من آية 142إلى 144
" سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" 142.
وقد بدأ الكلام بما سيقع من اعتراضهم على التحويل، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم به قبل وقوعه، ولقّنه الحجة البالغة والحكمة فيه، ليوطّن نفسه عليه، فإن مفاجأة المكروه أشدّ إيلامًا، والعلم به قبل وقوعه يبعد القلق عن النفس. وليعدّ الجواب قبل الحاجة إليه، والجواب المعدّ أقطع لحجة الخصم.
فقد كان صلى الله عليه وسلم يستقبل بيت المقدس وهو في مكة وكان يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس فيستقبلهما معًا كما يفيده حديث ابن عباس:
"كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يصلِّى نحوَ بَيتِ المقدِسِ والكعبةُ بينَ يدَيهِ وبعدَما هاجرَ إلى المدينةِ ستَّةَ عشرَ شَهرًا ، ثمَّ تَوجَّه إلى الكعبةِ"
الراوي : عبدالله بن عباس - المحدث : ابن حجر العسقلاني - المصدر : موافقة الخبر الخبر-
الصفحة أو الرقم : 2/279 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
بقى المسلمون يجمعون فى الصلاة بين القبلتين ما شاء الله ،ثم أُذن لهم فى الهجرة من مكة فخرجوا إلى المدينة ولحق بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وفى المدينة تعذر على النبي والذين آمنوا معه الجمع بين القبلتين .. فكان المسلمون يصلون مع رسول الله ويستقبلون بيت المقدس حتى نزل الوحي بتحويل القِبْلَة إلى الكعبة.
عن البراء بن عازب " كانَ أوَّلَ ما قَدِمَ المَدِينَةَ نَزَلَ علَى أجْدَادِهِ، أوْ قالَ أخْوَالِهِ مِنَ الأنْصَارِ، وأنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وكانَ يُعْجِبُهُ أنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وأنَّهُ صَلَّى أوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا صَلَاةَ العَصْرِ، وصَلَّى معهُ قَوْمٌ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى معهُ، فَمَرَّ علَى أهْلِ مَسْجِدٍ وهُمْ رَاكِعُونَ، فَقالَ: أشْهَدُ باللَّهِ لقَدْ صَلَّيْتُ مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كما هُمْ قِبَلَ البَيْتِ، وكَانَتِ اليَهُودُ قدْ أعْجَبَهُمْ إذْ كانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ، وأَهْلُ الكِتَابِ، فَلَمَّا ولَّى وجْهَهُ قِبَلَ البَيْتِ، أنْكَرُوا ذلكَ."صحيح البخاري.
شَرائِعُ الدِّينِ مَبنيَّةٌ على الوحْيِ وما أمَرَ به اللهُ سُبحانه، وكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتَّبِعًا لذلك، وإنْ مالَتْ نفْسُه إلى أمرٍ فإنَّه لا يَفعَلُه ما لم يُؤمَرْ به.وفي هذا الحَديثِ يَروي البَراءِ بْنُ عازِبٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لَمَّا قدِمَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المدينةَ نزَلَ على بني النَّجَّارِ؛ لأنَّهم هم أخوالُه أو أجدادُه مِن جِهةِ جَدِّ أبيه هاشمِ بنِ عبدِ مَنافٍ. وفي أوَّلِ أمرِ الإسلامِ لمَّا فُرِضَت الصَّلاةُ كانت قِبلتُه إلى بيتِ المقدِسِ، وظلَّ يتَّجِهُ إليه سِتَّةَ عشَرَ شَهرًا، أو سَبعةَ عشَر شَهرًا، وكان يُعجِبُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ تكونَ قِبلتُه قِبَلَ الكعبةِ؛ وقد أخبَرَ اللهُ سُبحانه عن حالِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذه في قولِه تعالى"قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ"البقرة: 144، فوَعَدَه أنْ يُوجِّهَه إلى القِبلةِ التي يَرْضاها، وكانت أوَّلُ صَلاةٍ صلَّاها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتوجِّهًا إلى الكعبةِ هي صَلاةَ العصرِ، ولا خِلافَ أنَّ ذلك كان في السَّنةِ الثَّانيةِ مِن الهجرةِ، وصلَّى معه بَعضُ أصحابِه، فخرَجَ رجلٌ ممَّن صلَّى معه، فمَرَّ على أهلِ مَسجدٍ، فوجَدَهم يُصَلُّون، وكانوا راكعينَ، فقال لهم: أحْلِفُ باللهِ، لقدْ صلَّيتُ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتوجِّهًا إلى الكعبةِ في الصَّلاةِ، فلمَّا سَمِعوه صدَّقوه وَدارُوا ناحيةَ المسجدِ الحرامِ، ولم يَقطَعوا الصَّلاةَ، بلْ أتمُّوها إلى جِهةِ الكعبةِ، فصلَّوا صَلاةً واحدةً إلى جِهتينِ: جِهةِ المسجدِ الأقْصى، وجِهةِ المسجدِ الحرامِ.وكان اليهودُ يُعجِبُهم تَوجُّهُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى بَيتِ المقدِسِ؛ لأنَّه قِبْلَتُهم، فلمَّا تَوجَّه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى البيتِ الحرام، أنكَروا ذلك، فنَزَل قولُه تعالى"سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"البقرة: 142. الآياتِ، كما جاء مُصرَّحًا به في رِواياتٍ أُخرى.وكان بعضُ الصَّحابةِ ممَّن صلَّى إلى بَيتِ المقدِسِ مات أو قُتِل قَبلَ أنْ تُحوَّلَ القِبلةُ إلى البيتِ الحرام، فسُئِل صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عنهم؛ فأنزَلَ اللهُ"وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ"البقرة: 143، أي: صَلاتَكم.وفي الحديثِ: ما كان عندَ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم مِن سُرعةِ تَلبيةِ واستجابةِ أوامرِ اللهِ عزَّ وجلَّ ورسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.وفيه: مَشروعيَّةُ الحَلِفِ على الشَّيءِ لتَأكيدِه.وفيه: الحضُّ على حُسنِ الاستِجابةِ لِداعي اللهِ ورَسولِه.الدرر السنية.
أخبَر اللهُ تعالى أنَّ السفهاء : وهم الذين لا يعرفون مصالح أنفسهم، بل يضيعونها ويبيعونها بأبخس ثمن، وهم اليهود والنصارى, ومن أشبههم من المعترضين على أحكام الله وشرائعه، سيتساءلون اعتراضًا- والرِّيبة تملأ قلوبَهم- عن السَّبب الذي صرَف المسلمين عن استقبال بيت المقدِس في صلاتهم.
قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ : أي: قلْ يا محمَّدُ، لهؤلاء المتسائلين: لله تعالى وحْده دون غيرِه مُلكُ المشرق والمغرب وما بينهما، فكلُّ الجِهات مخلوقةٌ ومملوكة له؛ فله أن يأمُرَ بالتوجُّه إلى أيِّ جِهةٍ شاء سبحانه
يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ : الله هو الذي يهدى من يشاء هدايته، إلى السبيل الحق، فيوجه إلى بيت المقدس مدة حيث اقتضت حكمته ذلك، ثم إلى الكعبة، حيث يعلم المصلحة فيما أمر به.
وإذا سأل سائل ما الحكمة من تغيير القبلة؟
إذا أتانا الأمر من الله وجب علينا قبوله والتسليم له - وإن لم تظهر لنا حكمته - كما قال تعالى"وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا "الأحزاب 36 .
و الله سبحانه وتعالى لا يحكم بحكم إلا لحكمة عظيمة - وإن لم نعلمها - كما قال تعالى"ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ ۖ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"الممتحنة 10.
و الله سبحانه وتعالى لا ينسخ حكمًا إلا إلى ما هو أفضل منه أو مثله ، كما قال تبارك وتعالى "مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"سورة البقرة 106 .الإسلام سؤال وجواب.
ومن الحكم العظيمة التي تظهر لنا من تحويل القبلة تنقية الصف المسلم وامتحان المؤمن الصادق واختباره ، فالمؤمن الصادق يقبل حكم الله جل وعلا ، بخلاف غيره.كما ستوضحه الآية التالية.
"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ". 143.
وَكَذَلِكَ : أي: وكما هديناكم صراطًا مستقيمًا جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا: أي عدولًا خيارًا، لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ: تشهد هذه الأمة لجميع الرسل الذين قد بلغوا رسالات ربهم وبلغوا أممهم .وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا : أي شهيدًا على صدقكم.
ونقل البغوي في تفسيره :1/122، عن الكلبي أنه قال : وَسَطًا " يعني : أهل دين وسط ، بين الغلو والتقصير ، لأنهما مذمومان في الدين "
قال ابن جرير الطبري في تفسير الآية " فمعنى ذلك : وكذلك جعلناكم أمة وسطًا عدولًا شهداء لأنبيائي ورسلي على أممها بالبلاغ أنها قد بَلَّغَتْ ما أُمِرَتْ ببلاغِهِ من رسالاتي إلى أممها ، ويكون رسولي محمد صلى الله عليه وسلم شهيدًا عليكم بإيمانكم به ، وبما جاءكم به من عندي " انتهى ."جامع البيان " 2/8 .
جعل الله هذه الأمة، وسطًا في كل أمور الدين، وسطًا في الأنبياء، بين من غلا فيهم، كالنصارى، وبين من جفا منهم كاليهود، بأن آمنوا بكل الأنبياء على الوجه اللائق بذلك، ووسطًا فِي مَجَالِ الْعِبَادَةِ: جَاءَ الْإِسْلَامُ وَسَطًا بَيْنَ الرَّهْبَانِيَّةِ – الَّتِي اهتمت بالروح وقَطَعَتْ كُلَّ صِلَةٍ بِالْحَيَاةِ، وَانْقَطَعَتْ لِلْعِبَادَةِ، وَبَيْنَ الْإِغْرَاقِ فِي الْمَجَالِ الْمَادِّيِّ وَالِاهْتِمَامِ بِالنَّوَاحِي الْحِسِّيَّةِ وَالْمَادِّيَّةِ وَالطُّغْيَانِ الْمَالِيِّ وَالِانْصِرَافِ عَنِ الْعِبَادَةِ وَتَرْقِيَةِ النَّفْسِ.
فجاء الإسلام جامعًا بين الحقّين حق الروح وحق الجسد، وأعطى المسلم جميع الحقوق الإنسانية، فالإنسان جسد وروح..ووهبهم الله من العلم والحلم، والعدل والإحسان، ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا " أُمَّةً وَسَطًا " كاملين، ليكونوا " شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ " بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم. تشهد هذه الأمة يومَ القِيامةِ لجميع الرسل الذين قد بلغوا رسالات ربهم وبلغوا أممهم إذا كذَّبوا وأنكَرُوا أنَّ اللهَ بَعَثَ إليهم الأنبياءَ. وهي لا يَشْهَدُ عَلَيْها إلّا رَسُولُها صلى الله عليه وسلم.و الأُمَّة لا تَشْهَدُ عَلى النَّبِي ﷺ ولِهَذا كانَ يَقُولُ في حَجَّةِ الوَداعِ " ألَا هلْ بَلَّغْتُ؟، قالوا: نَعَمْ، قالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ " الحديث..... الراوي : أبو بكرة نفيع بن الحارث - المصدر : صحيح البخاري- الصفحة أو الرقم : 1741 . فَجَعَلَ اللَّهَ هو الشّاهِدَ عَلى تَبْلِيغِهِ.
يَجِيءُ نُوحٌ وأُمَّتُهُ، فيَقولُ اللَّهُ تَعالَى: هلْ بَلَّغْتَ؟ فيَقولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، فيَقولُ لِأُمَّتِهِ: هلْ بَلَّغَكُمْ؟ فيَقولونَ: لا ما جاءَنا مِن نَبِيٍّ، فيَقولُ لِنُوحٍ: مَن يَشْهَدُ لَكَ؟ فيَقولُ: مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأُمَّتُهُ، فَنَشْهَدُ أنَّه قدْ بَلَّغَ، وهو قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ"البقرة: 143. والوَسَطُ: العَدْلُ."الراوي : أبو سعيد الخدري - صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم : 3339 .
“يَجِيءُ النبيُّ يومَ القيامةِ ومعه الرجلُ ، والنبيُّ ومعه الرجلانِ ، والنبيُّ ومعه الثلاثةُ ، وأكثرُ من ذلك ، فيُقالُ له : هل بَلَّغْتَ قومَك ؟ فيقولُ : نعم ، فيُدْعَى قومُه ، فيُقالُ لهم : هل بَلَّغَكم هذا ؟ فيقولونَ : لا ، فيُقالُ له : مَن يَشْهَدُ لك ؟ فيقولُ : مُحَمَّدٌ وأُمَّتُهُ ، فيُدْعَى مُحَمَّدٌ وأُمَّتُهُ فيُقالُ لهم : هل بَلَّغَ هذا قومَه ؟ فيقولونَ : نعم ، فيُقالُ : وما عِلْمُكُم بذلك ؟ فيقولونَ : جاءنا نبيُّنا ، فأَخْبَرَنا أنَّ الرُّسُلَ قد بَلَّغُوا فصَدَّقْناه ، فذلك قولُه : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" الراوي : أبو سعيد الخدري -المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الجامع -الصفحة أو الرقم : 8033 -خلاصة حكم المحدث : صحيح .
وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا: والجَعْلُ هُنا جَعْلُ التَّشْرِيعِ،جَعَلْنَا: أي شَرَعْنا وهي استقبال بيت المقدس أولًا، ففي أوَّلِ أمرِ الإسلامِ لمَّا فُرِضَت الصَّلاةُ كانت قِبلتُه إلى بيتِ المقدِسِ كما سبق وبيناه في تفسير الآية السابقة. خاطَب الله عزَّ وجلَّ نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنَّه إنَّما شرَع له استقبال بيت المقدس أولًا، ثمَّ نسخَه بالتوجُّه إلى الكعبة؛ امتحانًا؛ لكي يَعلمَ مَن يُطيع الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ممَّن يرتدُّ عن دِينه، وإنْ كان أمر تحويل القِبلة شاقًّا على النفوس وعظيمًا، إلَّا على مَن وفَّقه الله لطريق الهداية.
إِلَّا لِنَعْلَمَ : أي: علمًا يتعلق به الثواب والعقاب، وإلا فهو تعالى عالم بكل الأمور قبل وجودها. ولكن هذا العلم، لا يعلق عليه ثوابًا ولا عقابًا، لتمام عدله، وإقامة الحجة على عباده، بل إذا وجدت أعمالهم، ترتب عليها الثواب والعقاب، أي: شرعنا تلك القبلة لنعلم ونمتحن"مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ " من يؤمن به، فيتبعه على كل حال، لأنه عبد مأمور.فالمؤمن المنصف نسخ استقبال بيت المقدس كقبلة للصلاة والتوجُّه إلى الكعبة يزيده إيمانًا وطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم. وأما من انقلب على عقبيه- مثنى عقب وهو مؤخر القدم، وهي كناية عن الارتداد وعن الرجوع إلى الأمر الأول، وهو الكفر -، وأعرض عن الحق، واتبع هواه، فإنه يزداد كفرًا إلى كفره، وحيرة إلى حيرته، ويدلي بالحُجة الباطلة، المبنية على شبهة لا حقيقة لها.
"وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ " " وَإِنْ كَانَتْ " أي: وإن كان صرفك عن استقبال بيت المقدس كقبلة للصلاة " لَكَبِيرَةً " أي: شاقة " إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ "يسيرة على الذين هداهم الله للحق ، فعرفوا بذلك نعمة الله عليهم، وشكروا، وأقروا له بالإحسان، حيث وجههم إلى هذا البيت العظيم، الذي فضله على سائر بقاع الأرض، وجعل قصده, ركنًا من أركان الإسلام, وهادما للذنوب والآثام, فلهذا خف عليهم ذلك, وشق على من سواهم.
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ " ثم طمْأنَ الله سبحانه المؤمنين بأنَّه عزَّ وجلَّ لن يُضيع ثوابَ صلاتهم إلى بيت المقدِس، قبل تحويل القِبلة، بل هو محفوظٌ عنده عزَّ وجلَّ؛ فهو سبحانه عظيم الرحمة بالنَّاس. ودخل في ذلك من مات من المؤمنين قبل تحويل الكعبة، فإن الله لا يضيع إيمانهم، لكونهم امتثلوا أمر الله وطاعة رسوله في وقتها. ، وفي هذا دليل لمذهب أهل السنة والجماعة، أن الإيمان تدخل فيه أعمال الجوارح.فقد سمى التوجه للقبلة إيمان وهو عمل من أعمال الجوارح.
إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ :والرأفة شدَّة الرَّحْمَة ومنتهاها، فالرَّؤُوف بِمَعْنى الرَّحِيم مَعَ الْمُبَالغَة فِيهِ.
الفرق بين الرأفة والرحمة "والرَّأْفَةُ أَخصُّ وأَرَقُّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَلَا تَكاد تَقَعُ فِي الْكَرَاهَةِ، والرحمةُ قَدْ تَقَعُ فِي الْكَرَاهَةِ للمَصْلحةِ" لسان العرب:9:112.
وقوله" إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ " أي: شديد الرحمة بهم عظيمها، فمن رأفته ورحمته بهم، أن يتم عليهم نعمته التي ابتدأهم بها، وأن ميَّزَ عنهم من دخل في الإيمان بلسانه دون قلبه، وأن امتحنهم امتحانا، زاد به إيمانهم، وارتفعت به درجتهم، وأن وجههم إلى أشرف البيوت وأجلها.
" قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ"144.
" قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ" تَقَلُّبَ :تردده المرة بعد المرة في السماء، وهي مصدر الوحي وقبلة الدعاء. كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّمَ يتشوّف لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، ويقع في روعه أن ذلك كائن، لأن الكعبة قِبلة أبيه إبراهيم، وقد جاء بإحياء ملته وتجديد دعوته، ولأنها أقدم القبلتين، ولأن ذلك أدعى إلى إيمان العرب، وهم الذين عليهم المعول في إظهار هذا الدين، لأنهم أكثر الناس استعدادًا لقبوله، ولأنها كانت مفخرة لهم وأمنا ومزارًا ومطافًا، ولأن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا، ولو لا ديننا لم يدر أين يستقبل القبلة، فَكَرِهَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قبلتهم.تفسير المراغي.
عن البَراء بن عازبٍ رضي الله عنه، قال : كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ، سِتَّةَ عَشَرَ أوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وكانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحِبُّ أنْ يُوَجَّهَ إلى الكَعْبَةِ، فأنْزَلَ اللَّهُ " قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ" فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الكَعْبَةِ، .... صحيح البخاري.
أي: يُؤكِّد الله تعالى لنبيِّه محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ رُؤيتَه له وهو يتلفَّت محوِّلًا وجهَه في جِهات السماء؛ متلهِّفًا لنزول الوحي بخبَر تحويل القِبلة إلى الكعبة.
"فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا " أي فلنوجهنَّك ولنجعلنّك تلي جهة عظيمةٍ تحبها وتتشوف لها وتطمئنُّ إليها في صلاتك غير جهة بيت المقدس. وتَرْضاها معناه تحبها وتقر بها عينك. تَرْضَاهَا: أي : تحبها وتقر بها عينك.
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ : أي اصرف وجهك - والمراد بالوجه هو الذات كلها- وَحوِّله بحيث يلي جهة المسجد الحرام " الشطر "، النحوَ والقصدَ والتّلقاء.. وفي ذكر "الْمَسْجِدِ الْحَرامِ" دون الكعبة إيذان بكفاية مراعاة جهة الكعبة حين الصلاة إذا كان بعيدًا عنها بحيث لا يراها، ولا يجب استقبال عينها إلا لمن يراها بعينه.
وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ : ثم عمم القرآن الكريم هذا التشريع على الأمة الإسلامية جميعها. أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض ، شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا ، ولا يستثنى من هذا شيء ، سوى النافلة في حال السفر ، فإنه يصليها حيثما توجه قالبه ، وقلبه نحو الكعبة . وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال ، وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده ، وإن كان مخطئًا في نفس الأمر ، لأن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها .
وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ :أي: إنَّ اليهود والنَّصارى يَعلمون مِن كتُبهم أنَّ استقبال النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ والمؤمنين الكَعبةَ، أمرٌ حقٌّ، قد فرَضه الله سبحانه وتعالى.
وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ : فهو العليم بالظاهر والباطن والمحاسب على ما في السرائر، والرقيب على الأعمال، فيجازي كل عامل بما عمل، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.ولا يخفَى ما في هذا من التهديد والوعيد الشديد لليهود على عنادهم، وإيقادهم نار الفتنة بين المؤمنين.
من آية 145إلى 150
" وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ "145.
والمعنى: لو أتيت - يا محمد- أهل الكتاب بكل برهان وحُجة ما آمنوا بدينك ولا اتبعوا قبلتك. لماذا؟ لأنهم لا يبحثون عن دليل ولا يريدون الاقتناع بصحة الدين الجديد.. ولو كانوا يريدون دليلا أو اقتناعا لوجدوه في كتبهم التي أنبأتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه النبي الخاتم وأعطتهم أوصافه..
ولئن جئت- يا محمد- اليهود ومن على طريقتهم في الكفر بكل برهان وحُجة ما آمنوا بدينك ولا اتبعوا قبلتك ، لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة يزيلها الحجة والبرهان، وإنما هو عن مكابرة وعناد مع علمهم بما في كتبهم من أنك على الحق المبين.
وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ : إخبار عن شدة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى به ، وأنه كما هم مستمسكون بآرائهم وأهوائهم ، فهو أيضًا مستمسك بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته ، وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله ، وما كان متوجها إلى بيت المقدس ; لأنها قبلة اليهود ، وإنما ذلك عن أمر الله تعالى .
وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ : اليهود تستقبل بيت المقدس وهو المغرب ، والنصارى تستقبل المشرق، وقبلة المسلمين الكعبة. أي إن اليهود لا تترك قبلتها وتتجه إلى المشرق، والنصارى لا تغيّر قبلتها وتتجه إلى المغرب، لأن كلا منهما متمسك بما هو فيه، محقّا كان أو مبطلًا، ولا ينظر إلى حجة وبرهان.
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ:
ثم ساق القرآن الكريم بعد ذلك تحذيرًا للأمة كلها من اتباع أهل الكتاب، وجاء هذا التحذير في شخص النبي صلّى الله عليه وسلّم
أي ولئن وافقتهم فيما يريدون، فصليت إلى قبلتهم مداراة لهم وحرصًا على اتباعك والإيمان بك، بعد ما جاءك الحق اليقين، والعلم الذي لا شكّ فيه - لتكونن من جملة الظالمين - وحاشاك أن تفعل ذلك.تفسير المراغي.
وأي ظلم أعظم, من ظلم, من علم الحق والباطل, فآثر الباطل على الحق، وهذا, وإن كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم, فإن أمته داخلة في ذلك، وأيضًا, فإذا كان هو صلى الله عليه وسلم لو فعل ذلك -وحاشاه- صار ظالمًا مع علو مرتبته, وكثرة حسناته فغيره من باب أولى وأحرى.تفسير السعدي.
"الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ "146.
هذا كالدليل لما ذُكر في قوله تعالى" وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ" البقرة 144. فكأنه قال: إن سبب العلم بأنه الحق، أنهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبهم من البشارة به ومن نعوته وصفاته التي لا تنطبق على غيره، كما يعرفون أبناءهم الذين يربّونهم ويحوطونهم بعنايتهم، فلا يفوتهم شيء من أمرهم.تفسير المراغي.
فمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم, وصلت إلى حد لا يشُكُّون فيه ولا يمترون، ولكن فريقًا منهم - وهم أكثرهم - الذين كفروا به, كتموا هذه الشهادة مع تيقنها, وهم يعلمون " ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ"البقرة : 140.
وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ :
أي وإن فريقًا منهم عاندوا وكتموا الحق الذي يعرفونه، من أن محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي، وأن الكعبة قِبْلَة، وأضاف الكتمان إلى فريق منهم، لأنهم لم يكونوا كلهم كذلك، إذ منهم من اعترف بالحق وآمن به واهتدى، ومنهم من كان يجحده عن جهل، لأنهم كفروا به تقليدًا، ولو علموا به حق العلم لجاز أن يقبلوه.
قال عبد الله بن سلام لليهود في حديث طويل " ............. يا مَعْشَرَ اليَهُودِ، اتَّقُوا اللَّهَ؛ فَواللَّهِ الذي لا إلَهَ إلَّا هُوَ، إنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أنَّه رَسولُ اللَّهِ، وأنَّهُ جاءَ بحَقٍّ، ....." الراوي : أنس بن مالك - صحيح البخاري- الصفحة أو الرقم : 3911 .
"أنَّ اليَهُودَ جَاؤُوا إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم برَجُلٍ منهمْ وامْرَأَةٍ قدْ زَنَيَا، فَقَالَ لهمْ: كيفَ تَفْعَلُونَ بمَن زَنَى مِنكُمْ؟ قالوا: نُحَمِّمُهُما ونَضْرِبُهُمَا، فَقَالَ: لا تَجِدُونَ في التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ؟ فَقالوا: لا نَجِدُ فِيهَا شيئًا، فَقَالَ لهمْ عبدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْ، فَأْتُوا بالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَوَضَعَ مِدْرَاسُهَا الذي يُدَرِّسُهَا منهمْ كَفَّهُ علَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَطَفِقَ يَقْرَأُ ما دُونَ يَدِهِ وما ورَاءَهَا، ولَا يَقْرَأُ آيَةَ الرَّجْمِ، فَنَزَعَ يَدَهُ عن آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَالَ: ما هذِه؟! فَلَمَّا رَأَوْا ذلكَ قالوا: هي آيَةُ الرَّجْمِ، فأمَرَ بهِما فَرُجِما قَرِيبًا مِن حَيْثُ مَوْضِعُ الجَنَائِزِ عِنْدَ المَسْجِدِ، فَرَأَيْتُ صَاحِبَهَا يَحْنِي عَلَيْهَا يَقِيهَا الحِجَارَةَ.."الراوي : عبدالله بن عمر - صحيح البخاري .الدرر السنية.
نُحَمِّمُهما ونَضْرِبُهما، أي: نُسوِّدُ وُجوهَهما بالحُممِ -وهو الفَحْمُ- ونَضرِبُهما.
حرَّفَ أهلُ الكتابِ مِنَ اليهودِ والنَّصارى كُتبَهمُ المُنْزَلةَ عليهم، فحَذَفوا وغيَّروا وأدْخَلوا فيها ما ليس منْها، وما بَقِيَ منه لم يَعمَلُوا به، وأخفَوْه وكتَمُوه وهمْ يَعلَمونَ.
وفي هذا الحديثِ صُورةٌ مِن صُوَرِ جُحودِ اليهودِ وكِتمانِهم ما أنْزَلَ اللهُ تعالى عليهم مِنَ التَّوراةِ.
فسألهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الرَّجمِ :لا تَجِدُونَ في التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ؟ :وإنما سألهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليُلزِمَهم بما يعتَقِدونَه في كتابِهم الموافِقِ لحُكمِ الإسلامِ إقامةً للحُجَّةِ عليهم، لا لتقليدِهم ومَعرفةِ الحُكمِ منهم.فأنكروا وجود حكم الرجم في كتابهم وأخفوه.وكان عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ رضِي اللهُ عنه مِن عُلمائِهم قبْلَ إسلامِه، فرَدَّ عليهم، وقال لهمْ: كذبْتُم، فَأْتوا بِالتَّوراةِ فَاتْلُوها إنْ كُنتُم صادقِينَ؛ فإنَّ ذلك موجودٌ فيها لم يُغَيَّرْ.الدرر.
"الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ "147.
أي: اعلمْ يا محمَّد، أنَّ الحقَّ وحده هو الذي جاءك من ربِّك، لا ما يقوله اليهود أو النَّصارى، أو غيرهم؛ فلا يحصُل لك أدنى تردُّدٍ وريبةٍ فيه.موسوعة التفسير .الدرر السنية.
فالقبلة التي وجهك نحوها هي القبلة الحق التي كان عليها إبراهيم ومن بعده من الأنبياء، فاعمل بما أمرك ربك ولا تلتفت إلى أوهام الجاحدين، فلا يحصل لك أدنى شك وريبة فيه، فتمتري وتشك في الحق بعد ما تبين.
والنهى في هذه الآية كالوعيد في " وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم ....."، موجه فيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد من كانوا غير راسخي الإيمان من أمته، ممن يخشى عليهم أن يغترّوا بزخرف القول من أولئك المخادعين الذين جعلوا همهم إشعال نار الفتنة بين المؤمنين.تفسير المراغي.
"وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" 148.
" وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا "أي ولكل أمة جهة توليها في صلاتها، فإبراهيم وإسماعيل كانا يوليان نحو الكعبة، وبنو إسرائيل كانوا يستقبلون صخرة بيت المقدس، والنصارى كانوا يستقبلون المشرق، فأي شبهة تتجه من المشاغبين في أمر تحويل القبلة وكيف يكون ذلك مسوّغا للطعن في النبي وشرعه، فالقبلة إذًا من المسائل التي اختلفت باختلاف الأمم، فليست الجهة أساس من أسس الدين كتوحيد الله والإيمان بالبعث والجزاء، فالواجب فيها التسليم لأمر الوحي كما هو الشأن في أمثالها كعدد الركعات، ومقدار النصيب الواجب في الزكاة.تفسير المراغي.
فالقبلة, فإنه من الشرائع التي تتغير بها الأزمنة والأحوال, ويدخلها النسخ والنقل, من جهة إلى جهة، ولكن الشأن كل الشأن, في امتثال طاعة الله, والتقرب إليه, وطلب الزلفى عنده، وهو الذي خلق الله له الخلق, وأمرهم به." وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" الذاريات 56.أي خلقَهم لعبادتِه وطاعته ، خلقَهم ليعبدوه وحدَه لا شريكَ له.
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ : والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها, يتضمن فعلها, وتكميلها, وإيقاعها على أكمل الأحوال, والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات, فهو السابق في الآخرة إلى الجنات, فالسابقون أعلى الخلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل, من صلاة, وصيام, وزكوات وحج, عمرة, وجهاد, ونفع متعد وقاصر. ولما كان أقوى ما يحث النفوس على المسارعة إلى الخير, وينشطها, ما رتب الله عليها من الثواب قال: أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا: أي: في أي بقعة يدرككم الأجل، وتموتون فيها، يجمعكم الله- تعالى- يوم القيامة بقدرته, فهو لا يعجزه أن يحشر الناس يوم الجزاء مهما بعدت بينهم المسافات. وتناءت بهم الديار والجهات. فيجازي كل عامل بعمله. وفي هذا وعد لأهل الطاعة، ووعيد لأهل المعصية.
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: ثم وصف نفسه تعالى بالقدرة على كل شيء لتناسب الصفة مع ما ذُكِرَ من الإعادة بعد الموت والبلى . قادر على جمعكم بعد مماتكم من قبوركم حيث كنتم، وإن تفرقت أجسادُكم وأبدانُكم، كما أنه- سبحانه- قدير على كل شيء.
"وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ"149.
هذا تأكيد لأنه أول ناسخ وقع في الإسلام على ما نص عليه ابن عباس وغيره .أي: ومن أي موضع خرجت وإلى أي مكان آخر سرت، فول- يا محمد- وجهك عند صلاتك إلى المسجد الحرام، وإن هذا التوجه شطره لهو الحق الذي لا شك فيه عند ربك .
والخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد أيضًا أمته،لذا قال سبحانه: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ: أي فالله ليس بساه عن أعمالكم وإخلاصكم في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يجىء به من أمر الدين، بل هو مطلع عليكم في جميع أحوالكم غير مغفول عنها, بل مجازون عليها أتم الجزاء, إن خيرًا فخير, وإن شرًا فشر.
" وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" 150.
أى: ومن أي مكان خرجت- يا محمد- فول وجهك تلقاء المسجد الحرام، وأينما كنتم أيها المؤمنون من أرض الله، فولوا وجوهكم في صلاتكم تجاهه ونحوه.
وتلك هي المرة الثالثة التي تكرر فيها الأمر للمؤمنين بالتوجه إلى المسجد الحرام في صلاتهم، وهذا التكرير لتأكيد أمر القبلة وتشديده لأن تحول القبلة كان أول نسخ في الإسلام- كما قال كثير من العلماء- فاقتضى الأمر تأكيده في نفوس المؤمنين حتى يستقر في مشاعرهم، ويُذهب ما يثار حولها من شبهات أدراج الرياح، ولأن الله- تعالى- أناط بكل واحد من هذه الأوامر الثلاثة بالتحول ما لم ينط بالآخر من أحكام فاختلفت فوائدها، فكأنه- سبحانه- يقول لنبيه- صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين، الزموا هذه القبلة لأنها هي القبلة التي ترضونها وترغبون فيها وطالما تمنيتموها، والزموها- أيضا- لأنها هي القبلة التي لن تنسخ بعد ذلك.
والزموها- كذلك- لأن لزومكم إياها يقطع حجة اليهود الجاحدين، وغيرهم من المعاندين والخاسرين.
وقد اقترن هذا الأمر الثالث بالتوجه إلى المسجد الحرام في هذه الآية الكريمة بحكم ثلاث.
أولها: قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ :أي: حوَّلنا قِبلتَكم إلى الكَعبة؛ كي لا يحتجَّ اليهودُ عليكم قائلين: إنكم ما دُمتم قد وافقتمونا في قِبلتنا نحو بيت المقدس، فلِمَ تَعيبون دِينَنا، ولِمَ لا تتبعون ملَّتَنا؟ لكن ستبقى حُجَّة الظالمين- وهم مشركو قريش- الذين يحتجُّون عليكم بالباطل قائلين: إنكم ما دُمتم قد عُدتم إلى قِبلتنا، فلا بدَّ أن تتَّبعوا دِيننا
فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي : أي: لا تخشَوا هؤلاء الظلمةَ المتعنتين، ولا حُجَجهم الباطلة، وأفرِدوا الخشية لي؛ فإنِّي وحْدي المستحقُّ لذلك .
وثانيها: قوله تعالى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ :أي: شرَعت لكم استقبال الكعبة؛ لأُكمل لكم شرائعَ ملَّتكم الحَنيفيَّة بإعطائكم قبلة مستقلة في بيت ربكم الذي وضع قواعده جدكم إبراهيم عليه السلام، وجعل الأمم الأخرى تبعًا لكم فيه، وطَهَرَهُ من عِبَادَةِ الأوثان والأصنام.
وثالثها: قوله- تعالى: وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ : أي: ومن أسباب تحويل القبلة إلى الكعبة أنْ ترجُوا بامتثال أوامر الله تعالى نيلَ هُداه، فتنتبهون وتعلمون الحق وتعملون به؛ ابتغاءَ رِضاه ،والهداية هي الطريق المستقيم الموصل إلى الغاية ،وغاية هذه الحياة هي أن تصل إلى نعيم الآخرة بامتثال أوامر الله عز وجل.الوسيط ومصادر أخرى.
من آية 151إلى 157
"كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ" 151 .
يقول تعالى: إن إنعامنا عليكم باستقبال الكعبة وإتمامها بالشرائع والنعم المتممة, ليس ذلك ببدع من إحساننا, ولا بأوله, بل أنعمنا عليكم من قبل بإرسال هذا الرسول الكريم لكم ،وهو منكم, تعرفون نَسبَهُ وأخلاقَهُ الفاضلة وصدقه, وأمانته وكماله ونصحه.
يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا: وهذا يَعُم الآيات القرآنية وغيرها، فهو يتلو عليكم الآيات المبينة للحق من الباطل, والهدى من الضلال, التي دلتكم أولًا, على توحيد الله وكماله, ثم على صدق رسوله, ووجوب الإيمان به, ثم على جميع ما أخبر به من المعاد والغيوب, حتى حصل لكم الهداية التامة, والعلم اليقيني.
وَيُزَكِّيكُمْ : أي يطهر نفوسَكُم من أدران الرذائل التي كانت فاشية في العرب من عبادة الأصنام ومن وأد البنات والخمر والميسر والربا، وقتل الأولاد تخلصًا من النفقة، وسفك الدماء لأوهن الأسباب، ويغرس فيها فاضل الأخلاق وحميد الآداب. بتربيتها على الأخلاق الجميلة, وتنزيهها عن الأخلاق الرذيلة, وذلك كتزكيتكم وتطهيركم من الشرك, إلى التوحيد ومن الرياء إلى الإخلاص, ومن الكذب إلى الصدق, ومن الخيانة إلى الأمانة, ومن الكِبر إلى التواضع, ومن سوء الخلق إلى حُسن الخلق, ومن التباغض والتهاجر والتقاطع, إلى التحاب والتواصل والتواد, وغير ذلك من أنواع التزكية.
وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ : وإذا أشرقت النفوس بنور الحق، وتحلت بالأخلاق الحميدة، قويت على تلقي ما يَرِد عليها من الحقائق السامية. المراد بالكتاب: القرآن، وتعليمه بيان ما يخفى من معانيه، فهو غير التلاوة، فلا تكرار بين قوله يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وبين قوله وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ.
وَالْحِكْمَةَ: السنة ، أي ما يصدر عنه صلّى الله عليه وسلّم من الأقوال والأفعال التي جعل الله للناس فيها أسوة حسنة.
وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ: أي ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه مما لا طريق إلى معرفته سوى الوحي. ومما لم يكونوا يعلمونه وعلمهم إياه صلّى الله عليه وسلّم مثل وجوه استنباط الأحكام من النصوص أو الأصول المستمدة منها، وأخبار الأمم الماضية، وقصص الأنبياء، وغير ذلك مما لم تستقل بعلمه عقولهم. وبهذا النوع من التعليم صار الدين كاملا قبل انتهاء عهد النبوة.
ولقد كان العرب قبل الإسلام في حالة شديدة من ظلام العقول وفساد العقائد ...
فلما أكرمهم الله- تعالى- برسالة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وتلا عليهم الآيات، وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، خرج منهم رجال صاروا أمثالًا عالية في العقيدة السليمة، والأخلاق القويمة والأحكام العادلة، والسياسة الرشيدة لمختلف البيئات والنزعات.تفسير الوسيط.
"فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ "152.
أي: عليكم بذِكري في مقابل تلك النعم التي تقدَّم ذكرها. وهذا الذِّكر المأمور به عامٌّ يَشملُ ذِكْرَ اللهِ قولًا باللِّسانِ، وعملًا بالقلبِ وبالجوارحِ، أَذْكُرْكُمْ ووعد عليه أفضل جزاء على هذا الذِّكر ، وهو أن يَذكُر هو سبحانَه مَن ذكَره.
"يقولُ اللَّهُ تَعالَى: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. "الراوي : أبو هريرة- صحيح البخاري.
وفي الحَديثِ: التَّرغيبُ في حُسنِ الظَّنِّ باللهِ تَعالَى. وفيه: بَيانُ أنَّ الجَزاءَ من جِنسِ العَمَلِ.الدرر السنية.
وهذه أفضل تربية من الله لعباده، إذا ذكروه ذكرهم بإدامة النعمة والفضل، وإذا نسوه نسيهم وعاقبهم بمقتضى العدل.
وبعد أن أعلمهم ما يحفظ النعم، أرشدهم إلى ما يوجب المزيد منها بمقتضى الجود والكرم فقال: وَاشْكُرُوا لِي:
أي: اشكُروني على ما مَنحتُكم من نِعمٍ بأن تستعملوا النعم في طاعته سبحانه، باللِّسانِ وبالقلب والجوارح، ولا تجحدوا إحساني إليكم. ومن أعظمِ ذلك: نِعمةُ الإسلام، وإرسالُ محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسلام، والهدايةُ إلى الشَّرائع الصَّحيحة، ومنها استقبالُ الكعبة الشريفة فالشكر فيه بقاء النعمة الموجودة, وزيادة في النعم المفقودة، قال تعالى:
"لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ " إبراهيم:7.
ولما كان الشكر ضده الكفر, نهى عن ضده فقال " وَلَا تَكْفُرُونِ"
المراد بالكفر هاهنا ما يقابل الشكر, فهو كفر النِّعم وجحدها، ويحتمل أن يكون المعنى عامًّا, فيكون الكفر أنواعًا كثيرة, أعظمه الكفر بالله, ثم أنواع المعاصي, على اختلاف أنواعها وأجناسها, من الشرك, فما دونه.تفسير السعدي.
وهذا تحذير لهذه الأمة حتى لا تقع فيما وقع فيه بعض الأمم السابقة التي فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ"153.
بعد أن أمر- سبحانه- عباده بذكره وشكره، وجه نداء إليهم بيَّنَ لهم فيه ما يعينهم على ذلك، كما بين لهم عاقبة الصابرين على البلاء.
فالصبر هو: حبس النفس وكفها عما تكره, فهو ثلاثة أقسام: صبرها على طاعة الله حتى تؤديها, وعن معصية الله حتى تتركها, وعلى أقدار الله المؤلمة فلا تتسخطها، فالصبر هو المعونة العظيمة على كل أمر.
وَالصَّلَاةِ : الصَّلاةُ أعظمُ أركانِ الإسلامِ العَمليَّةِ، ولها أهمِّيَّتُها الخاصَّةُ في الشَّرعِ، وفيها مِن الرُّوحانيَّاتِ والصِّلةِ باللهِ ما يَجْعَلُ القلبَ يَرْتاحُ ويَخْرُجُ مِنْ متاعبِ الدُّنيا إلى مَعِيَّةِ الحَقِّ سُبْحانَه، وقد جعلتُ قُرَّةُ عينِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصَّلاةِ.
"وجعلَتْ قرةُ عَيني في الصلاةِ "الراوي : أنس بن مالك -المحدث : الألباني- المصدر : صحيح النسائي.
فلا شيءَ يُسعِدُه ويُدخِلُ عليه السُّرورَ بمِثْلِ ما تُدخِلُ عليه الصَّلاةُ؛ فقُرَّةُ العينِ يُعبَّرُ بها عنِ المَسرَّةِ ورؤيةِ ما يُحِبُّه الإنسانُ.وهي عبادةٌ جليلةٌ فيها تَصْفو بها الرُّوحُ مِن الكَدَرِ والمُنغِّصاتِ النَّفسيَّةِ، وفيها يَقِفُ العبدُ بينَ يدَيْ ربِّه ويَدْعوه لِتَفريجِ هُمومِه؛ فهو وحْدَه القادِرُ على إزالةِ الهمِّ والحزنِ وتسهيلِ الصِّعابِ. وفي الحديث: بَيانُ عِظَمِ قَدْرِ الصَّلاةِ عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، وأنَّها يَنبغي أنْ تكونَ الأَوْلَى عندَ كلِّ مسلِمٍ .الدرر السنية.
عن حذيفةَ قالَ : كانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ إذا حزبَهُ أمرٌ صلَّى " المحدث : الألباني - المصدر : صحيح أبي داود.
وهذا مِن تعليمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم لأمَّتِه، فإنَّه يُعلِّمُنا حُسْنَ التَّوكُّلِ على اللهِ واللُّجوءَ إليه في كلِّ الأمورِ.
" يا بلالُ أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها "الراوي : سالم بن أبي الجعد -المحدث : الألباني- المصدر : صحيح أبي داود.
وطَلَبُ الرَّاحةِ في الصَّلاةِ يَصْدُرُ ممَّنْ كان خاشعًا فيها ومُحِبًّا لها، وإنْ كانت ثَقيلةً على البعضِ؛ كما قال اللهُ"وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ" البقرة: 45.
وفي الحَديثِ: أنَّ الصَّلاةَ راحةٌ للقَلْبِ مِنْ تَعَبِ الدُّنيا ومَشاغِلِها.
"الطُّهُورُ شَطْرُ الإيمانِ،...........والصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ، والصَّبْرُ ضِياءٌ، والْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها، أوْ مُوبِقُها."الراوي : أبو مالك الأشعري- المحدث : مسلم- المصدر : صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم : 223.
والصَّلاةُ نُورٌ : قيل: المَعنَى: إنَّ من أجرِها أن يَجعَلَ اللهُ عزَّ وجَلَّ نورًا لصاحِبِها يَومَ القيامةِ، ويَكونُ في الدُّنيا أيضًا على وَجهِه البَهاءُ، بخِلافِ مَن لم يُصَلِّ، وقيل: هي تَمنَعُ منَ المَعاصي وتَنهَى عنِ الفَحشاءِ والمُنكَرِ، وتَهدي إلى الصَّوابِ، كما أنَّ النُّورَ يُستَضاءُ به، وقيل: كُلُّ هذا؛ فهي نُورٌ للعَبدِ في قَلبِه، وفي وَجهِه، وفي قَبرِه، وفي حَشرِه.
والصَّبْرُ ضِياءٌ"، والضِّياءُ هو النُّورُ الذي يَحصُلُ فيه نَوعُ حَرارةٍ وإحراقٍ، كضياءِ الشَّمسِ، بخِلافِ القَمَرِ؛ فإنَّه نورٌ مَحضٌ، فيه إشراقٌ بغَيرِ حَرارةٍ، ولمَّا كان الصَّبرُ شاقًّا على النُّفوسِ يَحتاجُ إلى مُجاهدةِ النَّفسِ وحَبسِها وكَفِّها عمَّا تَهواهُ، كان ضياءً.الدرر السنية.
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ : أي: مع من كان الصبر لهم خلقا, وصفة, وملكة بمعونته وتوفيقه, وتسديده، أي: إنَّه سبحانه وتعالى مع الصَّابرين معيَّةً خاصَّةً تَقتضي قُربَه منهم، ومحبَّتَه لهم، ونصْرهم وتأييدَهم، وإعانتهم فهانت عليهم بذلك, المشاق والمكاره, وسهل عليهم كل عظيم, وزالت عنهم كل صعوبة، وهذه منقبة عظيمة للصابرين، فلو لم يكن للصابرين فضيلة إلا أنهم فازوا بهذه المعية الخاصة من الله, لكفى بها فضلًا وشرفًا.تفسير السعدي.
الفرق بين المعية الخاصة والعامة:المعيَّةُ الخاصَّةُ : هي للمُتَّقينَ والصَّابرينَ والمحسِنينَ، فهذه المعيَّةُ الخاصَّةُ هي بالنَّصرِ والتَّوفيقِ والإعانةِ والتسديدِ ونحوِ ذلك.كقوله تعالى " إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ "النحل: 128 ،" إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ " البقرة: 153. ،" لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا "التوبة: 40.
والمعيَّةُ العامَّةُ : عامة للمؤمنِ والكافرِ، وأمَّا المعِيَّةُ العامَّةُ فبالسَّمعِ والبَصَرِ والعِلمِ ، وهي المذكورةُ في قَولِه" مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ" إلى قَولِه" وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ "المجادلة: 7 ، "وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ "الحديد: 4 ؛ لأنَّ جميعَ الكائناتِ بسَمواتِها وأرضِها في يدِ خالِقِ السَّمَواتِ والأرضِ أصغَرُ مِن حَبَّةِ خَردَلٍ، فهو مع جميعِها بالإحاطةِ الكامِلةِ العَظيمةِ، وبالإحاطةِ العِلميَّةِ ونُفوذِ التصَرُّفِ كما لا يخفى.الموسوعة العقدية/الدرر السنية.ومصادر أخرى.
"وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ "154.
لما ذكر تبارك وتعالى, الأمر بالاستعانة بالصبر على جميع الأمور ذكر نموذجًا مما يُستعان بالصبر عليه, وهو الجهاد في سبيله, وهو أفضل الطاعات البدنية, وأشقها على النفوس, لمشقته في نفسه, ولكونه مؤديًا للقتل, وعدم الحياة, التي إنما يرغب الراغبون في هذه الدنيا لحصول الحياة ولوازمها، فكل ما يتصرفون به, فإنه سعى لها, ودفع لما يضادها. ومن المعلوم أن المحبوب لا يتركه العاقل إلا لمحبوب أعلى منه وأعظم، فأخبر تعالى: أن من قتل في سبيله, بأن قاتل في سبيل الله, لتكون كلمة الله هي العليا, ودينه الظاهر, لا لغير ذلك من الأغراض, فإنه لم تفته الحياة المحبوبة, بل حصل له حياة أعظم وأكمل, مما تظنون وتحسبون. فالشهداء " وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ *يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ "آل عمران الآيات 169-170. فهل أعظم من هذه الحياة المتضمنة للقرب من الله تعالى, وتمتعهم برزقه البدني في المأكولات والمشروبات اللذيذة, والرزق الروحي, وهو الفرح، والاستبشار وزوال كل خوف وحزن، وهذه حياة برزخية أكمل من الحياة الدنيا. تفسير السعدي.
وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ : أي: لا تحسون ولا تدركون حالهم بالمشاعر، لأنها من شؤون الغيب التي لا طريق للعلم بها إلا الوحي.
"وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ " 155.
وبعد أن أمر- سبحانه- عباده أن يستعينوا بالصبر والصلاة على احتمال المكاره، أردف ذلك بذكر بعض المواطن التي لا يمر فيها الإنسان بسلامة إلا إذا اعتصم بعرى الصبر.
فأخبر تعالى أنه لا بد أن يبتلي -والبلاء وهو الامتحان والاختبار- عبادَهُ بالمحنِ, ليتبين الصادقَ منَ الكاذبِ, والجازعَ مِنَ الصابرِ, ولتمييز أهل الخير من أهل الشر وهذه سنته تعالى في عباده.
قوله: بِشَيْءٍ: للتقليل. أي بشيء يسير من كل واحد من هذه البلايا والمحن المذكورة. لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله, أو الجوع, لهلكوا, والمحن تمحص لا تهلك.
والمعنى: ولنصيبنكم بشيء من الخوف وبشيء من الجوع، وبشيء من النقص في الأنفس والأموال والثمرات، ليظهر هل تصبرون أو لا تصبرون، فنرتب الثواب على الصبر والثبات على الطاعة، ونرتب العقاب على الجزع وعدم التسليم لأمر الله- تعالى-.
ولقد حدث للمسلمين الأولين خوف شديد بسبب تألب أعدائهم عليهم كما حصل في غزوة الأحزاب. وحدث لهم جوع أليم وقلة ذات يدهم .عن عبد الله بن شقيق قال : أقمتُ مع أبي هريرةَ بالمدينةِ سنةً ، فقالَ لي ذاتَ يَومٍ ونحنُ عندَ حُجرةِ عائشةَ : لقد رأيتُنَا وما لَنا ثيابٌ إلَّا البُرُدُ المُتفتِّقَةُ ، وإنَّه لَيأتي على أحدِنا الأيَّامُ ما يجدُ طعامًا يُقيمُ بهِ صُلبَه حتَّى إن كانَ أحدُنا لِيأخذُ الحجَرَ فيَشدُّ بهِ على أخْمَصِ بطنِه ، ثمَّ يشُدُّه بثوبِه ليُقيمَ صُلبَه ."الراوي : أبو هريرة- المحدث : الألباني -المصدر : صحيح الترغيب - الصفحة أو الرقم : 3307 - خلاصة حكم المحدث : صحيح موقوف .
"أنَّ رَجُلًا مِنَ الأنْصَارِ يُقَالُ له أبو شُعَيْبٍ، كانَ له غُلَامٌ لَحَّامٌ، فَقَالَ له أبو شُعَيْبٍ: اصْنَعْ لي طَعَامَ خَمْسَةٍ لَعَلِّي أدْعُو النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَامِسَ خَمْسَةٍ، وأَبْصَرَ في وجْهِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الجُوعَ، فَدَعَاهُ فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يُدْعَ، فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ هذا قَدِ اتَّبَعَنَا، أتَأْذَنُ له؟، قَالَ: نَعَمْ. "الراوي : أبو مسعود عقبة بن عمرو- المحدث : البخاري - المصدر : صحيح البخاري .
. وحدث لهم نقص في أموالهم بسبب اشتغالهم بإعلاء كلمة الله. وحدث لهم نقص في أنفسهم بسبب قتالهم لأعدائهم. ولكن كل هذه الآلام لم تزدهم إلا إيمانًا وتسليمًا لقضاء الله وقدره، واستمساكًا بتعاليم دينِهِم.
وفي الآية إيماء إلى أن الانتساب إلى الإيمان لا يقتضى سعة الرزق وبسط النفوذ وانتفاء المخاوف.
ومع هذا فإن من الهدي سؤال الله العافية :
"لم يَكُنْ رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - يَدَعُ هؤلاءِ الكَلِماتِ حين يُمْسِي وحين يُصْبِحُ : اللهم ! إني أَسْأَلُكَ العافيةَ في الدنيا والآخرةِ، اللهم ! إني أَسْأَلُكَ العَفْوَ والعافيةَ في دِينِي ودُنْيَايَ، وأهلي ومالي، اللهم ! اسْتُرْ عَوْراتِي وآمِنْ رَوْعاتِي، اللهم ! احْفَظْنِي من بينِ يَدَيَّ، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعَظَمَتِكَ أن أُغْتالَ من تحتي ؛ يعني : الخَسْفَ "الراوي : عبدالله بن عمر - المحدث : الألباني - المصدر : هداية الرواة -صحيح.
قامَ أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ على المنبرِ ثمَّ بَكى فقالَ: قامَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وسلم عامَ الأوَّلِ على المنبرِ ثمَّ بَكى فقالَ سلوا اللَّهَ العفوَ والعافيةَ فإنَّ أحدًا لم يُعطَ بعدَ اليقينِ خيرًا منَ العافيةِ "الراوي : رفاعة بن عرابة الجهني - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترمذي- الصفحة أو الرقم : 3558- خلاصة حكم المحدث : حسن صحيح .
الشرح: "سَلُوا اللهَ"، أي: اطلُبوا في دُعائِكم مِن اللهِ، "العفوَ"، أي: مَحْوَ الذُّنوبِ وسَتْرَ العيوبِ، "والعافيةَ"، أي: السَّلامةَ في الدِّينِ مِن الفِتنةِ، وفي البَدنِ مِن الأمراضِ، أو السَّلامةَ في الدُّنيا مِن النَّاسِ وشُرورِهم، وأن يُعافِيَك اللهُ مِنهم ويُعافِيَهم منك؛ "فإنَّ أحَدًا لم يُعطَ بعدَ اليَقينِ"، أي: بعد الإيمانِ والبصيرةِ في الدِّينِ "خيرًا مِن العافيةِ"، فكان هذا الدُّعاءُ مِن جَوامعِ الدُّعاءِ.الدرر السنية.
ولكن لنحذر من الخوف المفتعل من المجهول ومن المستقبل وأنه قد يقع بلاء كذا أو كذا فآفة الناس أنهم يعيشون في المصائب قبل وقوعها، وبذلك يكبر حجم المصيبة بالتوجس منها والرهبة من مواجهتها؟ إنك لو توكلت على الله وسألت الله العافية قد لا تقع ، ولو وقعت المصيبة فهو برحمته ينزل معها اللطف، فكأنك إن عشت في المصيبة قبل أن تقع، فأنت تعيش في المصيبة وحدها معزولة عن اللطف المصاحب لها.
"تنزِلُ المعونَةُ مِنَ السماءِ علَى قَدْرِ المؤْنَةِ ، وينزلُ الصبرُ على قدرِ المصيبةِ"الراوي : أبو هريرة- المحدث : الألباني- المصدر : صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 3001- خلاصة حكم المحدث : صحيح.
الشرح: "تنزلُ المَعونةُ"، أي: الإعانةُ بجَميعِ صُوَرِها؛ مِن مالٍ وغيرِه، " مِن السَّماءِ"، أي: يُنَزِّلُها اللهُ عزَّ وجلَّ على العبْدِ "على قدْرِ المُؤْنةِ"، والمُؤْنةُ هي القُوتُ الذي يُحتاجُ إليه، وقِيل: هي الشِّدَّةُ والتَّعبُ، والمعنى: أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُنَزِّلُ للعبْدِ رِزقَه على قدْرِ حاجتِه.وعِمادُ ذلك طلَبُ المَعونةِ مِن اللهِ تعالى بصِدقٍ وإخلاصٍ.
" ويَنزِلُ الصَّبرُ"، أي: يأْتي مِن اللهِ تعالى للعبْدِ المُصابِ، "على قَدْرِ المُصيبةِ"؛ فإنْ عظُمَت المُصيبةُ أفرَغَ اللهُ عليه صبْرًا كثيرًا؛ لُطْفًا منه تعالى به؛ لئلَّا يَهلِكَ جَزعًا، وإنْ خفَّتَ فبقَدْرِها.
وفي الحَديثِ: إرشادٌ إلى الاعتِصامِ بحَولِ اللهِ وقوَّتِه، وتَوجيهِ الرَّغباتِ إليه بالسُّؤالِ والابتهالِ.الدرر السنية.
نسأل الله السلامة والعافية من كل بلاء.
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ : أي: بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب.
القائلين إذا أصابتهم مصيبة:
" الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ"156.
قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ :أي: مملوكون لله, مدبرون تحت أمره وتصريفه.
ومع أننا مملوكون لله, فإنا إليه راجعون يوم المعاد, فمجاز كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا موفورًا عنده، وإن جزعنا وسخطنا, لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر، فكون العبد لله, وراجع إليه, من أقوى أسباب الصبر.تفسير السعدي.
يقولون هذه المقالة المعبرة عن الإيمان بالقضاء والقدر - بالظفر بحسن العاقبة في أمورهم كلها بحسب ما وضع من السنن في الكون. والصبر لا ينافي ما يحدث من الحزن حين حلول المصيبة، فإن ذلك من الرقة والرحمة الطبيعيين في الإنسان.تفسير المراغي.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: وبشّر، يا محمد، الصابرين الذين يعلمون أن جميع ما بهم من نعمة فمنّي, فيُقرون بعبوديتي, ويوحِّدونني بالربوبية, ، ويصدقون بالمعاد والرجوع إليّ فيستسلمون لقضائي, ويرجون ثَوابي، ويخافون عقابي.تفسير الطبري.
"أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ" 157.
أُولَٰئِكَ :الموصوفون بالصبر المذكور.
عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ : أي: إنَّ هؤلاءِ الصَّابرين المبشَّرين الذين يقولون: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، لهم من الله تعالى ثناءٌ عليهم وتنويهٌ بشأنهم، وتتنزَّل عليهم منه سبحانه الرَّحمات.
"ما مِن مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فيَقولُ ما أمَرَهُ اللَّهُ"إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ"البقرة: 156، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي في مُصِيبَتِي، وأَخْلِفْ لي خَيْرًا مِنْها، إلَّا أخْلَفَ اللَّهُ له خَيْرًا مِنْها ...." الراوي : أم سلمة أم المؤمنين - المحدث : مسلم - المصدر : صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم : 918.
"إذا أصابَت أحدَكُم مُصيبةٌ فليقُل : إنَّا للَّهِ وإنَّا إليهِ راجعونَ ، اللَّهمَّ عندَكَ أحتسِبُ مُصيبتي ، فآجِرني فيها ، وأبدِل لي بِها خيرًا مِنها "الراوي : أم سلمة أم المؤمنين - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح أبي داود -الصفحة أو الرقم: 3119 - خلاصة حكم المحدث : صحيح .
الشرح: أمَرَنا اللهُ عزَّ وجلَّ بالصَّبرِ عند المصائِبِ، ومِمَّا يُعينُ على الصَّبرِ ما أخبَر به النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في هذا الحديثِ بقولِه: "إذا أصابَت أحدَكم مُصيبَةٌ"، أي: إذا وقَعَ على الإنسانِ ما يَكرَهُ ويتَأذَّى منه، وليس له القُدرَةُ على دَفْعِه؛ "فليَقُلْ: إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجِعون"، أي: إيمانًا منه وتَسْليمًا بقَضاءِ اللهِ وقدَرِه على ما أصابَه، فنحن مَملُوكون للهِ وعَبيدٌ له، وإليه عزَّ وجلَّ نَرجِعُ في حَوْلِنا وقوَّتِنا، "اللَّهمَّ عِندَك أحتَسِبُ مُصيبَتي"، أي: أجعَلُ أجرَها وجزاءَ ما بُليتُ به عندَك لا عندَ أحدٍ سِواكَ، "فأْجُرْني فيها"، أي: فاجعَلْ لي فيما أصابَني يا أللهُ أجْرًا وثَوابًا في الآخِرَةِ، "وأبدِلْ لي بها خيرًا منها"، أي: أبدِلْ تلك المُصيبَةَ الَّتي وقعَتْ بي بنعمَةٍ خيرًا مِنها وأفضَلَ في الدُّنيا، فيكونُ العبْدُ بذلك إذا ما حلَّتْ به مصيبَةٌ فإنَّه يَطلُبُ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ بها ثَوابًا في الآخِرَةِ ونعمَةً في الدُّنيا بعد الثَّناءِ على اللهِ والخضُوعِ له، فيَجمَعُ بينَ الخيرَينِ فضْلًا مِن اللهِ ونعمَةً.
وفي الحديثِ: الأمرُ باللُّجوءِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ عندَ المصيبةِ بالصَّبرِ والذِّكرِ والدُّعاءِ.الدرر السنية.
وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ : وهؤلاء هم الذين عرفوا الحق وعملوا به , وهو في هذا الموضع, علمهم بأنهم لله, وأنهم إليه راجعون, وعملوا به وهو هنا صبرهم لله.
فقد اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها, لتخف وتسهل, إذا وقعت، وبيان ما تقابل به, إذا وقعت, وهو الصبر، وبيان ما يعين على الصبر, وما للصابر من الأجر، ويعلم حال غير الصابر, بضد حال الصابر.تفسير السعدي.
من آية 158إلى 161
"إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ "158.
قال الآلوسي: بعد أن أشار- سبحانه- فيما تقدم إلى الجهاد عقَّبَ ذلك ببيان معالِم الحج، فكأنه جمع بين الحج والغزو، وفيهما شق الأنفس وتلف الأموال. وقيل لما ذكر الصبر عقَّبه ببحث الحج لما فيه من الأمور المحتاجة إليه.ا.هـ.
أخبَر الله تعالى أنَّ السَّعي بين الصَّفا والمروة "مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ " أي أعلام دينه الظاهرة, التي تعبَّدَ اللهُ بها عبادَهُ, وإذا كانا من شعائر الله, فقد أمر الله بتعظيم شعائره فقال" وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ " الحج:32.فدل مجموع النصين أنهما من شعائر الله, وأن تعظيم شعائره, من تقوى القلوب. والتقوى واجبة على كل مكلف, وذلك يدل على أن السعي بهما فرض لازم للحج والعمرة, كما عليه الجمهور, ودلت عليه الأحاديث النبوية وفعله النبي صلى الله عليه وسلم وقال " يا أَيُّها الناسُ خُذُوا عَنِّي مناسكَكم ، فإني لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بعد عامي هذا"
الراوي : جابر بن عبدالله - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الجامع-صحيح.
فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا:
والجُناح- بضم الجيم- الإثم والحرج مشتق من جنح إذا مال عن القصد، وسمى الإثم به للميل فيه من الحق إلى الباطل.
هذا دفع لوهم من توهم وتحرج من المسلمين عن الطواف بينهما, فبعض المسلمين كانوا مترددين في كون السعي بين الصفا والمروة من شعائر الله، وكانوا يظنون أن السعي بينهما من أحوال الجاهلية.
فنفى تعالى الجناح لدفع هذا الوهم, لا لأنه غير لازم. ودل تقييد نفي الجناح – الإثم والحرج- فيمن تَطَوَّفَ بهما في الحج والعمرة, أنه لا يتطوع بالسعي مفردًا إلا مع انضمامه لحج أو عمرة، بخلاف الطواف بالبيت, فإنه يشرع مع العمرة والحج, وهو عبادة مفردة. فأما السعي والوقوف بعرفة ومزدلفة, ورمي الجمار فإنها تتبع النُّسك، فلو فُعِلَت غير تابعة للنُّسك, كانت بدعة, لأن البدعة نوعان: نوع يتعبد لله بعبادة, لم يشرعها أصلا، ونوع يتعبد له بعبادة قد شرعها على صفة مخصوصة, فتفعل على غير تلك الصفة, وهذا منه. تفسير السعدي.
يَروي التَّابِعيُّ عاصِمُ بنُ سُلَيمانَ الأحوَلُ أنَّه سألَ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه : قُلتُ لأنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ؟ قالَ: نَعَمْ؛ لأنَّهَا كَانَتْ مِن شَعَائِرِ الجَاهِلِيَّةِ حتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ"إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا"البقرة: 158.
الراوي : أنس بن مالك - المحدث : البخاري - المصدر : صحيح البخاري
الصفحة أو الرقم: 1648 - خلاصة حكم المحدث : صحيح
"سَأَلْتُ أنَسَ بنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، عَنِ الصَّفَا، والمَرْوَةِ فَقالَ: كُنَّا نَرَى أنَّهُما مِن أمْرِ الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كانَ الإسْلَامُ أمْسَكْنَا عنْهما فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى"إنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فمَن حَجَّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فلا جُنَاحَ عليه أنْ يَطَّوَّفَ بهِمَا"البقرة: 158.
الراوي : أنس بن مالك - المحدث : البخاري - المصدر : صحيح البخاري.
أن يطوف أصلها يتطوف، ولكنه غلبت التاء طاء لعلة تصريفية فصار أن يطوف، وقوله: ((بهما)) المراد بينهما كما تفسره سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس المراد أن يطوف بهما يدور عليهما كما يطوف بالبيت العتيق، فإن هذا قطعا لا يراد لأنه شيء غير ممكن والسنة تفسر القرآن،العثيمين.أهل الحديث والأثر.
وقوله : وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا : تذييل قُصد منه الإتيان بحكم كلي في أفعال الخيرات كلها- من حج وعمرة, وطواف, وصلاة, وصوم وغير ذلك...-.وتَطَوَّعَ من التطوع وهو فعل الطاعة فريضة كانت أو نافلة، وقيل هو التطوع بالنفل خاصة.تفسير الوسيط.
فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ: الشاكر والشكور, من أسماء الله تعالى، الذي يقبل من عباده اليسير من العمل، ويجازيهم عليه، العظيم من الأجر، الذي إذا قام عبده بأوامره، وامتثل طاعته، أعانه على ذلك، وأثنى عليه ومدحه، وجازاه في قلبه نورًا وإيمانًا, وسعة، وفي جميع أحواله زيادة بركة ونماء. ثم بعد ذلك، يُقْدِمُ على الثواب الآجل عند ربه جزاءً موفورًا.تفسير السعدي.
ونلاحظ أن اسم "الشاكر" قد اقترن باسم "العليم" سبحانه واقترانه به يفيد أنه تعالى شاكر أي يثيب على القليل بالكثير، مع علمه التام المحيط بمن يستحق الثواب الكامل, بحسب نيته وإيمانه وتقواه ممن ليس كذلك، عليم بأعمال العباد, فلا يضيعها بل يجدونها أوفر ما كانت على حسب نياتهم التي اطلع عليها العليم الحكيم.
وتَرغيبًا في فِعل الطاعة والاستزادة منها أخْبَر تعالى أنَّ مَن يأتي بالطاعات، سواء ما كان منها مَفروضًا أو مستحبًّا، ويَزداد منها؛ فإنَّ الله مُجازيه على عمَله خيرَ الجزاء، فهو سبحانه شاكرٌ لا يُضيع أجْرَ مَن أحسن عملًا، عليمٌ لا يَخفَى عليه ذاك الإحسانُ.موسوعة التفسير.الدرر السنية.
"إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ"159.
الكتمان تارة يكون بستر الشيء وإخفائه، وتارة أخرى بإزالته ووضع آخر مكانه، واليهود فعلوا في التوراة كليهما، فقد أخفوا حكم رجم الزاني، وأنكروا بشارة التوراة بمحمد ﷺ، وتعسفوا في تأويل ما ورد فيها من ذلك على وجه لا ينطبق على محمد عليه السلام.تفسير المراغي.
هذه الآية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب، وما كتموا من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته.
لكنها أيضًا حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله " مِنَ الْبَيِّنَاتِ " الدالات على الحق المظهرات له، " وَالْهُدَى " وهو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبين به طريق أهل النعيم، من طريق أهل الجحيم، مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ: والمراد ما اشتملت عليه الكتب السماوية السابقة على القرآن من صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن هداية وأحكام.والمراد بالكتاب جنس الكتب، فيصح حمله على جميع الكتب التي أنزلت على الرسل- عليهم السلام-. وقيل: المراد به التوراة.
فإن الله أخذ الميثاق على أهل العلم، بأن يبينوا للناس ما مَنّ اللهُ به عليهم من علم الكتاب ولا يكتموه، فمن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين، كتم ما أنزل الله. "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ" آل عمران: 187.
وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم ، ويسلك بهم مسلكهم ، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع ، الدال على العمل الصالح ، ولا يكتموا منه شيئا ، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من سُئل عن علمٍ فكتمه ألجمه اللهُ بلِجامٍ من نارٍ يومَ القيامةِ "الراوي : أبو هريرة - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح أبي داود -الصفحة أو الرقم: 3658 - خلاصة حكم المحدث : حسن صحيح .
أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ : يلعنهم أي يبعدهم ويطردهم عن رحمته ،وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ أي ويلعنهم كل من تتأتى منه اللعنة- كالملائكة والمؤمنين- بالدعاء عليهم بالطرد من رحمة الله لكتمانهم لما أمر الله بإظهاره.
" إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" 160.
بعد هذا الوعيد الشديد لأولئك الكاتمين لما أمر الله بإظهاره، أورد القرآن في أعقاب ذلك آية تفتح لهم نافذة الأمل، وتبين لهم أنهم إذا تابوا وأنابوا قبل الله توبتهم ورحمهم.
أي: استثنى الله عزَّ وجلَّ منهم مَن رجَع عن كِتمانه، معترفًا لله تعالى بذنبه، مُصلحًا حالَ نفْسِه بالتقرّبِ إلى اللهِ بصالحِ الأعمالِ، مبيِّنًا للنَّاسِ ما كتَمَه مِنَ الحقِّ. أي بينوا خلاف ما كانوا عليه من الباطل.
ولا يكفي في التوبة من أي ذنب قول القائل : قد تبت ، حتى يظهر منه في الثاني خلاف الأول ، فإن كان مرتدًا رجع إلى الإسلام مُظهِرًا شرائعه ، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح ، وجَانَب أهل الفسادِ والأحوال التي كان عليها ، وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام ، وهكذا يظهر عكس ما كان عليه منَ الباطلِ.
فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ: فهؤلاء يتوب اللهُ عليهم فأذن بتوبتهم ووفقهم لها ، ويفيضُ عليهم مغفرتَهُ تفضلًا منه ورحمة، وهو الذي يرجع قلوبَ عبادِهِ المنصرفة عنه ويردها إليه بعد إدبارها عن طاعته، وهو الرّحيم بالمقبلين عليه يتغمدهم برحمته ويشملهم بعفوه، ويصفح عما كانوا اجترحوا من السيئات.
وفي الآية ترغيب للقلوب الواعية التي تخاف سخط الله وشديد عقابه، في التوبة عما فرط من الذنوب، وطرد لليأس من رحمة الله مهما ثقلت الذنوب وكثرت الآثام.
تعقيب:
توبة الله على العبد لها معنيان :
الأول : توفيق الله تعالى للعبد أن يتوب .
الثاني : أن يقبل الله تعالى توبة العبد .
قال ابن القيم في "مدارج السالكين" 1/312 :
"وتوبة العبد إلى ربه: محفوفة بتوبة مِنَ اللهِ عليه قبلها ، وتوبة منه بعدها ، فتوبته بين توبتين من الله ، سابقة ولاحقة ، فإنه تاب عليه أولًا، إذنًا وتوفيقًا وإلهامًا ، فتاب العبد ، فتاب الله عليه ثانيًا قبولًا وإثابة .ا.هـ.
"إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"161.
لَمَّا لعَن الله الكاتمين للحق؛ واستثنى منهم التائبين، ذكَر المُصرِّين على كفرهم حتَّى مماتِهم، ولم يتوبوا، معبِّرًا عن كتمانهم بالكُفر؛ لتعمَّ العبارةُ كلَّ كُفر ولو بغير معصية الكتمان، فهؤلاء يستحقون اللعن الأبدي الذي يلزمه الخلود في دار الذل والهوان، وهذا لا يكون إلا إذا مات صاحبه على الكفر.
أي: إنَّ الله تعالى يطردُ أولئك الكفَّار من رحمته، وأمَّا الملائكة وجميع النَّاس فيَسألون الله عزَّ وجلَّ أن يُبعدَهم ويطردَهم من رحمته.
"خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ "162.
الخلود البقاء إلى غير نهاية. أي: هم خالدون أبدًا في هذه اللَّعنة المستَتْبِعةِ للخلود الأَبديِّ في نار جهنَّمَ، التي لا يَنقُص فيها عذابُهم زمنًا ولا مِقدارًا؛ فهُم في عذابٍ دائمٍ وشديد.
وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ: لا يُمهلون فيُؤخَّر عنهم العذاب ،أو ولا هم يُمْهَلُون ليتوبوا ويعملوا صالح الأعمال.
المجلس السادس والعشرون
وقفات وتأملات مع سورة البقرة
من آية 163إلى. 164.
"وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ" 163.
قوله: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ معطوف على قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا عطف القصة على القصة.
حكم الله في الآية السابقة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى باللعنة والطرد من رحمته إلا إن تابوا، فإن هم ماتوا على كتمانهم كانوا خالدين في اللعنة لا يخفف عنهم من العذاب شيء. إنما ذكر الوحدانية- وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ - والرحمة - الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ - دون غيرهما من صفاته، لأن الوحدانية تُذكر أولئك الكافرين الكاتمين للحق أن شارع الدين واحد لا معبود سواه ، وبأنهم لا يجدون ملجأ غير الله يقيهم عقوبته ولعنته، والرحمة بعدها ترغبهم في التوبة وتحول بينهم وبين اليأس من فضله، بعد أن اتخذوا الوسطاء والشفعاء عنده.
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ :أي: متوحد منفرد في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فليس له شريك في ذاته، ولا سمي له ولا كفو له، ولا مثل، ولا نظير ، فإذا كان كذلك، فهو المستحق لأن يؤله ويُعبد بجميع أنواع العبادة، ولا يشرك به أحد من خلقه.لذا قال سبحانه بعدها:لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ .
الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ : وأتى- سبحانه- بهذين اللفظين في ختام الآية، لأن ذكر الإلهية والوحدانية يحضر في ذهن السامع معنى القهر والغلبة وسعة المقدرة وعزة السلطان، وذلك مما يجعل القلب في هيبة وخشية، فناسب أن يورد عقب ذلك ما يدل على أنه مع هذه العظمة والسلطان، مصدر الإحسان ومولى النعم، فقال: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، وهذه طريقة القرآن في الترويح على القلوب بالتبشير بعد ما يثير الخشية، حتى لا يعتريها اليأس أو القنوط.
ثم ذكر - عزت قدرته - بعض ظواهر الكون الدالة على وحدانيته ورحمته لتكون برهانا على ما ذكر في الآية قبلها فقال:
" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ"164.
وبعد أن أخبر- سبحانه- بأنه هو الإله الذي لا يستحق العبادة أحد سواه، عقب ذلك بإيراد ثمانية آيات أي: أدلة تشهد بوحدانيته وإلهيته، وقدرته وعظيم سلطانه ورحمته وسائر صفاته ، وتشتمل على آيات ساطعات، وبينات واضحات، تهدي أصحاب العقول السليمة إلى عبادة الله وحده، وإلى بطلان ما يفعله كثير من الناس من عبادة مخلوقاته.
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: إن إيجاد السَّموات والأرض من عدمٍ، وصُنعِهما المتقن لآيات بينات للفِطَرِ والعقولِ السليمةِ.
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ : وما فيها والسموات التي تتألف أجرامها من طوائف، لكل طائفة منها نظام محكم وللمجموع نظام واحد، يدل على أنه صادر من إله واحد لا شريك له في الخلق والتقدير، والحكمة والتدبير، وأقرب تلك الطوائف إلينا المجموعة الشمسية التي تفيض شمسها على أرضنا أنوارها، فتكون سببًا في حياة الحيوان والنبات، ويتبعها جملة كواكب تختلف مقاديرها وأبعادها، استقر كل منها في مداره، وحفظت النسبة بين بعضها وبعض بسنة إلهية محكمة يعبرون عنها بالجاذبية، ولولا ذلك لتفلتت هذه الكواكب السابحة في أفلاكها فصدم بعضها بعضا وهلكت العوالم جميعًا.
...وَالْأَرْضِ : الأرض،جعلها سبحانه مهادًا للخلق، يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها ففي جرمها ومادتها وشكلها والعوالم المختلفة التي عليها من الجماد والنبات والحيوان وجميع المخلوقات ، وفي منافعها المختلفة باختلاف أنواعها، ما يدل على إبداع.الحكيم العليم." وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ" الذاريات : 20. والموقنون هم العارفون المحققون وحدانية ربهم ، وصدق نبوة نبيهم ، خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بتلك الآيات وتدبرها "وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ".الحج:5.
"وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ "الرعد : 4. المقصود أنها مع تجاورها وتقاربها مختلفة في أوصافها مما يشهد بقدرة الله- تعالى- العظيمة. قال ابن كثير ما ملخصه: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ أي: أراض يجاور بعضها بعضًا، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينتفع به الناس، وهذه سبخة مالحة لا تنبت شيئًا، وهذه تربتها حمراء، وتلك تربتها سوداء، وهذه محجرة وتلك سهلة، والكل متجاورات، فهذا مما يشهد بقدرة الله ، لا إله إلا هو ولا رب سواه .
خلقَ سبحانه هذه الأرض وأرساها بالجبال؛ يقول - جل وعلا " وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ "النحل : 15. ألقى في الأرض رواسي أي جبالا ثابتة . رسا يرسو إذا ثبت وأقام .والميد : هو الاضطراب ، لتقر الأرض ولا تميد أي : تضطرب بما عليها من الكائنات الحية فلا يهنأ لهم عيش بسبب ذلك.
ويقول - جل وعلا " وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا "النازعات : 32. أي: ثبتها في الأرض.
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ : وهو تعاقبهما على الدوام، إذا ذهب أحدهما، خلفه الآخر، وفي اختلافهما في الحر، والبرد، والتوسط، وفي الطول، والقصر، والتوسط، أي : تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر ، فتارة يطول هذا ويقصر هذا ، ثم يعتدلان ، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا ، ويقصر الذي كان طويلا وكل ذلك تقدير العزيز الحكيم ، وما ينشأ عن ذلك من الفصول، التي بها انتظام مصالح بني آدم . – مثاله في فصل الصيف يطول النهار ويقصر الليل وفي الشتاء يطول الليل ويقصر النهار وهذا مُشَاهَد -
إن هذا الإخبار عن ذلك فيه حث على التأمل والتفكر، فالله ذكر ذلك في سياق مدح لهؤلاء المتفكرين المُعتبرين.
وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ: وهي السفن والمراكب ونحوها، مما ألهم الله عباده صنعتها، ثم سخر لها هذا البحر العظيم والرياح، التي تحملها بما فيها من الركاب والأموال، والبضائع التي هي من منافع الناس، وبما تقوم به مصالحهم وتنتظم معايشهم. وجه العلاقة بين ذكر الفلك وما قبله : والنكتة في ذكرها عقيب آية الليل والنهار، هي أن المسافرين في البر والبحر هم أشد الناس حاجة إلى تحديد اختلاف الليل والنهار ومراقبته على الوجه الذي ينتفع به، والمسافرون في البحر أحوج إلى معرفة الأوقات وتحديد الجهات، لأن خطر الجهل عليهم أشد، وفائدة المعرفة لهم أعظم، ولذلك كان من ضروريات رباني السفن معرفة علم النجوم، وعلم الليل والنهار من فروع هذا العلم -الجغرافية الفلكية-. قال- تعالى" وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ " الأنعام: 97 .
وخص- سبحانه- النفع بالذكر وإن كانت السفن تحمل ما ينفع وما يضر لأن المراد هنا عَدّ النِّعَم، ولأن الذي يحمل فيها ما يضر غيره هو في الوقت نفسه يقصد منفعة نفسِهِ.
ومن وجوه الاستدلال بالفلك التي تجرى في البحر بما ينفع الناس على وجود الله وقدرته، أن هذه الفلك وإن كانت من صنع الناس إلا أن الله- تعالى- هو الذي خلق الآلات والأجزاء التي صارت بها سفنا، وهو الذي سخر لبحر لتجرى فيه مقبلة ومدبرة مع شدة أهواله إذا هاج، وهو الذي جعلها تشق أمواجه شقا حتى تصل إلى بر الأمان، وهو الذي رعاها برعايته وهي كنقطة صغيرة في ذلك الماء الواسع، ووسط تلك الأمواج المتلاطمة حتى وصلت إلى ساحل السلامة وهي حاملة الكثير مما ينفع الناس من الأطعمة والأشربة والأمتعة المختلفة، فسبحانه من إله قادر حكيم.الوسيط.
وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا:
والمراد بالسماء: جهة العلو، أي: وما أنزل من جهة السماء من ماء.
قال تعالى" اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ " الروم: 48.
وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا :أي: ويجعله قطعًا بعضها فوق بعض تارة أخرى. والكسف: جمع كسفه، وهي القطعة من السحاب.
الْوَدْقَ: المطر ، يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ : أي: المطر يخرج ويتساقط من خلال هذا السحاب، ومن بين ذراته. فَإِذا أَصابَ بِهِ، أي: بهذا المطر مَنْ يَشاءُ. إصابته به مِنْ عِبادِهِ بأن ينزله على أراضيهم وعلى بلادهم إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي: يفرحون بذلك، لأنه يكون سببا في حياتهم وحياة دوابهم وزروعهم.
وهذا الوصف الموجز هو ما بينه العلماء بقولهم: إن المطر يتوالد عن طريق تجمع هائل لبخار المياه المتصاعدة من المسطحات المائية المختلفة ومن التربة - ثم يتعرض لعوامل مختلفة من درجات الحرارة الباردة و اتجاه تيارات الرياح فيؤدي لتكثيف البخار وتتكون سُحُبًا يسقط الماء – المطر - من خلالها وينزل إلى الأرض لثقله .
وأعرف الناس بنعمة المطر، أولئك الذين يعيشون في الأماكن البعيدة عن الأنهار. ممن تقوم حياتهم على مياه الأمطار.
فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا: أي وبهذا الماء تحدث حياة الأرض بالنبات، وبه أمكن معيشة الكائنات الحية على سطحها،قال تعالى" وتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ "الحج:5.
وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ : وَبَثَّ فِيهَا :أي: نشر في أقطار الأرض من الدواب المتنوعة. الدابة اسم من الدبيب والمشي ببطء، كل ما يمشى فوق الأرض فهو بحسب الوضع اللغوي يطلق عليه دابة. والظاهر أن المراد بالدابة هنا هذا المعنى العام، لا ما يجرى به العرف الخاص باستعماله في نوع خاص من الحيوان كذوات الأربع.الوسيط.
وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ: أي: وتصريف أي تقليب الرياح للسحاب. تقليب الرِّيح ركودًا وهبوبًا، وجعْلها تهبُّ من اتجاهات عِدَّة، واختلافها في الشِّدَّة والضَّعف، والنَّفع والضر، وتذليله سبحانه السَّحابَ بين السَّماء والأرض لمصالح خَلْقه، على حسب إرادته- سبحانه- ووفق حكمته.
الْمُسَخَّرِ : والْمُسَخَّرِ: المُذلَّل، وَالمُيسَّر، من التسخير وهو التذليل
من آية 165إلى 171. .
"وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ"165.
ما أحسن اتصال هذه الآية بما قبلها، فإنه تعالى, لما بين وحدانيته وأدلتها القاطعة, وبراهينها الساطعة الموصلة إلى علم اليقين, المزيلة لكل شك، ذكر هنا أن " وَمِنَ النَّاسِ " مع هذا البيان التام مَنْ يتخذ مِنَ المخلوقين أندادا لله ، الأنداد واحدها ندّ وهو المماثل .أي: يتخذون نظراء ومثلاء، يساويهم في الله بالعبادة والمحبة, والتعظيم والطاعة. ومن كان بهذه الحالة - بعد إقامة الحجة، وبيان التوحيد - عُلم أنه معاند لله، مشاق له, أو معرِض عن تدبر آياته والتفكر في مخلوقاته, فليس له أدنى عذر في ذلك، بل قد حقت عليه كلمة العذاب. وهؤلاء الذين يتخذون الأنداد مع الله، لا يسوونهم بالله في الخلق والرزق والتدبير، وإنما يسوونهم به في العبادة، فيعبدونهم، ليقربوهم إليه، وفي قوله: " يَتَّخِذُ " دليل على أنه ليس لله ند وإنما المشركون جعلوا بعض المخلوقات أندادا له، تسمية مجردة، ولفظا فارغا من المعنى.
قال تعالى "أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ " الزمر:3.
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى : يقولون إننا ما نعبد هذه المعبودات إلا من أجل أن نتوسل بها، لكي تقربنا إلى الله قربى، ولتكون شفيعة لنا عنده حتى يرفع عنا البلاء والمحن.
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ : الله هو المستحق للمحبة الكاملة, والذل التام، فلهذا مدح الله المؤمنين بقوله "وَالَّذِينَ آمَنُوا أَ شَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ"
أي: الذين آمنوا أشد حبًا لله من أهل الأنداد لأندادِهم، لأن المؤمنين أخلصوا محبتهم لله، وهؤلاء أشركوا بها، ولأن المؤمنين أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة، الذي محبته هي عين صلاح العبد وسعادته وفوزه، ولقد ضرب المؤمنون الصادقون أروع الأمثال في حبهم لله- تعالى- لأنهم ضحوا في سبيله بأرواحهم وأموالهم وأبنائهم وأغلى شيء لديهم، ولأنهم لم يعرفوا عملا يرضيه إلا فعلوه، ولم يعرفوا عملا يغضبه إلا اجتنبوه.
والمشركون أحبوا من دون الله من لا يستحق من الحب شيئًا، ومحبته عين شقاء العبد وفساده، وتشتت أمره. لذا أخبر- سبحانه- عما ينتظر الظالمين من سوء المصير ، والظالمون هم المشركون وظلموا باتخاذ الأنداد والانقياد لغير رب العباد وظلموا الخلق بصدهم عن سبيل الله وبحملهم على أن يحذو حذوهم، ويتخذوا الأنداد مثلهم ، وسعيهم فيما يضرهم وتوعدهم الله بقوله " وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ "
والمعنى: ولو يرى أولئك المشركون حين يشاهدون العذاب المعَدّ لهم يوم القيامة فتقطع بهم الأسباب، ولا تغني عنهم الأنداد والأرباب، أن القدرة والقوة كلها لله وحده، وأن عذابه الذي يصيب به المتخبطين في ظلمات الشرك شديد، بها يتصرف في كل موجود، لعلموا أن هذه القوة التي تدبر عالم الآخرة هي عين القوة التي تدبر عالم الدنيا، وأنهم كانوا ضالين حين لجأوا إلى سواها، وأشركوا معها غيرها، وكان ذلك منشأ عقابهم وعذابهم.
لو يعلمون ذلك، لرأوا ما لا يوصف من الهول والفظاعة، ولوقعوا فيما لا يكاد يوصف من العذاب والحسرة والندامة.
" إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ"166.
وتَبَرَّأَ من التَّبَرُؤ وهو التخلص والتنصل والتباعد، ومنه برئت من الدين أي: تخلصت منه، وبرأ المريض من مرضه، أي: تخلص من مرضه.
والمراد بالذين اتُّبِعُوا: أئمة الكفر الذين يحلون ويحرمون ما لم يأذن به الله.
والمراد بالذين اتَّبَعُوا: أتباعهم وأشياعهم الذين يتلقون جميع أقوالهم بالطاعة والخضوع بدون تدبر أو تعقل.
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ: وتقطعت بسبب كفرهم الأسباب التي كانوا يرجون من ورائها النجاة. والْأَسْبابُ جمع سبب، وهو في الأصل الحبل الذي يرتقَى به الشجر ونحوه، ثم سمي به كل ما يتوصل به إلى غيره، عينا كان أو معنى. فيقال للطريق سبب، لأنك بسلوكه تصل إلى الموضع الذي تريده، ويقال للمودة سبب لأنك تتواصل بها إلى غيرك، والمراد بالأسباب هنا:
الوشانج والصلات التي كانت بين الأتباع والمتبوعين في الدنيا، من القرابات والمودات والأحلاف والاتفاق في الدين ... إلخ.
"وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ "167.
الكرة: الرجعة والعودة. والمعنى: وقال الذين كانوا تابعين لغيرهم في الباطل بدون تعقل أو تدبر ليت لنا رجعة إلى الحياة الدنيا فنتبرأ من هؤلاء الذين اتبعناهم وأضلونا السبيل كما تبرءوا منا في هذا اليوم العصيب - بأن يتركوا الشرك بالله، ويقبلوا على إخلاص العمل لله،ويهتدوا بكتاب الله وسنة رسوله ثم يعودوا إلى موضع الحساب- فنتبرأ من هؤلاء الضالين كما تبرءوا منا، ونسعد بعملنا حيث هم أشقياء بأعمالهم.
وهيهات هيهات، فات الأوان ، وليس الوقت وقت إمهال وإنظار.فتبرؤوا جميعًا من بعض في حال رؤيتهم للعذاب.
كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ: المعنى: كما أرى الله- تعالى- المشركين العذاب وما صاحبه من التبرؤ وتقطع الأسباب بينهم، يريهم- سبحانه- أعمالهم السيئة يوم القيامة فتكون حسرات تتردد في صدورهم كأنها شرر الجحيم.
ثم ختم- سبحانه- الآية ببيان عاقبة أمرهم فقال: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ. لكن هذا التحسُّر والندم لا يُفيدهم شيئًا؛ فإنَّهم باقون في النار غير خارجين منها. بل هم مستقرون فيها استقرارًا أبديًا.
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ"168.
لما بيَّنَ تعالى أنه لا إله إلا هو ، وأنه المستقل بالخلق ، شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه فوجه نداء عاما إلى البشر أمرهم فيه بأن يتمتعوا بما أحله لهم من طيبات- كُلُوا صيغة أمر واردة في معنى الإباحة.- ، فذكر ذلك في مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالا من الله طيبًا ، أي : مستطابا في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول وَالطَّيِّبُ: هو المستلذ المستطاب الذي تقبل عليه النفوس الطاهرة وتنبسط لتناوله، وإنما تنبسط النفوس الطاهرة لتناول طعام غير قذر ولا موقع في تهلكة، إذ القذر ينفر منه الطبع السليم، والموقع في تهلكة يمجه العقل القويم.، فكأنه يدعو غير المؤمنين: لو عقلتم، لوجب أن تحتاطوا إلى حياتكم بألا تأكلوا إلا حلالا أحله الله للمؤمنين، ونهاهم عن اتباع وساوس وخطوات الشيطان :
وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تعليل للنهي عن اتباع الشيطان. بَيِّن العداوة، وقيل: مظهر العداوة، وقد أظهر عداوته بإبائه السجود لآدم وغروره إياه حتى أخرجه الله من الجنة.
ثم بين كيفية عداوته وفنون شره وإفساده فقال تعالى :
"إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" 169.
هذه الآية استئناف لبيان كيفية عداوته، وتفصيل لأنواع شروره ومفاسده.
إِنَّمَا يَأْمُرُكُم : والأمر في الأصل: الطلب بالقول، واستعمل في تزيين الشيطان المعصية، لأن تزيينها في معنى الدعوة إليها.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف كان الشيطان آمرا مع قوله "لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ؟"
قلتُ: شَبَّهَ تزيينَهُ وبعثَهُ على الشرِّ بأمرِ الآمرِ، كما تقول: أمَرَتنِي نفسي بكذا.
بِالسُّوءِ :والسوء كل مايُحزِن . والمراد به هنا، كل ما يغضب الله- تعالى- من المعاصي، لأنها تسوء صاحبَهَا وتُحْزِنه في الحال أو المآل.
وَالْفَحْشَاءِ : ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال مما يستفحشه من له عقل .عطف الفحشاء على السوء من باب عطف الخاص على العام؛ لأن الفحشاء من المعاصي .
وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ : أي ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه ما لا تعلمون علم اليقين أنه شرعه لكم من عقائد وشعائر دينية، أو تحليل ما الأصل فيه التحريم، أو تحريم ما الأصل فيه الإباحة، ففي كل ذلك اعتداء على حق الربوبية بالتشريع، وهذا أقبح ما يأمر به الشيطان، فإنه الأصل في إفساد العقائد، وتحريف الشرائع.
فيدخل في ذلك، القول على الله بلا علم، في شرعه,، وقدره، فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو نفى عنه ما أثبته لنفسه، أو أثبت له ما نفاه عن نفسه، فقد قال على الله بلا علم، ومن زعم أن لله ندا، وأوثانا، تقرب من عبدها من الله، فقد قال على الله بلا علم، ومن قال: إن الله أحل كذا, أو حرم كذا، أو أمر بكذا، أو نهى عن كذا، بغير بصيرة، فقد قال على الله بلا علم.
قال الطبري : وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ : يريد ما حرموا من البحيرة والسائبة ونحوها مما جعلوه شرعًا.
"مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ "المائدة : 103.
هذا ذم للمشركين الذين شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله، وحرموا ما أحله الله، فجعلوا بآرائهم الفاسدة شيئا من مواشيهم محرما، على حسب اصطلاحاتهم التي عارضت ما أنزل الله فقال" مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ "وهي: ناقة يشقون أذنها، ثم يحرمون ركوبها ويرونها محترمة. " وَلَا سَائِبَةٍ "وهي: ناقة، أو بقرة، أو شاة، إذا بلغت شيئا اصطلحوا عليه، سيبوها فلا تركب ولا يحمل عليها ولا تؤكل، وبعضهم ينذر شيئا من ماله يجعله سائبة. " وَلَا حَامٍ " أي: جمل يحمى ظهره عن الركوب والحمل، إذا وصل إلى حالة معروفة بينهم. فكل هذه مما جعلها المشركون محرمة بغير دليل ولا برهان. وإنما ذلك افتراء على الله، وصادرة من جهلهم وعدم عقلهم.تفسير السعدي.
"وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ"170.
أي: وإذا قيل لأولئك الذين اقتفوا خطوات الشيطان، وقالوا على الله بدون علم ولا برهان، أي: إذا قيل للمشركين: التزِموا باتِّباع الوحيِ الإلهيِّ فحسبُ؛ فأحِلُّوا حلالَه، وحرِّموا حرامَه، دون التَّقوُّلِ على الله تعالى بلا عِلمٍ ،ولا تتبعوا من دونه أولياء – جنحوا إلى تقليد الآباء وأعرضوا عن ذلك وقالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة الأصنام والخضوع للرؤساء.
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ: أي كيف يتبعون آباءهم وآباؤهم جُهال لا يعقلون شيئًا من أمور الدين. إذ ليس لديهم عقلٌ سليم يُرشِدهم إلى اتِّباع الحقِّ، ويزجُرُهم عن اتِّباع الباطل، ولا يحمِلون عِلمًا نافعًا يعمَلون على وَفْقِه عملًا صالحًا؛ فكيف يتَّبعون هؤلاء ومِثْلُهم لا يصلُحُ أنْ يُقتدى بهم . قال جلَّ وعلا في موضع آخر" إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ "الصافات: 69-70.
"وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ " 171.
الذي ينعق هو الذي يُصَوِّتُ ويصرخ للبهائم، وهو الراعي.
شبه تعالى واعظ الكفار وداعيهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم بالراعي الذي ينعق بالغنم والإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه ، ولا تفهم ما يقول ، هكذا فسره ابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي والزجاج والفراء وسيبويه.
أي: شبَّه اللهُ تعالى الكفَّارَ عند دعوة الدَّاعي لهم إلى الإيمان -كالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ- شبَّههم بالبهائمِ التي يصوِّت لها راعيها، فتسمَعُ الصَّوت ولا تفهَمُ المعنى، فكذلك حالُ الكفَّارِ الَّذين لا ينتفعون مِن تلك الدَّعوة بشيء، لكنَّهم يسمعون ما تُقام عليهم به الحجَّة.
دُعَاءً وَنِدَاءً : والدعاء والنداء قيل بمعنى واحد أي أن ثانيهما تأكيد للأول، وقيل: الدعاء للقريب والنداء للبعيد.
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ : زيادة في تبكيتهم وتقريعهم، أي: هم صم عن استماع دعوة الحق، بُكْم عن إجابة الداعي إليها، عمي عن آيات صدقها وصحتها، فهم لإعراضهم عن الهادي لهم إلى ما ينفعهم وينجيهم من العذاب صاروا بمنزلة من فقد حواسه، فأصبح لا يسمع ولا ينطق ولا يبصر.
وقوله: فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ: وارد مورد النتيجة بعد البرهان، بجانب كونه توبيخا لهم، لأنهم بفقدهم أهم طرق الإدراك وهما السمع والبصر، وأهم وسيلة للثقافة وهي استطلاع الحقائق من طريق المحاورة والتكلم، صاروا بعد كل ذلك بمنزلة من فقد عقله الاكتسابى، فأصبح لا يفقه شيئا لأن العقل الذي يكتسب به الإنسان المعارف والحقائق يستعين استعانة كبرى بهذه الحواس الثلاث.الوسيط.
وبعد هذا البيان البليغ لحال الذين يتخذون من دون الله أندادا، ولحال الكافرين المقلدين لآبائهم في الضلال بدون تدبر أو تعقل، بعد كل ذلك وجهت السورة الكريمة نداء إلى المؤمنين بينت لهم فيه- وفيما سيأتى بعده من آيات- كثيرا من التشريعات والآداب والأحكام التي هم في حاجة إليها .
,والتسخير معناه حمل الشيء على حركة مطلوبة منه لا اختيار له فيها، والله يسخر السحاب لأنه يريده أن يمطر هنا، فيأتي مسخر الرياح فيسوقه إلى حيث يريد الله.
لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ: هذه الدلائلَ والعلامات يَعيها مَنْ مَنَّ الله عليه بعقلٍ يتدبَّر به، فيَفهَم حكمة الله عزَّ وجلَّ منها.
من آية 165إلى 171. .
"وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ"165.
ما أحسن اتصال هذه الآية بما قبلها، فإنه تعالى, لما بين وحدانيته وأدلتها القاطعة, وبراهينها الساطعة الموصلة إلى علم اليقين, المزيلة لكل شك، ذكر هنا أن " وَمِنَ النَّاسِ " مع هذا البيان التام مَنْ يتخذ مِنَ المخلوقين أندادا لله ، الأنداد واحدها ندّ وهو المماثل .أي: يتخذون نظراء ومثلاء، يساويهم في الله بالعبادة والمحبة, والتعظيم والطاعة. ومن كان بهذه الحالة - بعد إقامة الحجة، وبيان التوحيد - عُلم أنه معاند لله، مشاق له, أو معرِض عن تدبر آياته والتفكر في مخلوقاته, فليس له أدنى عذر في ذلك، بل قد حقت عليه كلمة العذاب. وهؤلاء الذين يتخذون الأنداد مع الله، لا يسوونهم بالله في الخلق والرزق والتدبير، وإنما يسوونهم به في العبادة، فيعبدونهم، ليقربوهم إليه، وفي قوله: " يَتَّخِذُ " دليل على أنه ليس لله ند وإنما المشركون جعلوا بعض المخلوقات أندادا له، تسمية مجردة، ولفظا فارغا من المعنى.
قال تعالى "أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ " الزمر:3.
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى : يقولون إننا ما نعبد هذه المعبودات إلا من أجل أن نتوسل بها، لكي تقربنا إلى الله قربى، ولتكون شفيعة لنا عنده حتى يرفع عنا البلاء والمحن.
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ : الله هو المستحق للمحبة الكاملة, والذل التام، فلهذا مدح الله المؤمنين بقوله "وَالَّذِينَ آمَنُوا أَ شَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ"
أي: الذين آمنوا أشد حبًا لله من أهل الأنداد لأندادِهم، لأن المؤمنين أخلصوا محبتهم لله، وهؤلاء أشركوا بها، ولأن المؤمنين أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة، الذي محبته هي عين صلاح العبد وسعادته وفوزه، ولقد ضرب المؤمنون الصادقون أروع الأمثال في حبهم لله- تعالى- لأنهم ضحوا في سبيله بأرواحهم وأموالهم وأبنائهم وأغلى شيء لديهم، ولأنهم لم يعرفوا عملا يرضيه إلا فعلوه، ولم يعرفوا عملا يغضبه إلا اجتنبوه.
والمشركون أحبوا من دون الله من لا يستحق من الحب شيئًا، ومحبته عين شقاء العبد وفساده، وتشتت أمره. لذا أخبر- سبحانه- عما ينتظر الظالمين من سوء المصير ، والظالمون هم المشركون وظلموا باتخاذ الأنداد والانقياد لغير رب العباد وظلموا الخلق بصدهم عن سبيل الله وبحملهم على أن يحذو حذوهم، ويتخذوا الأنداد مثلهم ، وسعيهم فيما يضرهم وتوعدهم الله بقوله " وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ "
والمعنى: ولو يرى أولئك المشركون حين يشاهدون العذاب المعَدّ لهم يوم القيامة فتقطع بهم الأسباب، ولا تغني عنهم الأنداد والأرباب، أن القدرة والقوة كلها لله وحده، وأن عذابه الذي يصيب به المتخبطين في ظلمات الشرك شديد، بها يتصرف في كل موجود، لعلموا أن هذه القوة التي تدبر عالم الآخرة هي عين القوة التي تدبر عالم الدنيا، وأنهم كانوا ضالين حين لجأوا إلى سواها، وأشركوا معها غيرها، وكان ذلك منشأ عقابهم وعذابهم.
لو يعلمون ذلك، لرأوا ما لا يوصف من الهول والفظاعة، ولوقعوا فيما لا يكاد يوصف من العذاب والحسرة والندامة.
" إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ"166.
وتَبَرَّأَ من التَّبَرُؤ وهو التخلص والتنصل والتباعد، ومنه برئت من الدين أي: تخلصت منه، وبرأ المريض من مرضه، أي: تخلص من مرضه.
والمراد بالذين اتُّبِعُوا: أئمة الكفر الذين يحلون ويحرمون ما لم يأذن به الله.
والمراد بالذين اتَّبَعُوا: أتباعهم وأشياعهم الذين يتلقون جميع أقوالهم بالطاعة والخضوع بدون تدبر أو تعقل.
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ: وتقطعت بسبب كفرهم الأسباب التي كانوا يرجون من ورائها النجاة. والْأَسْبابُ جمع سبب، وهو في الأصل الحبل الذي يرتقَى به الشجر ونحوه، ثم سمي به كل ما يتوصل به إلى غيره، عينا كان أو معنى. فيقال للطريق سبب، لأنك بسلوكه تصل إلى الموضع الذي تريده، ويقال للمودة سبب لأنك تتواصل بها إلى غيرك، والمراد بالأسباب هنا:
الوشانج والصلات التي كانت بين الأتباع والمتبوعين في الدنيا، من القرابات والمودات والأحلاف والاتفاق في الدين ... إلخ.
"وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ "167.
الكرة: الرجعة والعودة. والمعنى: وقال الذين كانوا تابعين لغيرهم في الباطل بدون تعقل أو تدبر ليت لنا رجعة إلى الحياة الدنيا فنتبرأ من هؤلاء الذين اتبعناهم وأضلونا السبيل كما تبرءوا منا في هذا اليوم العصيب - بأن يتركوا الشرك بالله، ويقبلوا على إخلاص العمل لله،ويهتدوا بكتاب الله وسنة رسوله ثم يعودوا إلى موضع الحساب- فنتبرأ من هؤلاء الضالين كما تبرءوا منا، ونسعد بعملنا حيث هم أشقياء بأعمالهم.
وهيهات هيهات، فات الأوان ، وليس الوقت وقت إمهال وإنظار.فتبرؤوا جميعًا من بعض في حال رؤيتهم للعذاب.
كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ: المعنى: كما أرى الله- تعالى- المشركين العذاب وما صاحبه من التبرؤ وتقطع الأسباب بينهم، يريهم- سبحانه- أعمالهم السيئة يوم القيامة فتكون حسرات تتردد في صدورهم كأنها شرر الجحيم.
ثم ختم- سبحانه- الآية ببيان عاقبة أمرهم فقال: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ. لكن هذا التحسُّر والندم لا يُفيدهم شيئًا؛ فإنَّهم باقون في النار غير خارجين منها. بل هم مستقرون فيها استقرارًا أبديًا.
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ"168.
لما بيَّنَ تعالى أنه لا إله إلا هو ، وأنه المستقل بالخلق ، شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه فوجه نداء عاما إلى البشر أمرهم فيه بأن يتمتعوا بما أحله لهم من طيبات- كُلُوا صيغة أمر واردة في معنى الإباحة.- ، فذكر ذلك في مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالا من الله طيبًا ، أي : مستطابا في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول وَالطَّيِّبُ: هو المستلذ المستطاب الذي تقبل عليه النفوس الطاهرة وتنبسط لتناوله، وإنما تنبسط النفوس الطاهرة لتناول طعام غير قذر ولا موقع في تهلكة، إذ القذر ينفر منه الطبع السليم، والموقع في تهلكة يمجه العقل القويم.، فكأنه يدعو غير المؤمنين: لو عقلتم، لوجب أن تحتاطوا إلى حياتكم بألا تأكلوا إلا حلالا أحله الله للمؤمنين، ونهاهم عن اتباع وساوس وخطوات الشيطان :
وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تعليل للنهي عن اتباع الشيطان. بَيِّن العداوة، وقيل: مظهر العداوة، وقد أظهر عداوته بإبائه السجود لآدم وغروره إياه حتى أخرجه الله من الجنة.
ثم بين كيفية عداوته وفنون شره وإفساده فقال تعالى :
"إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" 169.
هذه الآية استئناف لبيان كيفية عداوته، وتفصيل لأنواع شروره ومفاسده.
إِنَّمَا يَأْمُرُكُم : والأمر في الأصل: الطلب بالقول، واستعمل في تزيين الشيطان المعصية، لأن تزيينها في معنى الدعوة إليها.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف كان الشيطان آمرا مع قوله "لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ؟"
قلتُ: شَبَّهَ تزيينَهُ وبعثَهُ على الشرِّ بأمرِ الآمرِ، كما تقول: أمَرَتنِي نفسي بكذا.
بِالسُّوءِ :والسوء كل مايُحزِن . والمراد به هنا، كل ما يغضب الله- تعالى- من المعاصي، لأنها تسوء صاحبَهَا وتُحْزِنه في الحال أو المآل.
وَالْفَحْشَاءِ : ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال مما يستفحشه من له عقل .عطف الفحشاء على السوء من باب عطف الخاص على العام؛ لأن الفحشاء من المعاصي .
وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ : أي ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه ما لا تعلمون علم اليقين أنه شرعه لكم من عقائد وشعائر دينية، أو تحليل ما الأصل فيه التحريم، أو تحريم ما الأصل فيه الإباحة، ففي كل ذلك اعتداء على حق الربوبية بالتشريع، وهذا أقبح ما يأمر به الشيطان، فإنه الأصل في إفساد العقائد، وتحريف الشرائع.
فيدخل في ذلك، القول على الله بلا علم، في شرعه,، وقدره، فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو نفى عنه ما أثبته لنفسه، أو أثبت له ما نفاه عن نفسه، فقد قال على الله بلا علم، ومن زعم أن لله ندا، وأوثانا، تقرب من عبدها من الله، فقد قال على الله بلا علم، ومن قال: إن الله أحل كذا, أو حرم كذا، أو أمر بكذا، أو نهى عن كذا، بغير بصيرة، فقد قال على الله بلا علم.
قال الطبري : وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ : يريد ما حرموا من البحيرة والسائبة ونحوها مما جعلوه شرعًا.
"مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ "المائدة : 103.
هذا ذم للمشركين الذين شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله، وحرموا ما أحله الله، فجعلوا بآرائهم الفاسدة شيئا من مواشيهم محرما، على حسب اصطلاحاتهم التي عارضت ما أنزل الله فقال" مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ "وهي: ناقة يشقون أذنها، ثم يحرمون ركوبها ويرونها محترمة. " وَلَا سَائِبَةٍ "وهي: ناقة، أو بقرة، أو شاة، إذا بلغت شيئا اصطلحوا عليه، سيبوها فلا تركب ولا يحمل عليها ولا تؤكل، وبعضهم ينذر شيئا من ماله يجعله سائبة. " وَلَا حَامٍ " أي: جمل يحمى ظهره عن الركوب والحمل، إذا وصل إلى حالة معروفة بينهم. فكل هذه مما جعلها المشركون محرمة بغير دليل ولا برهان. وإنما ذلك افتراء على الله، وصادرة من جهلهم وعدم عقلهم.تفسير السعدي.
"وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ"170.
أي: وإذا قيل لأولئك الذين اقتفوا خطوات الشيطان، وقالوا على الله بدون علم ولا برهان، أي: إذا قيل للمشركين: التزِموا باتِّباع الوحيِ الإلهيِّ فحسبُ؛ فأحِلُّوا حلالَه، وحرِّموا حرامَه، دون التَّقوُّلِ على الله تعالى بلا عِلمٍ ،ولا تتبعوا من دونه أولياء – جنحوا إلى تقليد الآباء وأعرضوا عن ذلك وقالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة الأصنام والخضوع للرؤساء.
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ: أي كيف يتبعون آباءهم وآباؤهم جُهال لا يعقلون شيئًا من أمور الدين. إذ ليس لديهم عقلٌ سليم يُرشِدهم إلى اتِّباع الحقِّ، ويزجُرُهم عن اتِّباع الباطل، ولا يحمِلون عِلمًا نافعًا يعمَلون على وَفْقِه عملًا صالحًا؛ فكيف يتَّبعون هؤلاء ومِثْلُهم لا يصلُحُ أنْ يُقتدى بهم . قال جلَّ وعلا في موضع آخر" إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ "الصافات: 69-70.
"وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ " 171.
الذي ينعق هو الذي يُصَوِّتُ ويصرخ للبهائم، وهو الراعي.
شبه تعالى واعظ الكفار وداعيهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم بالراعي الذي ينعق بالغنم والإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه ، ولا تفهم ما يقول ، هكذا فسره ابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي والزجاج والفراء وسيبويه.
أي: شبَّه اللهُ تعالى الكفَّارَ عند دعوة الدَّاعي لهم إلى الإيمان -كالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ- شبَّههم بالبهائمِ التي يصوِّت لها راعيها، فتسمَعُ الصَّوت ولا تفهَمُ المعنى، فكذلك حالُ الكفَّارِ الَّذين لا ينتفعون مِن تلك الدَّعوة بشيء، لكنَّهم يسمعون ما تُقام عليهم به الحجَّة.
دُعَاءً وَنِدَاءً : والدعاء والنداء قيل بمعنى واحد أي أن ثانيهما تأكيد للأول، وقيل: الدعاء للقريب والنداء للبعيد.
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ : زيادة في تبكيتهم وتقريعهم، أي: هم صم عن استماع دعوة الحق، بُكْم عن إجابة الداعي إليها، عمي عن آيات صدقها وصحتها، فهم لإعراضهم عن الهادي لهم إلى ما ينفعهم وينجيهم من العذاب صاروا بمنزلة من فقد حواسه، فأصبح لا يسمع ولا ينطق ولا يبصر.
وقوله: فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ: وارد مورد النتيجة بعد البرهان، بجانب كونه توبيخا لهم، لأنهم بفقدهم أهم طرق الإدراك وهما السمع والبصر، وأهم وسيلة للثقافة وهي استطلاع الحقائق من طريق المحاورة والتكلم، صاروا بعد كل ذلك بمنزلة من فقد عقله الاكتسابى، فأصبح لا يفقه شيئا لأن العقل الذي يكتسب به الإنسان المعارف والحقائق يستعين استعانة كبرى بهذه الحواس الثلاث.الوسيط.
وبعد هذا البيان البليغ لحال الذين يتخذون من دون الله أندادا، ولحال الكافرين المقلدين لآبائهم في الضلال بدون تدبر أو تعقل، بعد كل ذلك وجهت السورة الكريمة نداء إلى المؤمنين بينت لهم فيه- وفيما سيأتى بعده من آيات- كثيرا من التشريعات والآداب والأحكام التي هم في حاجة إليها .
من آية 172إلى 176..
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ"172. "إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"173.
بعد أن بين سبحانه حال الذين يتخذون الأنداد من دونه، ثم خاطب الناس جميعًا بأن يأكلوا مما في الأرض من خيراتها بشرط أن يكون حلالا طيبًا، ثم بين سوء حال الكافرين المقلدين الذين يقودهم الرؤساء كما يقود الراعي الغنم، لأنه لا استقلال لهم برأى ولا يهتدون بعقل.
ثم في هذه الآية وجه الخطاب إلى المؤمنين خاصة، لأنهم أحق بالفهم، وأحرى بالاهتداء، فأمرهم – أمر إباحة - أن يأكلوا من الطيبات ويشكروا الله على ما أنعم به عليهم، ثم حصر محرمات المطاعم في أنواع معينة، ليعلموا أن التحريم لا يعدوها، وأن أكثر ما خلق الله من الأرزاق والأطعمة مباح لهم، فمن الحق أن يكون الشكران غدوّا وعشيا على تلك المنن التي لا تحصى، والنعم التي لا تحصر ولا تعدّ.
طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ: أي طاب كسبه من الحلال. وما طاب من الرزق بتحليل الله له. أي: يا من آمنتم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كلوا من ألوان الطيبات التي أحللناها لكم.
وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ :والشكر: هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم لموجدها، ووضعها في الموضع الذي أمر به.أي استخدام نعم الله في طاعة الله لنؤدي شكرها.
"إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا."الراوي : أنس بن مالك - صحيح مسلم
أي: تمتعوا بنعم الله، واعترفوا له بها على وجه التعظيم، بأن تمتثلوا ما أمر به، وتجتنبوا ما نهى عنه، إن كنتم تخصونه بالعبادة حقًا، وتفردونه بالطاعة صدقًا.
قال الآلوسى: وجملة إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ بمنزلة التعليل لطلب الشكر، كأنه قيل "واشكروا له لأنكم تخصونه بالعبادة، وتخصيصكم إياه بالعبادة، يدل على أنكم تريدون عبادة كاملة تليق بكبريائه، وهي لا تتم إلا بالشكر، لأنه من أجل العبادات"الوسيط.
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ: لمَّا قيَّد سبحانه وتعالى الإذنَ لعباده بالطيِّب من الرِّزق، افتقَر الأمرُ إلى بيان الخبيث منه ليُجتَنَب، فبيَّن صريحًا ما حرَّم عليهم ممَّا كان المشركون يستحلُّونه ويحرِّمون غيرَه، وأفهَم حِلَّ ما عداه، وأنه كثيرٌ جدًّا؛ ليزدادَ المخاطَب شكرًا.
الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ : بيان لما حرمه الله- تعالى- علينا من المطاعم رعاية لمنفعتنا.
والْمَيْتَةَ في عرف الشرع: ما مات حتف أنفه، أو قتل على هيئة غير مشروعة، فيدخل فيها: المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما عدا عليها السبع، ويدخل في حكم الميتة ما قطع من جسم الحيوان الحي.
قال تعالى"حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ " المائدة: 3.
قال صلى الله عليه وسلم"ما قُطِعَ منَ البَهيمةِ وَهيَ حيَّةٌ فما قُطِعَ منها فَهوَ مَيتةٌ"
الراوي : عبدالله بن عمر - المحدث : الألباني - صحيح ابن ماجه.
الْمُنْخَنِقَةُ: أي: الميتة بخنق، بيد أو حبل، أو إدخال رأسها بشيء ضيق، فتعجز عن إخراجه حتى تموت. " وَالْمَوْقُوذَةُ " أي: الميتة بسبب الضرب بعصا أو حصى أو خشبة، أو هدم شيء عليها، بقصد أو بغير قصد. " وَالْمُتَرَدِّيَةُ " أي: الساقطة من علو، كجبل أو جدار أو سطح ونحوه، فتموت بذلك."وَالنَّطِيحَةُ ْ" وهي التي تنطحها غيرها فتموت. " وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ْ" من ذئب أو أسد أو نمر، أو من الطيور التي تفترس الصيود، فإنها إذا ماتت بسبب أكل السبع لها، فإنها لا تحل.
وَالدَّمَ : أي الدم المسفوح، لأنه قذر وضارّ كالميتة. الدم المسفوح هو الدم الذي يخرج من البهيمة عند الذبح يحرم شربه. استثنى الشرع من الميتة السمك والجراد ومن الدم الكبد والطحال فأحلها.
"أحلَّت لَكُم ميتتانِ ودَمانِ ، فأمَّا الميتَتانِ ، فالحوتُ والجرادُ ، وأمَّا الدَّمانِ ، فالكبِدُ والطِّحالُ"الراوي : عبدالله بن عمر - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح ابن ماجه.
وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ: كذلك حرم عليهم لحم الخنزير ، سواء ذكي أو مات حتف أنفه ويدخُل فيه شحمُه.
وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ: وهو ما ذبح على غير اسمه تعالى, كالذي يذبح للأصنام والأوثان من الأحجار, والقبور ونحوها. وأصل الإهلال رفع الصوت لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرَّبوه لآلهتهم، سموا اسم آلهتهم التي قربوا ذلك لها، وجَهروا بذلك أصْواتَهم.
فجرى ذلك من أمرهم حتى قيل لكل ذابح وإن لم يجهر بالتسمية مهل.
فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ :
غَيْرَ بَاغٍ :أي: غير طالب للمحرم, مع قدرته على الحلال, أو مع عدم جوعه.
وَلَا عَادٍ :أي: متجاوز الحد في تناول ما أبيح له, اضطرارا، فمن اضطر وهو غير قادر على الحلال، وأكل بقدر الضرورة فلا يزيد عليها.
أي فمن ألجئ إلى أكل شيء مما حرم الله، بأن لم يجد غيره وخاف على نفسه الهلاك إن لم يأكل منه، ولم يكن راغبًا فيه لذاته، ولم يتجاوز قدر الحاجة فلا إثم عليه، لأن الإلقاء بنفسه إلى التهلكة بالموت جوعًا أشد ضررًا من أكل الميتة أو الدم، بل الضرر في ترك الأكل محقق وهو في فعله مظنون كما أن من أكل مما أهلّ به لغير الله مضطرا، لم يقصد إجازة عمل الوثنية. ويحمل معه ما يبلغه الحلال ، فإذا بلغه ألقاه.
والإنسان بهذه الحالة, مأمور بالأكل, بل منهي أن يلقي بيده إلى التهلكة, وأن يقتل نفسه. فيجب, إذًا عليه الأكل, ويأثم إن ترك الأكل حتى مات, فيكون قاتلا لنفسه. وهذه الإباحة والتوسعة, من رحمته تعالى بعباده, فلهذا ختمها بهذين الاسمين الكريمين المناسبين غاية المناسبة:
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ : أنَّه رفَع بمغفرته الإثمَ عنهم في تناوُل ما حرَّمه؛ تجاوزًا منه سبحانه، وهو الرَّحيم بعباده، ومن رحمته أنْ شرَع لهم ذلك توسعةً منه.
أي إن الله يغفر لعباده خطأهم في تقدير الضرورة، إذ وكل ذلك إلى اجتهادهم، رحيم بهم، إذ رخص لهم في تناولها ولم يوقعهم في الحرج والعسر، ورفَع بمغفرته الإثمَ عنهم في تناوُل ما حرَّمه؛ تجاوزًا منه سبحانه، وهو الرَّحيم بعباده، ومن رحمته أنْ شرَع لهم ذلك توسعةً منه.
وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة " الضرورات تبيح المحظورات " فكل محظور, اضطر إليه الإنسان, فقد أباحه له, الملك الرحمن.
مع مراعاة القاعدة التالية: الضرورة بقدرها.
وَلَيْسَ وَاجِبٌ بِلاَ اقْتِدَارِ *****وَلاَ مُحَرَّمٌ مَعَ اضْطِرارِ
وَكُلُّ مَحْظُورٍ مَعَ الضَّرُورَةْ *****بِقَدْرِ ما تَحْتَاجُهُ الضَّرُورَةْ.
" إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" 174.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ : يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم ، مما تشهد له بالرسالة والنبوة ، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم.فخشوا لعنهم الله إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم ، فكتموا ذلك إبقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك .فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة .
وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا : وهو عرض الحياة الدنيا، و الحطام الدنيوي . وسمى قليلا لأن كل عوض عن الحق فهو قليل حتى ولو كان ملء الأرض ذهبا.قال تعالى "قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا" النساء: 77.
أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ: أي إن أولئك الكاتمين لكتاب الله المتّجرين به، ما يأكلون في بطونهم من ثمنه إلا ما يكون سببا لدخول النار، وانتهاء مطامعهم بعذابها.
وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أي لا يكلمهم بالرحمة وبما يسرهم إنما يكلمهم بالتوبيخ . وقيل أراد به أنه يكون عليهم غضبان كما يقال فلان لا يكلم فلانا إذا كان عليه غضبان.
وَلَا يُزَكِّيهِمْ: أي: ولا يطهرهم من دنس الكفر والذنوب بالمغفرة، من التزكية بمعنى التطهير. يقال: زكاه الله، أي: طهره وأصلحه.
وتستعمل التزكية بمعنى الثناء، ومنه زكى الرجل صاحبه إذا وصفه بالأوصاف المحمودة وأثنى عليه، فيكون معنى وَلا يُزَكِّيهِمْ لا يثني عليهم- سبحانه- ومن لا يثني عليه الله فهو معذب.
فهؤلاء الذين كتموا الحق نظير شيء قليل من حطام الدنيا، فقدوا رضا الله عنهم وثناءه عليهم وتطهيره لهم. الوسيط.
وقيل : أي: إنَّ جزاءَهم في الآخرة مِن جِنس ما عمِلوه في الدُّنيا، فكما أكَلوا في بطونهم ما حرَّم الله تعالى بما اكتَسَبوه من مالٍ حرامٍ؛ لكتمانِهم العِلمَ- فكذلك يُطعَمون يومَ القيامة نارًا في بطونهم؛ جزاءً وِفاقًا.الموسوعة الحديثية/الدرر السنية.
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: ثم ختم- سبحانه- الآية ببيان سوء منقلبهم، وشدة ألم العذاب الذي ينالهم فقال- تعالى- وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أى. موجع مؤلم.
قال الآلوسى: وقد جاءت هذه الأخبار مرتبة بحسب المعنى، لأنه لما ذكر- سبحانه- اشتراءهم بذلك- الثمن القليل- وكان كناية عن مطاعمهم الخبيثة الفانية، بدأ أولا في الخبر بقوله: ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ. وابتنى على كتمانهم واشترائهم بما أنزل الله ثمنا قليلًا، أنهم شهود زور وأحبار سوء، آذوا بهذه الشهادة الباطلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وآلموه فقوبلوا بقوله- سبحانه: وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. الوسيط.
"أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ"175.
ثم بين- سبحانه- ما هم عليه من جهل وغباء وسوء عاقبة فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ.
الاشتراء: استبدال السلعة بالثمن. والمعنى: أولئك الذين تقدم الحديث عنهم وهم الكاتمون لما أنزل الله قد بلغ بهم انطماس البصيرة أنهم باعوا الهدى والإيمان ليأخذوا في مقابلهما الكفر والضلال، وباعوا ما يوصلهم إلى مغفرة الله ورحمته ليأخذوا في مقابل ذلك عذابه ونقمته، فما أخسرها من صفقة، وما أخسر هؤلاء الكاتمين الذين فعلوا ذلك نظير عرض من أعراض الدنيا الفانية، فخسروا بما فعلوه دنياهم وآخرتهم. الوسيط.
بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ: المقصود تعجيب المؤمنين من جراءة أولئك الكاتمين لما أنزل الله على اقترافهم ما يلقي بهم في النار، شأن الواثق من صبره على عذابها المقيم.
وشبيه بهذا الأسلوب في التعجب- كما أشار صاحب الكشاف- أن تقول لمن يتعرض لما يوجب غضب السلطان: ما أصبرك على القيد والسجن فأنت لا تريد التعجب من صبره، وإنما تريد إفهامه أن التعرض لما يغضبه لا يقع إلا ممن شأنه الصبر على القيد والسجن، والمقصود بذلك تحذيره من التمادي فيما يوجب غضب ذلك السلطان. الوسيط.
"ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ"176.
لَمَّا ذكَر جلَّ وعلا جزاءهم، ذكَر السَّبب الموجِبَ لهذا العقاب العظيم.
بين- سبحانه- أن سبب استحقاقهم للعذاب الأليم، هو ارتكابهم لما نهى الله عنه عن قصد وسوء نية فقال: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ.
أي: ذلك العذاب الأليم حل بهم بسبب أن الله أنزل التوراة مصحوبة ببيان الحق الذي من جملته التبشير ببعثة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم فكتموا هم هذا الحق وامتدت إليه أيديهم الأثيمة بالتحريف والتأويل إيثارا لمطامع دنيوية على هُدَى الله الذي هو أساس كل سعادة.
فاسم الإشارة ذلِكَ يعود على مجموع ما سبق بيانه من أكل النار، وعدم تكليم الله إياهم، وعدم تزكيتهم.. إلخ.
والباء في قوله: بِأَنَّ للسببية، والمراد بـ الْكِتَاب: التوراة.
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ :
اختلفوا: خالف بعضهم بعضا، وأصله من اختلاف الطريق، تقول اختلفوا في الطريق.
أي: جاء بعضهم من جهة والبعض الآخر من جهة أو جهات أخرى. ثم استعمل في الاختلاف في المذاهب والاعتقاد.
والكتاب: التوراة، أو التوراة والإنجيل، إذ يصح أن يراد جنس الكتاب والمقام يقتضى صرفه إلى هذين الكتابين، وقد أبعد في التأويل من قال بأن المراد به القرآن لأن الحديث عن أهل الكتاب الذين كتموا ما في كتبهم من بشارات بالرسول صلّى الله عليه وسلّم ،واختلافهم في الكتاب من مظاهره: إيمانهم ببعضه وكفرهم بالبعض الآخر، وتحريفه عن مواضعه وتأويله على غير ما يراد منه.
والشقاق: الخلاف، هم في عَداوة بعيدة ، كأن كل واحد من المختلفين في شق غير الشق الذي يكون فيه الآخر، وإذا وصف الخلاف بالبعد فهم منه أنه بعيد عن الحق، يقال: قال فلان قولا بعيدا، أي بعيدا من الصواب.
والمعنى: ذلك العذاب الأليم حل بأولئك الأشقياء بسبب كتمانهم لما أنزله الله في كتابه من الحق، وإن الذين اختلفوا في شأن ما أنزله الله في كتبه فأظهروا منها ما يناسب أهواءهم وأخفوا ما لا يناسبها- لفي بعد شديد عن الحق والصواب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق