الأربعاء، 8 يناير 2025

04- تفسير سورة آل عمران

 

تفسير سورة آل عمران
من آية 133إلى آية 152

"وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ"133.
لمَّا بيَّن تعالى أنَّ أهل الجنَّة هم المتَّقون، أَعقَب ذلك بذِكْر قيام هؤلاء المتَّقِين بالمبادرة بأعمالٍ صالحة جليلة تؤهلهم لنَيل هذا الفضل العظيم ، فأمرهم - سبحانه - بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة التى توصلهم إلى مغفرة اللهِ ورضوانِهِ وإدراك جنته التي عرضها السماوات والأرض، فكيف بطولها ، ولقد عظم - سبحانه - بذلك شأن هذه المغفرة التي ينبغي طلبها بإسراع ومبادرة ، بأن جاء بها منكرة ، وبأن وصفها بأنها كائنة منه - سبحانه - هو الذي خلق الخلق بقدرته ، ورباهم برعايته .عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ: قال الزهري : إنما وصف عرضها فأما طولها فلا يعلمه إلا الله ، وهذا على التمثيل لا أنها كالسماوات والأرض لا غير.ا.هـ. فالأصل أن ما اتسع عرضه لم يضق ، وما ضاق عرضه دق ، فجعل العرض كناية عن السعة.
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ:أي هيئت للمتقين الذين صانوا أنفسهم عن محارم الله ، وجعلوا بينهم وبينها وقاية وساترًا ، وخافوا مقام ربهم ونهوا أنفسهم عن الهوى.
"الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"134.
ثم وصف المتقين وأعمالهم، فقال : الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ: أي: في حال عسرهم ويسرهم، إن أيسروا أكثروا من النفقة، وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئًا ولو قل. أي: إنَّ من صِفات المتَّقِين، أنَّهم يَتصدَّقون باستمرارٍ، وفي جميع الأحوال، سواء كانوا في حال سُرورٍ- بتوفُّر المال ورَغَد العيش؛ فلا يُلْهيهم ذلك عن مساعدة الآخرين- أو أصابَهم الضرُّ وضيقُ العيش؛ لقِلَّة ذاتِ اليد، فلا يَصرِفهم ذلك أيضًا عن مواصلةِ العطاء .فأصبحَ الإنفاقُ سَجِيَّةً دائمةً لهم، لا يَشغَلهم عنه أيُّ حالٍ أصابهم، ولا يَنشأ ذلك إلَّا عن نَفْس طاهرة.
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ: أي: إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم -وهو امتلاء قلوبهم من الحنق، الموجب للانتقام بالقول والفعل-، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم.
قال صلى الله عليه وسلم"مَن كَظَمَ غيظًا وهو قادرٌ على أن يَنْفِذَه دعاه اللهُ عزَّ وجلَّ على رؤوسِ الخلائقِ يومَ القيامةِ حتى يُخَيِّرُه اللهُ مِن الحُورِ ما شاءَ".الراوي : معاذ بن أنس - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح أبي داود - الصفحة أو الرقم: 4777 - خلاصة حكم المحدث : حسن.
أَيْ: احتملَ الغضبَ في نفسِه وأمسَك عليه ولَم يُخرِجْه، وهو قادِرٌ على أن يَنتَصِر لنفسِه، وإمضاءِ غضبِه. دعاه اللهُ عزَّ وجلَّ على رؤوسِ الخلائقِ يومَ القيامةِ: أيْ: تباهَى اللهُ به يومَ القيامةِ، وشهَرَه بيْن النَّاسِ بأنَّه صاحِبُ هذه الخَصْلَةِ العظيمةِ؛ وذلك لأنَّه قهَر النفسَ الأمَّارةَ بالسُّوءِ، وتغلَّب عليها، وتجرَّع مرارَةَ الصَّبرِ في ذاتِ الله.
حتى يُخَيِّرُه اللهُ مِن الحُورِ ما شاءَ : أي: حتَّى يُدْخِلَه الجَنَّة، ويَأخُذَ ما أَعْجبَه مِن نِساءِ أهلِ الجَنَّةِ، وفي هذا مِن الرِّفْعة والمَكانَة ما لا يعلمُه إلا اللهُ.
*الكاظم غيظه يخير من الحور، فماذا للمرأة؟
الجواب : الأصل في أجور الأعمال الصالحة أن تكون للنساء كما هي للرجال.عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِرواه أبو داود :236، والترمذي :113، وصححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" 6 / 860.
قال الله تعالى" وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا" النساء/124.
ويستثنى من هذا : الجزاء المختص بالرجال دون النساء، فمن المعلوم أن الحور العين هي جزاء للرجال في الجنة لا للنساء، لكن المرأة تنال أصل هذا الجزاء وهو الوعد بالجنة؛ لأن الله تعالى إذا خير عبدًا في أي الحور شاء، فلازم هذا أن يدخل الجنة التي هي دار التمتع بالحور العين. فالمرأة التي تكظم غيظها وهي قادرة على إنفاذه ، موعودة بدخول الجنة ، ولها من الثواب الجزيل ما يشاؤه الله عز وجل لها .*الإسلام سؤال وجواب.
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ: يدخل في العفو عن الناس، العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم، لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحسانا إليهم، وكراهة لحصول الشر عليهم، وليعفو الله عنه، ويكون أجره على ربه الكريم، لا على العبد الفقير، كما قال تعالى "فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ"الشورى :40.
ثم ذكر حالة أعم من غيرها، وأحسن وأعلى وأجل، وهي الإحسان، فقال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ :والإحسان نوعان:
-الإحسان في عبادة الخالق. والإحسان إلى المخلوق، فالإحسان في عبادة الخالق. فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: قالَ في حديث جبريل الطويل : ما الإحْسَانُ؟ قالَ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ "صحيح البخاري.
-الإحسان إلى المخلوق، فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم، ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم، فيدخل في ذلك أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليم جاهلهم، ووعظ غافلهم، والنصيحة لعامتهم وخاصتهم، والسعي في جمع كلمتهم، وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة إليهم، على اختلاف أحوالهم وتباين أوصافهم، فيدخل في ذلك بذل الندى وكف الأذى، واحتمال الأذى، كما وصف الله به المتقين في هذه الآيات، فمن قام بهذه الأمور، فقد قام بحق الله وحق عبيده.
فالندى هو الكرم والجود. يعني أن تبذل الكرم والجود، والكرم ليس كما يظنه بعض الناس هو أن تبذل المال.- بل الكرم يكون في بذل النفس، وفي بذل الجاه، وفي بذل المال.- إذا رأينا شخصًا يقضي حوائج الناس يساعدهم يتوجه في شئونهم إلى من لا يستطيعون الوصول إليه، ينشر علمه بين الناس، يبذل ماله بين الناس، فإنا نصفه بحسن الخلق؛ لأنه بذل الندى.كتاب العلم للعثيمين .
"وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ"135.
والمعنى : سارعوا أيها المؤمنون إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدها خالقكم - عز وجل - للمتقين الذين من صفاتهم أنهم ينفقون أموالهم فى السراء والضراء ، ويكظمون غيظهم ، ويعفون عن الناس ، وأنهم إذا فعلوا فعلة فاحشة متناهية فى القبح ، أو ظلموا أنفسهم ، بارتكاب أي نوع من أنواع الذنوب " ذَكَرُوا اللَّهَ " أي تذكروا حقه العظيم ، وعذابه الشديد ، وحسابه العسير للظالمين يوم القيامة "فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ " أي طلبوا منه - سبحانه - المغفرة لذنوبهم التى ارتكبوها ، وتابوا إليه توبة صادقة نصوحًا .
قال الفخر الرازى : واعلم أن وجه النظم من وجهين : الأول : أنه - تعالى - لما وصف الجنة بأنها معدة للمتقين بين أن المتقين قسمان : أحدهما : الذين أقبلوا على الطاعات والعبادات ، وهم الذين وصفهم بالانفاق فى السراء والضراء ، وكظم الغيظ والعفو عن الناس . وثانيهما : الذين أذنبوا ثم تابوا وهو المراد بقوله - تعالى " والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً " وبيَّنَ - سبحانه - أن هذه الفرقة كالفرقة الأولى فى كونها متقية . والوجه الثاني : أنه في الآية الأولى ندب إلى الإحسان إلى الغير ، وندب فى هذه الآية إلى الإحسان إلى النفس ، فإن المذنب إذا تاب كانت توبته إحسانًا منه إلى نفسِه " .
وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ : للإنكار والنفي. أي : لا أحد يقبل توبة التائبين ، ويغفر ذنوب المذنبين ، ويمسح خطايا المخطئين ، إلا الله العلي الكبير " الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل .
"إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِهَا." الراوي : أبو موسى الأشعري - صحيح مسلم .
وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ: بيان لشروط الاستغفار المقبول عند الله - تعالى - . أى أن من صفات المتقين أنهم إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ، سارعوا بالتوبة إلى الله - تعالى - ، ولم يصروا على الفعل القبيح الذي فعلوه ، وهم عالمون بقبحه ، بل يندمون على ما فعلوا ، ويستغفرون الله - تعالى - مما فعلوا ، ويتوبون إليه توبة صادقة .
فهذه الآية الكريمة قد فتحت باب التوبة أمام المذنبين ، وحرضتهم على ولوجه بعزيمة صادقة ، وقلب سليم ، ولم تكتف بذلك بل بشرتهم بأنهم متى أقلعوا عن ذنوبهم ، وندموا على ما فعلوا ، وعاهدوا الله على عدم العودة على ما ارتكبوه من خطايا ، وردوا المظالم إلى أهلها ، فإن الله - تعالى - يغفر لهم ما فرط منهم ، ويحشرهم فى زمرة عباده المتقين.
"أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ"136.
أي : أولئك الموصوفون بتلك الصفات السابقة من الإنفاق في السراء والضراء ، وكظم الغيظ ، والعفو عن الناس . . إلخ " أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ " يعني: مغفرة كائنة من ربهم ،تستر ذنوبهم ، وتمسح خطاياهم . قال الشيخ العثيمين رحمه الله:المغفرة تتضمن الستر والمجاوزة وهي مأخوذة من المغفر ، والمغفر ألة يلبسها المقاتل على رأسه تغطيه وتحميه من ضرب السهام.أهل الحديث والأثر. .
جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ : ونُكرت المغفرة، وهذا التنكير يُفيد التعظيم، يعني مغفرة عظيمة، يمحو الله بها خطاياهم وجرائرهم، وهذه المغفرة كائنة من الرب -تبارك وتعالى-، مِّن رَّبِّهِمْ: وإذا أُضيفت إليه مِّن رَّبِّهِمْ فهذا يعني أن هذا الذي أضيف إلى العظيم الأعظم أنه عظيم وكبير.

وهذا الاسم الكريم هنا في هذا الموضع مِّن رَّبِّهِمْ معنى التربيب والتربية، وهو الذي يتعاهد خلقه بما يغذوهم به، من النِعم الظاهرة والباطنة، وما إلى ذلك، فهذا من ألطافه ورحمته بعباده، وأنه يغفر ذنوبهم، ويقبل توبتهم، ويمحو خطاياهم.
وَجَنَّاتٌ : والجنات هي البساتين، كثيرة الأشجار، تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار. والتنكير في جنات أيضًا يدل على التعظيم، فإذا كانت شجرة واحدة في الجنة، كما يقول النبي"إنَّ في الجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الجَوادَ المُضَمَّرَ السَّرِيعَ، مِئَةَ عامٍ ما يَقْطَعُها."الراوي : أبو سعيد الخدري -صحيح مسلم.
المُضَمَّرَ: أي: القَوِيَّ. مِئَةَ عامٍ ما يَقْطَعُها: أي: يَمْشي الرَّاكبُ برَكوبَتِه في ظلها ونَعيمها لا يصِلُ إلى نِهايتِها مع سَيرِه هذه المدَّةِ وبهذه السرعة؛ مُبالغةً في امتدادِ ظِلِّها.هذه شجرة واحدة بالجنة فكيف بسعة الجنة التي عرضها السماوات والأرض.
وفي الحَديثِ: بَيانُ سَعَةِ الجنَّةِ وعِظَمِ خَلْقِها.
تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ: أنهار المياه العذبة، وأنهار اللبن، وأنهار الخمر، وأنهار العسل المُصفى.قال تعالى "مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ" محمد : 15.
" فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ: غير متغير، لا بوخم ولا بريح منتنة، ولا بمرارة، ولا بكدورة، بل هو أعذب المياه وأصفاها، وأطيبها ريحًا، وألذها شربًا.
خَالِدِينَ فِيهَا : الخلود:أي البقاء الأبدي السرمدي. أي: لا يخرجون منها أبدًا.
وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ: فهذا مدح وثناء وإطراء للجزاء الذي منَّ عليهم به ، عملوا لله قليلا فأجروا كثيرًا ، وسماه أجرًا، وهذا من فضله على عباده، وإلا فإن أعمالهم بحد ذاتها لا تكون موفية لبعض نِعمه عليهم، ومع ذلك شرع لهم الأعمال، وهداهم إليها،وأرباهها لهم وأثابهم عليها أضعاف ما يستحقونه، وسمى هذا الثواب أجرًا، كالأجر الذي يُعطى للعامل كحق له على عمله ، مع أنه هو الموفق لهم لهذا العمل، وهو الذي شرعه وبينه، وأرسل الرسل، وهو الذي هداهم، وهو الذي قبل منهم وأرباه لهم ، فسماه أجرًا ، وهذا من فضله وكرمه ورحمته.
قال تعالى "يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ"276البقرة: . يعني: يُنمّي الصَّدقات ويُكثرها ويُضاعفها.
قال البخاري في صحيحه: حدَّثنا عبدالله بن منير:قال: أخبرنا كثير، أنه سمع أبا النَّصر: قال :حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ:صلى الله عليه وسلم "مَن تَصَدَّقَ بعَدْلِ تَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ، وإنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ" صحيح البخاري.
"قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" 137.
وهذه الآيات الكريمات، وما بعدها في قصة "أحد" يعزي تعالى عباده المؤمنين ويسليهم، ويخبرهم أنه مضى قبلهم أجيال وأمم كثيرة، امتحنوا، وابتلي المؤمنون منهم بقتال الكافرين، فلم يزالوا في مداولة ومجاولة، حتى جعل الله العاقبة للمتقين، والنصر لعباده المؤمنين، وآخر الأمر حصلت الدولة على المكذبين، وخذلهم الله بنصر رسله وأتباعهم.
" قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ"
وأصل الخلو في اللغة : الانفراد . والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه . ويستعمل أيضًا في الزمان بمعنى المضي : لأن ما مضَى انفرد عن الوجود وخلا عنه ، وكذا الأمم الخالية . يقول تعالى مخاطبًا عباده المؤمنين الذين أصيبوا يوم أحد ، وقُتل منهم سبعونَ ،قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء ، ثم كانت العاقبة لهم والدائرة على الكافرين .تفسير السعدي. ولهذا قال : فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ : أي : فسيروا في الأرض متأملين متبصرين ، فسترون الحال السيئة التي انتهى إليها المكذبون من تخريب ديارهم ، وبقايا آثارهم. فهذه الآية وأشباهها من الآيات ، تدعو الناس إلى الاعتبار بأحوال من سبقوهم . وإلى الاتعاظ بأيام الله ، وبالتاريخ وما فيه من أحداث ، وبالآثار التي تركها السابقون.
"هَذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ"138.
والبيان : هو الدلالة التى تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت حاصلة . والهُدَى : هو الإرشاد إلى ما فيه خير الناس فى الحال والاستقبال . والموعظة : هي الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي من الأمور الدينية أو الدنيوية .
هَذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ :أي: دلالة ظاهرة، تبين الحق من الباطل للناس جميعا بر وفاجر ، وتبين أهل السعادة من أهل الشقاوة، وهو الإشارة إلى ما أوقع الله بالمكذبين سواء ماذُكِرَ في القرآن أو ما شوهد آثاره .
وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ: أما من يهتدي ويتعظ من هذا البيان هم المتقون ، لأن المتقين هم المنتفعون بالآيات فتهديهم إلى سبيل الرشاد و الطَّريق القويم ، وتعظهم وتزجرهم عن طريق الغي والضلال والفساد، وأما باقي الناس فهي بيان لهم، تقوم به عليهم الحجة من الله، ليهلك من هلك عن بيِّنَة.
قال الفخر الرازي ما ملخصه : اعلم أن الله - تعالى - لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية ، الغفران والجنات ، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية . وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين فقال " قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ".
وفي الآية تذكير لمن خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلميوم أحد وإرشاد لهم إلى أنهم بين عاملي خوف ورجاء، فهي بشارة لهم بالنصر على عدوهم وإنذار بسوء العاقبة إذا هم حادوا عن سننه، وساروا في طريق الضالين ممن قبلهم، وعلى الجملة فالآية خبر وتشريع وتتضمن وعدًا ووعيدًا وأمرًا ونهيًا.
"وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ "139.
وبعد هذا البيان الحكيم ، يتجه القرآن إلى المؤمنين بالتثبيت والتعزية فينهاهم عن أسباب الفشل والضعف ، ويأمرهم بالصمود وقوة اليقين بأنهم الأعلون والعاقبة للمتقين إذا كانوا مؤمنين حقًا .
وَلَا تَهِنُوا : أي: لا تَضعُفوا، وأصله ضعف الذات كما فى قوله - تعالى - حكاية عن زكريا"قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي" مريم : 4.أي ضعف جسمي . وهو هنا مجاز عن خور العزيمة ، وضعف الإرادة ، وانقلاب الرجاء يأسًا والشجاعة جبنًا ، واليقين شكًا ، ولذلك نُهُوا عنه .
أي ولا تضعفوا عن القتال وما يتبعه من التدبير بسبب ما أصابكم من الجروح والفشل في يوم أُحد. ولا تحزنوا على من فقد منكم في هذا اليوم. وكيف يلحقكم الوهن والحزن وأنتم الأعلون. فقد مضت سنة الله أن يجعل العاقبة للمتقين الذين لا يحيدون عن سنته. بل ينصرون من ينصره ويقيمون العدل. فهم أجدر بذلك من الكافرين الذين يقاتلون لمحض البغي والانتقام، أو للطمع فيما في أيدي الناس.
فهمة الكافر على قدر ما يرمي إليه من غرض خسيس، ولا كذلك همة المؤمن الذي يرمي إلى إقامة صرح العدل في الدنيا والسعادة الباقية في الآخرة - إن كنتم مؤمنين بصدق وعد الله بنصر من ينصره. وجعل العاقبة للمتقين المتبعين لسنته في نظم الاجتماع، حتى صار ذلك الايمان وصفًا ثابتًا لكم حاكمًا نفوسكم وأعمالكم.
" إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ "140.
فقال الفخر الرازى : واعلم أن هذا من تمام قوله - تعالى " وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ " فبيَّنَ - تعالى - أن الذين يصيبهم من القرح لا يصح أن يزيل جدهم واجتهادهم في جهاد العدو ، وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله قبل ذلك ، فإذا كانوا مع باطلهم وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب ، فبأولى لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة، والتمسك بالحق أولى .
" إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ : والمراد هنا : الإصابة بالجراح ونحوها .
والمعنى : إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر ، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ، ولم ثبطهم عن معاودتكم بالقتال فأنتم أولى أن لا تضعفوا . ونحوه " وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا "النساء: 104. " وقيل : كان ذلك يوم أحد ، فقد نالوا منهم قبل أنيخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : إن المعنى إن تصبكم الجراح في أُحد فقد أصيب القوم بجراح مثلها في هذه المعركة ذاتها . ويبدو لنا أن الظاهر هو الرأي الأول، وهو أن الكلام عن غزوتي بدر وأحد ، لأن الله - تعالى - قد ساق هذه الآية الكريمة لتسلية المؤمنين بأن ما أصابهم في أُحد من المشركين قد أصيب المشركون بمثله على أيدي المؤمنين في غزوة بدر ، فلماذا يحزنون أو يضعفون ؟ ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك " وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس " ، ويؤيد هذا المعنى - كما سنبينه بعد قليل - .تفسير الوسيط.
نُدَاوِلُهَا : من المداولة ، وهي نقل الشىء من واحد إلى آخر .
أيام الدنيا هي دُول بين الناس ، لا يدوم سرورها ولا غمها لأَحدٍ منهم ، فمن سره زمن ساءته أزمان ، ومن أمثال العرب . الحرب سجال : والأيام دُول فهي تارة لهؤلاء وتارة لأولئك.
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا:
هذا أيضا من الحكم أنه يبتلي الله عباده بالهزيمة والابتلاء، ليتبين المؤمن من المنافق؛ لأنه لو استمر النصر للمؤمنين في جميع الوقائع لدخل في الإسلام من لا يريده، فإذا حصل في بعض الوقائع بعض أنواع الابتلاء، تبين المؤمن حقيقة الذي يرغب في الإسلام، في الضراء والسراء، واليسر والعسر، ممن ليس كذلك.
وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ : وهذا أيضًا من بعض الحكم، لأن الشهادة عند الله من أرفع المنازل، ولا سبيل لنيلها إلا بما يحصل من وجود أسبابها، فهذا من رحمته بعباده المؤمنين، أن قيَّض لهم من الأسباب ما تكرهه النفوس، لينيلهم ما يحبون من المنازل العالية والنعيم المقيم.
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ : أي : والله - تعالى - لا يحب الذين ظلموا أنفسهم بسبب كفرهم ونفاقهم وتخاذلهم عن نصرة الحق ، وإنما يحب المؤمنين الثابتين على الحق ، المجاهدين بأنفسهم وأموالهم فى سبيل إعلاء دين الله ، ونصره شريعته.
"وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ"141.
وَلِيُمَحِّصَ: أي: ليُطهِّر، ويَختبر، ويُنقِّي، والتمحيصُ: الابتلاءُ والاختبارُ، وأصلُ المحْص: تخليصُ الشَّيءِ، وتنقيتُه ممَّا فيه من عَيب . يقال : محصت الذهب بالنار ومحصته إذا أزلت عنه ما يشوبه من خبث .
وَيَمْحَقَ: يُهلك، ويَنقص، وأصل المَحْق: النُّقصانُ، أو نقصانُ الشيءِ قليلًا قليلًا حتى يفنى .
ولقدقدَّرَ- سبحانه - ما قدَّرَ فى غزوة أحد ، لكي يمحص أي يطهر المؤمنين ويصفيهم من الذنوب ، ويخلصهم من المنافقين المندسين بينهم ، ولكىي يهلك الكافرين ويمحقهم بسبب بغيهم وبطرهم .
"أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ "142.
بيَّنَ - سبحانه – في هذه الآية أن طريق الجنة محفوف بالمكاره ، وأن الوصول إلى رضا الله - تعالى - يحتاج إلى جهاد عظيم ، وصبر طويل،
فهذا استفهام إنكاري، أي: لا تظنوا، ولا يخطر ببالكم أن تدخلوا الجنة من دون مشقة واحتمال المكاره في سبيل الله وابتغاء مرضاته، فإن الجنة أعلى المطالب، وأفضل ما به يتنافس المتنافسون، وكلما عظم المطلوب عظمت وسيلته، والعمل الموصل إليه، فلا يوصل إلى الراحة إلا بترك الراحة، ولا يدرك النعيم إلا بترك النعيم، ولكن مكاره الدنيا التي تصيب العبد في سبيل الله عند توطين النفس لها، وتمرينها عليها ومعرفة ما تئول إليه، تنقلب عند أرباب البصائر منحا يسرون بها، ولا يبالون بها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
قال صلى الله عليه وسلم"حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكارِهِ، وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ".الراوي : أنس بن مالك - صحيح مسلم.
قال صلى الله عليه وسلم "حُجِبَتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ، وحُجِبَتِ الجَنَّةُ بالمَكارِهِ."الراوي : أبو هريرة -صحيح البخاري.
شرح الحديث : ما عِندَ اللهِ لا يُنالُ بالتَّمنِّي، وإنَّما ببَذلِ الجُهدِ في الطَّاعةِ، والتَّغلُّبِ على شَهَواتِ النَّفْسِ، وحَملِها على ما يُحِبُّه اللهُ ويَرضاهُ. وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ قدْ حَجَبَ النَّارَ وسَتَرَها بالشَّهَواتِ؛ فلا يُوصَلُ إلى النَّارِ إلَّا بتَعاطي الشَّهَواتِ؛ إذْ هي مَحجوبةٌ بها، فمَن هَتَكَ الحِجابَ وَصَلَ إلى المَحجوبِ ووَقَعَ فيه. وقدْ حَجَبَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ الجَنَّةَ بالمَكارِه، والمُرادُ بالمكارِهِ ما أُمِرَ المُكلَّفُ به؛ كمُجاهَدةِ النَّفْسِ في العِباداتِ، والصَّبرِ على مَشاقِّها، والمُحافَظةِ عليها، واجتِنابِ المَنهيَّاتِ، وكَظْمِ الغَيظِ، والعَفْوِ والحِلْمِ، والصَّدَقةِ، والإحسانِ إلى المُسيءِ، والصَّبرِ عن الشَّهَواتِ، ونَحوِ ذلك. وأُطلِقَ عليها مَكارِهُ؛ لِمَشَقَّتِها على العامِلِ، وصُعوبَتِها عليه. وفي هذا تَحذيرٌ مِن اتِّباعِ الشَّهَواتِ، وحَثٌّ على الصَّبرِ على المَكارِه؛ لِأنَّه الطَّريقُ إلى الجَنَّةِ. وفي الحَديثِ: بَيانٌ لجَوامعِ كَلِمِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبَديعُ بَلاغتِه. وفيه: الأمرُ بالابتعادِ عن الشَّهواتِ؛ لأنَّها الطَّريقُ إلى النَّارِ، والصَّبرِ على المَكارهِ؛ لأنَّها الطَّريقُ إلى الجنَّةِ.الدرر السنية.
" وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ"143.
قال ابن جرير ما ملخصه : كان قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ممن لم يشهدوا بدرًا ، يتمنون قبل يوم أحد يومًا مثل يوم بدر ، فيعطون الله من أنفسهم خيرًا ، وينالون من الأجر مثل ما نال أهل بدر ، فلما كان يوم أحد ، فر بعضهم وصبر بعضهم ، حتى أوفى بما كان عاهد الله عليه قبل ذلك ، فعاتب الله من فر منهم بقوله " وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت " . . . الآية .
والخطاب فى الآية الكريمة للمؤمنين الذين لم يفوزوا بالشهادة في غزوة أُحد ، وهو خطاب يجمع بين الموعظة والملام . والمراد بالموت هنا الشهادة في سبيل الله ، أو الحرب والقتال لأنهما يؤديان إلى الموت .
فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ: أي: ها قدْ حصَل لكم ما تمنَّيتموه من لِقاءِ الأعداءِ، وشاهدتُم بأمِّ أعينِكم يومَ أُحُد الموتَ وأسبابَه وشِدَّته، ومَن يموتُ مِن الناس، أبصرتُم ذلك عِيانًا، فلِمَ لمْ تَثبُتوا وتَصبروا؛ حتى تنالوا ما أردتموه من قبلُ.!
ويجدر الإشارة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن:
عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عن كِتَابِ رَجُلٍ مِن أَسْلَمَ، مِن أَصْحَابِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يُقَالُ له: عبدُ اللهِ بنُ أَبِي أَوْفَى، فَكَتَبَ إلى عُمَرَ بنِ عُبَيْدِ اللهِ حِينَ سَارَ إلى الحَرُورِيَّةِ، يُخْبِرُهُ، أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ كانَ في بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتي لَقِيَ فِيهَا العَدُوَّ، يَنْتَظِرُ حتَّى إذَا مَالَتِ الشَّمْسُ قَامَ فيهم، فَقالَ: يا أَيُّهَا النَّاسُ، لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، ثُمَّ قَامَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وَقالَ: اللَّهُمَّ، مُنْزِلَ الكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الأحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ، وَانْصُرْنَا عليهم."الراوي : عبدالله بن أبي أوفى - صحيح مسلم.
العَافِيةُ نِعمةٌ مِنَ النِّعَمِ التي يَنبَغي على المَرءِ أنْ يُدَاوِمَ على سُؤالِ المَوْلَى سُبحانَه وتَعالى إيَّاها. وفي الحَديثِ: النَّهيُ عن تَمَنِّي لِقاءِ العَدُوِّ، وهذا غَيرُ تَمَنِّي الشَّهادةِ. وفيه: أنَّ الإنسانَ إذا لَقيَ العَدُوَّ فإنَّ الواجِبَ عليه أنْ يَصبِرَ. وفيه: الدُّعاءُ على المُشرِكينَ بالهَزيمةِ والزَّلزَلةِ.
"أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ عَادَ رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ قدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الفَرْخِ، فَقالَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: هلْ كُنْتَ تَدْعُو بشَيءٍ، أَوْ تَسْأَلُهُ إيَّاهُ؟ قالَ: نَعَمْ؛ كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ ما كُنْتَ مُعَاقِبِي به في الآخِرَةِ، فَعَجِّلْهُ لي في الدُّنْيَا، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: سُبْحَانَ اللهِ! لا تُطِيقُهُ -أَوْ لا تَسْتَطِيعُهُ- أَفلَا قُلْتَ: اللَّهُمَّ آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً، وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، قالَ: فَدَعَا اللهَ له، فَشَفَاهُ."الراوي : أنس بن مالك - صحيح مسلم.
اللَّهُمَّ آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً، وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً:وحَسَنةُ الدُّنيا يَدخُلُ فيها كُلُّ ما يَحسُنُ وُقوعُه عِندَ العَبدِ؛ مِن رِزقٍ هَنيءٍ واسعٍ حَلالٍ، وزَوجةٍ صالحةٍ، ووَلدٍ تقَرُّ به العَينُ، وراحةٍ، وعِلمٍ نافعٍ، وعَملٍ صالحٍ، ونَحوِ ذلكَ مِنَ المطالبِ المَحبوبَةِ والمُباحةِ.
وحسنَةُ الآخرَةِ هي: السَّلامةُ منَ العُقوباتِ في القَبرِ والموقِفِ والنَّارِ، وحُصولُ رِضا اللهِ، والفوزُ بالنَّعيمِ المُقيمِ في الجَنَّة، والقُربُ مِنَ الله الرَّحمن الرَّحيم، والدُّعاءُ بالوقايةِ مِن عَذابِ النَّارِ، وما يُقرِّبُ إليها مِن شَهوةٍ وعَملٍ في الدُّنيا، فهذا الدُّعاءُ مِن الجوامعِ الَّتي تَتضمَّنُ خيْرَ الدُّنيا والآخرةِ.
وفي الحديثِ: أنَّه لا يَنْبغي للعبدِ أنْ يَطلُبَ لنَفسِه البلاءَ، وإذا سَأل فإنَّما يَسأَلُ ما فيه خيرٌ.
"وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ"144.
ثم تمضي السورة الكريمة في حديثها عن غزوة أُحد ، فتذكِّر المؤمنينَ بما كان منهم عندما أُشِيعَ بأن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد قُتِلَ ، وترشدهم إلى أن الآجال بيد الله ، وأن المؤمنين الصادقين قاتلوا مع أنبيائهم في سبيل إعلاء كلمة الله بدون ضعف أو ملل فعليهم أن يتأسوا بهم في ذلك ، وأن الله - تعالى - قد تكفل بأن يمنح المؤمنين الصادقين المجاهدين في سبيله أجرهم الجزيل في الدنيا والآخرة .
قال ابن كثير : لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أُحد ، وقُتِلَ منً قُتِلَ مِنهم ، رجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم : قتلتُ محمدًا . وإنما قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشجه في رأسه . فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس ، واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فحصل ضعف ووهن وتأخر - بين المسلمين - عن القتال . ففى ذلك أنزل الله تعالى " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ....".
"أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَومَ أُحُدٍ، وَشُجَّ في رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عنْه، ويقولُ: كيفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهو يَدْعُوهُمْ إلى اللهِ؟! فأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ"لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ"آل عمران: 128.الراوي : أنس بن مالك - صحيح مسلم.
فأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ"لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ :أي: ليس إليكَ مِن إصلاحِهم ولا مِن عذابِهم شيءٌ، وقيل: ليس إليكَ من النصرِ والهزيمةِ شيءٌ؛ فإنَّما هو لِأَجْلِنا وفِينَا ومِن جَرَّانَا، ونحن المُجازُون عليه.الدرر السنية.
يُخبرهم اللهُ تعالى أنَّ محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غيرُ مخلَّد في الدُّنيا، إنما رسالته هي الخالده الباقية ، فمن تمسك بها فقد سعد وفاز . ومن أعرض عنها فلن يضر الله شيئًا ،فإنَّما هو رسولٌ كباقي رُسل الله الذين من قبلِه؛ قد انقضتْ آجالهم في الدُّنيا بالموت أو القتْل؛ فهل إذا انقضَى أجلُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يكون هذا مبرِّرًا لأن تنقلبوا على أعقابكم بترك ما جاءكم من إيمان أو جهاد، أو غير ذلك.! وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا :ومَن يَرتدِدْ عن دِينه أو يخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يضر نفسه، بتعريضها للسخط والعذاب ، وبحرمانها من الأجر والثواب . فالله تعالى غني عنه، وسيقيم دينه، ويعز عباده المؤمنين، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ: وسيُثيب الله الشَّاكرين. الثابتين على الحق والصابرين على الشدائد الشاكرين له نعمه في السراء والضراء ، والشكر لا يكون إلا بالقيام بعبودية الله تعالى في كل حال. وفي هذه الآية الكريمة إرشاد من الله تعالى لعباده أن يكونوا بحالة لا يزعزعهم عن إيمانهم أو عن بعض لوازمه حتى ولو فُقِدَ القائد.
وعبر هنا بالشاكرين ولم يعبر بالصابرين مع أن الصبر في هذا الموطن أظهر ، وذلك لأن الشكر في هذا المقام هو أسمى درجات الصبر ، لأن هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين وقفوا إلى جانب النبى - صلى الله عليه وسلم - في ساعة العُسْرة ، لم يكتفوا بتحمل البلاء معه فقط ، بل تجاوزوا حدود الصبر إلى حدود الشكر على هذه الشدائد التى ميزت الخبيث من الطيب ، فالشكر هنا صبر وزيادة ، وقليل من الناس هو الذي يكون على هذه الشاكلة.
فالآية الكريمة قد تضمنت عتابا وتوبيخا لأولئك المسلمين الذين ضعف يقينهم ، وفترت همتهم ، عندما أرجف المرجفون في غزوة أُحد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قُتِل .
كما تضمنت الثناء الجزيل على أولئك الثابتين الصابرين الذين لم تؤثر في قوة إيمانهم تلك الأراجيف الكاذبة ، بل مضوا في جهادهم وثباتهم بدون تردد أو تزعزع ولقد كان الثابتون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد كثيرين ومن بينهم أنس بن النضر - رضي الله عنه - ، فقد ورى البخارى عن أنس - رضى الله عنه – قال: غَابَ عَمِّي أَنَسُ بنُ النَّضْرِ عن قِتَالِ بَدْرٍ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، غِبْتُ عن أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ المُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ ما أَصْنَعُ ، فَلَمَّا كانَ يَوْمُ أُحُدٍ وانْكَشَفَ المُسْلِمُونَ، قالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعْتَذِرُ إلَيْكَ ممَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي أَصْحَابَهُ- وأَبْرَأُ إلَيْكَ ممَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي المُشْرِكِينَ-، ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ، فَقالَ: يا سَعْدُ بنَ مُعَاذٍ، الجَنَّةَ ورَبِّ النَّضْرِ، إنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِن دُونِ أُحُدٍ، قالَ سَعْدٌ: فَما اسْتَطَعْتُ يا رَسولَ اللَّهِ ما صَنَعَ، قالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا به بِضْعًا وثَمَانِينَ ضَرْبَةً بالسَّيْفِ، أَوْ طَعْنَةً برُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بسَهْمٍ، ووَجَدْنَاهُ قدْ قُتِلَ وقدْ مَثَّلَ به المُشْرِكُونَ، فَما عَرَفَهُ أَحَدٌ إلَّا أُخْتُهُ ببَنَانِهِ، قالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى -أَوْ نَظُنُّ- أنَّ هذِه الآيَةَ نَزَلَتْ فيه وفي أَشْبَاهِهِ: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ"الأحزاب: 23، إلى آخِرِ الآيَةِ. وَقالَ: إنَّ أُخْتَهُ -وهي تُسَمَّى الرُّبَيِّعَ- ....."الراوي : أنس بن مالك - صحيح البخاري.

"وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ" 145.
ثم أخبر تعالى أن النفوس جميعها متعلقة بآجالها بإذن الله وقدره وقضائه، فمن حتَّم عليه بالقدر أن يموت، مات ولو بغير سبب، ومن أراد بقاءه، فلو أتى من الأسباب كل سبب، لم يضره ذلك قبل بلوغ أجله، وذلك أن الله قضاه وقدره وكتبه إلى أجل مسمى " وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ" الأعراف 34. فالآية الكريمة قد تضمنت تحريض المؤمنين على القتال . وتحذيرهم من الجبن والفرار ، لأن الجُبن لا يؤخر الحياة ، كما أن الإقدام لا يؤدي إلى الموت قبل حلول وقته ، فإن أَحدًا لا يموت قبل أجله ، وإن خاض المهالك واقتحم المعارك
ثم مدح - سبحانه - الذين يبتغون بأعمالهم ثواب الآخرة فقال " وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا " . أي ومن يرد بعمله وجهاده ثواب الآخرة وما ادخره الله فيها لعباده المتقين من أجر جزيل نؤته منها ما نشاء من عطائنا الذين تشتهيه النفوس ، وتقر له العيون . فتضمنت الآية الكريمة دعوة المؤمنين إلى الزهد في متع الحياة الدنيا ، وإلى أن يجعلوا مقصدهم الأكبر في تحصيل ما ينفعهم في آخرتهم ، فإن هذا هو المقصد الأسمى ، والمطلب الأعلى ، وإن الذين خالفوا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا أماكنهم التي أمرهم بالثبات فيها جريا وراء الغنائم ، لم يحصلوا منها شيئًا ، بل فقدوها وفقدوا أرواحهم وعزتهم وكرامتهم ، وكان فعلهم هذا من أسباب هزمية المسلمين في غزوة أحد.
فكان أمر رسول الله كما ورد في الحديث الصحيح الثبات والالتزام بمواقعهم .قال لاصلى الله عليه وسلم " انضَحوا الخيلَ عنَّا بالنَبلِ، لا يَأتونا مِن خلفِنا ! إن كانَت الدَّائرةُ لَنا أو علَينا فالزَموا أماكنَكم، لا نُؤتينَّ مِن قِبلِكم وفي روايةٍ قال لهم: احموا ظُهورَنا، إن رأيتُمونا نُقتَلُ فلا تنصُرُونا، وإن رأيتُمونا نَغنمُ فلا تَشرَكونا ."الراوي : محمد بن إسحاق - المحدث : الألباني - المصدر : فقه السيرة.- الصفحة أو الرقم : 251 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
الشرح: احموا ظُهورَنا، أي: خَلْفَنا، فإن رَأيتُمونا نُقتَلُ فلا تَنصُرونا، وإن رَأيتُمونا نَغنَمُ فلا تَشرَكونا، أي: لا تَكونوا مُشارِكينَ لَنا؛ لأنَّكُم إن فعَلتُم ذلك تَرَكتُم ظُهورَنا للعَدوِّ فيَتَمَكَّنوا مِنَّا، وهذا ما حَصَلَ في تلك الغَزوةِ؛ فقد خالَف الرُّماةُ ما أمَرَهمُ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وذلك أنَّهم لَمَّا رَأوا المُسلمينَ انتَصَروا على الكُفَّارِ، وبَدَأ المُسلِمونَ يَأخُذونَ الغَنائِمَ، نَزَلَ الرُّماةُ مِنَ الجَبَلِ حَتَّى يَأخُذوا نَصيبَهم مِنَ الغَنائِمِ، فالتَفَّ المُشرِكونَ مِن خَلفِ الجَبَلِ وصَعِدوا عليه ووقَعَتِ الدَّائِرةُ على المُسلمينَ وأُصيبَ فيها النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم!
وفي الحَديثِ بَيانُ مَعرِفةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بإدارةِ الحَربِ والمَعرَكةِ.
وفيه أهَمِّيَّةُ طاعةِ الأميرِ وعَدَمِ مُخالَفةِ أمرِه .الدرر السنية.
وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ : تذييل مقرِّرٌ لمضمون ما قبله ، ووعد من عطاء الله لمن شكره على نعمه ويثبت على شرعه .أي وسنجزي الشاكرين في دنياهم بما يسعدهم ويرضيهم . وسنجزيهم في الآخرة بما يشرح صدورَهُم ، ويُدخِل البهجةَ على نفوسِهم .ولم يذكر جزاءهم ليدل ذلك على كثرته وعظمته، وليعلم أن الجزاء على قدر الشكر، قلة وكثرة وحسنا.
"وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ"146.
ثم بيَّنَ - سبحانه - ما كان عليه أتباع الأنبياء السابقين من إيمان عميق ، وعزم وثيق ، حتى يتأسى بهم كل ذي عقل سليم.
والربيون جمع رِبي وهو المتبع لشريعة الرب مثل الرباني ، والمراد بهم هنا أتباع الرسل وتلامذة الأنبياء . ويجوز في رائه الفتح ، على القياس ، والكسر ، على أنه من تغييرات النسب وهو الذي قرئ به في المتواتر .
ومحل العبرة هو ثبات الربانيين على الدين مع موت أنبيائهم ودعاتهم .
والمعنى : وكثير من الأنبياء قاتل معهم مؤمنون صادقو الإيمان من أجل إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه وأصيبوا وهم يقاتلون بما أصيبوا من جراح وآلام ، " فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله " أي فما عجزوا أو جبنوا بسبب ما أصابهم من جراح ، أو ما أصاب أنبياءهم وإخوانهم من قتل واستشهاد . لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ، ونصرة رسله . وقوله " وَمَا ضَعُفُواْ " أي : عن قتال أعدائهم وعن الدفاع عن الذى آمنوا به وقوله " وَمَا اسْتَكَانُوا " أي ما خضعوا وذلوا لأعدائهم .
الله - تعالى - قد نفى عن هؤلاء المؤمنين الصادقين ثلاثة أوصاف لا تتفق مع الإيمان . نفى عنهم - أولا - الوهن وهو اضطراب نفسي ، وهلع قلبي ، يستولى على الإنسان فيفقده ثباته وعزيمته .
ونفى عنهم - ثانيا - الضعف الذى هو ضد القوة ، وهو ينتج عن الوهن . ونفى عنهم - ثالثًا - الاستكانة وهي الرضا بالذل والخضوع للأعداء ليفعلوا بهم ما يريدون . وقد نفى - سبحانه - هذه الأوصاف الثلاثة عن هؤلاء المؤمنين الصادقين مع أن واحدًا منها يكفي نفيه لنفيها لأنها متلازمة - وذلك لبيان قبح ما يقعون فيه من أضرار فيما لو تمكن واحد من هذه الأوصاف من نفوسهم .
وجاء ترتيب هذه الأوصاف في نهاية الدقة بحسب حصولها في الخارج ، فإن الوهن الذي هو خور في العزيمة إذا تمكن من النفس أنتج الضعف الذي هو لون من الاستسلام والفشل . ثم تكون بعدهما الاستكانة التي يكون معها الخضوع لكل مطالب الأعداء وإذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة في حياته كان الموت أكرم له من هذه الحياة.
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ: تذييل قُصِدَ به حض المؤمنين على تحمل المكاره وعلى مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره من أجل إعلاء دينهم حتى يفوزوا برضا الله كما فاز أولئك الأنقياء الأوفياء . أي والله - تعالى - يحب الصابرين على آلام القتال ، ومصاعب الجهاد ، ومشاق الطاعات ، وتبعات التكاليف التى كلف الله - تعالى - بها عباده .
"وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ "147.
أي أن هؤلاء الأنقياء الأوفياء الصابرين ما كان لهم من قول في مواطن القتال وفي عموم الأحوال إلا الضراعة إلى الله - بثلاث أمور :
أولها: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا : والإسراف: هو مجاوزة الحد إلى ما حرم، أي : إنهم يدعون الله - تعالى - بأن يغفر لهم ذنوبهم ما كان صغيرا منها وما كان كبيرا : وأن يغفر لهم إسرافهم فى أمرهم أي ما تجاوزوه من الحدود التي حدها لهم سبحانه وأمرهم بعدم تجاوزها. فقد علموا أن الذنوب والإسراف من أعظم أسباب الخذلان، وأن التخلي منها من أسباب النصر، فسألوا ربهم مغفرتها.
ثانيها : وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا : ثم إنهم لم يتكلوا على ما بذلوا جهدهم به من الصبر، بل اعتمدوا على الله، وسألوه أن يثبت أقدامهم عند ملاقاة الأعداء الكافرين، أي أجعلنا يا ربنا ممن يثبت لحرب أعدائك وقتالهم ولا تجعلنا ممن يوليهم الأدبار .
ثالثها: وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ: وسألوه سبحانه أن ينصرهم عليهم، فجمعوا بين الصبر وترك ضده، والتوبة والاستغفار، والاستنصار بربهم، لا جرم أن الله نصرهم، وجعل لهم العاقبة في الدنيا والآخرة.
" فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" 148.
ثم بين - سبحانه - الثمار التى ترتبت على هذا الدعاء الخاشع والإيمان الصادق والعمل الخالص لوجهه. الفاء فى قوله " فَآتَاهُمُ "لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
لَمَّا أتمَّ سبحانه الثناءَ على فِعل الرِّبِّيِّين في الصَّبر، وطريقتِهم في الدُّعاء، ذكَر ما سبَّبه لهم ذلك من الجَزاء في الدُّنيا والآخِرة.
" فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ : أي: إنَّ الله تعالى قد منَحهم بفضله جزاءً في الدنيا، كالنَّصرِ على الأعداءِ، والظَّفر بالغنائمِ، وغيرِ ذلك، وضمَّ لهم مع أجْر الدنيا جزاءَ الآخرة الحَسَن، من الفوز برِضوانِ الله تعالى، والخلودِ في دار السَّعادة الأبديَّة.
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ: فالإحسان مع الله تعالى: هو أن يعلم العبد أن الله لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وأن يراقبه في صلاته أو غيرها، في خشوع ورهبة حتى كأنه يرى الله عيانًا، فإذا لم يستطع فليعلم أن الله مطلع عليه، وأنه بين يدي علَّام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، كما قال جبريل عليه السلام لمحمد صلوات الله وسلامه عليه حينما سأله عن الإحسان فقال له "الإِحْسَانُ: أَنْ تَعْبَدَ الله كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ"
فالإحسان مع الله: هو أن يراقب الإنسان الله في حركاته وسكناته، وأن يدرك تمام الإدراك أن الله علّام الغيوب يراه؛ وأنه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.فتُري اللهَ منك كل خير،بأداء الواجبات وترك المحرمات والاجتهاد في أنواع الخير التي لا تجب عليك. هكذا المحسن، يحرص على كل خير من واجب ومستحب ويتباعد عن كل شر وعن كل ما ينبغي تركه ولو كان غير محرم .سبحانه يحب المحسنين في عبادة الخالق ومعاملة الخلق، ومن الإحسان أن يفعل عند جهاد الأعداء، كفعل هؤلاء الموصوفين.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ "149.
وجه القرآن نداء إلى المؤمنين ، نهاهم فيه عن طاعة أعداء الله وأعدائهم ، وأمرهم بالتمسك بتعاليم دينهم وبشرهم بسوء عاقبة أعدائهم .
والنداء متوجه ابتداء للمؤمنين المجاهدين الذين حضروا غزوة أحد ، وسمعوا ما سمعوا من أراجيف أعدائهم وأكاذيبهم ، إلا أنه يندرج تحت مضمونه كل مؤمن في كل زمان أو مكان لأن الكافرين في كل العصور لا يريدون بالمؤمنين إلا كل شر وفساد ، ولا يتمنون لهم إلا الشرور والمصائب .
فقد كانت الهزيمة في أُحد مجالا لدسائس الكفار والمنافقين واليهود في المدينة . وكانت المدينة لم تخلص بعد للإسلام ؛ بل لا يزال المسلمون فيها نبتة غريبة إلى حد كبير . نبتة غريبة أحاطتها " بدر " بسياج من الرهبة ، بما كان فيها من النصر الأبلج . فلما كانت الهزيمة في أُحُد تغير الموقف إلى حد كبير ؛ وسنحت الفرصة لهؤلاء الأعداء المتربصين أن يُظهروا أحقادَهم ، وأن ينفثوا سمومهم ؛ وأن يجدوا في جو الفجائع التي دخلت كل بيت من بيوت المسلمين - وبخاصة بيوت الشهداء ومن أصابتهم الجراح المثخنة - ما يساعد على ترويج الكيد والدس والبلبلة في الأفكار والصفوف .
قال الآلوسي : ما ملخصه : قوله تعالى " يَا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ " شروع في زجر المؤمنين عن متابعة الكفار ببيان مضارها ، إثر ترغيبهم في الاقتداء بأنصار الأنبياء ببيان فضائله وتصدير الخطاب بالنداء والتنبية لإظهار الاعتناء بما في حيزه ،ووصَفَهُم بالإيمان لتذكيرهم بحال ينافي تلك الطاعة فيكون الزجر على أكمل وجه . والمراد من الذين كفرواإما المنافقون لأنهم هم الذين قالوا للمؤمنين عند هزيمتهم فى أحد : ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم . . وإما أبو سفيان وأصحابه وحينئذ فالمراد بطاعتهم الاستكانة لهم وطلب الأمان منهم . . وإما اليهود والنصارى لأنهم هم الذين كانوا يلقون الشُّبه في الدين ويقولون : لو كان محمدٌ نبيًا حقًا لما غلبه أعداؤه . . وإما سائر الكفار " .ا.هـ.
وجاء التعبير : بإن الشرطية "إِن تُطِيعُوا " دون " إذا " ؛ لأن إذا لتحقق الشرط والجزاء أما إن فإنها لا تفيد التحقق بل تفيد الشك ، وهذا هو المناسب لحال المؤمنين لأن إيمانَهم يمنعهم عن الوقوع في طاعة الذين كفروا .
ثم بين - سبحانه - النتيجة - السيئة التى تترتب على طاعة المؤمنين للكافرين فقال :يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ: أي : إن تطيعوهم يرجعوكم إلى ما كنتم عليه قبل الإسلام من ضلال وكفران أو يردوكم إلى الحالة التى كنتم عليها قبل مشروعية الجهاد وهي حالة الضعف والهوان التي رفعها الله عنكم بأن أذن لكم في مقاتلة أعدائكم الذين أخرجوكم من دياركم بغير حق . وقوله : فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ : أي فترجعوا هالكين، قد خسرتم أنفسكم، وضللتم عن دينكم، وذهبت دنياكم وآخرتكم.
"بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ"150.
بعد أن حذر المؤمنين من طاعة الكافرين وما يترتب عليها من مضار ، انتقل إلى توجيههم إلى ما فيه عزتهم وكرامتهم وسعادتهم . أي لا تتخذوا الذين كفروا أولياء ، ولا تأبهوا لإغوائهم فإنهم لا يستطيعون لكم نصرًا، وإنما الله هو الذي ينصركم بعنايته التي وعدكم بها في قوله" فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ"الأنفال:40.
والمولى هنا بمعنى النصير والمعين. والمعنى إني أنهاكم - أيها المؤمنون - عن طاعة الكافرين ، لأنهم ليسوا أولياء لكم فتطيعوهم ، بل الله - تعالى - هو وليكم ومعينكم وهو خير الناصرين ، لأنه هو الذي لا يعجزه شىء في الأرض ولا في السماء فأخلصوا له العبادة والطاعة .
"سَنُلقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعبَ بِمَا أَشرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَم يُنَزِّل بِهِسُلطَا وَمَأوَىهُمُ ٱلنَّارُ وَبِئسَ مَثوَى ٱلظَّـٰلِمِينَ" 151.
من ولايته ونصره لهم سبحانه أنه وعدهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم من الكافرين الرعب، وهو الخوف العظيم الذي يمنعهم من كثير من مقاصدهم، وقد حدث ذلك بالفعل، وذلك أن المشركين -بعدما انصرفوا من واقعة "أُحد" - تشاوروا بينهم، وقالوا: كيف ننصرف، بعد أن قتلنا منهم من قتلنا، وهزمناهم ولما نستأصلهم؟ فهموا بالرجوع لقتال المسلمين مرة أخرى، فألقى الله الرعب في قلوبهم، فانصرفوا خائبين، ولا شك أن هذا من أعظم النصر، لأنه قد تقدم أن نصر الله لعباده المؤمنين لا يخرج عن أحد أمرين: إما أن يقطع طرفًا من الذين كفروا أي: جانبًا منهم وركنا من أركانهم، إما بقتل، أو أسر، أو استيلاء على بلد، أو غنيمة مال، فيقوى بذلك المؤمنون ويذل الكافرون ، أو يكبتهم أي يرجعون بخسارة وغم وحسرة، فينقلبوا خائبين، أي : لم يحصلوا على ما أملوا . وهذا من الثاني. ثم ذكر السبب الموجب لإلقاء الرعب في قلوب الكافرين،فقال:
......بِمَا أَشرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَم يُنَزِّل بِهِسُلطَا: أي: ذلك بسبب ما اتخذوا من دونه من الأنداد والأصنام، التي اتخذوها على حسب أهوائهم وإرادتهم الفاسدة، من غير حجة ولا برهان، وانقطعوا من ولاية الواحد الرحمن، فمن ثم كان المشرك مرعوبا من المؤمنين، لا يعتمد على ركن وثيق، وليس له ملجأ عند كل شدة وضيق، هذا حاله في الدنيا، وأما في الآخرة فأشد وأعظم، ولهذا قال وَمَأوَىهُمُ ٱلنَّارُ :أي: مستقرهم الذي يأوون إليه وليس لهم عنها خروج، وَبِئسَ مَثوَى ٱلظَّـٰلِمِينَ :بسبب ظلمهم وعدوانهم صارت النار مثواهم.
المأوى والمثوى كلمتان تدلّان على مكان اللجوء ومكان الإقامة، ولا علاقة لأي منهما في ذاتها بالجنة والنار.
"وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ"152.
أنَّه لَمَّا وعَد اللهُ تعالى المؤمنين في الآية المُتقدِّمة إلقاءَ الرُّعبِ في قلوب الذين كفروا، أكَّدَ ذلك بأنْ ذَكَّرهم ما أَنجَزهم من الوعدِ بالنَّصرِ في واقعةِ أُحُد؛ فإنَّه لَمَّا وعدَهم بالنُّصرةِ بشرْط أنْ يتَّقُوا ويَصبِروا؛ فحينَ أَتَوْا بذلك الشَّرطِ لا جَرَمَ وفَّى اللهُ تعالى بالمشروطِ وأعطاهم النُّصرةَ، فلمَّا تَركوا الشَّرطَ لا جرَمَ فاتَهم المشروطُ ، فقال:
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ:
أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد أَنجَز لكم ما وعَدَكم به يومَ أُحدٍ أيُّها المؤمنون، وهو نصْركم على عَدوِّكم، وكان ذلك في بدايةِ المعركة حين طفِقتُم تَستأصِلونهم بقتْلهم قتلًا ذريعًا، وذلك قد وقَع عن أَمرِ اللهِ تعالى شرعًا وقدَرًا .
حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ
أي: لَمَّا استولَى عليكم الضَّعفُ والخَوَرُ، وجَبُنتم عن القِتال، ووقَع الخلافُ بين رُماتكم؛ هل يَلزَمون ثُغُورَهم- كما عهِد إليهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أم يتحرَّكون لجمْعِ الغنائم، وعصَى بعضُكم في النِّهاية أمْرَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مِن بعدِ أنْ أَظهَر الله تعالى لكم ما تُحِبُّونه من انهزام الكفَّار، وتوليتهم الأدبار، فلمَّا وقع ذلك كلُّه، حلَّت بكم الهزيمةُ .
عن البَرَاءِ بن عازبٍ رضِي اللهُ عنه، قال"لَقِينا المشركين يومئذٍ، وأجلَسَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جيشًا مِن الرُّماةِ، وأمَّرَ عليهم عبدَ الله - عَبدَ اللهِ بنَ جُبَيرٍ -، وقال: لا تَبرَحوا ، إنْ رأيتمونا ظهَرْنا عليهم فلا تَبرَحوا، وإنْ رأيتموهم ظهَروا علينا فلا تُعينونا، فلمَّا لَقِيناهم هرَبوا حتى رأيتُ النِّساءَ يَشتَدِدْنَ في الجبلِ، رفعْنَ عن سُوقِهنَّ، قد بدَتْ خَلاخلُهنَّ، فأخذوا يقولون: الغنيمةَ الغنيمةَ، فقال عبدُ اللهِ: عهِد إليَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ألَّا تَبرَحوا! فأَبَوا، فلمَّا أبَوْا صُرِفت وجوهُهم، فأُصِيبَ سبعون قتيلًا، وأَشَرَفَ أبو سفيان، فقال: أفي القومِ محمدٌ؟ فقال: لا تُجيبوه، فقال: أفي القومِ ابنُ أبي قُحافَةَ؟ قال: لا تُجيبوه، فقال: أفي القوم ابنُ الخطابِ؟ فقال: إنَّ هؤلاء قُتِلوا، فلو كانوا أحياءَ لأجابوا، فلم يَملِكْ عمرُ نفسَه، فقال: كذبتَ يا عدوَّ اللهِ، أبقى اللهُ عليك ما يُخْزِيك، قال أبو سفيان: اعْلُ هُبَلُ! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أجيبوه، قالوا: ما نقولُ؟ قال: قولوا: اللهُ أعلى وأجلُّ، قال أبو سفيانَ: لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم! قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أجيبوه، قالوا: ما نقولُ؟ قال: قولوا: اللهُ مولانا ولا مولى لكم، قال أبو سفيان: يومٌ بيومِ بدرٍ، والحربُ سِجَالٌ، وتجدون مُثْلَةً، لم آمرْ بها ولم تَسؤْني ".صحيح البخاري.
والمُثْلةُ: قَطعُ الأُنوفِ وبَقْرُ البُطونِ، ونَحوُ ذلك لِلقَتْلى- ثمَّ نَوَّهَ أنَّ تِلكَ المُثْلةَ لم يَأمُرْ بها؛ لِأنَّها تُعَدُّ نَقيصةً في أدبِيَّاتِ الحُروبِ، ومع ذلك يُشيرُ أبو سُفيانَ إلى أنَّهُ لم تَسُؤْهُ تلك المُثْلةُ، فلم يَكرَهْ ما فُعِلَ بالمُسلِمينَ مِن تَمثيلٍ بالقَتْلى، وقدْ رَضيَ أبو سُفيانَ بتلك المُثلةِ في حَقِّ المُسلِمينَ، باعتِبارِ أنَّهم أعداءٌ له،
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ
أي: إنَّ بعضًا منكم- أيُّها المؤمنون- قد ابتَغَوا الدُّنيا، وهم الرُّماةُ الذين تَرَكوا أماكنَهم وأخَذوا في جمْعِ الغنائمِ والحُطامِ الفاني يَومَ أُحُد، والبعضَ الآخَرَ كانوا يَرغبونَ في أجْرِ الآخرةِ الباقي، وهم الرُّماةُ الذين لزِموا مَقاعدَهم التي أَقعَدَهم فيها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ:
أي: بعدَ أنِ انصرفَ بعضُ الرُّماة من المؤمنين من أماكنهم، مُنصرِفين بذلك عن طاعةِ رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وانصرَفتْ قلوبُهم للدُّنيا، ردَّ الله وجوهَكم عن الكفَّار، فصارتِ الدَّائرة عليكم؛ امتحانًا مِن الله تعالى لكم، ليَتميَّز الطَّائعُ من العاصي، والصَّابرُ على البلاء من الجازِع .
وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ:
أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد تَجاوَز عن عقوبة استئصالِكم جميعًا أيُّها الرُّماة، لمعصيتكم الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ واستبدَل بها عقوبةً أخفَّ وطأة عليكم، وهي إلحاقُ الهزيمة بكم، وقَتْل بعضكم .
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ:
أي: إنَّ اللهَ تعالى صاحِبُ الفضلِ على جميعِ المؤمنين؛ لأجْلِ ما معهم من إيمانٍ، ومن ذلك: العَفوُ عمَّا يَقَعُ منهم من عِصيان .

__________________ 

تفسير سورة آل عمران
من آية 153إلى آية 158
"إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"153.
تُصْعِدُونَ :من الإصعاد وهو الذهاب في صعيد الأرض والإبعاد فيه. قال القرطبي : الإصعاد : السير في مستو من الأرض وبطون الأودية والشعاب .
وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ : أي : لا تعرجون ولا تقيمون على أحد ولا يلتفت بعضكم إلى بعض.
أي: اذكُروا- أيُّها المؤمنون- حين كنتُم تَجدُّون في الفِرارِ والإبعادِ في الأرض، ولا أحدَ منكم يَلتفِتُ إلى غيره أو يَنظُر إليه؛ إذ لم يكُن لديكم مِن همٍّ سِوى النَّجاةِ من الأعداء. يوم أُحد بعد أن اضطربت أحوالكم وجاء أعداؤكم من أمامكم ومن خلفكم بسبب ترك معظم الرماة لأماكنهم من أجل الغنائم.
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ: أي: إنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد خلَّفتموه وراءَ ظُهورِكم ممَّا يلي جِهةَ العدوِّ، وهو يدعوكم مِنْ خَلْفِكم إلى التَّوقُّفِ عن الفِرار والثَّبات، فلم تَلتفِتوا إليه.
فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ:فَجَازَاكُمْ، جَعَلَ الْإِثَابَةَ بِمَعْنَى الْعِقَابِ، وَأَصْلُهَا فِي الْحَسَنَاتِ لِأَنَّهُ وَضَعَهَا مَوْضِعَ الثَّوَابِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى" فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ "آل عمران: 21. جَعَلَ الْبِشَارَةَ فِي الْعَذَابِ، وسميت العقوبة التي نزلت بهم ثوابًا على سبيل الاستعارة التهكمية كما فى قوله " فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ "آل عمران: 21. ويجوز أن يكون اللفظ مستعملا في حقيقته ، لأن لفظ الثواب في أصل اللغة معناه ما يعود على الفاعل من جزاء فعله ، سواء أكان خيرًا أو شرًا .
وَمَعْنَاهُ: جَعَلَ مَكَانَ الثَّوَابِ الَّذِي كُنْتُمْ تَرْجُونَ " غَمًّا بِغَمٍّ " وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ: غَمًّا عَلَى غَمٍّ، وَقِيلَ: غَمَّا مُتَّصِلًا بِغَمٍّ.
قال مجاهد وقتادة وغيرهما : الْغَمُّ الْأَوَّلُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ وَالْغَمُّ الثَّانِي: مَا سَمِعُوا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ ، وقيل الْغَمُّ الْأَوَّلُ مَا فَاتَهُمْ مِنَ الظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ ؛ والثَّانِي : استِعْلَاءُ المشركينَ عَلَيْهِم .
لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ : لكي لا تحزنوا على مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ وَالْغَمُّ ، وعلى مَا فَاتَكُمْ مِنَ الظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ ، إذا تحققتم أن الرسولَ صلى اللهُ عليه وسلم لم يُقتل هانت عليكم تلك المصيبات.
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ : أي: واللهُ تعالى هو وحْدَه العالمُ ببواطنِ ما تَعمَلونه من خيرٍ أو شرٍّ- أيُّها المؤمنون- ومِن ذلك: ما قُمتُم به في غزوةٍ أُحُد، كما أنَّ ما ترتَّبَ عليها من ابتلاءاتٍ ومِحَنٍ وأسرار، إنَّما هو صادرٌ عن كمال عِلْمه ببواطنِ الأمور.
فلله ما في ضمن البلايا والمحن من الأسرار والحكم، وكل هذا صادر عن كمال علمه بأعمالكم وظواهركم وبواطنكم وعن حكمته ، ولهذا قال"وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"


"ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ"154.
ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًايَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ:
قال أبو طلحة الأنصاري زيد بن سهل " كُنْتُ فِيمَن تَغَشَّاهُ النُّعاسُ يَومَ أُحُدٍ حتَّى سَقَطَ سَيْفِي مِن يَدِي مِرارًا؛ يَسْقُطُ وآخُذُهُ، ويَسْقُطُ فَآخُذُهُ."الراوي : أبو طلحة الأنصاري زيد بن سهل/ المصدر :صحيح البخاري /الصفحة أو الرقم: 4068/ صحيح.
شرح الحديث : إذا حدَث للإنْسانِ ما يُسبِّبُ له الفَزعَ، أوِ الخَوفَ، أو عَدمَ الاستِقرارِ؛ تَسبَّبَ ذلك في حُدوثِ أرَقٍ وقلَّةِ نَومٍ، ممَّا يُؤدِّي إلى تَزايُدِ المَشقَّةِ، وقدْ جعَلَ اللهُ النُّعاسَ أمَنةً لأصْحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حَربِهم ضِدَّ الكُفَّارِ، وهذا مِن فَضلِ اللهِ ونِعمَتِه. هذا الحَديثِ يُخبِرُ أبو طَلْحةَ الأنْصاريُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه كان ممَّن نزَل به وغَطَّاه النُّعاسُ يَومَ أُحُدٍ، حتَّى إنَّه كان يَسقُطَ سيفُه مِن يَدِه مرَّةً بعْدَ أُخْرى، يَسقُطُ ويأخُذُه، وذلك لَمَّا وقَعَتْ يَومَ أُحُدٍ الهَزيمةُ في أصْحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكثُرَ القَتلُ فيهم؛ اشتَدَّ خَوفُهم، وقَويَ غمُّهم، فأنعَمَ اللهُ عليهم بأنْ أنْزَلَ عليهم بعْدَ الغَمِّ أمَنةً نُعاسًا، وأَمَّنَهم أمْنًا يَنامونَ معَه، كما قال تعالى"إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ"الأنفال: 11، والأمَنةُ، أي: الأمْنُ، والنُّعاسُ: أخَفُّ النَّومِ، والأمَنةُ بزَوالِ الخَوفِ؛ لأنَّ الخائِفَ لا يَنامُ، والنُّعاسُ كان فيه فَوائدُ؛ لأنَّ السَّهرَ يُوجِبُ الضَّعفَ والكَلالَ، والنَّومَ يُفيدُ عَودَ القوَّةِ والنَّشاطِ، ولأنَّ المُشرِكينَ كانوا في غايةِ الحِرصِ على قَتلِهم، فبَقاؤُهم في النَّومِ معَ السَّلامةِ في تلك المَعرَكةِ مِن أدَلِّ الدَّلائلِ على حِفظِ اللهِ تعالَى لهُم، وذلك ممَّا يُزيلُ الخَوفَ مِن قُلوبِهم، ويُورِثُهمُ الأمنَ، ... وقدِ استُشْهِدَ في تلك الغَزْوةِ عَدَدٌ كبيرٌ منَ الصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ عليهم، وقد قاتَلَ فيها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومَن ثبَت معَه منَ الصَّحابةِ بقُوَّةٍ وشَجاعةٍ، رَغمَ تَخلخُلِ الصُّفوفِ بعْدَ مُخالَفةِ أمْرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. وفي الحَديثِ: مَعيَّةُ اللهِ عزَّ وجلَّ، ولُطفُه بعِبادِه المؤمِنينَ الصَّادِقينَ. وفيه: مَنقَبةٌ لأبي طَلْحةَ الأنْصاريِّ رَضيَ اللهُ عنه؛ لأنَّه كان ممَّن ثبَت يومَ أُحُدٍ.الدرر السنية.
وهذه الطائفة التي أنعم الله عليها بالنعاس هم المؤمنون الذين ليس لهم هم إلا إقامة دين الله، ورضا الله ورسوله، ومصلحة إخوانهم المسلمين.تفسير السعدي.
وأما الطائفة الأخرى الذين قال فيهم سبحانه:
وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ:
أي: إنَّ ثمَّة جماعةً أخرى مِن بين مَن خرجَ لأُحد، لم يَغْشَهم النعاسُ مِن شِدَّة قلقِهم واضطرابِهم على حياتِهم، وهم المنافِقون وضعاف الإيمان الذين لا همَّ لديهم غيرُ أنفسِهم التي يَحذرون من قتْلِها، فلم يكن إيمانهم صادقًا ،لم تكن صادقة في إيمانها لأنها كانت لا يهمها شأن الإسلام انتصر أو انهزم ولا شأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه . وإنما الذي كان يهمها هو شىء واحد وهو أمر نفسها وما يتعلق بذلك من الحصول على الغنائم ومتع الدنيا .
يَظُنُّونَ بِاللَّهِ:أي: يظنُّ أفرادُ هذه المجموعةِ ظنونًا كاذبةً، كما هو دَيدنُ أهلِ الجهلِ بالله تعالى، وذلك حين رأوا هجمةَ المشركين على المسلمين، وإعمالَ القتْل فيهم؛ إذ ظنُّوا أنَّ دِينَ الله تعالى مُضمحِلٌّ وأتباعَه مَهزومون. هذه الطائفة لم تكتف بما استولى عليها من طمع وجشع وحب لنفسها بل تجاوزت ذلك إلى سوء الظن بالله بأن توهمت بأن الله - تعالى - لن ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم وأن الإسلام ليس دينًا حقًا وأن المسلمين لن ينتصروا على المشركين بعد معركة أحد . . . إلى غير ذلك من الظنون الباطلة التي تتولد عند المرء الذي ضعف إيمانه وصار لا يهمه إلا أمر نفسه.
يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ:أي: قال هؤلاء الحريصونَ على سلامةِ أنفسِهم مُستنكِرين بأنَّهم لم يكونوا يَملِكون شيئًا من قرارِ خُروجِهم للقِتال.
وهذا استفهام إنكاري، أي: ما لنا من الأمر -أي: النصر والظهور- شيء، فأساءوا الظن بربهم وبدينه ونبيه، وظنوا أن الله لا يتم أمر رسوله، وأن هذه الهزيمة هي الفيصلة والقاضية على دين الله، قال الله في جوابهم:
قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ : أي: قل- يا محمَّدُ- لهؤلاء المنافقين: إنَّ جميعَ الأمور، مُبتدَأها ومنتهاها لله تعالى وحده لا شريكَ له، فهو الذي يُصرِّفها كيف شاء، ويُدبِّرها كيفما أراد، فجميعُ الأمورِ بقضائِه وقدَره، ومِن ذلك خُروجُكم للقتال، وما يقَعُ فيه من نصْرٍ أو هزيمة، كما أنَّ العاقبةَ في النهاية لدِين اللهِ تعالى وأوليائِه، وإنْ وقَع عليهم ما وقَع.
والأمر يشمل الأمر القدري، والأمر الشرعي، فجميع الأشياء بقضاء الله وقدره، وعاقبة النصر والظفر لأوليائه وأهل طاعته، وإن جرى عليهم ما جرى.
يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ :أي يضمرون في أنفسهم ما لا يستطيعون إعلانه لك، فهم يُظهِرُون أنهم يسألون مسترشدين طالبين النصر بقولهم "هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ" ويبطنون الإنكار والتكذيب.
أي: إنَّ الذي كانوا يُخفونه عنك- يا محمَّدُ- هو قولهم فيما بينهم مُتحسِّرين ونادِمين: لو كان لنا في شَأنِ الخروجِ لهذا القِتال نَصيبٌ من الرأي والاختيارِ في ذلك، لَمَا اتَّخذنا قرارًا بالخروجِ مِن المدينة مُطلقًا، ولَمَا وقعتْ في صُفوفنا مَقتلةٌ.
ثم بين الأمر الذي يخفونه، فقال: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا: أي: لو كان لنا في هذه الواقعة رأي ومشورة ما قتلنا هاهنا وهذا إنكار منهم وتكذيب بقدر الله، وتسفيه منهم لرأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأي أصحابه، وتزكية منهم لأنفسهم، فرد الله عليهم بقوله: قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ: أي: قل- يا محمَّدُ- لأولئك المنافقين- ردًّا على قولِهم الذي أسرُّوه وأَطْلَعَك اللهُ تعالى عليه-: إنَّما وقَع ما وقَع بقدَر الله تعالى وحْدَه، وهو حُكمٌ ماضٍ لا بدَّ أن ينفُذ، فحتى لو كنتُم في بيوتِكم التي ليستْ بمظنَّةٍ لوقوعِ القتْل فيها، فسيخرُج منها مَن كتَب اللهُ تعالى عليه ذلك ويأتي الموضعَ الذي يَلقَى فيه مصرعَه.
وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ: أي: إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد قدَّر عليكم الخروجَ والقتل؛ ليختبرَ قلوبَكم.
وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ : التمحيص تخليص الشىء مما يخالطه مما فيه عيب له . ليخرج ويظهر، وليَميزَ الله تعالى ما في قلوبِكم من خَبيثٍ وطيِّب، ويُظهرَ أمْرِ المؤمِن والمنافِقِ للنَّاس في أقوالهم وأفعالهم.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ: أي: إنَّ اللهَ تعالى ذو عِلمٍ بكلِّ ما تُكنُّه صُدورُ عِبادِه، لا يَخفى عليه شيءٌ من ذلك، ومُجازٍ كلًّا منهم بحسبَه. لكنَّ حِكمتَه اقتضتْ أنْ يُقدِّر من الأسبابِ ما تَتبيَّن به مُخبَّاتُ الصُّدورِ.
"إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ"155.
أخبر - سبحانه - عن الذين لم يثبتوا مع النبى صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وبين السبب فى ذلك وفتح لهم باب عفوه.
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ : من التولي ويستعمل هذا اللفظ بمعنى الإقبال وبمعنى الإدبار فإن كان متعديًا بنفسه كان بمعنى الإقبال كما في قوله - تعالى "وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ" المائدة: 56. وإذا كان متعديًا بعن أو غير متعد أصلا كان بمعنى الإعراض كما في الآية التي معنا."إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ" أي الذين فروا. والتولي الذي وقع فيه من ذكرهم الله - تعالى - في الآية التي معنا يتناول الرماة الذين تركوا أماكنهم التي أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالبقاء فيها لحماية ظهور المسلمين كما يتناول الذين لم يثبتوا بجانب النبي صلى الله عليه وسلم بل فروا إلى الجبل أو إلى غيره عندما اضطربت الصفوف .
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ :الجمعان مُثنّى ، والمراد بهما جمْع المسلمين بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع المشركين بأُحُد.
إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا: إنَّما أَوْقَعَهم الشيطانُ في تلك الزَّلَّة، وما تَسلَّط عليهم إلَّا بسببِ بعضِ ذُنوبهم. أي بسبب بعض ما اكتسبوه من ذنوب ، لأن نفوسهم لم تتجه بكليتها إلى الله فترتب على ذلك أن منعوا النصر والتأييد وقوة القلب والثبات . .فلو اعتصموا بطاعة ربهم لما كان له عليهم من سلطان.
فإن الخطيئة الصغيرة إذا ترخّص فيها الإنسان سهلت استيلاء الشيطان على نفسه، فهم قد انحرفوا عن أماكنهم بتأوّل، إذ ظنوا أنه ليس للمشركين رجعة من هزيمتهم، فلا يترتب على ذهابهم وراء الغنائم فوات منفعة ولا وقوع في ضرر، ولكن هذا التأويل كان سببًا في كل ما جرى من المصائب التي من أَجَلَّها ما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، والذنب يجر إلى الذنب، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة، وعلى هذا فالزلل الذي أوقعهم فيه الشيطان هو ما كان من الهزيمة والفشل بعد توليهم عن مكانهم طمعًا في الغنيمة، وهذا التولي هو بعض ما كسبوا.
وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ:أي إنّ ما صدر عن هؤلاء الزالين من الذنوب في هذا اليوم يستحق أن يعاقبوا عليه في الدنيا والآخرة، لكن الله عفا عن عقوبتهم الأخروية، وجعل عقوبتهم في الدنيا تربية وتمحيصًا. ، لأن فرارهم لم يكن عن نفاق ، بل كان عارضًا عرض لهم عندما اضطربت الصفوف واختلطت الأصوات .وفي هذا دفع لاستيلاء اليأس على نفوسهم، وتحسين لظنونهم. ، حتى تكون أمامهم الفرصة لتطهير نفوسهم . وبعثها على التوبة الصادقة والإخلاص لله رب العالمين.
" جاء رجلٌ حجَّ البيتَ، فرأى قومًا جلوسًا، فقال: مَن هؤلاء القعودُ؟ قالوا: هؤلاء قريشٌ, قال: مَن الشَّيخُ ؟ قالوا: ابنُ عمرَ، فأتاه فقال:... أَتَعْلمُ أنَّ عُثمانَ بنَ عفَّانَ فرَّ يومَ أُحُدٍ؟ قال: نعَمْ... أمَّا فِرارُهُ يومَ أُحُدٍ فأَشهدُ أنَّ اللهَ عفا عنه وغفَر له..."صحيح البخاري.
يَرْوي التَّابِعيُّ عُثمانُ بنُ مَوْهَبٍ أنَّه قد جاء رَجلٌ مِن أهلِ مِصرَ للحَجِّ، فوجَدَ قَومًا مِن قُرَيشٍ يَجلِسونَ، فسَأَل عن كَبيرِهم، فأشاروا إلى عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما، فذكَر له بَعضًا مِن الشُّبُهاتِ الَّتي أُثيرَتْ في حقِّ الخَليفةِ عُثمانَ رَضيَ اللهُ عنه، فقال له: هلْ تَعلَمُ أنَّ عُثمانَ فرَّ يومَ أُحدٍ؟ أي: في غَزْوةِ أُحدٍ، فقال ابنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما: نَعمْ.فقال ابنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما للرَّجلِ: تعالَ أُبيِّنْ لكَ حَقيقةَ كلِّ تُهْمةٍ وشُبْهةٍ منَ الَّتي ذكَرْتَها، فأمَّا فِرارُه يومَ أُحدٍ، فكان فيمَن أخْطأَ مِن المُسلِمينَ، وقدْ عَفا اللهُ عنهم، وغفَرَ لهم.
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ: ذكر سبحانه اسمين يتضمنان وصفين بهذا الختم لهذه الآية مما يصلح للتعليل إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيم : والغفور صيغة مُبالغة كثير الغفر على كثرة الذنوب والإساءات ، يستر، ويقي العبد شؤم المعصية، والتبعات التي تلحقه من جرائها، حليم، لا يُعاجل بالعقوبة، بل قابل هؤلاء أيضًا بالعفو.
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعفو عنا، ويتجاوز، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، وأن يرحمنا برحمته، وأن يُعيينا على ذكره وشكره وحُسن عبادته، اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"156.
أي: يا أيُّها المؤمنون، لا تَصيروا مثلَ الكفَّار- المنافقون وأشباههم- الَّذين قالوا قولًا منكَرًا ناشئًا عن اعتقادٍ فاسدٍ بالاعتراضِ على قضاءِ الله عزَّ وجلَّ وقدَرِه، وهو قولُهم عن إخوانهم من أهلِ الكفرِ والنفاقِ الَّذين خرَجوا من بلادهم سَفرًا لأجل التِّجارة وطلب المعيشة، أو خرَجوا غُزاةً للقتال، فماتوا في سَفَرهم، أو قُتلوا في غزوهم: يعارضون القدر ويقولون: لو أقاموا معنا ولم يَخْرُجوا كما فعلنا نحن لَمَا ماتوا في سفَرِهم، ولَمَا قُتِلوا في غَزوِهم.
ولو كانوا مؤمنين بقضاء الله وقدره لعلموا أن كل شىء عنده بمقدار ، وأن العاقل هو الذي يعمل ما يجب عليه بجد وإخلاص ثم يترك بعد ذلك النتائج لله يسيرها كيف يشاء.
لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ:والحسرة - كما يقول الراغب – هي الهم المضني الذى يلقي على النفس الحزن المستمر والألم الشديد والغم على ما فاته ، والندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه ، أو انحسرت قواه - أي انسلخت - من فرط الغم ، وأدركه إعياء عن تدارك ما فرط " ، واللام في قوله لِيَجْعَلَ هي التي تسمَّى بلام العاقبة ، وهي متعلقة بقالوا أي قالوا ما قالوا لغرض من أغراضهم التي يتوهمون من ورائها منفعتهم ومضرة المؤمنين فكان عاقبة قولهم ومصيره إلى الحسرة والندامة لأن المؤمنين الصادقين لن يلتفتوا إلى هذا القول . بل سيمضون في طريق الجهاد الذي كتبه الله عليهم وسيكون النصر الذي وعدهم الله إياه حليفهم وبذلك يزداد الكافرون المنافقون حسرة على حسرتهم . ويجوز أن تكون اللام للتعليل ويكون المعنى : أن الله - تعالى - طبع الكفار على هذه الأخلاق السيئة بسبب كفرهم وضلالهم لأجل أن يجعل الحسرة في قلوبهم والغم في نفوسهم والضلال بهذه الأقوال والأفعال في عقولهم .
أي: إنَّ اللهَ تعالى يَجعلُ هذا القولَ وهذا الاعتقادَ ندامةً في قلوبهم وهمًّا، فتزداد مصيبتُهم بذلك.
وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ: أي: هو المنفرد بذلك، فلا يغني حذر عن قدر. واللهُ تعالى هو وحْدَه الَّذي يملِكُ الإحياءَ والإماتة، فلن يموتَ أحدٌ أو يُقتَل إلَّا بمشيئتِه سبحانه، وذلك بعدَ استكمالِ أجَلِه الَّذي قدَّره الله عزَّ وجلَّ له. فالأرواح كلها بيد الله يقبضها متى شاء ، ويرسلها متى شاء فالقعود في البيوت لا يطيل الآجال كما أن الخروج للجهاد في سبيل الله أو للسعي في طلب الرزق لا ينقصها.
أي لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا فيمن ماتوا أو قتلوا ما قالوا، ليكون عاقبة ذلك القول مع الاعتقاد حسرة في قلوبهم على من فقد من إخوانهم تزيدهم ضعفا وتورثهم ندما على تمكينهم إياهم من التعرض لما ظنوه سببا ضروريا للموت، فإنكم إذا كنتم مثلهم في ذلك يصيبكم من الحسرة مثل ما يصيبهم، وتضعفون عن القتال كما يضعفون.
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ: واللهُ عزَّ وجلَّ مطلع على أعمال العباد وأقوالهم. مطلعٌ على كلَّ ما يَعمَلُه العبادُ، مؤمنُهم وكافرُهم، من خيرٍ أو شرٍّ، قليلٍ أو كثيرٍ، وهو حافظٌ له، فلا يخفى عليه شيء مما تكنّون في أنفسكم من المعتقدات التي لها أثر في أقوالكم وأفعالكم،وسيجازيكم عليها يوم القيامة بما تستحقون من خير أو شر.
"وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ"157.
الفرق بين القتل والموت، فالموت: هو زهوق الروح، أن تزهق روح الإنسان حتف أنفه، يعني: من غير جناية، من غير تسبُب، أو مُباشرة، والقتل قلنا: هو زهوق الروح بتسبُب.
والذي يحرص على ألا يخوض المعركة مخافة أن يُقتل، فما الذي يرجح عنده هذا العمل؟ إنه يبتغي الخير بالحياة. وما دام يبتغي الخير بالحياة، إذن فحركته في الحياة وفي همه ستأتيه بخير، فهو يخشى أن يموت ويترك ذلك الخير، إنه لم يمتلك بصيرة إيمانية، ونقول له: الخير في حياتك على قدر حركتك: قوة وعلما وحكمة، أما تمتعك حين تلقى الله شهيدًا فعلى قدر ما عند الله من فضل ورحمة وهي عطاءات بلا حدود، إذن فأنت ضيعت على نفسك الفرق بين قُدرتك وحِكمتك وعِلمك وحَركتك في الكسب وبين ما يُنسب إلى الله في كل ذلك،
أي: إنَّكم إذا قُتِلتم في سبيلِ الله ....، فهذا أمرٌ حسَنٌ يَنبغي أنْ تطمَعوا فيه، وتتنافسوا عليه؛ لأنَّه موصلٌ إلى نيلِ مغفرةِ الله تعالى لذُنوبكم، وشمولِ رحمتِه عليكم، وذلك أفضلُ لكم من البقاءِ في هذه الدَّارِ وجمْعِ حُطامِها الفاني، كما يفعلُ أهلُ الدُّنيا.
خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ: أي إن مغفرة الله ورحمته لمن يموت أو يقتل في سبيل الله، خير مما يجمعه ويتمتع به الكفرة من متع الدنيا وشهواتها الزائلة في هذه الدار الفانية ، بخلاف مغفرة الله ورحمته فإنهما باقيتان ولا كدر معهما ولا تعب.فإن هذا ظل زائل، وذاك نعيم خالد.
فما أجدر المؤمنين أن يؤثروا مغفرة الله ورحمته على الحظوظ الفانية، وألا يتحسروا على من يقتل منهم أو يموت في سبيل الله.
الرحمة نجاة من العقاب، فلا ينجو من عقاب الله وعذابه إلا من تغمده الله برحمته، وعلى ذلك تكون المغفرةستر عن الزلة، والرحمة نجاة من العذاب.
"وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ"158.
ولنا أن نلحظ أن قول الحق في الآية الأولى جاء بتقديم القتل على الموت قال تعالى"وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ" وجاء في هذه الآية بتقديم الموت على القتل قال- جل شأنه"وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ" فقدم القتل على الموت في الآية الأولى لأنها جاءت في المقاتلين، والغالب في شأنهم أن من يلقى الله منهم ويفضي إلى ربه يكون بسبب القتل أكثر مما يكون بسبب الموت حتف أنفه، أما هذه الآية فقد جاءت لبيان أن مصير جميع العباد-ومرجعهم يوم القيامة يكون إلى الله- تعالى- وأن أكثرهم تزهق نفسه وتخرج روحه من بدنه بسبب الموت، فلذا قدم الموت هنا على القتل. إذن فكل كلمة وجملة جاءت مناسبة لموقعها. إنه قول الحكيم الخبير.
الخَلْق أيضا إذا ماتوا أو قتلوا بأي حالة كانت، فإنما مرجعهم إلى الله، ومآلهم إليه، فيجازي كلا بعمله، فأين الفرار إلا إلى الله، وما للخلق عاصم إلا الاعتصام بحبل الله؟"
إذا جاءت سكرة الموت عند ذلك يتلاشى كلُّ عرضٍ من أعراضِ الدنيا عن الإنسان وتبدد، وعرف أنه كان في وهم كبير، وأنه لن يُخلصه في هذه الحال، لا المال ولا الولد ولا الأعوان، ولا غير ذلك، وإنما يُفضي وحده من غير شيء إلا العمل الصالح، أو السيء يُفضي إلى الله، ينتقل إلى الله، وهناك يتولاه ملائكة الرحمة، أو ملائكة العذاب، وهناك يُجازي ويُحاسِب من لا تخفى عليه خافية، هنا تخفى على الناس أشياء كثيرة، وقد يظهر الإنسان بغير ما يُبطن، ويُسر، لكن هناك تظهر الحقائق، ومُخبآت النفوس، وأعمال الناس، فتلك الدار الحقيقية.
لذلك على العاقل الذي يريد أن ينفع نفسه ينظر في أعماله، وفي حاله، وفي غفلته، وفي ما يصدر عنه، وفي نياته، ومقاصده، ويُصلح ذلك كله قبل أن يُغادر في أي لحظة، والمُغادرة لا يدري الإنسان متى تكون ، ربما تكون وهو في بحبوحة من العيش، وفي رغد، ونعمة يكون لربما ضاحكًا مع أهله أو أصحابه، أو غير ذلك، ثم بعد ذلك في لحظة، أو في حادث، أو نحو ذلك، وهو لربما في طرب،فيباغته الموت، ولا يستطيع تلك اللحظة أن يتوب، ولا يستطيع أن يوصي، ولا أن يرجع إلى أهله ليودع، هذا أمر مُشاهد، ماذا ينتظر الإنسان بعد العافية؟ وماذا ينتظر بعد الإمهال؟ وماذا ينتظر بعد الفراغ؟
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يُعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحُسن عبادته.

 

 

تفسير سورة آل عمران


من آية 159إلى آية 170

" فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ"159.
نزلت هذه الآيات عقب غزوة أُحد التي خالف فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعضُ أصحابهِ، وكان من جرّاء ذلك ما كان من الفشل وظهور المشركين عليهم حتى أصيب النبيُّ صلى الله عليه وسلم مع من أصيب.
فبعد أن أرشد سبحانه عباده المؤمنين في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم - زاد في الفضل والإحسان إليهم في هذه الآيات بأن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم على عفوه عنهم وتركه التغليظ عليهم،.
فبسبب رحمة عظيمة فياضة منحك الله إياها يا محمد كنت لَيِّنًا مع أتباعك فى كل أحوالك ، ولكن بدون إفراط أو تفريط ، فقد وقفت من أخطائهم التي وقعوا فيها في غزوة أُحد موقف القائد الحكيم المُلْهَم فلم تعنفهم على ما وقع منهم وأنت تراهم قد استغرقهم الحزن والهم. بل كنت لَيِّنًا رفيقًا معهم . وهكذا القائد الحكيم لا يُكثر من لوم جنده على أخطائهم الماضية ، لأن كثرة اللوم والتعنيف قد تولد اليأس ، وإنما يتلفت إلى الماضي ليأخذ منه العبرة والعظة لحاضره ومستقبله ويغرس في نفوس الذين معه ما يحفز همتهم ويشحذ عزيمتهم ويجعلهم ينظرون إلى حاضرهم ومستقبلهم بثقة واطمئنان وبصيرة مستنيرة . وإن الشدة فى غير موضعها تفرق ولا تجمع وتُضعف ولا تقوي ، ولذا قال – تعالى " وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" لو كنت تحمل قلبًا قاسيًا وخُلقًا صعبًا.
الفظ : خشونة القول وسوء الخُلق، غَلِيظَ الْقَلْبِ :الغلظ في القلب هو قسوة في القلب ما ينشأ عنه الخشونة في الألفاظ.
أي ولو كنت خشنًا جافيًا في معاملتهم لتفرقوا عنك، ونفروا منك، ولم يسكنوا إليك، ولم يتم أمرك من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط السوي. وإن الشدة في غير موضعها تفرق ولا تجمع وتضعف ولا تقوي ، فالجملة الكريمة تنفي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون فظا أو غليظا ، في الظاهر والباطن لأن " لو " تدل على نفي الجواب لنفي الشرط . أي أنك لست - يا محمد - فظا ولا غليظ القلب ولذلك التف أصحابك من حولك يفتدونك بأرواحهم وبكل مرتخص وغال ، ويحبونك حبًا يفوق حبهم لأنفسهم ولأولادهم ولآبائهم ولأحب الأشياء إليهم .
والرسول صلى الله عليه وسلم كان مبرأ من كل ذلك ، ويكفي أن الله - تعالى - قد قال فى وصفه " لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ "التوبة: 128.
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ: فالفاء هنا تفيد ترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي أنه يترتب على لين جانبك مع أصحابك ، ورحمتك بهم ، أن تعفو عنهم فيما وقعوا فيه من أخطاء تتعلق بشخصك أو ما وقعوا فيه من مخالفات أدت إلى هزيمتهم في أُحد ، فقد كانت زلة منهم وقد أدبهم الله عليها. وأن تلتمس منَ اللهِ تعالى ، أن يغفر لهم ما فرط منهم ، إذ في إظهارك ذلك لهم تأكيد لعفوك عنهم ، وتشجيع لهم على الطاعة والاستجابة لأمرك.
وأنْ يَستشيرَهم في الأمورِ الَّتي تحتاجُ إلى مشورةٍ، فإذا ترجَّح له أمرٌ بعد الاستشارةِ فليَمضِ فيه متوكِّلًا على الله، أي: اعتمد على حول الله وقوته، متبرئا من حولك وقوتك، والله سبحانه يحبُّ مَن يتوكَّل عليه.
"إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ"160.
ثمَّ يخبِرُهم تعالى أنَّه حِين يُقدِّرُ للمؤمنين النَّصرَ فلنْ يَستطيعَ أحدٌ أنْ يَهزمَهم، وإنْ تخلَّى اللهُ عنهم فلا يُمكن لأحدٍ أنْ يَنصُرَهم أبدًا، لأن الله لا مغالب له، وقد قهر العباد وأخذ بنواصيهم، فلا تتحرك دابة إلا بإذنه، ولا تسكن إلا بإذنه ،وعلى اللهِ وحْدهَ فليكُنِ اعتمادُ كلِّ مؤمن. 
والمراد بالنصر هنا العون الذي يسوقه لعباده حتى ينتصروا على أعدائهم . والمراد بالخذلان ترك العون . والمخذول ، هو المتروك الذى لا يُعبأ به.
" وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ "161. 
ثمَّ يُخبِرُ تعالى أنَّه ليس من صِفاتِ الأنبياءِ الغُلولُ، أي: كتمانُ الغنيمةِ، أو الأخذ من الغنيمة خفية قبل قسمتها ولا الخيانةُ عمومًا، ولا يَنبغي أن يُتَّهموا بذلِك، أو يَخُونَهم أحدٌ، وأنَّ مَن قام بالخيانةِ في غنائمِ المسلمين فإنَّه يُجيءُ معه يومَ القيامة بذلك الشَّيءِ الَّذي أخَذَه خِيانةً، ثمَّ تُجزَى كلُّ نفسٍ بما عمِلَتْ، لا يُظلَمُ أحدٌ شيئًا.
نزلَت هذه الآيه " وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ "في قَطيفةٍ حمراءَ افتُقدت يومَ بدرٍ فقال : بَعضُ النَّاسِ لعلَّ رسولَ اللهِ أخذَها، فأنزلَ اللهُ تبارَك وتعالَى " وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ "إلى آخرِ الآيةِ"الراوي : عبدالله بن عباس - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم : 3009 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
اخْتارَ اللهُ سبحانَه رُسلَه وأنبياءَه واصطَفاهُم مِن خِيرةِ الخلقِ، وأدَّبَهم على عْينِه سبْحانَه؛ فَهم أفْضلُ الخلقِ خُلقًا وعمَلًا، ولكنْ دائمًا ما كان الرُّسلُ يُبْتَلَوْن بالمنافِقينَ والمعَانِدينَ الَّذين يَصِفونَهم بالقبائحِ، ولكنَّ اللهَ يُظهِرُ براءةَ أنبيائِه ورسلِه على أعْيُنِ النَّاسِ جميعًا، وقد تَعرَّض النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لِمثْلِ هذا، وأنْزلَ اللهُ براءتَه قرْآنًا يُتلَى إلى يومِ القيامةِ، كما يقولُ عبدُ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنهما في هذا الحديثِ. وفي الحديثِ: أنَّ اللهَ تعالى يُدافِعُ عن أنبيائِه وأوليائِه.
وفيه: بيانُ أنَّ المنافِقين شِرارُ النَّاسِ.الدرر السنية.
وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : جمهور العلماء على أن الغال يأتي بما غله يوم القيامة بعينه على سبيل الحقيقة لأن ظواهر النصوص من الكتاب والسنة تؤيد ذلك . ولأنه لا موجب لصرف الألفاظ عن ظواهرها .
قال أبو هريرة: قَامَ فِينَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ذَاتَ يَومٍ، فَذَكَرَ الغُلُولَ، فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قالَ: لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ له رُغَاءٌ يقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ له حَمْحَمَةٌ، فيَقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ، فيَقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فيَقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فيَقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ."الراوي : أبو هريرة - صحيح مسلم.
حَذَّر الشَّرعُ الإسلاميُّ المُطهَّرُ تَحذيرًا شَديدًا مِنَ الغُلولِ، وهو الخِيانةُ والسَّرِقةُ مِنَ الغَنيمةِ قبْلَ قِسمَتِها، وبَيَّنَ أنَّ عُقوبَتَه تَكونُ على رُؤوسِ الأشهادِ يَومَ القيامةِ.
وأخبَرَ أنَّه لا يَأخُذُ أحَدٌ مِنَ المَغنَمِ شَيئًا بغَيرِ حَقٍّ، إلَّا جاءَ يَومَ القيامةِ وهو يَحمِلُ ما سَرَقَه على رَقبَتِه.
رِقاعٌ: جَمعُ رُقعةٍ، وهي الخِرقةُ، تَخفِقُ: أي: تَتَحرَّكُ إذا حَرَّكَتْها الرِّياحُ، أو تَلمَعُ.
كلُّ هؤلاء يُنادُون رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِيَشفَعَ لهم عِندَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ أنْ يَرفَعَ عنهم هذا العَذابَ، فتَكونُ الصَّدمةُ أنْ يُخبِرَهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّه لا يَملِكُ لهم عِندَ اللهِ شَيئًا مِنَ المَغفِرةِ أوِ الشَّفاعةِ؛ لِأنَّ الشَّفاعةَ تَكونُ بأمْرِ اللهِ وإذنِه، ثمَّ يَقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لكلِّ واحدٍ منهم"قدْ أبلَغتُكَ"، فأنذَرتُكَ عاقِبةَ هذا الفِعلِ وأنتَ في الدُّنيا، فلمْ تَستجِبْ، فغَلَلْتَ وسَرَقتَ، فاستَحَقَّيتَ العُقوبةَ مِن اللهِ تعالَى. وحِكمةُ الحَملِ على الرَّقَبةِ هي فَضيحةُ الحامِلِ على رُؤوسِ الأشهادِ في ذلك المَوقِفِ العَظيمِ، وقال بَعضُهم: هذا الحَديثُ يُفسِّرُ قَولَه تَعالى"وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"آل عمران: 161، أي: يأتِ به حامِلًا له على رَقَبَتِه.
وفي الحَديثِ: أنَّ العُقوباتِ قدْ تَكونُ مِن جِنسِ الذُّنوبِ، بأنْ يَجعَلَها اللهُ سُبحانَه وتعالَى عِقابًا لِلشَّخصِ.
وفيه: تَعديدُ بَعضِ أنواعِ الغُلولِ؛ لِيَكونَ إعلامًا لِلنَّاسِ بها.
يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ: الصامِتُ الذَّهَبُ والفِضَّةُ المَغلولةُ. .الدرر السنية.
ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ: ثم تُعطَى كلُّ نفسٍ يومَ القيامةِ جزاء ما كسبت من خير أو شر وافيًا تامًا ، وهم لا يظلمون شيئًا.جاء بصيغة العموم ، ولم يقل ثم يوفي الغال مثلا - لأن من فوائد ذكر هذا الجزاء بصيغة العموم ، الإعلام والإخبار للغال وغيره من جميع الكاسبين بأن كل إنسان سيجازَى على عمله سواء أكان خيرًا أو شرًا . فيندرج الغال تحت هذا العموم أيضًا فكأنه قد ذُكِرَ مرتينِ . 
" أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَاءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"162. 
ثم أكد - سبحانه - نفي الظلم عن ذاته ، أي أفمن اتقى وسعى في تحصيل رضا الله بفعل الطاعات، وترك الغلول وغيره من الفواحش والمنكرات حتى زكت نفسُهُ وصفت روحُهُ - يكون جزاؤه كجزاء من انتهى أمرُهُ إلى سخطِ اللهِ، وعظيم غضبه، بفعل ما يدنس نفسَهُ منَ الخطايا من سرقة وغلول وسلب وقتل، وترك ما يطهرها من فعل الخيرات وعمل الصالحات؟!.
فالآية الكريمة تفريع على قوله - تعالى - قبل ذلك " ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ " وتأكيد لبيان أنه لا يستوي المحسن والمسىء والأمين والخائن . والاستفهام إنكاري بمعنى النفي ، أي لا يستوي من اتبع رضوان الله مع من باء بسخط منه . وقد ساق - سبحانه - هذا الكلام الحكيم بصيغة الاستفهام الإنكاري ، للتنبيه على أن عدم المساواة بين المحسن والمسيء أمر بدهي واضح لا تختلف فيه العقول والأفهام ، وأن أي إنسان عاقل لو سُئل عن ذلك لأجاب بأنه لا يستوي من اتبع رضوان الله مع من رجع بسخط عظيم منه بسبب كفره أو فسقه وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى " "أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ" السجدة:18. وقوله " "أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ" ص:28..ثم أعقب - سبحانه - ذكر سخطه وغضبه بذكر عقوبته فقال " وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" أي أن هذا الذي رجع بغضب عظيم عليه مِنَ اللهِ - تعالى - بسبب كفره أو فسوقه أو خيانته ، سيكون مثواه ومصيره إلى النار وبئس وسوء ذلك المصير الذي صار إليه وكان له مرجعًا ونهاية نسأل الله العفو والعافية لنا ولكم . 
"هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ" 163.
"هُمْ دَرَجَاتٌ " والدرجات المنازل بعضها أعلى من بعض في المسافة أو في التكرمة، أو العذاب.
اختلف المفسرون في قوله تعالى" هُمْ دَرَجَاتٌ " مَن المراد بذلك؟ فقال ابن إسحاق وغيره: المراد بذلك الجمعان المذكوران، أهل الرضوان وأصحاب السخط، أي لكل صنف منهم تباين في نفسه في منازل الجنة، وفي أطباق النار أيضًا، وقال مُجَاهِدٌ و السُّدِّيُّ ما ظاهره: إن المراد بقوله " هُمْ " إنما هو لمتبعي الرضوان، أي لهم درجات كريمة عند ربهم.
والمعنى: هم: أي الأخيار الذين اتبعوا رضوان الله، والأشرار الذين رجعوا بسخط منه متفاوتون في الثواب والعقاب على حسب أعمالهم كما تتفاوت الدرجات وإطلاق الدرجات على الفريقين من باب التغليب للأخيار على الأشرار والمراد إن الذين اتبعوا رضوان الله يتفاوتون في الثواب الذي يمنحهم الله إياه على حسب قوة إيمانهم، وحسن أعمالهم.
كما أن الذين باءوا بسخط منه يتفاوتون في العقاب الذي ينزل بهم على حسب ما اقترفوه من شرور وآثام، فمن أوغل فى الشرور والآثام كان عقابه أشد من عقاب من لم يفعل فعله وهكذا.
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ: أي مطلع على أعمال العباد صغيرها وكبيرها ظاهرها وخفيها، لا يغيب عنه شىء، وسيجازي كلَّ إنسانٍ بما يستحقه على حسب عمله، بمقتضَى علمه الكامل، وعدله الذي لا ظلم معه.
وبعد أن نزه الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم عن الغلول وعن كل نقص، وبيَّنَ أنَّ الناسَ متفاوتون في الثوابِ والعقابِ على حسب أعمالهم.
بعد أن بيَّن ذلك أتبعه ببيان فضله - سبحانه - على عباده في أن بعث فيهم رسولًا منهم ليخرجهم مِنَ الظلماتِ إلى النورِ فقال – تعالى:
" لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ"164. 
مَنَّ : أي: أنْعَم وصنَع الصُّنع الجَميل.
" مِّنْ أَنفُسِهِمْ" أي من نفس العرب، ويكون المراد بالمؤمنين مؤمني العرب، وقد بعثه الله عربيًّا مثلهم، ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع بتوجيهاته.
ويصح أن يكون معنى قوله " مِّنْ أَنفُسِهِمْ" أنه بشر مثل سائر البشر إلا أن الله - تعالى - وهبه النبوة والرسالة، ليُخرِج الناس جميعا العربي منهم وغير العربي - من ظلمات الشرك إلى نور الإِيمان، وجعل رسالته عامة.
ثم بيَّنَ- سبحانه- مظاهر هذه المنة والفضل ببعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقال:يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ:
أي لقد أعطى الله - تعالى - المؤمنين من النعم ما أعطى، لأنه قد بعث فيهم رسولًا من جنسهم يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ : يقرأ عليهم كتاب الله لفظًا وحفظًا وتحفيظًا، فكان النبيصلّى الله عليه وسلّم يحفظها، فلم يكن يقرأ في كتاب " سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى" سورة الأعلى:6. ويقرأ عليهم فيحفظون .
ويبيِّنُ لهم آيات الله الكونية،أي يتلو عليهم آياته الدالة على قدرة الله ووحدانيته وعلمه، كما جاء في قوله" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ "آل عمران: 190. وقوله " وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها "الشمس: 1،2. وقوله "أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ " الغاشية: 20. 
" وَيُزَكِّيهِمْ " أي يطهرهم من الكفر والذنوب. أو يدعوهم إلى ما يكونون به زاكين طاهرين مما كانوا عليه من دنس الجاهلية، والاعتقادات الفاسدة، بالتربية بالأعمال الصالحة، والتنزه عن أضدادها من الرذائل.
" وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ . أي: ويُعلِّمهم معانيَ القرآنِ الكريم، والسُّنَّة النَّبويَّة. قال ابن تيمية:والحكمة قال غير واحد من السلف: هي السنة.وقال أيضًا طائفة كمالك وغيره: هي معرفة الدين والعمل به.ا.هـ.
فيعلمهم المعاني، والأحكام بسيرته العملية، وبقوله -عليه الصلاة والسلام- 
فصارت ثلاثة أشياء متدرجة: الحفظ، والتلاوة، والتحفيظ، والثاني: التزكية والتربية العملية، ، والثالث: البيان للمعاني، والفقه في الدين ، وبهذا يحصل الكمال، لا بد من هذه الأمور الثلاثة.
فالتلاوة وحدها لا تكفي، فلا بد من التعليم وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ فالفقه في الدين، وفهم معاني القرآن إنما يُتلقى ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وعمن أخذوا عنه، وليس لأحد أن يقول: نحن رجال، وهم رجال، ونُريد أن نُفسر القرآن بحسب مُعطيات عصرنا، وبحسب أعرافنا وأفهامنا، فلكل عصر رجاله، فهذا الكلام مُغالطة كبيرة، ولا يمكن أن يتوصل معها إلى هُدى، وإنما هو الضلال المُبين، والخروج من رِبقة الدين، فهذه هي النتيجة، فلو أُطلق العنان لكل أحد أن يتكلم في معاني القرآن، بعيدًا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهم السلف الصالح، فلا تسأل عن ضلالة هؤلاء.
وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ: أي: إن حال الناس وخصوصًا العرب أنهم كانوا قبل بعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم إليهم في ضلال بيِّن واضح لا يخفى أمره على أحد من ذوي العقول السليمة ، لا يعرفون الطريق الموصل إلى ربهم، ولا ما يزكي النفوس ويطهرها.
"أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"165.
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ : والهمزة في قوله "أَوَلَمَّا" للاستفهام الإنكاري التعجيبى. مُّصِيبَةٌ : المراد بالمصيبة: ما أصابهم يوم أحد من ظهور المشركين عليهم، وقتل سبعين من المسلمين .
قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا: أي: أحِينَ حلَّت بكم مُصيبةُ غزوةِ أُحُدٍ بقتلِ سبعينَ رجلًا منكم، مع أنَّكم نِلتُم قبلها في بَدْرٍ ضِعْفَيْ ما نالوا منكم عددًا، بقَتلِ سبعينَ من صناديدهم ، وأَسْرِ سَبعينَ آخَرين، أحينَها تقولون: مِن أين جرَى علينا هذا الأمرُ، وكيفَ حلَّتْ بنا هذه الكارثةُ يوم أُحُد! من أين لنا هذا القتل والخذلان ونحن مسلمون نقاتل في سبيل الله، وفينا رسوله صلى الله عليه وسلم وأعداؤنا الذين قَتَلُوا منا مَنْ قُتِلُوا مشركون يقاتلون في سبيل الطاغوت.
وقوله قلتم أنى هذا هو موضع التوبيخ والتعجيب من شأنهم، لأن قولَهم هذا يدل على أنهم لم يحسنوا وضع الأمور في نصابها حيث ظنوا أن النصر لا بد أن يكون حليفهم حتى ولو خالفوا أمر قائدهم ورسولهم صلى الله عليه وسلم ولذا فقد رد الله- تعالى- عليهم بما من شأنه أن يعيد إليهم صوابهم وبما يعرفهم السبب الحقيقي في هزيمتهم فقال:
قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ : أي قل يا محمد لهؤلاء الذين قالوا ما قالوا: إن ما أصابكم في أُحد سببه أنتم لا غيركم. فأنتم الذين أبيتم إلا الخروج من المدينة مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار عليكم بالبقاء فيها. وأنتم الذين خالفتم وصيته بترككم أماكنكم التي حددها لكم وأمركم بالثبات فيها. وأنتم الذين تطلعت أنفسكم إلى الغنائم فاشتغلتم بها وتركتم النصيحة، وأنتم الذين تفرقتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ساعة الشدة والعسرة فلهذه المخالفات التي نبعت من أنفسكم أصابكم ما أصابكم في أُحد، وكان الأولى بكم أن تعرفوا ذلك وأن تعتبروا وأن تقلعوا عن هذا القول الذي لا يليق بالعقلاء، إذ العاقل هو الذي يحاسب نفسه عندما يفاجئه المكروه ويعمل على تدارك أخطائه ويقبل على حاضره ومستقبله بثبات وصبر مستفيدًا بماضيه ومتعظًا بما حدث له فيه.
وفي أحد كذلك كان لهم النصر في أول المعركة على المشركين، وقتلوا منهم قريبًا من عشرين إلا أنهم حين خالفوا وصية رسولهم صلى الله عليه وسلم وتطلعوا إلى الغنائم، منع الله عنهم نصره، فقتل المشركون منهم قريبا من سبعين.
من فوائد غزوة أُحُد أنها كشفت عن قوي الإيمان من ضعيفه، ميزت الخبيث من الطيب.وإذا كان انتصار المسلمين في بدر جعل كثيرًا من المنافقين يدخلون في الإسلام طمعًا في الغنائم، فإن عدم انتصارهم في أُحُد قد أظهر المنافقين على حقيقتهم، ويسر للمؤمنين معرفتهم والحذر منهم.
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ : أي إن الله تعالى- قدرته فوق كل شيء فهو القدير على نصركم وعلى خذلانكم وبما أنكم قد خالفتم نبيكم صلى الله عليه وسلم فقد حرمكم الله نصره، وقرر لكم الخذلان، حتى تعتبروا ولا تعودوا إلى ما حدث من بعضِكم في غزوةِ أُحُدٍ، ولتذكروا دائمًا قوله- تعالى" وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ"الشورى:30.
وإياكم وسوء الظن بالله، فإنه قادر على نصركم، ولكن له أتم الحكمة في ابتلائكم ومصيبتكم ،قال تعالى " ذلك وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ" محمد : 4.
" وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ" 166. 
ثم أكد- سبحانه - عموم قدرته وإرادته أن كل شيء بإذنه 
أي: وما أصابكم- أيها المؤمنون- من قتل وجراح وآلام يوم التقى جمعكم وجمع أعدائكم في أُحُد، فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي فبإرادته الكونية وعلمه، إذ ما من شيء يقع في هذا الكون إلا بتقدير الله وعلمه، فعليكم أن تستسلموا لإرادة الله، وأن تعودوا إلى أنفسكم فتهذبوها وتروضوها على تقوى الله وطاعته، حتى تكونوا أهلا لنصرته وعونه. والمقصود بالإذن هنا الإذن الكوني، وليس المقصود به الإذن الشرعي، يعني بقضائه وقدره؛ لأن كل شيء إنما هو بقضاء وقدر، لا يقع في هذا الكون صغيرة ولا كبيرة، ولا تحريك ولا تسكين إلا بقضاء الله -تبارك وتعالى- وتقديره، فالملك ملكه والخلق خلقه.
وقوله :وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ: بيان لبعض الحِكَم التي من أجلها حدث ما حدث في غزوة أُحُد.
المقصود بالعلم هنا: علم الوقوع؛ العلم الذي يترتب عليه الجزاء؛ لأن الله -تبارك وتعالى- كما هو معلوم يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فإذا جاء مثل هذا في كتاب الله عز وجل وليعلم كذا: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِين الذين صبَروا وثبَتوا مِن غيرهم. فإن ذلك محمول على هذا المعنى العلم الذي يترتب عليه الجزاء وهو علم الوقوع؛ لأن الله لا يُجازيهم بمقتضى علمه السابق من كمال رحمته وعدله، وإنما يُجازيهم ويُحاسبهم إذا صدر ذلك عنهم ووقع:وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِين فيظهر ذلك عيانًا ويتميز أهل الإيمان من غيرهم.
الشيخ العثيمين: علم ظهور، يعني: وليعلمه بعد ظهوره، أما علمه قبل ظهوره فهو ثابت لله عز وجل؛ لأن الله عَلِم كل شيء إلى يوم القيامة، وأيضًا هذا العلم علم يترتب عليه الثواب، أما علم الله السابق فإنه لا يترتب عليه الثواب ولا يترتب عليه العقاب، هذان فرقان، الفرق الثالث: أن هذا العلم علم بالشيء بعد أن وقع، فهو علم بأنه وقع، وأما العلم الأزلي فهو علم بأنه سيقع، وهناك فرق بين العلم بأنه وقع وبين العلم بأنه سيقع، هذه ثلاثة أوجه، وإلّا فإن كثيرًا من الناس يقول: كيف وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ أليس الله قد علمهم؟ فنقول: بلى علمهم، لكن العلم يختلف من هذه الوجوه الثلاثة.
" وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ" 167.

وَلِيَعْلَمَ : والعلم هنا كناية عن الظهور والوقوع والتقرر في الخارج لما قدره- سبحانه -في الأزل ،وقوع الذي يترتب عليه الجزاء.

وهذه حكمة ثانية لما حدث في غزوة أحد.
أي: حدث ما حدث في غزوة أُحد ليتميز - المؤمنون من المنافقين عِلم عيان ورؤية وظهور يتميز معه عند الناس كل فريق عن الآخر تميزا ظاهرًا.إذ أن نصر المسلمين في بدر فَتَحَ الطريقَ أمام المنافقين للتظاهر باعتناق الإسلام.وعدم انتصارهم في أُحُد، كشف عن هؤلاء المنافقين وأظهرهم على حقيقتهم، فإن من شأن الشدائد أنها تكشف عن معادن النفوس، وحنايا القلوب.

ثم بيَّنَ- سبحانه- بعض النصائح التي قيلت لهؤلاء المنافقين حتى يقلعوا عن نفاقهم، وحكى ما رد به المنافقون على الناصحين.

وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا: أي قيل لهم من النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعض أصحابه: تعالوا معنا لتقاتلوا في سبيل الله، فإن لم تقاتلوا فادفعوا أي فانضموا إلى صفوف المقاتلين، فيكثر عددهم بكم فإن كثرة العدد تزيد من خوف الأعداء. أو المعنى: تعالوا معنا لتقاتلوا من أجل إعلاء كلمة الله، فإن لم تفعلوا ذلك لضعف إيمانكم، واستيلاء الشهوات والأهواء على نفوسكم، فلا أقل من أن تقاتلوا لتدفعوا عن أنفسكم وعن مدينتكم عار الهزيمة.أي إن لم تقاتلوا طلبا لمرضاة الله، فقاتلوا دفاعًا عن أوطانكم وعزتكم.
قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ : هذا ردهم القبيح على من نصحهم بالبقاء مع المجاهدين.أي قال المنافقون- وهم عبد الله بن أُبي وأتباعه- لو نعلم أنكم تقاتلون حقًا لَسِرنا معكم، ولكن الذي نعلمه هو أنكم ستذهبون إلى أُحُدٍ ثم تعودون بدون قتال لأي سبب من الأسباب.أو المعنى- كما يقول الزمخشري" لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لاتبعناكم يعنون أن ما أنتم فيه لخطأ رأيكم وزللكم عن الصواب ليس بشيء، ولا يقال لمثله قتال، إنما هو إلقاء بالنفس إلى التهلكة، لأن رأي عبد الله بن أُبي كان في الإقامة بالمدينة وما كان يستصوب الخروج"
.وقال ابن جرير: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أُحُد في ألف رجل من أصحابه وحتى إذا كانوا بالشوط بين أُحُدٍ والمدينةِ، انخذل عنهم عبد الله بن أُبَي ابن سلول بثلث الناس وقال:
أطاعهم، أي رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج وعصاني. والله ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس؟ فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق والريب، فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام- أخو بني سَلَمَة- يقول لهم. يا قوم أُذَكِّركم الله أن تخذلوا نبيَكُم وقومَكُم- وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا- فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكننا لا نرى أن يكون قتال.فلما استعصوا عليه، وأبوا إلا الانصراف عن المؤمنين قال لهم. أبعدكم الله يا أعداء الله فسيغني اللهُ رسولَهُ عنكم، ثم مضى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويستدل بهذه الآية على قاعدة "ارتكاب أخف المفسدتين لدفع أعلاهما، وفعل أدنى المصلحتين، للعجز عن أعلاهما" ؛لأن المنافقين أُمروا أن يقاتلوا للدين، فإن لم يفعلوا فللمدافعة عن العيال والأوطان. تفسير السعدي.
هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ: يعني أن ميلهم إلى الكفر أقرب من ميلهم إلى الإيمان في هذا الوقت أو في هذا اليوم الذي انصرفوا فيه وانخذلوا عن المسلمين هم للكفر أقرب منهم للإيمان، وإن كان فيهم شيء من الإيمان ولعل هذا في بعضهم، لكنْ هم للكفر أقرب. تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين.
استدلوا بهذه الآية على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال ، فيكون في حال أقرب إلى الكفر ، وفي حال أقرب إلى الإيمان.
هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان أي بينوا حالهم ، وهتكوا أستارهم ، وكشفوا عن نفاقهم لمن كان يظن أنهم مسلمون ; فصاروا أقرب إلى الكفر في ظاهر الحال ، وإن كانوا كافرين على التحقيق .
يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ :
مثل أنهم يأتون إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويقولون"نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه"المنافقون،، ويذكرون الله فيقولون: لا إله إلا الله، ويحضرون بعض الصلوات على أنهم مسلمون، فهم -والعياذ بالله يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ، ما الذي في قلوبهم؟ الكفر، والذي بأفواههم؟ الإسلام.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ: أي الله أعلم بحقيقة ما يُخفون في صدورهم ويُضمرون من النفاق والكفر. وأما ما يظهرونه من اللسان فهو معروف للمسلمين وغير المسلمين.
ثم حكى- سبحانه - لونًا آخر من أراجيفهم وأكاذيبهم التي قصدوا من ورائها الإساءة إلى المؤمنين، والتشكيك في صدق تعاليم الإسلام فقال عز من قائل:
"الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ"168.
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا :
أي أن هؤلاء المنافقين لم يكتفوا بما ارتكبوه من جنايات قبيل غزوة أحد وخلالها، بل إنهم بعد انتهاء المعركة قالوا لإخوانهم الذين هم مثلهم في المشرب والاتجاه،: قالوا لهم وقد قعدوا عن القتال: لو أن هؤلاء الذين استشهدوا في أُحُد أطاعونا وقعدوا معنا في المدينة لما أصابهم القتل، ولكنهم خالفونا فكان مصيرهم إلى القتل.
قولهم هذا يدل على خبث نفوسهم، وانطماس بصيرتهم وجهلهم بقدرة الله ونفاذ إرادته، وشماتتهم فيما حل بالمسلمين من قتل وجراح يوم أُحُد. ولذا فقد رد الله عليهم بما يخرس ألسنَتَهم، ويدحض قولَهم، ويكشف عن جهلهم وسوء تفكيرهم فقال-تبارك وتعالى: قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ : أي قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ والتهكم بعقولهم الفارغة: إذا كنتم تظنون أنكم دفعتم عن أنفسكم الموت بقعودكم في بيوتكم، وامتناعكم عن الخروج للقتال، إذ كنتم تظنون ذلك فَادْرَؤُا أي ادفعوا عن أنفسكم الموت المكتوب عليكم عند حلوله ، والذي سيدرككم ولو كنتم في بروج مشيدة.
قال مجاهد ، عن جابر بن عبد الله : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول .
وبعد هذا الحديث الكاشف عن طبيعة المنافقين وعن أحوالهم، انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن الشهداء وفضلهم وما أعده الله لهم من نعيم مقيم فقال-تبارك وتعالى: 
"وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ"169.

كلام مستأنف ساقه الله-تبارك وتعالى- لبيان أن القتل في سبيل الله الذي يحذره المنافقون ويحذرون الناس منه ليس مما يحذر، بل هو أجل المطالب وأسماها، إثر بيان أن الحذر لا يدفع القدر، لأن من قدر الله له القتل لا يمكنه الاحتراز عنه.ومن لم يقدر له ذلك لا خوف عليه منه.

فهذه الآيات الكريمة رد على شماتة المنافقين إثر الردود السابقة، وتحريض للمؤمنين على القتال، وتقرير لحقيقة إسلامية ثابتة هي أن الاستشهاد في سبيل الله ليس فناء بل هو بقاء.

و الخطاب في قوله" وَلَا تَحْسَبَنَّ"للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من يتأتى له الخطاب.

بَلْ أَحْيَاءٌ : وهذه الحياة التي أثبتها القرآن الكريم للشهداء حياة غيبية لا ندرك حقيقتها، ولا نزيد على ما جاء به الوحي.
عِندَ رَبِّهِمْ: يقتضي علو درجتهم، وقربهم من ربهم، يُرْزَقُونَ: من أنواع النعيم الذي لا يعلم وصفه، إلا من أنعم به عليهم.

عَن عبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ، أنَّهُ سُئِلَ عن قولِهِ : وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فقالَ : أما إنَّا قد سأَلْنا عن ذلِكَ، فأُخبِرنا أنَّ أرواحَهُم في طيرٍ خضرٍ تسرحُ في الجنَّةِ حيثُ شاءت، وتأوي إلى قَناديلَ معلَّقةٍ بالعرشِ، فاطَّلعَ إليهم ربُّكَ اطِّلاعةً، فقالَ : هل تستَزيدونَ شيئًا فأزيدُكُم ؟ قالوا ربَّنا : وما نستزيدُ ونحنُ في الجنَّةِ نَسرحُ حيثُ شِئنا ؟ ثمَّ اطَّلعَ عليهمُ الثَّانيةَ، فقالَ : هل تَستزيدونَ شيئًا فأزيدُكُم ؟ فلمَّا رأَوا أنَّهم لَا يُترَكونَ قالوا : تعيدُ أرواحَنا في أجسادِنا حتَّى نرجعَ إلى الدُّنيا، فنُقتلَ في سبيلِكَ مرَّةً أخرى "الراوي : مسروق بن الأجدع - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترمذي -الصفحة أو الرقم 3011 - -خلاصة حكم المحدث : صحيح .

قال صلى الله عليه وسلم لجابر: يا جابرُ ما لي أراكَ منكسِرًا ؟ قلتُ : يا رسولَ اللَّهِ استُشْهِدَ أبي قُتِلَ يومَ أُحُدٍ، وترَكَ عيالًا ودَينًا، قالَ : أفلَا أبشِّرُكَ بما لقيَ اللَّهُ بِهِ أباكَ ؟ قلتُ : بلَى يا رسولَ اللَّهِ قالَ : ما كلَّمَ اللَّهُ أحدًا قطُّ إلَّا من وراءِ حجابِه وأحيا أباكَ فَكَلَّمَهُ كِفاحًا فقالَ : يا عَبدي تَمنَّ عليَّ أُعْطِكَ قالَ : يا ربِّ تُحييني فأقتلَ فيكَ ثانيةً قالَ الرَّبُّ تبارك وتعالَى : إنَّهُ قد سبقَ منِّي أنَّهم إليها لَا يُرجَعونَ قالَ : وأُنْزِلَت هذِهِ الآيةُ "وَلَاتَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا" الآيةَ الراوي : جابر بن عبدالله - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترمذي -الصفحة أو الرقم - 3010 : خلاصة حكم المحدث : حسن .
ثم بين- سبحانه - ما هم فيه من مسرة وحبور فقال:
"فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"170.

فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ :أي: إنَّ هؤلاءِ الشُّهداءَ الَّذين قُتِلوا في سَبيلِ الله تعالى، وهم أحياءٌ عند ربهم ، مَسرورون بما منَحهم اللهُ تعالى إيَّاه، مِن النَّعيمِ المبهِجِ، والمُتعةِ العظيمةِ، جُودًا وكرَمًا منه سبحانه.

وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ:

والِاسْتِبْشارُ: وأصل الاستبشار: طلب البشارة وهو الخبر السار الذي تظهر آثاره على البشرة، فساعة يكون الإنسان فرحا، فالفرحة تظهر وتشرق في وجهه ولذلك نسميهاالبشارة ، لأنها تصنع في وجه المُبَشَّر شيئا من الفرح مما يعطيه بريقا ولمعانا وجاذبية. والمراد هنا السرور استعمالا للفظ في لازم معناه.

لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ: بِمَن بَقِيَ مِن إخْوانِهِمْ فالمُرادُ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ رُفَقاؤُهُمُ الَّذِينَ كانُوا يُجاهِدُونَ مَعَهم، ومَعْنى لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ لَمْ يُسْتَشْهَدُوا.

وقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهم بَيْنَ المَسَرَّةِ بِأنْفُسِهِمْ والمَسَرَّةِ بِمَن بَقِيَ مِن إخْوانِهِمْ، لِأنَّ في بَقائِهِمْ نِكايَةً لِأعْدائِهِمْ، وهم مَعَ حُصُولِ فَضْلِ الشَّهادَةِ لَهم عَلى أيْدِي الأعْداءِ يَتَمَنَّوْنَ هَلاكَ أعْدائِهِمْ، لِأنَّ في هَلاكِهِمْ تَحْقِيقَ أُمْنِيَّةٍ أُخْرى لَهم وهي أُمْنِيَّةُ نَصْرِ الدِّينِ. فالمُرادُ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ رُفَقاؤُهُمُ الَّذِينَ كانُوا يُجاهِدُونَ مَعَهم، ومَعْنى لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ لَمْ يُسْتَشْهَدُوا فَيَصِيرُوا إلى الحَياةِ الآخِرَةِ.ابن عاشور ومصادر أخرى.

فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله ، مستبشرون للمؤمنين الذين تركوهم من خلفهم في الدنيا من رفقائهم المجاهدين بأن لا خوف عليهم في المستقبل ولا هم يحزنون على ما تركوه في الدنيا. ذهب إلى هذا المعنى الزجاج وابن فورك .
ونفى عنهم الخوف والحزن، لأن الخوف يكون بسبب توقع المكروه النازل في المستقبل.
والحزن يكون بسبب فوات المنافع التي كانت موجودة في الماضي.
فبين- سبحانه -أنه لا خوف عليهم فيما سيأتيهم من أحوال القيامة، ولا حزن لهم فيما فاتهم من متاع الدنيا.

أي: إنَّ هؤلاء الشُّهداءَ مَسرورون أيضًا بإخوانِهم الَّذين ما زالوا أحياءً في عالَم الدُّنيا يُجاهِدون في سبيلِ الله تعالى؛ فإنَّهم إذا استُشهِدوا لحِقوا بهم، دون أن يُصيبَهم خوفٌ من أيِّ أمرٍ مستقبلٍ، أو حُزنٍ على أيِّ أمرٍ قد مضى، بل هم آمِنون دائمًا، وفَرِحونَ أبدًا.
أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ :أي: لا خوف عليهم فيما يستقبل من أمرهم، ولا هم يحزنون على ما قضى من أمرهم؛ لأن الأصل أن الخوف للمستقبل والحزن للماضي.العثيمين.

"لمَّا أُصيبَ إخوانُكم بأحدٍ جعلَ اللهُ عزَّ وجلَّ أرواحَهم في أجوافِ طيرٍ خُضرٍ تَرِدُ أنهارَ الجنةِ تأكلُ من ثمارِها وتَهوي إلى قناديلَ من ذهبٍ في ظلِّ العرشِ فلمَّا وجَدوا طيبَ شربِهم ومأكلِهم وحُسنَ مُتقلبِهم قالوا : ياليتَ إخوانَنا يعلمونَ بما صنعَ اللهُ لنا لِئلَّا يَزهدوا في الجهادِ ولا يَنكُلوا عنِ الحربِ فقال اللهُ عزَّ وجلَّ : أنا أُبلِّغُهم عنْكُم فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ هؤلاء الآياتِ على رسولِهِ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ.الراوي : عبدالله بن عباس - المحدث : الوادعي - المصدر : صحيح أسباب النزول - الصفحة أو الرقم : 63 - خلاصة حكم المحدث : صحيح لغيره لشواهده.