وشرفِهِ فقال: مَقامُ إِبْراهِيمَ :

محتمل أن المراد به المقام المعروف وهو الحَجَر الذي كان يقوم عليه الخليل لبنيان الكعبة لما ارتفع البنيان، وكان ملصقًا في جدار الكعبة، فلما كان عمر رضي الله عنه وضعه في مكانه الموجود فيه الآن، والآية فيه قيل أثر قدمي إبراهيم، قد أثرت في الصخرة وبقي ذلك الأثر إلى أوائل هذه الأمة، وهذا من خوارق العادات، وقيل إن الآية فيه ما أودعه الله في القلوب من تعظيمه وتكريمه وتشريفه واحترامه، ويحتمل أن المراد بمقام إبراهيم أنه مفرد مضاف يراد به مقاماته في مواضع المناسك كلها، فيكون على هذا جميع أجزاء الحج ومفرداته آيات بينات، كالطواف والسعي ومواضعها، والوقوف بعرفة ومزدلفة، والرمي، وسائر الشعائر، والآية في ذلك ما جعله الله في القلوب من تعظيمها واحترامها وبذل نفائس النفوس والأموال في الوصول إليها وتحمل كل مشقة لأجلها، وما في ضمنها من الأسرار البديعة والمعاني الرفيعة، وما في أفعالها من الحكم والمصالح التي يعجز الخلق عن إحصاء بعضها. تفسير السعدي.

وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا  : هذه هي الآية الثانية التي تدل على فضل هذا البيت وشرفه .أي من التجأ إليه أمن من التعرض له بالأذى أو القتل قال- تعالى" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ" العنكبوت: 67. وفي ذلك إجابة لسيدنا إبراهيم حيث قال- كما حكى القرآن عنه" رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ" إبراهيم: 35.ولا شك أن في أمن من دخل هذا البيت أكبر آية على تعظيمه وعلى علو مكانته عند الله لأنه موضع أمان الناس في بيئة تغري بالاعتداء لخلوها من الزرع والنبات. حتى إن التحريم في ذلك شمل صيودها وأشجارها ونباتها.

قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ افْتَتَحَ مَكَّةَ: لا هِجْرَةَ، ولَكِنْ جِهَادٌ ونِيَّةٌ، وإذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا، فإنَّ هذا بَلَدٌ حَرَّمَ اللَّهُ يَومَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرْضَ، وهو حَرَامٌ بحُرْمَةِ اللَّهِ إلى يَومِ القِيَامَةِ، وإنَّه لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فيه لأحَدٍ قَبْلِي، ولَمْ يَحِلَّ لي إلَّا سَاعَةً مِن نَهَارٍ، فَهو حَرَامٌ بحُرْمَةِ اللَّهِ إلى يَومِ القِيَامَةِ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، ولَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، ولَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلَّا مَن عَرَّفَهَا، ولَا يُخْتَلَى خَلَاهَا. قالَ العَبَّاسُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إلَّا الإذْخِرَ؛ فإنَّه لِقَيْنِهِمْ ولِبُيُوتِهِمْ، قالَ: قالَ: إلَّا الإذْخِرَ.الراوي : عبد الله بن عباس- المصدر :صحيح البخاري

وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء أن من جنى جناية خارج الحرم ثم لجأ إليه أنه يأمن ولا يقام عليه الحد حتى يخرج منه.

وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا : أي: إنَّ شعيرةَ حَجِّ بيتِ الله تعالى الحرام فرْضٌ واجبٌ لله عزَّ وجلَّ على مَن قَدَر مِن أهلِ التَّكليفِ على القصدِ إليه، وذلك بتَوفُّر القُدرةِ الماليَّة والبدنيَّة وغيرِهما ممَّا يُحقِّق الاستطاعةَ

شروط وجوب الحج خمسة وهي : الإسلام ـ البلوغ ـ العقل ـ الحرية ـ الاستطاعة .والاستطاعة تنقسم إلى أربعة أنواع : ـ الاستطاعة المادية : فلابد من توافر المال الذي يحتاجه الحاج في سفره وتكاليف حجه حتى عودته، وتوافر المال الذي يتركه لذويه حتى يعود ، وذلك بعد سداد كل الديون أواستئذان الدائن .وأما عن الدَّيْن الذي لم يَحِن أجلُه كأقساط البيع أو تسديد أقساط ؛ فلا بأس من الذهاب للحج دون استئذان . ويشترط في هذا المال أن يكون حلالًا . فلا يجوز الحج من المال الحرام ، مثل مال الربا أو الرشوة أو البيع المحرم . ـ الاستطاعة البدنية : الحج يحتاج إلى بذل جهد ومشقة من تحمل تبِعات السفر ومناسك الحج ،والبعض يؤجل حجه إلى أن يكبر سنه ، وكأنه لا يليق به أن يكون حاجًا إلا أن يكون شيخًا كبيرًا وهذا مخالف للصواب حيث ينبغي المبادرة بالحج ما استطاع المرء إلى ذلك سبيلاً

وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ: أي: إنَّ مَن جحَد فرض الحجِّ فأنكر وجوبه وكفر به، فإنَّ الله غنيٌّ عنه، وعن حَجِّه، وعن سائرِ خَلْقه يُنظر: تفسير ابن جرير/5/618، 624)، شرح عمدة الفقه- كتاب الطهارة والحج لابن تيمية 2/76، تفسير السعدي ،ص: 971، تفسير ابن عثمين- سورة آل عمران. 1/554-555. وممن قال بهذا القولِ مِن السَّلف ابنُ عبَّاس، والضَّحَّاك، وعطاء، وعمران القطان، والحسن، ومجاهدٌ، وعِكرمةُ، ومُقاتل. يُنظر"تفسير ابن جرير"5/ 618-، وزاد المسير. لابن الجوزي ظ1/ 309. وفي الآيةِ أوجهٌ أُخرى ذكَرها ابنُ الجوزيِّ في - زاد المسير- الموضع السابق، والشنقيطيُّ في أضواء  البيان.1/203.. .

عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا."الراوي : أبو ذر الغفاري - صحيح مسلم.

" قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ" 98.

آيَاتِ اللَّهِ: هي الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

أي: قُلْ- يا محمَّدُ- لأصحابِ التَّوراة والإنجيل مُوبِّخًا لهم: يا معشرَ اليهود والنَّصارى، ما الذي يَحمِلكم على جحْد حُجَج الله تعالى التي جاءت بها كُتُبكم، التي تُثْبِت نبوَّتي وصِدْقَ ما جئتُ به من الله تعالى؛ فلِمَ تَجْحَدون ذلك وأنتُم على عِلْم بالحقِّ، والله تعالى شهيدٌ على كُفْركم؟! فإنَّه سبحانه لا يَخفى عليه شيءٌ، وسيُجازيكم على كُفْركم بما تَستحِقُّون.

ولكي يكون التأنيب أوجع، أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يناديهم بقوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ، لأن علمهم بالكتاب يستلزم منهم الإيمان، والإذعان للحق، ولكنهم اتخذوا علمهم وسيلة للشرور والتضليل فكان مسلكهم هذا دليلا على فساد فطرتهم، وخبث طويتهم، وسوء طباعهم.

"قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" 99 .

وبعد أن أنَّبَهُم ووبخهم القرآن الكريم في الآية السابقة على كفرهم وضلالهم، أمر الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم في آية ثانية أن يوبخهم على محاولتهم إضلال غيرهم. فالآية الأولى لكفهم عن الضلال، والثانية لكفهم عن الإضلال.

وقوله: تَصُدُّونَ من الصد وهو صرف الغير عن الشيء ومنعه منه.

وقوله: سَبِيلِ اللَّهِ أي طريقه الموصلة إليه وهي ملة الإسلام.

 لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ :تبغون لأهل دين الله ولمن هو على سبيل الحق عوجًا وضلالا، وزيغًا عن الاستقامة على الهدى والمحجة، وأنتم تعلمون بتقدم البشارة به، عالمون بصدق نبوته، ومن كان كذلك فلا يليق به الإصرار على الباطل والضلال والإضلال.

وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ : اعتراضٌ تذييليٌّ، فيه تهديدٌ ووعيدٌ شديد، وتذكيرٌ لأنَّهم يعلمون أنَّ الله يعلم ما تُخفي الصُّدور .وإنما ختم هذه الآية بنفي الغفلة، لأن صدهم عن الإسلام كان بضرب من المكر والكيد ووجوه الحيل، وختم الآية السابقة بقوله والله شهيد لأن العمل الذي فيها وهو الكفر ظاهر مشهود.

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ " 100.

بعد أن بين- سبحانه- في هاتين الآيتين أن اليهود قد جمعوا الخسيستين ضلال أنفسهم، ثم محاولتهم تضليل غيرهم، تركهم مؤقتا في طغيانهم يعمهون، ووجه نداء إلى المؤمنين يحذرهم فيه من دسائس اليهود وكيدهم، وينهاهم عن الركون إليهم، والاستماع إلى مكرهم .

وقد خاطب الله المؤمنين بذاته في هذه الآية بعد أن أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن يخاطب أهل الكتاب في الآيتين السابقتين، إظهارًا لجلالة قدرهم، وإشعارًا بأنهم الأحقاء بالمخاطبة من الله- تعالى-.

وناداهم بصفة الإيمان لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم وتوجيه عقولهم إلى ما يستدعيه الإيمان من فطنة ويقظة .

فَرِيقًا :ووصف- سبحانه- الذين يحاولون الوقيعة بين المؤمنين بأنهم فريق من الذين أوتوا الكتاب، إنصافًا لمن لم يفعل ذلك منهم.

ونعتهم بأنهم أُوتُوا الْكِتابَ للإشعار بأن تضليلهم متعمد وبأن تآمرهم على المؤمنين مقصود، فهم أهل كتاب وعلم، ولكنهم استعملوا علمهم في الشرور والآثام.

يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ: أي: يصيروكم بعد إيمانكم كافرين.

"وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ  وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" 101.

وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ: ثم بين القرآن بعد ذلك أنه ما يسوغ للمؤمنين أن يطيعوا هذا الفريق من الذين أوتوا الكتاب، أو أن يكفروا بعد إيمانهم، أو أن يتفرقوا بعد وحدتهم. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ: للإنكار، ولاستبعاد كفرهم في حال اجتمع لهم فيها كل الأسباب الداعية إلى الإيمان.

وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ  :أي: الرسول بين أظهركم يتلو عليكم آيات ربكم كل وقت، وهي الآيات البينات التي توجب القطع بموجبها والجزم بمقتضاها وعدم الشك فيما دلت عليه بوجه من الوجوه.

ثم أرشد الله- تعالى- المؤمنين إلى الوسيلة التي متى تمسكوا بها عصموا أنفسهم من مكر اليهود فقال- تعالى "وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ: أي ومن يلتجئ إلى الله في كل أحواله ويتوكل عليه حق التوكل، ويتمسك بدينه، فقد هُدِيَ إلى الطريق الذي لا عوج فيه ولا انحراف.

وفي هذا إشارة إلى أن التمسك بدين الله وبكتابه كفيل بأن يبعد المسلمين الذين لم يشاهدوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم عما يبيته لهم أعداؤهم من مكر وخداع.

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" 102.

ثم أمر الله- تعالى- المؤمنين بمجامع الطاعات ومعاقد الخيرات، وتقوى الله حق تقواه كما قال ابن مسعود: وهو أن يُطاع فلا يُعصَى، ويُذكر فلا يُنسَى، ويشكر فلا يُكفر، وهذه الآية بيان لما يستحقه تعالى من التقوى، وأما ما يجب على العبد منها، فكما قال تعالى " "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ " التغابن :16.

وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ : أي لا تموتن على حالة من الأحوال إلا على هذه الحالة الحسنة التي هي حالة المداومة على التمسك بالإسلام وتعاليمه وآدابه.فمن عاش على شيء مات عليه، مع التنبيه على مقولة "مَن عاش على شيء مات عليه" ليس حديثًا، ولكنه كلام بعض أهل العلم، وهو مبني على الأغلب.

"مَنْ ماتَ على شيءٍ بَعثَهُ اللهُ عليْهِ" الراوي : جابر بن عبدالله - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الجامع-الصفحة أو الرقم: 6543 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.

يومُ القِيامةِ يومُ الجَزاءِ على الأعمالِ في هذه الدُّنيا، والجزاءُ يكونُ من جِنسِ العَملِ؛ فيَبعثُ اللهُ كلَّ إنسانٍ على ما ماتَ عليه مِن اعتقادٍ وعملٍ فيُجازِيه عليه، كما يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في هذا الحَديثِ: "مَن ماتَ على شَيءٍأي: مَن ماتَ على عَمَلٍ مِن الأعْمالِ طاعَةً كانتْ أو مَعصيَةً، "بَعَثَه اللهُ عليه"، أي: بَعَثَه اللهُ عزَّ وجلَّ على هذا العَمَلِ؛ فيَموتُ الإنسانُ على ما عاشَ عليه.

"وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا  وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا  كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" 103.

وبعد أن أمرهم- سبحانه- بمداومة خشيته، والاستمرار على دينه أتبع ذلك ببيان ما يعينهم على التقوى وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله.

والاعتصام: افتعال من عصم وهو طلب ما يعصم أى يمنع من السقوط والوقوع. والمراد بحبل الله هنا: دينه أو عهده، أو كتابه، لأن التمسك بهذه الأشياء يوصل إلى النجاة .

وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا:كنتم في الجاهلية يضرب بعضكم رقاب بعض ، ولما جاء الإسلام أنعم عليكم وألف بين قلوبكم ، فهذه حالة العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعثه الله وآمنوا به واجتمعوا على الإسلام وتآلفت قلوبهم على الإيمان كانوا كالشخص الواحد، من تآلف قلوبهم وموالاة بعضهم لبعض.

والمعنى: كونوا جميعًا مستمسكين بكتاب الله وبدينه وبعهوده، ولا تتفرقوا كما كان شأنكم في الجاهلية يضرب بعضكم رقاب بعض، بل عليكم أن تجتمعوا على طاعة الله وأن تكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا. وبذلك تفوزون وتسعدون وتنتصرون على أعدائكم.

وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا  : أي: قد استحقيتم النار ولم يبق بينكم وبينها إلا أن تموتوا فتدخلوها " فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا  " بما مَنَّ عليكم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.

كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ: أي: يوضح لكم آياته المجلية للحق  ويفسرها، فيبين لكم الحق من الباطل، والهدى من الضلال لعلكم تهتدون بمعرفة الحق والعمل به.

"وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ  وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ "104.

بعد أن أمرهم- سبحانه- بتكميل أنفسهم عن طريق خشيته وتقواه والاعتصام بدينه وبكتابه، عَقَّبَ ذلك بأمرِهِم بالعمل على تكميل غيرهم وإصلاح شأنه عن طريق دعوته إلى الخير وإبعاده عن الشر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

الأمة: الجماعة التي تؤم وتقصد لأمر ما ،وتطلق على أتباع الأنبياء كما تقول: نحن من أمة محمد- صلّى الله عليه وسلّم، وعلى الرَّجُلِ الجامعِ للخيرِ الذي يُقْتَدَى به كقوله- تعالى" إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا " النحل: 120. وعلى الدين والملة كقوله- تعالى" إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ " الزخرف: 22، وعلى الحين والزمان كقوله- تعالى" وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ" يوسف: 45.

والمراد بالأمة هنا الطائفة من الناس التي تصلح لمباشرة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والمراد بالخير: هو اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله ويبعد من سخطه.

والمراد بالمعروف : ما حسنه الشرع وتعارف العقلاء على حسنه والمنكر ضد ذلك.

 

والمعنى: ولتكن منكم أيها المؤمنون طائفة قوية الإيمان عظيمة الإخلاص، تبذل أقصى طاقتها وجهدها في الدعوة إلى الخير الذي يصلح من شأن الناس، وفي أمرهم بالتمسك بالتعاليم وبالأخلاق التي توافق الكتاب والسنة والعقول السليمة، وفي نهيهم عن المنكر الذي يأباه شرع الله، وتنفر منه الطباع الحسنة. وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه ، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان "

وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ : الفائزون بالمطلوب، الناجون من المرهوب. اللهم اجعلنا من الفائزين المعافين.

" وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ  وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" 105.

بعد أن أمر الله- تعالى- بالمواظبة على الدعوة إلى الخير، عقب ذلك بنهيهم عن التفرق والاختلاف .

أى: ولا تكونوا أيها المؤمنون كأولئك اليهود والنصارى وغيرهم من الذين تفرقوا شيعًا وأحزابًا، وصار كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ واختلفوا فيما بينهم اختلافا شنيعًا، وقد ترتب على ذلك أن كفَّر بعضهم بعضًا، وقاتل بعضهم بعضًا، وزعم كل فريق منهم أنه على الحق وغيره على الباطل، وأنه هو وحده الذي يستطيع أن يدرك ما في الكتب السماوية من حقائق، وهو وحده الذي يستطيع تفسيرها تفسيرًا سليمًا. ولقد كان تفرقهم هذا واختلافهم  من بعد ما جاءهم البينات. أي الآيات والحجج والبراهين الدالة على الحق، والداعية إلى الاتحاد والوئام لا إلى التفرق والاختلاف. والمقصود بهذا النهي إنما هو التفرق والاختلاف في أصول الدين وأسسه، أما الفروع التي لا يصادم الخلاف فيها نصًا صحيحًا من نصوص الدين فلا تندرج تحت هذا النهي، فنحن نرى أن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم والتابعين من بعدهم قد اختلفوا فيما بينهم في بعض المسائل التي لا تخالف نصًا صحيحًا من نصوص الشريعة وتأولها كل واحد أو كل فريق منهم على حسب فهمه الذي أداه إليه اجتهاده.

ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة ببيان سوء عاقبة المتفرقين، والمختلفين في الحق فقال وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ : أي لهؤلاء الموصوفون بتلك الصفات الذميمة ، عذابٌ من عند الله عظيمٌ؛ بسبب تفرقهم واختلافهم الباطل ،فلا تكونوا مِثْلهم فيكونَ لكم من عِقابِ الله مِثْلُ الذي لهم.

"يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ  فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ"106.

لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى العذابَ العظيمَ الذي سيَقَع على مَن تفرَّقوا في دِينهم شيعًا بعد مجيءِ الحقِّ وظهورِه لهم، بيَّن هنا موعدَ مجيء ذلك العذاب ؛ وهو يوم القيامة .ويتضمن ذلك الترغيب والترهيب الموجب للخوف والرجاء.

أي: إنَّ أولئك لهم عذابٌ عظيمٌ في اليومِ الذي تكونُ فيه وجوهُ أهل السعادةِ بيضاءَ تتلألأ بهجة وسرورًا حين تظهر لهم آثار أعمالهم ، وهم الذين اعتَصَموا بحبلِ الله جميعًا، وائتلَفوا بينهم، وأما وجوهُ أهلِ الشَّقاوة  فتسودّ بالذل والكآبة حين يجنون ثمار أعمالهم، وعواقب تفرقهم واختلافهم، بعدَ ظهورِ البيِّنات لهم.

فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ :أي: إنَّ الَّذين اسودَّت وجوهُهم، يُقال لهم توبيخًا وتقريعًا: أكفرتُم بعد توحيدِ الله تعالى وعهْدِه الذي أخَذه عليكم بألَّا تُشرِكوا به شيئًا.

فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ: أي: فذوقوا إذَنْ عذابَ الله تعالى؛ بسببِ كُفْركم هذا. وهذا الوعيد في الآية يقابل الوعد في الآية قبلها وهو قوله "وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" فالفلاح فيها يشمل الفوز بخيري الدنيا والآخرة.

ثم بين- سبحانه- حال الذين ابيضت وجوههم وحسن عاقبتهم فقال"وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"107.

أي: أمَّا أولئك الذين قد ابيضَّتْ وجوهُهم ببركة إيمانهم وعملهم الصالح فهُمْ يتقلَّبون في رحمةِ الله تعالى بما أعدَّ لهم في جنَّته من أنواعِ النعيم، ماكثين فيه أبدًا بغير نهاية.

وبعد أن أفاض- سبحانه- في الحديث عن أحوال السعداء وأحوال الأشقياء وعن رذائل الكافرين من أهل الكتاب وغيرهم ممن أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وبعد أن ساق- سبحانه- من التوجيهات الحكيمة، والإرشادات النافعة ما يشفى الصدور ويهدى النفوس، بعد كل ذلك، خاطب- سبحانه- نبيه صلّى الله عليه وسلّم بقوله:

"تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ  وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ "108.

وقال- سبحانه- تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها فأظهر لفظ الجلالة ولم يقل تلك آياتنا نتلوها، فالتصريح باسمه- تعالى- يزيد البيان جلالا ويبعث في النفوس الخشية والمراقبة والبعد عما يوجب العقاب والإقبال على ما يوصل إلى الثواب.

 ِالْحَقِّ: أي نتلوها عليك متلبسة بالحق أو متلبسين بالصدق أو العدل في كل ما دلت عليه هذه الآيات ونطقت به، مما لا تختلف فيه العقول السليمة، والمدارك القويمة.

وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ :  نفي للظلم بأبلغ وجه فإنه- سبحانه- لم ينف فقط الظلم عن ذاته بل نفى عن ذاته إرادة الظلم إذ هو منزه عنه - سبحانه. هو الحكم العدل الذي لا يجور ، لأنه القادر على كل شيء ، العالم بكل شيء . "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ...." النساء : 40.

 

من آية 109 إلى آية 115

" وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ" 109 .
أي له- سبحانه- وحده ما فيهما من المخلوقات ملكًا وخلقًا وتدبيرًا وتصرفًا وإحياء وإماتة وإثابة وتعذيبًا.
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ: أي: هو الذي يتصرَّفُ في شؤون عبيدِه، والحاكمُ عليهم في الدُّنيا والآخرة، ومن ذلك رجوعُ النَّاس إليه يومَ القيامة؛ ليُجازيَهم بأعمالهم؛ إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشرٌّ، بدون ظلم أو محاباة.
"كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" 110.
يمدح تعالى هذه الأمة ويخبر أنها خير الأمم التي أخرجها الله للناس، وذلك بتكميلهم لأنفسهم بالإيمان المستلزم للقيام بكل ما أمر الله به، وبتكميلهم لغيرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتضمن دعوة الخلق إلى الله وجهادهم على ذلك وبذل المستطاع في ردهم عن ضلالهم وغيهم وعصيانهم، فبهذا كانوا خير أمة أخرجت للناس،من أجل إعلاء كلمة الحق وإزهاق كلمة الباطل، ونشر الإصلاح والنفع في الأرض. والخطاب في هذه الآية الكريمة بقوله- تعالى- كُنْتُمْ للمؤمنين الذين عاصروا النبي صلّى الله عليه وسلّم ولمن أتى بعدهم واتبع تعاليم الإسلام إلى يوم الدين.ولذا قال ابن كثير: والصحيح أن هذه الآية عامة في جميع الأمة.
ثم بين- سبحانه- الأسباب التي جعلت الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس فقال:تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ:والمعروف: هو كل قول أو عمل حسنه الشرع، وأيدته العقول السليمة، والمنكر بعكسه.
وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ:أي تصدقون وتذعنون بأنه لا معبود بحق سواه، وتخلصون له العبادة والخضوع، وتطيعونه في كل ما أمركم به أو نهاكم عنه على لسان رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم : أي بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم لَكانَ خَيْرًا لَهُمْأي لكان إيمانُهم خيرًا لهم في دنياهم وآخرتهم ولنالوا الخيرية التي ظفرت بها الأمة الإسلامية ولكنهم لم يؤمنوا فامتنع الخير فيهم لامتناع الإيمان الصحيح منهم، ولإيثارهم الضلالة على الهداية .
مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ: هي جواب للجملة الشرطية التي قبلها. فكأنه قيل: هل منهم من آمن أو كلهم على الكفر؟ فكان الجواب: منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون.
وعبر عن كفرهم بالفسق، للإشعار بأنهم قد فسقوا في دينهم أيضا فهم ليسوا عدولا فيه، وبذلك يكونون قد خرجوا عن الإسلام وعما أوجبته عليهم كتبهم من الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم.
" لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ"111.
ثم بشر اللهُ- تعالى- المؤمنينَ، بأن هذه الكثرة الفاسقة من أهل الكتاب التي عتت عن أمر ربها وناصبت المؤمنين العداء، لن تضرهم ضررًا بليغًا له أثر مادام أهل الإيمان مستمسكين بدينهم ومنفذين لتعاليمه وآدابه، ولكن هذا النفي لهذا النوع من الضرر مشروط بمحافظة الأمة الإسلامية على الأصلين السابقين وهما :الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله.
فإذا أرادت أمة الإسلام ألا تصاب من جهة أهل الكتاب بما يأتي على كيانها، فعليها أن تخلص العبادة لربها، وأن تعمل بسنة نبيها، وأن تتقيد بأحكام كتابها، وأن تباشر الأسباب التي شرعها خالقها للنصر على أعدائها.
أما إذا تركت أمة الإسلام ما أمرها الله- تعالى- به وتجاوزت ما نهاها عنه فإنها في هذه الحالة قد تصاب من أعدائها بما يؤثر في كيانها وتكون هي الجانية على نفسها بمخالفتها لأوامر الله ونواهيه.
ثم بشر الله- تعالى- المؤمنين ببشارة أخرى فقال: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ.
لا ينصرون عليكم أبدًا ماداموا على فسقهم، ودمتم على خيريتكم، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله.
تولية الأدبار: كناية عن الهزيمة لأن المنهزم يحول ظهره ودبره إلى جهة الذي هزمه هربا إلى ملجأ يلجأ إليه ليدفع عن نفسه القتل أو الأسر.
والمعنى، إن أهل الكتاب لن يضروكم يا معشر المؤمنين إلا ضررًا يسيرًا لا يبقى أثره فيكم - مادمتم مستمسكين بدينكم-، فإن قاتلوكم وأنتم على هذه الحال، أمدكم الله بنصره، وألقى في قلوبهم الرعب فيولونكم الأدبار انهزامًا منكم، ثم لا يُنصرون عليكم بل تنصرون أنتم عليهم.والتعبير عن الهزيمة بتولية الأدبار، فيه إشارة إلى جبنهم وأنهم يفرون فرارًا شديدًا بذعر وهلع.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك بعض العقوبات التي عاقب بها اليهود بسبب كفرهم وظلمهم فقال:
"ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ " 112.
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ : وأصل الضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم بظاهر جسم آخر بشدة ، يقال ضرب فلان بيده الأرض إذا ألصقها بها، وتفرعت عن هذا المعنى معانٍ مجازية أخرى ترجع إلى شدة اللصوق.
الذِّلَّةُ : والمراد بها الصغار والهوان والحقارة.
فضرب الذلة عليهم كناية عن لزومها لهؤلاء اليهود، وإحاطتها بهم، كما يحيط السرادق بمن يكون في داخله.
أَيْنَ مَا ثُقِفُوا:أي أينما وُجِدُوا.
إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ :إلا بعهد من الله وهو ما قررته الشريعة إذا دخلوا في حكمها من المساواة في الحقوق والقضاء وتحريم الإيذاء، وعهد من الناس، وهو ما تقتضيه المشاركة في المعيشة، من احتياجهم إليكم واحتياجكم إليهم في بعض الأمور، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحسن معاملتهم ويقترض منهم، وكذلك الخلفاء الراشدون.
"لقد رَهنَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ درعَهُ عندَ يَهوديٍّ بالمدينةِ فأخذَ لأَهلِهِ منْهُ شعيرًا"الراوي : أنس بن مالك - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح ابن ماجه- الصفحة أو الرقم : 1991 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
قال ابن جرير: وأما الحبل .... فإنه السبب الذي يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين وعلى أموالهم وذراريهم من عهد وأمان تقدم لهم عقده قبل أن يثقفوا في بلاد الإسلام.
والمعنى: أن هؤلاء اليهود أحاطت بهم الذلة في جميع أحوالهم أينما وجدوا وحيثما حلوا إلا في حال اعتصامهم بعهد من الله أو بعهد من الناس.وقد فسر العلماء عهد الله بعقد الجزية الذي يربط بينهم وبين المسلمين.
وإنما كان عقد الجزية عهدًا من الله لهم، لأنه- سبحانه- هو الذي شرعه، وما شرعه الله فالوفاء به واجب.
وكان عهدًا من المسلمين لهم، لأنهم أحد طرفيه، فهم الذين باشروه مع اليهود وبمقتضاه يحفظون حقوقهم ودماءهم وأموالهم ويكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وعلى المسلمين حمايتهم، وصون أموالهم لقاء مقدار من المال يدفع لهم كل عام وهو المسمى بالجِزْيَةِ.
فإن قال قائل: إنهم الآن أصحاب جاه وسلطان، بعد أن أنشأوا دولتهم بفلسطين!!والجواب: أنهم مع قيام هذه الدولة يعيشون تحت حماية غيرهم من دول الكفر الكبرى.
فهي التي تحميهم وتمدهم بأسباب الحياة والقوة، فينطبق على هذه الحالة- أيضًا- أنها بحبل من الناس. فاليهود لا سلطان لهم، ولا عزة تكمن في نفوسهم، ولكنهم مأمورون مسخرون أن يعيشوا في تلك البقعة من الأرض لتكون مركزًا لتلك الأمم التي تعهدت بحمايتهم ليقفزوا منها إلى محاربة المسلمين، إذا أتيحت لهم فرصة.
ولو أن المسلمين غيروا ما بأنفسهم، وتمسكوا بشريعتهم، واجتمعت قلوبهم، وتوحدت أهدافهم، وأحسنوا الشعور بالمسئولية نحو دينهم وأنفسهم وأوطانهم، وأعدوا ما استطاعوا من قوة لقتال أعداء الله وأعدائهم..لو أنهم فعلوا ذلك لَمَا كان حالُهم كما ترى الآن من ضعف وتخاذل وتفرق والأمل كبير في أن يتنبه المسلمون إلى ما يحيط بهم من أخطار فيعملوا على دفعها ويعتصموا بحبل الله لتعود لهم قوتهم وهيبتهم.الوسيط.
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ : والمراد بها في الآية الكريمة الضعف النفسي، والفقر القلبي الذي يستولى على الشخص فيجعله يحس بالهوان مهما تكن لديه من أسباب القوة.
والفرق بينها وبين الذلة: أن الذلة تجيء أسبابها من الخارج. كأن يغلب المرء على أمره نتيجة انتصار عدوه عليه فيذل لهذا العدو.
أما المسكنة فهي تنشأ من داخل النفس نتيجة بعدها عن الحق، واستيلاء المطامع والشهوات وحب الدنيا عليها.
والمعنى: أن هؤلاء اليهود يجانب ضرب الذلة عليهم حيثما حلوا، قد صاروا في غضب من الله، وأصبحوا أحقاء به، وضربت عليهم كذلك المسكنة التي تجعلهم يحسون بالصغار مهما ملكوا من قوة ومال.
ثم ذكر- سبحانه- الأسباب التي جعلتهم أحقاء بهذه العقوبات:
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ: فاسم الإشارة ذَلِكَ: يعود إلى تلك العقوبات العادلة التي عاقبهم الله بها بسبب كفرهم وفسقهم.
كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ : والآيات: تطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على وحدانية الله- تعالى- وربوبيته وتطلق ويراد بها النصوص التي تشتمل عليها الكتب السماوية، وتطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على صدق الرسل- عليهم الصلاة والسلام- فيما يبلغون عن الله- تعالى-، وهي التي يسميها علماء التوحيد بالمعجزات.وقد كفر اليهود بكل هذه الضروب من الآيات ومردوا على ذلك كما يفيده التعبير بالفعل المضارع يَكْفُرُونَ..
وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ : أي أنهم لم يكتفوا بالكفر، بل امتدت أيديهم الأثيمة إلى دعاة الحق وهم أنبياء الله- تعالى- الذين أرسلهم لهدايتهم فقتلوهم بدون أدنى شبهة تحمل على الإساءة إليهم فضلا عن قتلهم. وقال- سبحانه- بِغَيْرِ حَقٍّ مع أن قتل الأنبياء لا يكون بحق أبدًا. لإفادة أن قتلهم لهم كان بغير وجه معتبر في شريعتهم لأنها تحرمه.
حيث إنهم قتلوا أنبياءهم بدون خطأ في الفهم، أو تأويل في الحكم أو شبهة في الأمر، وإنما فعلوا ما فعلوا وهم عالمون بقبح ما ارتكبوا، ومخالفون لشرع الله عن تعمد وإصرار.الوسيط.
جريمتهم الثالثة بقوله ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ:
العصيان: الخروج عن طاعة الله، والاعتداء: تجاوز الحد الذي حده الله- تعالى- لعباده إلى غيره وكل متجاوز حد شيء إلى غيره فقد تعداه إلى ما جاوز إليه.الوسيط.
" عد هذا الحديث الحكيم عن أهل الكتاب، وعن العقوبات التي أنزلها- سبحانه- باليهود بسبب فسقهم وظلمتهم.
بعد كل ذلك ساق- سبحانه- آيات كريمة تمدح من يستحق المدح من أهل الكتاب إنصافا لهم وتكريمًا لذواتهم فقال- تعالى:
"لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ"113.
الضمير في قوله- تعالى- لَيْسُوا سَواءً يعود لأهل الكتاب الذين تقدم الحديث عنهم.
أي: ليس أهل الكتاب متساوين في الكفر وسوء الأخلاق، بل منهم طائفة قائمة بأمر الله مطيعة لشرعه مستقيمة على طريقته ثابتة على الدين الحق ملازمة له، لم تتركه كما تركه الأكثرون من أهل الكتاب وضيعوه. والمراد بهذه الطائفة من أهل الكتاب التي وصفها الله- تعالى- بأنها أُمَّةٌ قائمة أولئك الذين أسلموا منهم واستقاموا على أمر الله وأطاعوه في السر والعلن، كعبد الله بن سلام، وأصحابه، والنجاشيّ ومن آمن معه من النصارى. فهؤلاء قد آمنوا بكل ما يجب الإيمان به، ولم يفرقوا بين أنبياء الله ورسله، فمدحهم الله على ذلك وأثنى عليهم.
ثم تابع القرآن حديثه عن أوصافهم الكريمة فقال: يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ:
وقوله يَتْلُونَ من التلاوة وهي القراءة، وأصل الكلمة من الاتباع، فكأن التلاوة هي اتباع اللفظ اللفظ.
والمراد بآيات الله هنا: ما أنزله على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم من قرآن.
وقوله:آناءَ اللَّيْلِ أي أوقاته وساعاته.
والمراد بالسجود في قوله: وَهُمْ يَسْجُدُونَ الصلاة لأن السجود لا قراءة فيه وإنما فيه التسبيح.
"كَشَفَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ السِّتَارَةَ والنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أبِي بَكْرٍ، فَقالَ: أيُّها النَّاسُ، إنَّه لَمْ يَبْقَ مِن مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا المُسْلِمُ، أوْ تُرَى له، ألَا وإنِّي نُهِيتُ أنْ أقْرَأَ القُرْآنَ رَاكِعًا، أوْ سَاجِدًا، فأمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فيه الرَّبَّ عزَّ وجلَّ، وأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا في الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ."الراوي : عبد الله بن عباس - صحيح مسلم .
فَقَمِنٌ أنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ: أي: جَدِيرٌ وحَقِيقٌ وحريٌّ أن يُستجابَ لِمَن دَعَا في سجودِه.
ثم وصفهم- سبحانه- بصفات أخرى كريمة فقال:
"يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ"114.
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ :والمراد بهذا الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به على الوجه المقبول الذي نطق به الشرع، وجاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: أي ويؤمنون باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب وجنة ونار وقوله:
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ: إشعار بأنهم لم يكتفوا بتكميل أنفسهم بالفضائل التي من أشرفها الإيمان بالله واليوم الآخر، والإكثار من إقامة الصلاة ومن تلاوة القرآن، بل أضافوا إلى ذلك إرشاد غيرهم إلى الخير الذي أمر الله به، ونهيه عن الباطل الذي يبغضه الله، وتستنكره العقول السليمة.
وقوله- تعالى-وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي يبادرون إلى فعل الخيرات والطاعات التي ترفع درجاتهم عند الله- تعالى- بدون تردد أو تقصير. وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ولم يقل إلى الخيرات للإشعار بأنهم مستقرون في كل أعمالهم في طريق الخير، فهم ينتقلون من خير إلى خير في دائرة واحدة هي دائرة الخير، ينتقلون بين زواياها وأقطارها ولا يخرجون منها. فهم لا ينتقلون مسارعين من شر إلى خير، وإنما ينتقلون مسارعين من خير إلى خير وهذا هو سر التعبير بفي المفيدة للظرفية.والمسارعة في الخير هي فرط الرغبة فيه، لأن من رغب في الأمر يسارع في توليه وفي القيام به.
وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ:أي وأولئك الموصوفون بتلك الصفات الجليلة الشأن من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم، واستحقوا ثناءه عليهم.وفي التعبير بقوله: مِنَ الصَّالِحِينَ: إشارة إلى أنهم بهذه المزايا وتلك الصفات، قد انسلخوا من عداد أهل الكتاب الذين ذمهم الله- تعالى- ووصفهم بأن أكثرهم من الفاسقين.فهم بسبب إيمانهم وأفعالهم الحميدة قد خرجوا من صفوف المذمومين إلى صفوف الممدوحين.
"وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ" 115.
أى أن هؤلاء الذين وصفهم بتلك الصفات الطيبة لن يضيع الله شيئا مما قدموه من عمل صالح، وإنما سيجازيهم بما هم أهله من ثواب جزيل، وأجر كبير بدون أى نقصان أو حرمان. لأنه- سبحانه- عليم بأحوال عباده ولن يضيع أجر من أحسن عملًا.

من آية 116إلى آية 132
" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"116.
بعد هذا الحديث المؤثر في الآيات السابقة عن أحوال المؤمنين من أهل الكتاب وبيان ما أعده الله لهم من ثواب جزيل، أتبعه بالحديث عن الكافرين وعن سوء عاقبتهم وعن أهم الأسباب التي أدت إلى جحودهم وفسوقهم.
أي: إن الذين كفروا بما يجب الإيمان به، واغتروا بأموالهم وأولادهم في الدنيا، لن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئًا- ولو يسيرًا- من عذاب الله الذي سيحيق بهم يوم القيامة بسبب كفرهم وجحودهم.وقد أكد- سبحانه- عدم إغناء أموالهم ولا أولادهم عنهم شيئا- في وقت هم في أشد الحاجة إلى من يعينهم ويدفع عنهم- بحرف "لن" المفيد لتأكيد النفي وخص الأموال والأولاد بالذكر، لأن الكفار كانوا أكثر ما يكونون اغترارا بالأموال والأولاد.
خَصَّ اللهُ تعالى الأموالَ والأولاد بالذِّكر؛ لأنَّهما من أشد الأشياء نفعًا للإنسان، فالغَناء في مُتعارَف النَّاس يكون بالمال والولد، فالمالُ يدفعُ به المرءُ عن نَفْسِه في فِداءٍ أو نحوه، والولدُ يَنصُر أباه ويُدافِع عنه، فإذا لم يُغنِ عنه ولدُه لصُلْبه ومالُه الذي هو نافِذُ الأمر فيه؛ فغير ذلك أبعدُ مِن أن يُغني عنه مِن الله شيئًا.
وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ : تذييل قُصِدَ به بيان سوء عاقبتهم، وما أعد لهم من عذاب شديد.
أي وأولئك الكافرون المغترون بأموالهم وأولادهم، هم أصحاب النار الذين سيلازمونها ويصلون سعيرها، ولن يصرفهم من عذاب الله أي ناصر من أموال أو أولاد أو غيرهما.
ثم ضرب- سبحانه- مثلًا لبطلان ما كان ينفقه هؤلاء الكافرون من أموال في الدنيا فقال:
"مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هٰذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"117.
وفي هذه الآية الكريمة تشبيه بليغ، فقد شبه- سبحانه- حال ما ينفقه الكفار في الدنيا- على سبيل القربة أو المفاخرة وعدم ابتغاء وجه الله في نفقاتهم - شبه ذلك في ضياعه وذهابه وقت الحاجة إليه في الآخرة من غير أن يعود عليهم بفائدة، كمثل زرع أصابه ريح شديدة باردة مهلكة فاستأصلته ، أو أصابته نار فأحرقته وأهلكته ، فلم ينتفع أصحابه بشيء ، وهم أحوج ما يكونون إليه.
وجماع هذا كله قوله" إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ "المائدة: 27.
وقيل إن المثل ينطبق على الكافرين الذين ينفقون أموالهم في طرق البر رغبة في الخير، لأن شرط قبول العمل والإثابة عليه أن يكون خالصًا لوجه الله وصوابًا أي على مراد الله بالأدلة الشرعية.
عن العباس بن عبدالمطلب قال : يَا رَسولَ اللَّهِ، هلْ نَفَعْتَ أبَا طَالِبٍ بشَيءٍ؟ فإنَّه كانَ يَحُوطُكَ ويَغْضَبُ لَكَ، قالَ: نَعَمْ، هو في ضَحْضَاحٍ مِن نَارٍ، لَوْلَا أنَا لَكانَ في الدَّرَكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ."الراوي : العباس بن عبدالمطلب / المصدر :صحيح البخاري.
وفيه: بيانُ أنَّه لا تنفَعُ محبَّةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المحبَّةَ الطبيعيَّةَ، وإنما تنفَعُ المحبَّةُ الدينيَّةُ الإيمانيَّةُ التي تتمثَّلُ في اتِّباعِ سُنَّتِه، والاقتداءِ به عقيدةً وسُلوكًا. وفيه: بيانُ أنَّ القرابةَ المجرَّدةَ لا تنفَعُ، وإنما ينفَعُ القُربُ الدينيُّ، وإن كانت الأنسابُ غَريبةً.الدرر.
وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ :أي: أن الله - تعالى - ما ظلمهم حين لم يقبل نفقاتهم ، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بإيثارهم الكفر على الإيمان ، ومن كان كذلك فلن يقبل الله منه شيئًا ؛ لأن الله تعالى ، إنما يتقبل من المتقين.تفسير السعدي.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ" 118.
أطلقت البطانة على صديق الرجل وصفيه الذى يطلع على شئونه الخفية تشبيها ببطانة الثياب فى شدة القرب من صاحبها .
بعد أن بين - سبحانه - سوء عاقبة الكافرين أكمل بيان وأحكمه ، حذر المؤمنين من سوء البطانة، وصدر - سبحانه - النداء بوصف الإيمان ، للإشعار بأن مقتضى الإيمان يوجب عليهم ألا يأمنوا من يخالفهم فى عقيدتهم على أسرارهم ، وألا يتخذوا أعداء الله وأعداءهم أولياء يلقون إليهم بالمودة ، وألا يطلعوهم على ما يجب إخفاؤه من شئون وأمور خاصة بالمؤمنين ، لأنكم لو فعلتم ذلك لأصابكم الضرر فى دينكم ودنياكم .
لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا: جملة مستأنفة مبينة لحالهم داعية إلى اجتنابهم . أو صفة لقوله : بِطَانَةً. لا يُقصِّرون في فَسادِ دِينكم ومعيشتكم ؛ بل يبذلون قصارى جهدهم فى إلحاق الضرر بكم فى دينكم ودنياكم . يُقال: ألوتُ في الشَّيء آلو: إذا قصَّرتُ فيه ، وخَبَالًا: أي: فَسادًا أو شرًّا، ورجل مخبل إذا أصيب بمرض أورثه اضطرابًا وفسادًا فى قواه العقلية والفكرية .
وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ : من الود وهو المحبة. عَنِتُّمْ :من العنت وهو شدة الضرر والمشقة .
فهم لا يودون للمسلمين الخير والاطمئنان والأمان ، وأنما يودون لهم الشقاء والشرور والخسران .
وأما السبب الثالث الذى يدعو المؤمنين إلى اجتنابهم فقد بينه الله - تعالى - بقوله " قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ " . والبغضاء مصدر كالسراء والضراء ، وهي البغض الشديد المتمكن في النفوس ، والثابت في القلوب . أي : قد ظهرت أمارات العداوة لكم من فلتات ألسنتهم ، وطفح البغض الباطن في قلوبهم لكم حتى خرج من أفواههم ، ولاح على صفحات وجوههم ، ومع هذا فإن ما تخفيه نفوسهم المريضة لكم من أحقاد ، أكبر مما نطقت به ألسنتهم من بغضاء ، إذ أن ما نطقوا به إنما هو بمثابة الرشح الذي ظهر من مسام أجسادهم وقلوبهم ، أما ما يبيتونه لكم من شرور وآثام فهو أكبر من ذلك بكثير . وخص الأفواه بالذكر دون الألسنة . للإشارة إلى تشدقهم وثرثرتهم في أقوالهم الباطلة ، فهم أشد جرمًا من المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان مظهر من مظاهر فضله على المؤمنين حيث كشف لهم عن أحوال أعدائهم ، وعن سوء نواياهم وعن الأسباب التى تدعو إلى الحذر منهم فقال سبحانه:
قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ: أي قد أظهرنا لكم الدلالات الواضحة التي يتميز بها الولي من العدو، ومن يصح أن يتخذ بطانة، ومن لا يصح أن يتخذ لخيانته، وسوء عاقبة مباطنته، إنْ كنتم تَعقِلون عن الله آياتِه؛ فإنَّ ذلك لا يَخفى على لبيبٍ عاقل.
ثم ذكر نوعا آخر من التحذير عن مخالطة الكافرين واتخاذهم بطانة، وقد ضمنه أمورًا ثلاثة كل منها يستدعي الكفّ عن مخالطتهم:
" هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ"119.
تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ :أي أنتم أيها المؤمنون تُحِبُّونَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ الَّذِينَ نَهَيْتُكُمْ عَنْ مُبَاطَنَتِهِمْ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي بَيْنَكُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ وَالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ وهم لا يحبونكم .
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ: قال ابن عباس : يعني بالكتب . أي وأنتم تؤمنون بجميع الكتب السماوية كلها التى أنزلها الله على أنبيائه وعُبِّرَ عن الكتب بكتاب لوجوب الإيمان بكل الكتب وأنها كلها من عند الله ولكن تنسخ بعضها بعضًا كأحكام لكن كل الكتب تدعو لتوحيد الله عز وجل – فمن كفر بكتاب مما أنزله الله فهو كافر بجميع الكتب، من كفر ببعض الرسل دون بعض فقد كفر بالجميع، وكذلك من كفر ببعض الشريعة فقد كفر بالشريعة كلها، لأن الشريعة واحدة. وهم لا يؤمنون بشىء من كتابكم الذي أنزله الله على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وما دام الأمر كذلك فكيف تتخذونهم بطانة من دون إخوانكم المؤمنين ؟ لا شك أن من يفعل ذلك يكون بعيدًا عن الطريق القويم ، والعقل السليم .
ثم بيَّن - سبحانه - سببًا ثالثًا يدل على قبيح مخالطتهم ومصافاتهم فقال - تعالى " وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ " . والعض هو الإمساك بالأسنان أي تحامل الأسنان بعضها على بعض . والأنامل جمع أُنملة ، وهى أطراف الأصابع . وقيل هي الأصابع . والغيظ : أشد الغضب . وعضهم الأنامل كناية عن شدة غضبهم وتحسرهم وحنقهم على المؤمنين . أي أن هؤلاء الذين يواليهم بعضكم أيها المؤمنون بلغ من نفاقهم وسوء ضمائرهم أنهم إذا لقوكم قالوا آمنا بدينكم وبنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم؛ وإذا خلوا ، أي خلا بعضهم ببعض أكل الحقدُ قلوبَهم عليكم ، وسلقوكم بألسنة حداد ، وتمنوا لكم المصائب ، وأظهروا فيما بينهم أشد ألوان الغيظ نحوكم بسبب ما يرونه من ائتلافكم ، واجتماع كلمتكم ، وعجزهم عن أن يجدوا سبيلا إلى التشفى منكم . وإلحاق الأضرار بين صفوفكم .
ومن كان كذلك في كفره ونفاقه ، كان من الواجب على كل مؤمن أن يحتقره وأن يبتعد عنه ؛ لأنه لا يريد للمؤمنين إلا شرًا . ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يكبت هؤلاء المنافقين ويبقي حسرتهم فقال : قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ: والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم : ولكل مؤمن من أتباعه لتحريضه على مقاطعة هؤلاء الذين لا يريدون إلا الشر . أي : قل لهم دوموا على غيظكم واستمروا عليه إلى أن تموتوا . فإن قوة الإسلام وعزة أهله التي جعلتكم تبغضون المؤمنين ستبقى وستستمر ، وإن أحقادكم على المسلمين لن تُنقص من قوتهم وعلو كلمتهم شيئًا . فالمراد الدعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به وهذا يستلزم أن يستمر ما يغيظهم ويكبتهم وهو نجاح الإسلام وقوته . والباء فى قوله " بِغَيْظِكُمْ " للملابسة ، أي موتوا متلبسين بغيظكم وحقدكم . وقوله "إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور " أي: إنَّ الله سبحانه لا يَخفى عليه ما تَنطوي عليه صدورُ هؤلاء من الغِلِّ والبغضاء لعبادِه المؤمنين، وسيحاسبهم عليه حسابًا عسيرًا . ويعذبهم بسبب ذلك عذابًا اليمًا .
ويعلمُ أيضًا ما تحويه صدورُ جميعِ خَلْقه، فيحفظُ عليهم ذلك؛ ليُجازيَ كلًّا منهم بما يُكِنُّه قلبُه من خيرٍ أو شرٍّ.
وفى هذه الجملة الكريمة تطييب لقلب النبى صلى الله عليه وسلم ولقلوب أصحابه . حيث بين - سبحانه - لهم أنه ناصرهم ، وأنه كاشف لهم أمر أعدائهم متى أطاعوا أوامره ، واجتنبوا نواهيه ، ولم يجعلوا من أولئك الأعداء الذين يضمرون لهم كل شر وضغينة بطانة لهم. ثم ذكر - سبحانه - لونا آخر من ألوان بغض هؤلاء الكافرين للمؤمنين فقال:
" إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ" 120.
والمس : أصله الجس باليد . أطلق على كل ما يصل إلى الشىء على سبيل التشبيه ، فيقال : فلان مسه النصب أو التعب ، أي أصابه . والمراد بالحسنة هنا منافع الدنيا على اختلاف ألوانها ، كصحة البدن ، وحصول النصر ، ووجود الألفة والمحبة بين المؤمنين . أي إن تمسسكم - أيها المؤمنون - حسنة كنصركم على أعدائكم . وإصلاح ذات بينكم ، وإن" تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ " كنزول مصيبة بكم ، يفرحوا بها . أى يبتهجوا بها ، وتستطار ألبابهم سرورًا وحبورًا بسبب ما نزل بكم من مكاره . فالجملة الكريمة بيان لفرط عداوة هؤلاء المنافقين للمؤمنين ، حيث يحسدونهم على ما ينالهم من خير ويشمتون بهم عندما ينزل بهم شر . وعبر فى جانب الحسنة بالمس ، وفى جانب السيئة بالإصابة ، للإشارة إلى تمكن الأحقاد من قلوبهم ، بحيث إن أي حسنة حتى ولو كان مسها للمؤمنين خفيفًا وليس غامرًا عامًا فإن هؤلاء المنافقين يحزنون لذلك ، لأنهم يستكثرون كل خير للمؤمنين حتى ولو كان هذا الخير ضئيلا . أما بالنسبة لما يصيب المؤمنين من مكاره ، فإن هؤلاء المنافقين لا يفرحون بالمصيبة التى تمس المؤمنين مسًا خفيفًا ، فإنها لا تشفي غيظهم وحقدهم ، وإنما يفرحون بالمصائب الشديدة التي تؤذي المؤمنين فى دينهم ودنياهم أَذًا شديدًا ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بإرشاد المؤمنين إلى الدواء الذي يتقون به كيد أعدائهم وأعدائه فقال - تعالى " وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًاإِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ " . وقوله : تَصْبِرُواْ : من الصبر وهو حبس النفس على ما يقتضيه الشرع والعقل . وقوله : وَتَتَّقُواْ : من التقوى وهى صيانة الإنسان نفسه عن محارم الله . وقوله : كَيْدُهُمْ : من الكيد وهو أن يحتال الشخص ليوقع غيره في مكروه . والمعنى : وَإِن تَصْبِرُواْ أيها المؤمنون على طاعة الله ، فتضبطوا أنفسكم ولا تنساقوا فى محبة من لا يستحق المحبة ، وتتحملوا بعزيمة صادقة مشاق التكاليف التي كلفكم الله بها ، وتقاوموا العداوة بمثلها وَتَتَّقُواْ الله - تعالى - فى كل ما نهاكم عنه ، وتمتثلوا أمره فى كل ما أمركم به ، إن فعلتم ذلك لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ وتدبيرهم السىء شَيْئًا من الضرر ببركة هاتين الفضيلتين : الصبر والتقوى ، فإنهما جامعتان لمحاسن الطاعات ، ومكارم الأخلاق .
إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ: أي: إنَّ اللهَ تعالى بما يقوم به هؤلاء الكفَّار من كيدٍ وضُرٍّ بأهل طاعته، مُحيطٌ بجميعه، لا يَغيب عنه شيءٌ من ذلك، فهو سبحانه يُحصيه عليهم ويُجازيهم به. - فلا حول ولا قوة لهم إلا به ، وهو الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن . ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته ، ومن توكل عليه كفاه .تفسير ابن كثير.-
ثم شرع تعالى في ذكر قصة أحد ، وما كان فيها من الاختبار لعباده المؤمنين ، والتمييز بين المؤمنين والمنافقين ، وبيان صبر الصابرين ، فقال تعالى :
" وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"121.
هذه الآيات نزلت في غزوة "أُحد" ، ولعل الحِكمة في ذكرِها في هذا الموضع، تذكير للمؤمنين بما وقع فيها حتى يعتبروا ويعتصموا بحبل الله جميعًا ولا يتفرقوا .وأدخل في أثنائها وقعة "بدر" لما أن الله تعالى قد وعد المؤمنين أنهم إذا صبروا واتقوا نصرهم، ورد كيد الأعداء عنهم، وكان هذا حكمًا عامًا ووعدًا صادقًا لا يتخلف مع الإتيان بشرطه، فذكر نموذجًا من هذا في هاتين القصتين، وأن الله نصر المؤمنين في "بدر" لما صبروا واتقوا، وأدال عليهم العدو لما صدر من بعضهم من الإخلال بالتقوى ما صدر.
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ : والغدو هاهنا مطلق الخروج، ليس المراد به الخروج في أول النهار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يخرجوا إلا بعدما صلوا الجمعة ، أي : واذكُر- يا محمَّدُ- حين خرجتَ مِن بيتك مُغادِرًا المدينةَ، للقاءِ المشركين في غزوة أُحُد.
تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ : أي: تنزلهم وترتبهم كل في مقعده اللائق به، وفيها أعظم مدح للنبي صلى الله عليه وسلم حيث هو الذي يباشر تدبيرهم وإقامتهم في مقاعد القتال، وما ذاك إلا لكمال علمه ورأيه، وسداد نظره وعلو همته، حيث يباشر هذه الأمور بنفسه وشجاعته الكاملة صلوات الله وسلامه عليه .
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: أي: إنَّ اللهَ سميعٌ لِمَا تتشاورُ فيه أنت ومَن معك حول مَوضِع لقاءِ العَدوِّ، عليمٌ بأصلحِ تلك الآراء لكم، وبما تُخفيه صدورُ المُشيرين من المؤمنين والمنافقين من نيَّات، كما أنَّه سبحانه يسمعُ ويعلمُ غيرَ ذلك من أمورِكم وأمورِ سائر خَلْقه، فيُحصي على عبادِه ما يقولون ويعملون، وبحسَب ذلك يُجازون.
أحداث غزوة أحد:
- تنفَّلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ سيفَهُ ذا الفقارِ ، يومَ بدرٍ قالَ ابنُ عبَّاسٍ وَهوَ الَّذي رأى فيهِ الرُّؤيا يومَ أُحُدٍ وذلِكَ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لمَّا جاءَهُ المشرِكونَ يومَ أُحُدٍ كانَ رأي رسول اللَّه صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أن يقيمَ بالمدينةِ يقاتِلَهُم فيها، فقالَ لَهُ ناسٌ لم يَكونوا شَهِدوا بدرًا تخرُجُ بنا يا رسولَ اللَّهِ إليهم نقاتلُهُم بأُحُدٍ، ونَرجو أن نُصيبَ منَ الفضيلةِ، ما أصابَ أَهْلُ بَدرٍ، فَما زالوا برَسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ حتَّى لبسَ أداتَهُ، فلمَّا لبسَها ندِموا، وقالوا : يا رسولَ اللَّهِ أقِم فالرَّأيُ رأيُكَ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليهِ وسلَّمَ : ما ينبَغي لنبيٍّ أن يضعَ أداتَهُ بعدَ أن لبسَها حتَّى يَحكُمَ اللَّهُ بينَهُ وبينَ عدوِّهِ قالَ : وَكانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قال لهم يومئذٍ قبلَ أن يلبِسَ الأداةَ : إنِّي رأيتُ أنِّي في دِرعٍ حصينةٍ، فأوَّلتُها المدينةَ وأنِّي مردِفٌ كبشًا، فأوَّلتُهُ كَبشَ الكتيبةِ ورأيتُ أنَّ سيفي ذا الفقارِ فُلَّ، فأوَّلتُهُ فلًّا فيكُم ورأيتُ بقَرًا يُذبَحُ فبقرٌ واللَّهِ خيرٌ فَبقرٌ واللَّهِ خيرٌ"الراوي : عبدالله بن عباس - المحدث : ابن حجر العسقلاني - المصدر : تغليق التعليق - الصفحة أو الرقم : 5/331 - خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح.
الشرح
يُخبِرُ عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أخَذَ مِنَ الأَنْفالِ الَّتي تكونُ مِن غَنائمِ المشرِكينَ زِيادةً لنفْسِه واصطِفاءً واختِيارًا منها"سيْفَه ذا الفَقارِ"، وسُمِّي بذلكَ؛ لأنَّ السَّيفَ كانتْ به خَرَزاتٌ في ظَهْرِه مِثلُ الفِقْراتِ، وهذا السَّيفُ كان للعاصِ بنِ مُنَبِّهٍ، وكان ذلكَ في غَزْوةِ بَدْرٍ الَّتي كانتْ في رَمضانَ مِنَ السَّنةِ الثَّانيةِ مِنَ الهِجْرةِ، وفي هذه الغَزْوةِ نصَرَ اللهُ فيها رَسولَه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم والصَّحابةَ على قُرَيشٍ. وإنَّ هذا السَّيفَ كان للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ معَه رُؤْيا في مَنامِه يَومَ أُحُدٍ. وأُحُدٌ: جبَلٌ مَشهُورٌ بالمَدينةِ في شِمالِيِّها الغرْبيِّ، بيْنَه وبيْنَ المدينةِ ثَلاثةُ أمْيالٍ. ثُمَّ أخبَرَ ابنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا جاءَهُ مُشرِكو قُرَيشٍ يَومَأُحُدٍ يَغْزونَه، ويَنتقِمونَ ليَومِ بَدْرٍ، كان رأْيُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَبْقَى بالمَدينةِ، فيُقاتِلَهم فيها، وكان رأْيُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على وَجْهِ الشُّورَى لأصْحابِه رضِيَ اللهُ عنهم، فكان رأْيُ بعْضِ النَّاسِ الَّذينَ لم يَسْبِقْ لهم شُهودُ غَزْوةِ بدْرٍ-وخاصَّةً الشَّبابَ- أنْ يَخرُجَ رَسولُ اللهِصلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالجَيشِ، فيُقاتِلَهم عندَ جبَلِ أُحُدٍ؛ طامِعِينَ أنْ يُصيبوا مِنَ الفَضيلةِ والأجْرِ ما أصابَ أهْلُ بَدْرٍ، وهُمُ الَّذينَ حارَبوا قُرَيشًا حِينئذٍ، ومِن أعظَمِ الثَّوابِ والأجْرِ الَّذي نال أصْحابُ بدْرٍ أنَّ اللهُ قدْ غفَرَ لهم؛ ففي الصَّحيحينِ مِن حَديثِ علِيِّ بنِ أبي طالبٍ رضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال"لعلَّ اللهَ أنْ يكونَ قدِ اطَّلَعَ على أهْلِ بَدْرٍ فقالَ: اعْمَلوا ما شِئتُم؛ فقَدْ غفَرتُ لَكُم". وظَلَّ أصْحابُ المَشورةِ يُرغِّبونَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الخروجِ إلى أُحُدٍ، حتَّى "لبِسَ أداتَهُ" وهي عُدَّةَ الحَرْبِ؛ مِنَ الدِّرْعِ والسِّلاحِ ونَحوِهما، ولكنَّهم بعْدَ ذلكَ ظَنُّوا أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إنَّما تَحرَّكَ على هذا النَّحْوِ تَحرُّجًا منهم، فنَدِموا، وقالوا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"يا رَسولَ اللهِ، أقِمْ؛ فالرَّأْيُ رأْيُكَ"؛ أيِ: ابْقَ في المَدينةِ، وقاتِلْ فيها، ولا تَخرُجْ منها، على النَّحْوِ الَّذي كُنتَ تُريدُ. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"ما يَنْبغي لنَبيٍّ أنْ يَضَعَ أداتَهُ بعْدَ أنْ لبِسَها، حتَّى يَحكُمَ اللهُ بيْنَه وبيْنَ عدُوِّهأي: ليس يَنبغي له إذا عزَمَ أنْ يَنصرِفَ؛ لأنَّه نقْضٌ للتَّوكُّلِ الَّذي شرَطَ اللهُ معَ العَزيمةِ، فلُبْسُه لعُدَّةِ الحرْبِ دالٌّ على العزيمةِ. ثُمَّ أخبَرَ ابنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ مِمَّا قالَهُ لَهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومئذٍ قبْلَ أنْ يَلبَسَ عُدَّةَ الحرْبِ"إنِّي رأَيتُ" في المنامِ، ورُؤْيا الأنبياءِ صِدْقٌ وحَقٌّ كلُّها، "أنِّي في دِرْعٍ حَصينةٍ"؛ أي: أنَّ عُدَّةَ الحرْبِ الَّتي كان يَلْبَسُها قَويَّةٌ ومَنِيعةٌ؛ ففسَّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الدِّرْعَ بالمَدينةِ،"وأنِّي مُردِفٌ كَبْشًاوهو ذكَرُ الغنَمِ، يَسحَبُه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن ورائِه؛ ففسَّرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالكَتيبةِ والجَيشِ الَّذي خرَجَ للقتالِ، "ورأَيتُ أنَّ سَيْفي ذا الفَقارِ فُلَّ"؛أي: كُسِر، ففسَّره النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه للمُنهزِمِينَ مِنَ الجَيشِ، "ورأَيتُ بقَرًا تُذبَحُوقدْ فسَّرَ البقَرَ في الرِّواياتِ بأنَّه قَتْلُ الصَّحابةِ يَومَ أُحُدٍ. وقَولُه: "فبَقَرٌ واللهِ خَيرٌ" قيلَ: إنَّه سَمِعَ هذه الجُملةَ في الرُّؤْيا، وفسَّرَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بقَولِه -كما في الصَّحيحَينِ مِن حَديثِ أبي مُوسى الأشعريِّ"وإذا الخَيرُ ما جاءَ اللهُ به مِن الخَيرِ بَعدُ، وثوابُ الصِّدقِ الَّذي آتانا بعْدَ يَومِ بدْرٍ" والمرادُ: بما بعْدَ بدْرٍ فتْحُ خَيْبرَ ثُمَّ مَكَّةَ، ويَحتمِلُ أنْ يُرادَ بالخَيرِالغَنيمةُ. وقيلَ: هي مِن قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ والمعنى: ما صنَعَ اللهُ تَعالَى بشُهَداءِ أُحُدٍ هو خَيرٌ لهم مِن بَقائِهم في الدُّنْيا.الدرر السنية.

"جَعَلَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى الرَّجَّالَةِ يَومَ أُحُدٍ -وكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلًا- عَبْدَ اللَّهِ بنَ جُبَيْرٍ، فَقالَ: إنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فلا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هذا حتَّى أُرْسِلَ إلَيْكُمْ، وإنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا القَوْمَ وأَوْطَأْنَاهُمْ، فلا تَبْرَحُوا حتَّى أُرْسِلَ إلَيْكُمْ. فَهَزَمُوهُمْ، قالَ: فأنَا -واللَّهِ- رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ قدْ بَدَتْ خَلَاخِلُهُنَّ وأَسْوُقُهُنَّ رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ، فَقالَ أَصْحَابُ عبدِ اللَّهِ بنِ جُبَيْرٍ: الغَنِيمَةَ أَيْ قَوْمِ الغَنِيمَةَ؛ ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ، فَما تَنْتَظِرُونَ؟ فَقالَ عبدُ اللَّهِ بنُ جُبَيْرٍ: أَنَسِيتُمْ ما قالَ لَكُمْ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قالوا: واللَّهِ لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ، فَلَنُصِيبَنَّ مِنَ الغَنِيمَةِ. فَلَمَّا أَتَوْهُمْ صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ، فأقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ، فَذَاكَ إذْ يَدْعُوهُمُ الرَّسُولُ في أُخْرَاهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ مع النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غَيْرُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فأصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ، وكانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَصْحَابُهُ أَصَابُوا مِنَ المُشْرِكِينَ يَومَ بَدْرٍ أَرْبَعِينَ ومِئَةً؛ سَبْعِينَ أَسِيرًا، وسَبْعِينَ قَتِيلًا، فَقالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَفِي القَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَنَهَاهُمُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَنْ يُجِيبُوهُ، ثُمَّ قالَ: أَفِي القَوْمِ ابنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قالَ: أَفِي القَوْمِ ابنُ الخَطَّابِ؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ رَجَعَ إلى أَصْحَابِهِ فَقالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فقَدْ قُتِلُوا، فَما مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ، فَقالَ: كَذَبْتَ واللَّهِ يا عَدُوَّ اللَّهِ؛ إنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لَأَحْيَاءٌ كُلُّهُمْ، وقدْ بَقِيَ لكَ ما يَسُوؤُكَ، قالَ: يَوْمٌ بيَومِ بَدْرٍ، والحَرْبُ سِجَالٌ، إنَّكُمْ سَتَجِدُونَ في القَوْمِ مُثْلَةً، لَمْ آمُرْ بهَا، ولَمْ تَسُؤْنِي، ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَجِزُ: أُعْلُ هُبَلْ، أُعْلُ هُبَلْ، قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أَلَا تُجِيبُوا له؟ قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما نَقُولُ؟ قالَ: قُولوا: اللَّهُ أَعْلَى وأَجَلُّ، قالَ: إنَّ لَنَا العُزَّى ولَا عُزَّى لَكُمْ. فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أَلَا تُجِيبُوا له؟ قالَ: قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما نَقُولُ؟ قالَ: قُولوا: اللَّهُ مَوْلَانَا، ولَا مَوْلَى لَكُمْ."الراوي : البراء بن عازب / صحيح البخاري /الصفحة أو الرقم: 3039.
شرح الحديث : أُحُدٌ جَبَلٌ مِن جِبالِ المَدينةِ، على بُعدِ أربَعةِ كيلومتراتٍ مِنَ المَسجِدِ النَّبويِّ، وقدْ وَقَعتْ عِندَه أحداثُ غَزوةِ أُحُدٍ، وكانت في شوَّالٍ مِنَ السَّنةِ الثَّالِثةِ مِنَ الهِجرةِ، وكانت بيْنَ المُسلِمينَ وقُرَيشٍ. وفي هذا الحَديثِ يَروي البَراءُ بنُ عازِبٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَعَلَ عَبدَ اللهِ بنَ جُبَيرٍ قائدًا على الرَّجَّالةِ قبْلَ بَدْءِ المَعرَكةِ في تِلكَ الغَزوةِ، وكانوا خَمسينَ رَجُلًا، والرَّجَّالةُ: مُفرَدُ راجِلٍ، وهو الذي يُقاتِلُ على رِجلَيْهِ، ويُقصَدُ بهم هُنا الرُّماةُ الذين أمَرَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَقِفوا فَوقَ جَبَلِ عَيْنَيْن، وسُمِّي فيما بعد بجبل الرُّماة وهو جبلٌ صغير يقع بجانب جبل أُحد، وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لهم"إنْ رَأَيتُمونا تَخْطَفُنا الطَّيرُ فلا تَبرَحوا مَكانَكم هذا حتَّى أُرسِلَ إليكم"، والخَطْفُ: استِلابُ الشَّيءِ وأخْذُه بسُرعةٍ، والمُرادُ: إنْ رَأَيتُمونا قُتِلْنا وأكَلَتْ لُحومَنا الطَّيرُ، فلا تَترُكُوا أماكِنَكمْ، ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"وإِنْ رَأَيتُمونا هَزَمْنا القَومَ وأوْطأْناهم، فلا تَبرَحُوا حتَّى أُرسِلَ إليكم"، أي: إنَّكم لو رَأيتُمونا مَشَيْنا عليهم بعْدَ أنْ وَقَعوا قَتْلى على الأرضِ، فلا تَترُكوا أماكِنَكم، وهذا كِنايةٌ عنِ التَّحذيرِ الشَّديدِ في مُخالَفةِ أمْرِه هذا، وما لِمَكانِهم مِنَ الأهمِّيَّةِ البالِغةِ في سَتْرِ ثَغْرةٍ مِنَ الثَّغَراتِ يُمكِنُ لِلعَدُوِّ أنْ يَنفُذَ مِنها. فلَمَّا بَدأتِ المَعرَكةُ هُزِمَ المُشرِكونَ وانتَصَرَ المُسلِمونَ، حتَّى إنَّ البَراءَ بنَ عازِبٍ رَضيَ اللهُ عنه يقولُ"فأنا واللهِ رَأيتُ النِّساءَ يَشْتَدِدْنَ قدْ بَدَتْ خَلاخِلُهُنَّ وأسوُقُهُنَّ رافِعاتٍ ثيابَهُنَّ"، ويَقصِدُ نِساءَ الكُفَّارِ، و"يَشْتَدِدْنَ" يُسرِعْنَ في المَشيِ والعَدْوِ، حتَّى إنَّهُنَّ مِن شِدَّةِ سُرعَتِهِنَّ ظَهَرَ حُلِيُّ أرجُلِهِنَّ، وسِيقانُهُنَّ؛ لِرَفعِهِنَّ الثِّيابَ. ثمَّ إنَّ أصحابَ عَبدِ اللهِ بنِ جُبَيرٍ رَضيَ اللهُ عنه -وهُمُ الرَّجَّالةُ الذين حَذَّرَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ألَّا يُغادِروا مَكانَهمُ الذي ألْزَمَهمْ بهِ- قدِ انتَبهُوا لِغَنائمِ جَيشِ المشركينَ المُنهَزِمِ، يُريدونَ أنْ يَأخُذوها ويَضُمُّوها، فذَكَّرَهم عَبدُ اللهِ بنُ جُبَيرٍ رَضيَ اللهُ عنه بكَلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتَحذيرِه إيَّاهُم مِن مُغادَرةِ المَكانِ الذي وَضَعَهم فيه، فأصَرُّوا أنْ يُصيبوا مِنَ الغَنيمةِ ويَتْرُكوا مَكانَهم، فلَمَّا أتَوْا إلى ما تَوَجَّهوا إليه -وهي الغَنيمةُ- صُرِفتْ وُجوهُهم، أي: تَحَيَّروا، فلمْ يَدْروا أينَ يَتوَجَّهونَ، وذلكَ عُقوبةٌ لِعِصيانِهم قَولَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأقبَلوا حالَ كونِهم مُنهَزِمينَ؛ فَنادَى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في جَماعَتِهمُ المُتأخِّرةِ، أنْ يَرجِعوا ويَضُمُّوا إليه، فلم يَبْقَ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غَيرُ اثنَيْ عَشَرَ رَجلًا، وقيلَ: أربَعةَ عَشَرَ، ثَبَتَ معه مِنَ المُهاجِرينَ: أبو بَكرٍ، وعُمَرُ، وعلِيٌّ، وعَبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ، وسَعدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ، وطَلحةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ، والزُّبَيرُ بنُ العَوَّامِ، وأبو عُبَيدةَ بنُ الجَرَّاحِ، رَضيَ اللهُ تعالَى عنهم، ومِنَ الأنصارِ: الحُبابُ بنُ المُنذِرِ، وأبو دُجانةَ، وعاصِمُ بنُ ثابِتِ بنِ أبي الأفلَحِ، والحارِثُ بنُ الصِّمَّةِ، وأُسَيدُ بنُ حُضَيرٍ، وسَعدُ بنُ مُعاذٍ، وقيلَ: وسَهلُ بنُ حُنَيفٍ. فقَتَلَ المُشرِكونَ مِنَ المُسلِمينَ على إثرِ تلك الفَعلةِ سَبعينَ رَجُلًا، منهم حَمزةُ بنُ عَبدِ المُطَّلِبِ، عَمُّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قَتَلَه وَحْشيٌّ غُلامُ جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ. وكانَ المُسلِمونَ أصابوا مِنَ المُشرِكينَ في غَزوةِ بَدرٍ أربَعينَ ومِئةً؛ سَبعينَ أسيرًا، وسَبعينَ قَتيلًا. وبعْدَ انتِهاءِ المَعرَكةِ قال أبو سُفيانَ -وكانَ آنَذاكَ مُشرِكًا- يُنادِي ويَسأَلُ: أفي القَومِ مُحمَّدٌ؟ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فنَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصحابَه أنْ يُجيبوه، ثمَّ نادى أبو سُفيانَ وسَأَلَ: أفي القَومِ ابنُ أبي قُحافةَ؟ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ويَقصِدُ أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، ثمَّ نادى أبو سُفيانَ وسَأَل: أفي القَومِ ابنُ الخَطَّابِ؟ ويَقصِدُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه، فرَجَعَ أبو سُفيانَ إلى أصحابِه، فقال: أمَّا هؤلاءِ فقدْ قُتِلوا، يَقصِدُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وصاحِباه رَضيَ اللهُ عنهما، فما مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَه، فقال: كَذَبتَ واللهِ يا عَدُوَّ اللهِ، إنَّ الذين عَدَدتَ أحياءٌ كُلُّهم، وقد بَقيَ لكَ ما يَسوؤُكَ، وكانت إجابَتُه بعْدَ نَهْيِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِمايةً لِلظَّنِّ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه قُتِلَ، وأنَّ بأصحابِه الوَهَنَ. وليس فيه عِصيانٌ لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الحَقيقةِ؛ فهو ممَّا يُؤجَرُ به، وقدْ أمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعْدَ ذلك بالرَّدِّ على أبي سُفيانَ، فكأنَّه أقَرَّ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه على جَوابِه لَمَّا رَأى المَصلَحةَ في ذلك. فرَدَّ أبو سُفيانَ: يَومٌ بيَومِ بَدرٍ، والحَربُ سِجالٌ، أي: يَومٌ في مُقابَلةِ يَومِ بَدرٍ، والحَربُ دُوَلٌ؛ تَكونُ مَرَّةً لِهؤلاء، ومَرَّةً لِهؤلاء، ثمَّ قال أبو سُفيانَ: إنَّكمْ ستَجِدونَ في القَومِ مُثْلةً -والمُثْلةُ: قَطعُ الأُنوفِ وبَقْرُ البُطونِ، ونَحوُ ذلك لِلقَتْلى- ثمَّ نَوَّهَ أنَّ تِلكَ المُثْلةَ لم يَأمُرْ بها؛ لِأنَّها تُعَدُّ نَقيصةً في أدبِيَّاتِ الحُروبِ، ومع ذلك يُشيرُ أبو سُفيانَ إلى أنَّهُ لم تَسُؤْهُ تلك المُثْلةُ، فلم يَكرَهْ ما فُعِلَ بالمُسلِمينَ مِن تَمثيلٍ بالقَتْلى، وقدْ رَضيَ أبو سُفيانَ بتلك المُثلةِ في حَقِّ المُسلِمينَ، باعتِبارِ أنَّهم أعداءٌ له، ثمَّ أخَذَ أبو سُفيانَ يَرتَجِزُ، -والرَّجَزُ: نَوعٌ مِن أوزانِ الشِّعرِ- ويَقولُ"اعْلُ هُبَلْ، اعْلُ هُبَلْ". و"هُبَلٌ" اسمُ صَنَمٍ كانَ في الكَعبةِ يَعبُدونَه مِن دُونِ اللهِ، والمُرادُ: اعْلُ حتَّى تَصيرَ كالجَبَلِ العالي، فلمَّا سمِعَ النَّبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلكَ، أمَرَ أصحابَه أنْ يُجيبوا أبا سُفيانَ بقَولِهم"اللهُ أعلى وأجَلُّ"، وأمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بإجابَتِه؛ لأنَّه بُعِثَ بإعلاءِ كَلِمةِ اللهِ تعالَى وإظهارِ دِينِه، فلَمَّا تَكلَّمَ أبو سُفيانَ بهذا الكَلامِ لم يَسَعِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ السُّكوتُ عنه حتَّى تَعلُوَ كَلِمةُ اللهِ، ثمَّ عَرَّفَهم في جَوابِه أنَّهم يُقِرُّونَ بأنَّ اللهَ أعلى وأجَلُّ مِن كُلِّ هذه الأصنامِ التي يَعبُدُها المشرِكون. فقال أبو سُفيانَ: "إنَّ لنا العُزَّى، ولا عُزَّى لكم"، والعُزَّى: اسمُ صَنَمٍ كانَ لِقُرَيشٍ، وقيلَ: هي شَجَرةٌ لِغَطَفانَ كانوا يَعبُدونَها. وفيه كِنايةٌ عن أنَّ لِلمُشرِكينَ إلهَ العِزَّةِ الذي يُعِزُّهم، بيْنَما المُسلِمونَ لا إلهَ لهم يُضاهِيه، فلا عِزَّةَ لهم، فأمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُجيبوا أبا سُفيانَ بقَولِهم"اللهُ مَوْلانا، ولا مَوْلى لكم"، أي: إنَّ اللهَ هُوَ الوَليُّ، يَتوَلَّى المُؤمِنينَ بالنَّصرِ والإعانةِ، ويَخذُلُ الكافِرينَ، وأنَّ الأصنامَ لا مُوالاةَ لها، ولا نَصرَ، فبَكَّتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلكَ، ولم يُراجِعْه، وإنَّما تَرَكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُجاوَبَتَه بنَفْسِه؛ تَهاوُنًا به بأنْ يكونَ خَصْمًا له، وأمَرَ مَن يَنوبُ عنه؛ تَنَزُّهًا عنه. وفي الحَديثِ: بَيانُ عاقِبةِ مُخالَفةِ أوامِرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حيث تُسبِّبُ لِلإنسانِ الهَزيمةَ والخُسرانَ. وفيه: بَيانُ أنَّ المُسلِمَ إذا عَصَى اللهَ ورَسولَه فقدِ استَوَى مِن جِهةٍ مع غَيرِ المُسلِمِ، فإذا كان نِزالٌ بيْنَهما فالغَلَبةُ لِمَن أخَذَ بأسبابِ الدُّنيا مِن كَثرةِ العَددِ والسِّلاحِ والعَتادِ. وفيه: الأخْذُ بأسبابِ النَّصرِ وبالأسبابِ الدُّنيويَّةِ، مع التَّوكُّلِ على اللهِ. وفيه: أنَّه يَجِبُ على الجُندِ طاعةُ القائِدِ فيما يَأمُرُهم به؛ لِأنَّ مُخالَفةَ أوامِرِه مِن أعظَمِ أسبابِ الهَزيمةِ. وفيه: بَيانُ مَنزِلةِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وخُصوصيَّتِهما به.الدرر السنية.
"إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ " 122.
قال جابر بن عبد الله: نَزَلَتْ هذِه الآيَةُ فِينَا"إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا"آل عمران: 122. بَنِي سَلِمَةَ، وبَنِي حَارِثَةَ، وما أُحِبُّ أنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ، واللَّهُ يقولُ"وَاللَّهُ ولِيُّهُمَا".الراوي : جابر بن عبد الله - المحدث : البخاري - المصدر : صحيح البخاري -الصفحة أو الرقم: 4051 .
الشرح: مَدَح اللهُ عزَّ وجلَّ الأنْصارَ في غيرِ مَوضِعٍ مِن كِتابِه العَزيزِ؛ لِمَا قاموا به مِن واجبِ النُّصْرةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ جابِرُ بنُ عَبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ قولَ اللهِ تعالَى"إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا"آل عمران: 122، قدْ نزَل في قومِه بَني سَلِمةَ، وهُم منَ الخَزرَجِ، وفي أقارِبِهم بَني حارِثةَ، وهُم منَ الأَوْسِ، وهذا كان في غَزْوةِ أُحُدٍ في العامِ الثَّالثِ مِن الهِجْرةِ، لَمَّا رجَع عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلولَ -وكان رأسَ المُنافِقينَ بالمَدينةِ- وأصْحابُه يَومَ أُحُدٍ، همَّتِ الطَّائِفتانِ أنْ يَتجنَّبا ويَتَخلَّفا عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويَذْهَبا معَ عَبدِ اللهِ بنِ أُبَيٍّ، ولكنَّ اللهَ عصَمَهُما فلم يَنصَرِفوا، ومَضَوْا معَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فذكَّرَهمُ اللهُ تعالَى نِعْمتَه بعِصْمتِه لهم منَ الوُقوعِ في هذه المُخالَفةِ.
وذكَر جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ هذه الآيةَ، وإنْ كان في ظاهِرِها غَضٌّ منهم، لكِنْ في آخِرِها غايةُ الشَّرفِ لهم؛ فاللهُ تعالَى يقولُ: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا:- أي متولي أمورهما لصدق إيمانهما و لأنَّ ذلك كانَ مِن وَسْوَسةِ الشَّيْطانِ مِن غَيرِ وَهْنٍ منهما، لذلك صرف الفشل عنهما وثبتهما فلم يجيبا داعي الضعف الذي ألمّ بهما عند رجوع المنافقين - فحصَلَ لهم مِن الشَّرفِ بثَناءِ اللهِ عليهم، وإنْزالِه فيهم آيةً ناطِقةً بصحَّةِ الوِلايةِ، وأنَّ ذلك الهَمَّ غيرُ المأخوذِ به؛ لأنَّهُ لم يَكُنْ عن عَزمٍ وتَصْميمٍ.
وفي الحَديثِ: بَيانُ فَضْلِ الأنْصارِ ومَكانَتِهم.
وفيه: أنَّ الصِّدقَ معَ اللهِ عزَّ وجلَّ عاصمٌ مِن الزَّلَلِ في أوْقاتِ الفِتَنِ.الدرر السنية.بتصرف يسير.
ختم - سبحانه - الآية بدعوة المؤمنين إلى التوكل عليه وحده فقال : وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون : التوكل هو اعتماد القلب على الله في جلب المنافع ودفع المضار بعد الأخذ بالأسباب التى شرعها الله - تعالى ، مع الثقة بالله، وأنه بحسب إيمان العبد يكون توكله، أي إن المؤمنين ينبغي أن يدفعوا ما يعرض لهم من جزع أو مكروه بالتوكل على الله لا بحولهم وقوتهم ولا بأنصارهم وأعوانهم، بعد أخذ الأهبة والعدّة تحقيقًا لسنن الله في خلقه إذ جعل الأسباب مفضية إلى المسببات وهو الخالق للسبب والمسبب والموجد للصلة بينها.
والمؤمنون أولى بالتوكل على الله من غيرهم، وخصوصًا في مواطن الشدة والقتال، فإنهم مضطرون إلى التوكل والاستعانة بربهم والاستنصار له، والتبري من حولهم وقوتهم، والاعتماد على حول الله وقوته، فبذلك ينصرهم ويدفع عنهم البلايا والمحن.
ثم ذكرهم - سبحانه - بفضله عليهم وتأييده لهم يوم غزوة بدر فقال – تعالى:
"وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" 123.
بِبَدْرٍ : اسم لماء بين مكة والمدينة ، التقى عنده المسلمون والمشركون من قريش فى السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة ، وكان عدد المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، وكان عدد المشركين قريبا من ألف رجل ، ومع ذلك كان النصر حليفًا للمسلمين.
وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ : ليس المراد بكونهم أذلة أنهم كانوا أضعاف النفوس . أو كانوا راضين بالهوان . وإنما المراد أنهم كانوا قليلي العَدَدِ والعُدَدِ ، فقراء في الأموال وفي وسائل القتال .
وفى هذا التذكير لهم بما حدث فى غزوة بدر ، تنبيه لهم إلى وجوب تفويض أمورهم إلى خالقهم وحسن التوكل عليه سبحانه ، وإلى أن القلة المؤمنة التقية الصابرة بمشيئة الله تنتصر على الكثرة الفاسقة الظالمة ، ولذا فقد ختم - سبحانه - بقوله " فاتقوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " أي فاتقوا الله ربكم بطاعته واجتناب محارمه، لعلكم بذلك تكونون قد قمتم بواجب شكر ما منّ به عليكم من النصر على أعدائكم وإظهار دينكم، ولما هداكم له من الحق الذي ضل عنه مخالفوكم وما أنعم به عليكم من نِعَم لا تُحصى .
لطيفة: بعد ابتلاء المؤمنين في أُحد أمرهم الله بشكره على النصر في بدر وتَذَكُر نعمة الله عليهم فيها.فالابتلاء الحاضر لا يعفي العبد من شكر النعمة الماضية.وأنت مريض احمد الله على سنوات العافية،
وأنت فقير احمد الله على سنوات الغنى الفائتة ،وأنت متعب احمد الله على أوقات الراحة ،وأنت غريب احمد الله على ذكريات الاجتماع والأهل.
وبعضهم تحصل له النعمة فلا يشكرها لأنه يخاف أن تزول في المستقبل والدنيا كلها زائلة لكن لا يعذر العبد بشكر النعم.
"إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ"124. "بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ"125.
مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا : .أي ويجئكم المشركون من ساعتهم هذه، أي يأتوكم من الجهة التي جاءوكم منها في وقت مبادر، لأن الفور معناه المبادرة بالشيء، فالمعنى أنهم إذا باغتوكم وأتوكم من فورهم. فإنه يمددكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، فالشروط إذا ثلاثة، الصبر، الثاني: التقوى، والثالث: أن يأتوهم من فورهم هذا، فإن الله يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة ليسوا منزلين فقط بل مسومين، أي معلمين علم الجهاد وعلم القتال، وهذا أبلغ من مجرد الإنزال، فالله سبحانه وتعالى تكفل بالزيادة وهذا يعود إلى الكمية، وتكفل بالقوة والشجاعة وهذا يعود إلى الكيفية .
.أصل الفور القصد إلى الشيء والأخذ فيه بجد وسرعة . وفعله من فوره أي قبل أن يسكن
مُسَوِّمِينَ : أي مُعلَّمين بعلامات يعرفون بها.
قال ابن كثير : اختلف المفسرون فى هذا الوعد هل كان يوم بدر أو يوم أحد على قولين.
قال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة، ثم وعدهم بعد الثلاثة. الآلاف بخمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا، ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف، ولا بالخمسة الآلاف، ولا على أنهم لم يمدوا بهم، وقد يجوز أن يكون الله أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أن الله أمدهم، وقد يجوز أن يكون الله لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك، ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف، ولا بالخمسة الآلاف، وغير جائز أن يقال في ذلك قول إلا بخبر تقوم الحجة به، ولا خبر فنسلم لأحد الفريقين قوله: غير أن في القرآن دلالة على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة، وذلك قوله" إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ " الأنفال: 9، أما في أُحُدٍ فالدلالة على أنهم لم يُمَدّوا أبيَن منها في أنهم أُمِدّوا، وذلك أنهم لو أُمدوا لم يهزموا ويُنَلْ منهم ما نِيل اهـ.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله:
اختلف الأئمةُ في هذا المعنى، وجهه أنه سبحانه قال: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ، ثم قال بعدها: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ .آل عمران:123؛ ولهذا اختلف العلماءُ في قوله: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ .آل عمران:124، بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا .آل عمران:125، إلى آخرها، هل هذان المددان لأُحُدٍ أو لِبَدرٍ؟ والأقرب أنه لأُحدٍ؛ لأنَّ السياق في أُحدٍ، وذِكْر بدرٍ عارضٌ، والسياق في أُحُدٍ، غدوّهم كان لِأُحُدٍ؛ لذكر نصر الله لهم في بدرٍ، يُبين سبحانه أنه هو الناصر لأوليائه، وعنده النصر ، كما فعل يوم بدرٍ مع قلَّتهم وذلَّتهم، وكثرة عدوهم وقوته؛ نصرهم وأيَّدهم بألفٍ من الملائكة مُردفين.
وذكر أنَّ الرسول قال لأصحابه: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ، ثم قال: بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا، فهذا قاله لهم والله أعلم لأنَّ السياق يقتضيه، هذا يوم أُحدٍ، فلم يصبروا، وحصل ما حصل من الخلل بالموقف، فلم يُمَدُّوا بالخمسةِ، وأما الثَّلاثة فالأقرب والله أعلم أنهم أمدّوا بالثلاثة، وانهزم المشركون؛ ولهذا طمع الرُّماةُ أن يكون الأمرُ قد انتهى، طمعوا بحيازة الغنيمة، وتركوا الموقف؛ لأنَّهم اعتقدوا أنَّ المشركين انتهوا وانهزموا، فليس هناك حاجةٌ إلى أن يبقوا في الجبل الذي أمرهم النبيُّ بلزومه، فلما حصل ما حصل لم يمدّوا بالخمسة بسبب عدم الصبر وعدم التَّقوى في موقفهم، فجرت الهزيمةُ، لم يحصل الشرطُ فلم يحصل الإمدادُ بالخمسة.هنا .
وقال الشيخ العثيمين: وهذا القول أصح وأقرب أن يكون المراد بذلك غزوة أحد، وأنه لم يحصل الإمداد، لأن الإمداد كان مشروطا بشرط لم يتحقق، https://alathar.net/home/esound/inde...evi&coid=94225

يُخبِرُ سَعدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه رَأى في غَزْوةِ أُحُدٍ"رَأَيْتُ عن يَمِينِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَعَنْ شِمَالِهِ يَومَ أُحُدٍ رَجُلَيْنِ عليهما ثِيَابُ بَيَاضٍ، ما رَأَيْتُهُما قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، يَعْنِي جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عليهما السَّلَامُ."الراوي : سعد بن أبي وقاص - صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم : 2306.
"لَمَّا كانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ إلى المُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ القِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ برَبِّهِ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لي ما وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ ما وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إنْ تُهْلِكْ هذِه العِصَابَةَ مِن أَهْلِ الإسْلَامِ لا تُعْبَدْ في الأرْضِ، فَما زَالَ يَهْتِفُ برَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، حتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عن مَنْكِبَيْهِ، فأتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فأخَذَ رِدَاءَهُ، فألْقَاهُ علَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ التَزَمَهُ مِن وَرَائِهِ، وَقالَ: يا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ؛ فإنَّه سَيُنْجِزُ لكَ ما وَعَدَكَ، فأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ"الأنفال: 9، فأمَدَّهُ اللَّهُ بالمَلَائِكَةِ. قالَ أَبُو زُمَيْلٍ: فَحدَّثَني ابنُ عَبَّاسٍ قالَ: بيْنَما رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يَومَئذٍ يَشْتَدُّ في أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ المُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بالسَّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتَ الفَارِسِ يقولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، فَنَظَرَ إلى المُشْرِكِ أَمَامَهُ، فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إلَيْهِ فَإِذَا هو قدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ، كَضَرْبَةِ السَّوْطِ، فَاخْضَرَّ ذلكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الأنْصَارِيُّ، فَحَدَّثَ بذلكَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقالَ: صَدَقْتَ؛ ذلكَ مِن مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَقَتَلُوا يَومَئذٍ سَبْعِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ......."الراوي : عمر بن الخطاب - صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم :1763.
"وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ"126.
أي : وما أنزل الله الملائكة وأعلمكم بإنزالها إلا بشارة لكم وتطييبا لقلوبكم وتطمينا ، وإلا فإنما النصر من عند الله ، الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم ، ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم ، كما قال تعالى بعد أمره المؤمنين بالقتال "......وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ" محمد : 4.
فلا تعتمدوا على ما معكم من الأسباب، بل الأسباب فيها طمأنينة لقلوبكم، وأما النصر الحقيقي الذي لا معارض له، فهو مشيئة الله لنصر من يشاء من عباده، فإنه إن شاء نصر من معه الأسباب كما هي سنته في خلقه، وإن شاء نصر المستضعفين الأذلين ليبين لعباده أن الأمر كله بيديه، ومرجع الأمور إليه ولهذا قال " الْعَزِيزِ " فلا يمتنع عليه مخلوق، بل الخلق كلهم أذلاء مدبرون تحت تدبيره وقهره ، وهو الغالبُ على أمْره.
الْحَكِيمِ: يَضَع الأشياء مَواضِعها فيتصرَّف في عبادِه بحِكمتِه، ومن ذلك أنَّه يَنصُر أولياءَه كما في بَدْر، أو يُقدِّر هزيمتَهم، كما وقَع في أحدٍ .
قال تعالى بعدَ أمْرِه المؤمنين بالقتال"ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ" محمد: 4.

"لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ " 127.
لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا: أي:بالقتل، فمِن أسبابِ نَصْر اللهِ تعالى لعباده إهلاكُ بعض الكفَّار كاستئصالِ صناديدِهم، وأسْر بعضِهم، وقتْل آخرين، كما وقَع يومَ بَدْر، وغير ذلك.
، يَكْبِتَهُمْ: يحزنهم . فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ: الخائب : المنقطع الأمل.
يخبر تعالى أن نصره عباده المؤمنين لأَحَدِ أمرينِ: إما أن يقطع طرفا من الذين كفروا، أي: جانبًا منهم وركنًا من أركانهم، إما بقتل، أو أسر، أو استيلاء على بلد، أو غنيمة مال، فيقوَى بذلك المؤمنونَ ويُذَل الكافرون، وذلك لأن مقاومتهم ومحاربتهم للإسلام تتألف من أشخاصهم وسلاحهم وأموالهم وأرضهم فبهذه الأمور تحصل منهم المقاومة والمقاتلة فقطع شيء من ذلك ذهاب لبعض قوتهم، الأمر الثاني أن يريد الكفار بقوتهم وكثرتهم، طمعًا في المسلمين، ويُمَنُوا أنفسَهُم ذلك، ويحرصوا عليه غاية الحرص، ويبذلوا قواهم وأموالهم في ذلك، فينصر الله المؤمنين عليهم ويردهم خائبين لم ينالوا مقصودهم، بل يرجعون بخسارة وغم وحسرة.
"لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ "128.
يُخبِرُ أنَسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه "أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَومَ أُحُدٍ، وَشُجَّ في رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عنْه، ويقولُ: كيفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهو يَدْعُوهُمْ إلى اللهِ؟! فأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ"لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ"آل عمران: 128.الراوي : أنس بن مالك - صحيح مسلم.
قدْ ورَدَ في الصَّحيحينِ سَببٌ آخَرُ في نُزولِ هذه الآيةِ؛ فعن ابنِ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنهما، أنَّه سَمِع رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا رَفَع رَأْسَه مِن الرُّكوعِ مِن الرَّكعةِ الآخرةِ مِن الفجرِ يقولُ"اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلانًا وفُلانًا وفُلانًا" بعْدَ ما يقولُ"سَمِع اللهُ لمَن حَمِده، ربَّنا ولكَ الحمدُ"، فأنزَلَ اللهُ"لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ" إلى قولِه"فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ"آل عمران: 128.
وفيه: أنَّ الأمرَ كلَّه للهِ سُبحانه وتَعالَى يَفعَلُ ما يَشاءُ، وليْس للعبدِ إلَّا القيامُ بما أُمِر به، لا المنازعةُ في حُكمِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
لما نزلت هذه الآية علم صلى الله عليه وسلم أن من هؤلاء من سيسلم وقد آمن كثير منهم مثل خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم .
" وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " 129.
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ : ولما أخبر رسولَه صلى الله عليه وسلم أنه ليس له من الأمر شيء قرر مَنْ الأمر له فقال " وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ " من الملائكة والإنس والجن والحيوانات والأفلاك والجمادات كلها، وجميع ما في السماوات والأرض، الكل ملك لله مخلوقون مدبرون متصرف فيهم تصرف المماليك، فليس لهم مثقال ذرة من المُلك، وإذا كانوا كذلك فهم دائرون بين مغفرته وتعذيبه " يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ " فيغفر لمن يشاء بأن يهديه للإسلام فيغفر شركه ويمُن عليه بترك العصيان فيغفر له ذنبه، " وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ" بأن يكله إلى نفسه الجاهلة الظالمة المقتضية لعمل الشر فيعمل الشر ويعذبه على ذلك، ثم ختم الآية باسمين كريمين دالين على سعة رحمته وعموم مغفرته وسعة إحسانه وعميم إحسانه، فقال " وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"ففيها أعظم بشارة بأن رحمته غلبت غضبه، ومغفرته غلبت مؤاخذته، فالآية فيها الإخبار عن حالة الخلق وأن منهم من يغفر الله له ومنهم من يعذبه، فلم يختمها باسمين أحدهما دال على الرحمة، والثاني دال على النقمة، بل ختمها باسمين كليهما يدل على الرحمة، فله تعالى رحمة وإحسان سيرحم بها عباده لا تخطر ببال بشر، ولا يدرك لها وصف، فنسأله تعالى أن يتغمدنا ويدخلنا برحمته في عباده الصالحين.آمين . تفسير الشيخ السعدي.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"130.
خُص الربا من بين سائر المعاصي ؛ لأنه الذي أذن الله فيه بالحرب في قوله " فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" البقرة : 279 . والحرب يؤذن بالقتل ، فكأنه يقول : إن لم تتقوا الربا هُزِمْتُم وقُتِلْتُم . فأمرهم بترك الربا ؛ لأنه كان معمولا به عندهم . والله أعلم. التفسير الوسيط.
أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً : تنبيه على شدة شناعته بكثرته، وتنبيه لحكمة تحريمه، وأن تحريم الربا حكمته أن الله منع منه لما فيه من الظلم.ومعناه : الربا الذي كانت العرب تُضَعِّف فيه الدَّين ، فكان الطالب يقول : أتقضي أم تُرْبِي ؟ و " مُّضَاعَفَةً " إشارة إلى تكرار التضعيف عامًا بعد عامٍ كما كانوا يصنعون ؛ فدلت هذه العبارة المؤكِدَة على شنعة فعلهم وقبحه ، ولذلك ذكرت حالة التضعيف خاصة . قوله تعالى" وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " أي اتقوا الله في أموال الربا فلا تأكلوها . ويأمُرهم بتقواه سبحانه؛ رجاءَ أن يكونَ جزاؤهم الفلاح.

"وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ" 131.
أي اتقوا النار بترك ما يوجب دخولها، من الكفر والمعاصي، على اختلاف درجاتها، فإن المعاصي كلها- وخصوصًا الكبائر - تجر إلى الكفر، بل هي من خصال الكفر الذي أعد الله النار لأهله، فترك المعاصي ينجي من النار، ويقي من سخط الجبار، وأفعال الخير والطاعة توجب رضا الرحمن، ودخول الجنان، وحصول الرحمة.
فإنَّ التقوى وقايةٌ لكم من النَّار، التي هُيِّئَت مُسْبقًا لكلِّ مَن كفَر بالله العظيم .
"وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ"132.
أي: اعمَلوا- أيُّها المؤمنون- بما أمَركم اللهُ تعالى به ورسولُه، وانتَهُوا عمَّا نَهاكم الله ورسولُه عنه من أكلِ الرِّبا وغيرِه من المُحرَّمات؛ لتُرحَموا في الدُّنيا والآخِرة.