الخميس، 23 يوليو 2015

الفصل الخامس

الفصلُ الخامسُ
آدابُ الطالبِ في حياتِه العِلْمِيَّةِ


24- كِبَرُ الْهِمَّةِ في العِلْمِ :
القارئ :
الفصل الخامس آداب الطالب في حياته العلمية:
الأمر الرابع والعشرون- كِبَرُ الْهِمَّةِ في العِلْمِ :
من سجايا الإسلامِ التَّحَلِّي بكِبَرِ الْهِمَّةِ ؛ مرْكَزِ السالِبِ والموجِبِ في شَخْصِك ، الرقيبِ على جوارِحِك ، كِبَرُ الْهِمَّةِ يَجْلُبُ لك بإذْنِ اللهِ خَيْرًا غيرَ مَجذوذٍ ، لتَرْقَى إلى دَرجاتِ الكَمالِ ، فيُجْرِيَ في عُروقِك دَمَ الشَّهَامةِ ، والرَّكْضَ في مَيدانِ العِلْمِ والعَمَلِ ، فلا يَراكَ الناسُ وَاقِفًا إلا على أبوابِ الفضائلِ ولا باسطًا يَدَيْكَ إلا لِمُهِمَّاتِ الأمورِ .
الشيخ :
وهذا من أهم ما يكون، أن يكون الإنسان في طلب العلم له هدف ليس مراده مجرد قتل الوقت بهذا الطلب بل يكون له همة , ومن أهم همم طالب العلم أن يريد القيادة والإمامة للمسلمين في علمه , ويشعر أن هذه درجة هو يرتقي إليها درجة درجة حتى يصل إليها , وإذا كان كذلك فسوف يرى أنه واسطة بين الله عز وجل وبين العباد في تبليغ الشرع , هذه مرتبة ثانية , وإذا شعر بهذا الشعور فسوف يحرص غاية الحرص على اتباع ما جاء في الكتاب والسنة معرضاً عن آراء الناس , إلا أنه يستأنس بها ويستعين بها على معرفة الحق , لأن ما تكلم به العلماء رحمهم الله من العلم لا شك أنه هو الذي يفتح الأبواب لنا , وإلا لما استطعنا أن نصل إلى درجة أن نستنبط الأحكام من النصوص أو نعرف الراجح من المرجوح وما أشبه ذلك .
فالمهم أن يكون الإنسان عنده همة , وهو بإذن الله إذا نوى هذه النية فإن الله سبحانه وتعالى سيعينه على الوصول إليها .

القارئ :
والتَّحَلِّي بها يَسْلُبُ منك سَفاسِفَ الآمالِ والأعمالِ ، ويَجْتَثُّ منك شَجرةَ الذُّلِّ والهوانِ والتمَلُّقِ والْمُداهَنَةِ فَكَبِيرُ الْهِمَّةِ ثابتُ الْجَأْشِ ، لا تُرْهِبُهُ المواقِفُ ، وفاقِدُها جَبانٌ رِعديدٌ ، تُغْلِقُ فَمَه الفَهَاهَةُ .
الشيخ :
هذا صحيح . التحلي بعلو الهمة يسلب عنك سفاسف الآمال والأعمال .
الآمال : هي أن يتمنى الإنسان الشيء دون السعي في أسبابه , فإن المؤمن كيس فطن لا تلهه الآمال , بل ينظر الأعمال ويرتقب النتائج .
وأما من تلهيه الآمال ويقول : إن شاء الله أقرأ هذا , أراجع هذا , الآن أستريح وبعد ذلك أراجع . أو تلهيه الآمال بما يحدث للإنسان أحياناً , يتصفح الكتاب من أجل مراجعة مسألة من المسائل ثم يمر به في الفهرس أو في الصفحات مسائل تلهيه عن المقصود الذي من أجله فتح الكتاب ليراجع وهذا يقع كثيراً , فينتهي الوقت وهو لم يراجع المسألة التي من أجلها صار يراجع هذا الكتاب أو فهرس هذا الكتاب فإياك والآمال المخيبة . اجعل نفسك قوي العزيمة عالي الهمة . وقد مر علينا أحاديث تدل على أن العناية بالمقصود قبل كل شيء. مثل عتبان بن مالك جاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى بيته ليصلي في مكان يتخذه عتبان مصلى فواعده النبي عليه الصلاة والسلام فأعد لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم طعاما وأخبر الجيران بذلك فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلما وصل البيت أخبره عتبان بما صنعه ولكن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال أرني المكان الذي تريد أن أصلي فيه فأراه المكان وصلى قبل أن يأكل الطعام وقبل أن يجلس إلى القوم لأنه جاء لغرض فلا تشتغل عن الغرض الذي تريده بأشياء لا تريدها من الأصل لأن هذايضيع عليك الوقت وهو من علو الهمة.
القارئ :
ولا تَغْلَطْ فتَخْلِطْ بينَ كِبَرِ الْهِمَّةِ والكِبْرِ ؛ فإنَّ بينَهما من الفَرْقِ كما بينَ السماءِ ذاتِ الرَّجْعِ والأرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ .
كِبَرُ الْهِمَّةِ حِلْيَةُ وَرَثَةِ الأنبياءِ ، والكِبْرُ داءُ الْمَرْضَى بعِلَّةِ الْجَبابِرَةِ البُؤَسَاءِ .
الشيخ :
(كبر الهمة) إن الإنسان يحفظ وقته ويعرف كيف يصرفه ولا يضيع الوقت بغير فائدة , وإذا جاءه إنسان يرى أن مجالسته فيها إهمال وإلهاء عرف كيف يتصرف .
( وأما كبر النفس ) فهو الذي يحتقر غيره ولا يرى الناس إلا ضفادع ولا يهتم وربما يصعر وجهه-
صَعَّرَ خَدَّهُ : أمالَهُ عُجْباً وكِبْراً ، { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ }: تُعرض بوجهك تكَبُّرًا هنا-وهو يخاطبهم فكما قال الشيخ بكر: بينهما كما بين السماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع .
القارئ :
فيا طالبَ العلْمِ ! ارْسُمْ لنفسِكَ كِبَرَ الْهِمَّةِ ، ولا تَنْفَلِتْ منه ، وقد أَوْمَأَ الشرْعُ إليها في فِقْهِيَّاتٍ تُلابِسُ حياتَك ؛ لتكونَ دائمًا على يَقَظَةٍ من اغتنامِها ، ومنها إباحةُ التيَمُّمِ للمُكَلَّفِ عندَ فَقْدِ الماءِ وعدَمُ إلزامِه بقَبولِ هِبَةِ ثَمَنِ الماءِ للوُضوءِ ؛ لما في ذلك من الْمِنَّةِ التي تَنالُ من الْهِمَّةِ مَنَالًا وعلى هذا فقِسْ ، واللهُ أَعْلَمُ .
الشيخ :
يعني من علو الهمة أن لا تكون متشوفاً لما في أيدي الناس , لأنك إذا تشوفت ومَنَّ الناسُ عليك ملكوك؛ لأن المنة ملك للرقبة في الواقع.
لو أعطاك الإنسان قرشاً لوجد أن يده أعلى من يدك كما جاء في الحديث : ( اليد العليا خير من اليد السفلى)
واليد العليا هي المعطية , والسفلى هي الآخذة , لا تبسط يدك للناس ولا تمد كفك إليهم.
إذا كان الإنسان عادم الماء لو وهب له الماء لم يلزمه قبوله بل يعدل إلى التيمم خوفاً من المنة مع أن الوضوء بالماء فرض للقادر عليه , ولهذا فرق الفقهاء رحمهم الله بين أن تجد من يبيعه ومن يهديه .
فقالوا : من يبيعه اشتر منه وجوباً لأنه لا منة له , حيث أنك تعطيه العوض . ومن أهدى عليك لا يلزمك قبوله . من أجل أن منته تقطع رقبتك , ولكن إذا كان الذي أهدى الماء لا يمن عليك به , بل يرى أنك أنت المان عليه بقبوله , أو من جرت العادة بأنه لا منة بينهم مثل الأب مع ابنه , والأخ المشفق مع أخيه وما أشبه ذلك .
فهنا ترتفع العلة , وإذا ارتفعت العلة ارتفع الحكم . والمهم أن من علو الهمة وكبرها ألا يكون الإنسان مستشرفاً لما في أيدي الناس .
بعض الناس يكون عنده أسلوب في السؤال، أي في سؤال المال , إذا رأى مع إنسان شيئا يعجبه أخذه بيده وقام يقلبه، ما أحسن هذا، ما شاء الله، من أين اشتريته؟ هل يوجد في السوق ؟ لأجل ماذا ؟ حتى يعطيه إياه لأن الكريم سوف يخجل ويقول : إنه ما سأل هذا السؤال إلا من أجل أن أقول: (تعمل عليه) فخذه . هو إذا قال (تعمل عليه) ماذا يقول؟ لا يا أخي فالمهم أن بعض الناس يستشرف أو يسأل بطريق غير مباشر، وكل هذا مما يحط قدر طالب العلم وقدر غيره أيضاً.
شرح الشيخ العثيمين


القارئ:
قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا:

الفصلُ الخامسُ : آدابُ الطالبِ في حياتِه العِلْمِيَّةِ
24-كِبَرُ الْهِمَّةِ في العِلْمِ :
من سجايا الإسلامِ التَّحَلِّي بكِبَرِ الْهِمَّةِ ؛ مرْكَزِ السالِبِ والموجِبِ في شَخْصِك ، الرقيبِ على جوارِحِك ، كِبَرُ الْهِمَّةِ يَجْلُبُ لك بإذْنِ اللهِ خَيْرًا غيرَ مَجذوذٍ ، لتَرْقَى إلى دَرجاتِ الكَمالِ ، فيُجْرِيَ في عُروقِك دَمَ الشَّهَامةِ ، والرَّكْضَ في مَيدانِ العِلْمِ والعَمَلِ ، فلا يَراكَ الناسُ وَاقِفًا إلا على أبوابِ الفضائلِ ولا باسطًا يَدَيْكَ إلالِمُهِمَّاتِ الأمورِ .
والتَّحَلِّي بها يَسْلُبُ منك سَفاسِفَ الآمالِ والأعمالِ ، ويَجْتَثُّ منك شَجرةَ الذُّلِّ والهوانِ والتمَلُّقِ والْمُداهَنَةِ فَكَبِيرُ الْهِمَّةِ ثابتُ الْجَأْشِ ، ولا تُرْهِبُهُ المواقِفُ ، وفاقِدُها جَبانٌ رِعديدٌ ، تُغْلِقُ فَمَه الفَهَاهَةُ .
ولاتَغْلَطْ فتَخْلِطْ بينَ كِبَرِ الْهِمَّةِ والكِبْرِ ؛ فإنَّ بينَهما من الفَرْقِ كما بينَ السماءِ ذاتِ الرَّجْعِ والأرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ .
كِبَرُ الْهِمَّةِ حِلْيَةُ وَرَثَةِ الأنبياءِ ، والكِبْرُ داءُ الْمَرْضَى بعِلَّةِ الْجَبابِرَةِ البُؤَسَاءِ ، فيا طالبَ العلْمِ ! ارْسُمْ لنفسِكَ كِبَرَ الْهِمَّةِ ، ولا تَنْفَلِتْ منه ، وقد أَوْمَأَ الشرْعُ إليها في فِقْهِيَّاتٍ تُلابِسُ حياتَك ؛ لتكونَ دائمًا على يَقَظَةٍ من اغتنامِها ، ومنها إباحةُ التيَمُّمِ للمُكَلَّفِ عندَ فَقْدِ الماءِ وعدَمُ إلزامِه بقَبولِ هِبَةِ ثَمَنِ الماءِ للوُضوءِ ؛ لما في ذلك من الْمِنَّةِ التي تَنالُ من الْهِمَّةِ مَنَالًا وعلى هذا فقِسْ ، واللهُ أَعْلَمُ .
الشيخ:
القسم الخامس من أقسام آداب طالب العلم ؛ الآداب المتعلقة بحياته العلميّة ، وذكر الأدب الرابع والعشرين : وهو كبر الهمّة في العلم ؛ بحيث يكون مقصود الإنسان في التعلم مقصودا كبيرا ، ولا يقتصر على الهدف الضعيف القليل ، جاء في الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى منها ، فإنها أعلى الجنة وأوسط الجنة والعرش فوقها هكذا"
فلم يقتصر في هذه الهمة في الجنة في أدنى درجاتها ، بل رغّب في أعلى الدرجات ، وكبر الهمّة في العلم بكون المرء يقصد بتعلمه وجه الله والدار الآخرة ، ويكون هدفه تحصيل جميع العلوم التي ترضي رب العالمين ، فلا يستصغر قدرته عند علم من العلوم ، وإنما يبذل من الأسباب ما تجعله يحصّل علما كثيرا ، وأضرب لذلك مثلا :
في المدارس النظاميّة إذا جاء طالب ورَغِب أن يكون عنده معدلٌ تام ، بأن يحصّل مئة من مئة ، فإنه حينئذ يبذل سببا كثيرا قد لا يحصّل إلا خمسة وتسعين ، لكن حصّل شيئا كثيرا ، أما من قصد النجاح فقط وكانت همته في أن يتجاوز المقرر ، ففي غالب أحواله لن يتمكّن من النجاح.
قال المؤلف: (من سجايا الإسلام التحلّي بكبر الهمّة) بحيث يكون مقصود الطالب أعلى الدرجات ، وكبر الهمّة هو (مركز السالب والموجب في شخصك) ، فهو الذي يدفعك إلى اكتساب الفضائل العالية، وهو الذي يجعلك تراقب جوارحك ، بحيث لا تعصي الله بها.
(كبر الهمّة يجلب لك خيرا غير مجذوذ) يعني غير مقطوع ، وغير منقطع ، (لترقى بذلك إلى أعلى درجات الكمال)،
كبر الهمة (يُجري في عروقك دم الشهامة) ، ويجعلك تواظب ، وتبذل من نفسك في ميدان العلم والعمل ، فحينئذ تصبح ممن قَصَر نفسه على أفضل الأعمال ، ولا يجعلك تتوجه إلى الأمور التوافه، ولا تشغل وقتك بما لا تنتفع به.
التحلّي بكبر الهمّة يبعد عنك الأمور التي لا قيمة لها من الأعمال والآمال ، فسفاسف الآمال والأعمال بعيدة عنك ، كبر الهمة يبعد عنك (شجرة الذل والهوان) ، لأنه يجعلك تمضي للحق والخير ، ويبعد عنك (التملّق والمداهنة) ، لأنك قد لاحظت ربّ العزة والجلال فلم يؤثر فيك مطالعة الناس لعملك ، كبير الهمّة (ثابت الجأش) بحيث يكون قويّا شديدا ، لا ترهبه أدنى حركة ، فسماع الأصوات ومشاهدة الأشخاص لا تجعله يتزعزع عن موقفه ، ففاقد كبر الهمّة تجده يخاف من كل صوت ، وأدنى رعدة تجعله يبعد عن ما يقصده من الخير ومن العمل الصالح ، بل صغر الهمّة يجعل الإنسان لا يتمكن من الكلام ، لمجرّد أدنى كلمة.
يقول : (لا تغلط فتخلط بين كبر الهمّة والكبر) كبر الهمّة أن يكون هدفك عاليا ، والكبر ترفع نفسك عن الخلق ، وعدم قبولك للحق ، فإنّ بين الكبر وكبر الهمّة فرق كبير كالسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع ، الرجع التي تأتي فيها السحب ، والأرض ذات الصدع التي تتصدّع من أجل ظهور النبات فيها.
(كبر الهمّة) صفة و(حلية ورثة الأنبياء) ؛ العلماء ، لكن (الكبر ) هذا ليس من صفة العلماء بل هو (داء للمرضى) الذين ابتلوا بعلة (الجبابرة البؤساء).
وحينئذ لاحظ أحكام الشرع ؛ فإنها ترغبك في كبر الهمّة ، وسواء كان في العلم أو في العمل ، ففي العمل مثلا : انظر إلى ترغيب الشارع للأعمال الصالحة ، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي : "ما تقرب إليّ عبادي بمثل ما افترضت عليهم ، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه" جعلك تقصد الجمع بين الفرائض والنوافل كلها ، انظر فيما يتعلّق بالعلم ، قول الله عزوجل: "وقل رب زدني علما" طلبت كمال العلم وزيادته ، فهكذا أيضا طلبت زيادة العلم لكبر همّتك.
قال المؤلف : (انظر لمسألة إباحة التيمم للمكلّف عند فقد الماء) عندما لا تجد ماء يجوز لك أن تتيمم ، لقوله تعالى : ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا).
لو قدّر أنّ هناك شخص معك ، وقال: خذ ثمن الماء واشتري به ماء. نقول : لا يلزمه أخذ هذا المال ، ويجوز له التيمم ، لماذا؟ لأنّ في أخذ هذا المال منّة للمُعطِي على المعطَى ، وهذا ينال من الهمّة منالا ، فينقص من همّة الإنسان.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اليد العليا خير من اليد السفلى" وقال: "المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف" ، نعم.
شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري (مفرغ) 

أن عِتبانَ بنَ مالكٍ، كان يؤمُّ قومَه وهو أعمى، وأنه قال لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : يا رسولَ اللهِ، إنها تكونُ الظُّلمةُ والسيلُ، وأنا رجلٌ ضَريرُ البصرِ، فصَلِّ يا رسولَ اللهِ في بيتي مكانًا أتخِذُه مُصلًّى، فجاءَه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال : أينَ تحبُّ أن أصليَ . فأشار إلى مكانٍ من البيتِ، فصلَّى فيه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم . الراوي: محمود بن الربيع الأنصاري المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 667- خلاصة حكم المحدث:[صحيح] الدررالسنية 


25- النَّهْمَةُ في الطَّلَبِ :
إذا علمت الكلمة المنسوبة إلى الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
«قيمة كل امرئ ما يحسنه»، وقد قيل: ليس كلمة أحض على طلب العلم منها، فاحذر غلط القائل: ما ترك الأول للآخر. وصوابه: كم ترك الأول للآخر!

 فعليك بالاستكثار من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، وابذل الوسع في الطلب والتحصيل والتدقيق، ومهما بلغت في العلم، فتذكر: «كم ترك الأول للآخر»!
إن كل إنسان يحسن الفقه والشرع صار له قيمة، أحسن مما يحسن فتل الحبال مثلا. لأن كل منهما يحسن شيئا، لكن فرق بين هذا وهذا فقيمة كل امرئ ما يحسنه. «وقد قيل: ليس كلمة أحض على طلب العلم منها» وهذا القيل ليس بصحيح. أشد كلمة في الحض على طلب العلم قول الله تعالى (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (سورة الزمر: 90). وقوله تعالى : (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) (سورة المجادلة: 11). وقول النبي صلى الله عليه وسلم : «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» .
وقوله صلى الله عليه وسلم :«العلماء ورثة الأنبياء » . وأشباه ذلك مما جاء في الحث على طلب العلم، لكن ما نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هي كلمة لا شك أنها جامعة، لكن لا شك أنها ليست أحسن ما قيل في الحث على طلب العلم.
وقوله :«ما ترك الأول للآخر» إما تكون «ما» نافية أو استفهامية فإن كانت «نافية» فالمعنى: ما ترك الأول للآخر شيئا. وإن كانت «استفهامية» فيكون المعنى: أي شيء ترك الأول للآخر؟
وكلا المعنيين يوجب أن يتثبط الإنسان عن العلم، ويقول كل العلم أخذ من قبلي فلا فائدة. فيكون بذلك تثبيط لهمته، لأنه إذا قيل لك: أن من قبلك أخذوا كل شيء. ستقول إذا ما الفائدة.
أما إذا قيل: كم ترك الأول للآخر، فالمعنى: ما أكثر ما ترك الأول للآخر، وهذا يحملك على أن تبحث على كل ما قاله الأولون، ولا يمنعك من الزيادة على ما قال الأولون.
ولا شك أن المعنى الصواب: كم ترك الأول للآخر. فإن قيل: إن الشاعر الجاهلي يقول:
ما أرانا نقول إلا معارا ** أو معادا من قولنا مكرور
فهل هذا صواب؟ الجواب: لا هذا ليس بصواب، وما أكثر الأشياء الجديدة التي تكلمنا بها ولم يتكلم بها من قبلنا. أما إن أراد بهذا حروف الكلمات أو الكلمات، وهذا صحيح لو أراد المعاني.
ولعل الشاعر الجاهلي أراد أنه كل ما يقال من الكلمات والحروف فإنه إما معار أخذه من غيره، وإما معاد.
لكن إذا كان البيت بهذا المعنى فقيمته ضعيفة جدا، رخيصة لأن هذا معلوم لا يحتاج إلى أن ينشره الإنسان في بيت شعر.
قوله :«فعليك بالاستكثار..» يحثك على أن تستكثر من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك العلم لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر من ميراث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ثم اعلم أن ميراث النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون بالقرآن الكريم أو بالسنة النبوية. فإن كان بالقرآن الكريم، فقد كفيت إسناده والنظر فيه، لأن القرآن لا يحتاج إلى النظر بالسند لأنه متواتر أعظم التواتر.
أما إذا كان بالسنة النبوية فلا بد أن تنظر في السنة النبوية، أولا هل صحت نسبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أم لم تصح؟ فإن كنت تستطيع أن تمحص ذلك بنفسك فهذا هو الأولى؟ وإلا:
إذا لـم تستـطـع شيـئـا فـدعـهوجــاوزه إلــى مــا تستطـيـع

قوله :«ابذل الوسع» يعني الطاقة في التدقيق، أمر مهم لأن بعض الناس يأخذ بظواهر النصوص وبعمومها دون أن يدقق. هل هذا الظاهر مراد أم غير مراد؟ وهل هذا العام مخصص أم غير مخصص؟ أم هذا العام مقيد أم غير مقيد؟
فتجده يضرب السنة بعضها ببعض لأنه ليس عنده علم في هذا الأمر. وهذا يغلب على كثير من الشباب اليوم الذين يعتنون بالسنة تجد الواحد منهم يتسرع في الحكم المستفاد من الحديث، أو في الحكم على الحديث. هذا خطر عظيم.
يقول «مهما بلغت في العلم فتذكر: كم ترك الأول للآخر» هذا طيب، ولكن نقول: إن أحسن من ذلك مهما بلغت في العلم، فتذكر قول الله عز وجل : (وفوق كل ذي علم عليم) (سورة يوسف: 76). وقوله (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) (سورة الإسراء: 85).
وفي ترجمة أحمد بن عبد الجليل من «تاريخ بغداد» للخطيب ذكر من قصيدة له:



لا يكون السري مثل الدنيلا ولا ذو الذكاء مثل الغبي
قيمة المرء كلما أحسن المرءقضاء مـن الإمـام علـي
شرح الشيخ العثيمين
***************
شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري (مفرغ)


القارئ :
قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
25-النَّهْمَةُ في الطَّلَبِ :
إذا عَلِمْتَ الكلمةَ المنسوبةَ إلى الخليفةِ الراشدِ عليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ : ( قيمةُ كلِّ امرئٍ ما يُحْسِنُه ) وقد قِيلَ : ليس كلمةٌ أحَضَّ على طَلَبِ العلْمِ منها ؛ فاحْذَرْ غَلَطَ القائلِ : ما تَرَكَ الأَوَّلُ للآخِرِ . وصوابُه : كم تَرَكَ الأَوَّلُ للآخِرِ .
فعليك بالاستكثارِ من مِيراثِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وابْذُل الوُسْعَ في الطلَبِ والتحصيلِ والتدقيقِ ، ومَهْمَا بَلَغْتَ في العِلْمِ ؛ فتَذَكَّرْ ( كم تَرَكَ الأوَّلُ للآخِرِ) .
وفي تَرجمةِ أحمدَبنِ عبد الجليلِ من ( تاريخِ بَغدادَ ) للخطيبِ ذِكْرٌ من قصيدةٍ له :
لا يَكـونُ السَّـرِيُّ مِثْـلَ الـدَّنِـيِّ لا ولا ذو الذكـاءِ مثـلَ الغَـبِـيِّ
قيمةُ المرءِ كُلَّمَا أَحْسَنَ الْمَرْءُ قـضــاءً مــــن الإمــــامِ عَــلِــيِّ
الشيخ:
الأدب الخامس والعشرون من آداب طالب العلم : النهمة في الطلب ، بحيث تستمر الرغبة في طلب العلم مع الإنسان ، ولا يقنع بالقليل منهُ ، وتستمر معه هذه الرغبة ، وقد جاء في الخبر أنّ طالب العلم لا يُشبع نهمته مهما حصّل من العلم ، واثنان منهومان ، ذكر منهما : طالب العلم.
فطالب العلم ، لا تتوقف رغبته عند حدّ ، لأنّ العلم بحر لا ساحل له ، ومن هنا فالمرء يحرص على تحصيل أكبر قدر منه ، وبعض الناس يقول : لأنكم يا أيها الطلاب لم تأتوا بشيء جديد ، وحينئذ فلماذا تتعبون أنفسكم بطلب العلم.
فيقال لهم : أولا نحن نطلب العلم وتزداد رغبتنا فيه من أجل إرضاء رب العزة والجلال ، ومن أجل الدخول في الجنة ، فلو قدّر أننا لن نأتي بشيء جديد ، فنحن سنحصل على الأجر والثواب.
الأمر الثاني : بأنّ الله جل وعلا من رحمته بعباده أن جعل أهل العلم يعرفون ويكتشفون في كل زمان ما عجز عنه الأوائل ، هذا من رحمة الله حتى يستمر العلم وتستمر النهمة في طلبه.
الأمر الثالث : أنّ الناس تنتابهم أوقات جهالات يُنسى فيه العلم ، فالعالم وإن لم يأت بشيء جديد إلا أنه يرشد الأمة إلى طريقتها الأولى ، طريقة النبوّة.
الأمر الرابع : أنه ما من زمان إلا وفيه أُناس يبثّون الشبهات على الخلق ، فطالب العلم هو المخوّل لكشف هذه الشبهات.
وحينئذ كان الأولى أن يقال : كم ترك الأول للآخر.
وحينئذ لنستكثر من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم ، ما هو ميراث النبي صلى الله عليه وسلم؟ العلم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : "العلماء ورثة الأنبياء"
(وابذل الوسع في الطلب) اطلب علما كثيرا ، كذلك ابذل الوسع في التحصيل وفي التدقيق ، لا تكتفي بأخذ الأقوال فقط ، وإنما دقّق بينها ، وميّز بينها ، واعرف ما ينفعك منها ، ومهما بلغت في العلم فتذكّر : كم ترك الأول للآخر.
هنا

السؤال الأول: ورد في متن الحلية "النهمة في طلب العلم" إذا قلنا مثلا النهم هل يعتبر لحنا؟
الجواب : النَّهمة في الشيء أن يكون للمرء همَّة فيه، وتطلق النهمة على الوَطَر والحاجة يقال: قضى نهمته من كذا، إذا أخذ منه حاجته.
والنَّهَمُ : إفراطُ الشهوة في الطعام، والرجل النَهِم هو الشَّره الحريص الذي لا يشبع، والمنهوم هو المولع بحبّ الشيء.
والنَّهْم بتسكين الهاء: التصويت للرجل أو الدابة تقول: نهمْته، ويقال: ناقة منهام إذا كانت تطيع على النَّهم.

هنا 

"مَنْهُومَانِ لا يَشْبَعَانِ : مَنْهُومٌ في العلمِ لا يَشْبَعُ منه ، ومَنْهُومٌ في الدنيا لا يَشْبَعُ منها" الراوي: أنس بن مالك المحدث: الألباني - المصدر: تخريج مشكاة المصابيح - الصفحة أو الرقم: 251 -خلاصة حكم المحدث:صحيح

"مَنْهُومانِ لا يَشْبَعانِ طالبُ علمٍ ، وطالبُ دنيا"
الراوي: عبدالله بن عباس و أنس بن مالك المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 6624
خلاصة حكم المحدث: صحيح

الدرر السنية 


26- الرِّحْلَةُ للطَّلَبِ :
( من لم يكنْ رُحْلَةً لن يكونَ رُحَلَةً ) فمَن لم يَرْحَلْ في طَلَبِ العلْمِ للبحْثِ عن الشيوخِ ، والسياحةِ في الأَخْذِ عنهم ؛ فيَبْعُدُ تأَهُّلُه ليُرْحَلَ إليه ؛ لأنَّ هؤلاءِ العلماءَ الذين مَضَى وقتٌ في تَعَلُّمِهم وتَعليمِهم ، والتَّلَقِّي عنهم : لديهم من التَّحريراتِ والضبْطِ والنِّكاتِ العِلْمِيَّةِ ، والتجارُبِ ما يَعِزُّ الوُقوفُ عليه أو على نظائرِه في بُطونِ الأسفارِ .

  قوله :«من لم يكن رحلة لن يكون رحلة» لعل: من لم يكن له.... يرجع إلى الأصل.
قوله :«التجارب» مكسور حرف الراء. والتجربة غلط ما هي لغة عربية، رغم أنها في الشائع بين الناس الآن، حتى طلبة العلم، يقول: تجارب، تجربة. رغم أن الصواب كسر الراء. والمعنى: أن من لم يكن له رحلة في طلب العلم فلن يرحل إليه وتأتي الناس إليه.
واحْذَر القُعودَ عن هذا على مَسْلَكِ الْمُتَصَوِّفَةِ البطَّالِينَ ، الذين يُفَضِّلُونَ ( علْمَ الْخِرَقِ على علْمِ الوَرَقِ ) .
وقد قيلَ لبعضِهم : ألا تَرْحَلُ حتى تَسمعَ من عبدِ الرزاقِ ؟ فقالَ : ما يَصنَعُ بالسماعِ من عبدِ الرزَّاقِ مَن يَسمَعُ من الْخَلَّاقِ ؟!
وقال آخَرُ :
فاحْذَرْ هؤلاءِ ؛ فإنهم لا للإسلامِ نَصَرُوا ، ولا للكُفْرِ كَسَرُوا ، بل فيهم مَن كان بأسًا وبلاءً على الإسلامِ .

الصوفية يدعون أن الله يخاطبهم ويوحي إليهم، وأنه يزورهم ويزورونه وهذا من خرافاتهم.
والعبارة الأخيرة مأخوذة من كلام شيخ الإسلام رحمه الله في المتكلمين قال في هؤلاء :«لا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا» يعني أنهم ما نصروا الإسلام الذي جاء لذلك أن هؤلاء المتكلمين حرفوا النصوص عن ظاهرها وأولوها إلى معان أو جددوها بما يزعمون أنه عقل، فتسلط عليهم الفلاسفة وقالوا لهم: أنتم إذا أولتم آيات الصفات وأحاديث الصفات، مع ظهورها ووضوحها، فاسمحوا لنا أن نأول آيات المعاد، أي آيات اليوم الآخر فإن ذكر أسماء الله وصفاته في الكتب الإلهية أكثر بكثير من ذكر المعاد وما يتعلق به، فإذا أبحتم لأنفسكم أن تأولوا في أسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة، فاسمحوا لنا أن نأول في آيات المعاد وننكر المعاد رأسا ولا شك أن هذه حجة قوية لهؤلاء الفلاسفة على هؤلاء المتكلمين، إذ لا فرق.
المهم أن الشيخ وفقه الله هاجم الصوفية، فهم جديرون بالمهاجمة، لأن بعضهم يصل إلى حد الكفر والإلحاد بالله، حتى يعتقد أنه هو الرب كما يقول بعضهم «ما في الجبة إلا الله» يعني نفسه. ويقول:
الرب عبد والعبد رب = يا ليت شعري من المكلف
يعني هما شيء واحد. إلى أمثال ذلك من الخرافات التي يقولونها، لكن ينبغي أيضا أن نهاجم ونركز على مهاجمة أهل الكلام الذين سلبوا الله من كماله بكلامهم انكروا الصفات، فمنهم من أنكر الصفات رأسا كالمعتزلة . ومنهم من أثبت الأسماء، لكن جعلها أسماء جامدة لا تدل على معنى، وغالى بعضهم وقال: إنها أسماء واحدة، وأن السميع هو البصير، وأن السميع والبصير هما العزيز وهما شيء واحد. وغالى بعضهم فقال: هي أسماء متعددة، لكن لا تدل على معنى.
مسلوبة المعنى.
لأنهم لو أثبتوا لها معنى- بزعمهم- لزم تعدد الصفات، وبتعددها وبتعدد الصفات يرون أنه شرك، لأنهم يقولون يلزم تعدد الصفات القديمة كالعلم والسمع والبصر، فيلزم من ذلك تعدد القدماء، وهو أشد شركا من النصارى.
فالحاصل أنه أيضا ينبغي أن يهاجم على أهل الكلام الذين عطلوا لله مما يجب له من صفات كمال بعقول واهية.
والعلماء رحمهم الله الذين تكلموا عن الرحلة لم يدركوا هذا الأثر، الأشرطة المسجلة تغني عن الرحلة، لكن الرحلة أكبر لأن الرحلة إلى العالم، يكتسب الإنسان من علمه وأدبه وأخلاقه، ثم يترك الرجل يتكلم ليس كما يعمله إياه في الشريط.
مثلا: الخطبة، أنت عند رجل يخطب وكلامه جيد... تتأثر به لكن لو تسمع هذا الكلام من الشريط لن تتأثر به تأثرك وأنت تشاهد الخطيب.
شرح الشيخ العثيمين

معهد آفاق التيسير

شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري:

القارئ :
قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
26- الرِّحْلَةُ للطَّلَبِ :
(من لم يكنْ رُحْلَةً لن يكونَ رُحَلَةً ) فمَن لم يَرْحَلْ في طَلَبِ العلْمِ للبحْثِ عن الشيوخِ ، والسياحةِ في الأَخْذِ عنهم ؛ فيَبْعُدُ تأَهُّلُه ليُرْحَلَ إليه ؛ لأنَّ هؤلاءِ العلماءَ الذين مَضَى وقتٌ في تَعَلُّمِهم وتَعليمِهم ، والتَّلَقِّي عنهم : لديهم من التَّحريراتِ والضبْطِ والنِّكاتِ العِلْمِيَّةِ ، والتجارُبِ ما يَعِزُّ الوُقوفُ عليه أو على نظائرِه في بُطونِ الأسفارِ .
واحْذَر القُعودَ عن هذا على مَسْلَكِ الْمُتَصَوِّفَةِ البطَّالِينَ ، الذين يُفَضِّلُونَ ( علْمَ الْخِرَقِ على علْمِ الوَرَقِ) .
وقد قيلَ لبعضِهم : ألاتَرْحَلُ حتى تَسمعَ من عبدِ الرزاقِ ؟ فقالَ : ما يَصنَعُ بالسماعِ من عبدِالرزَّاقِ مَن يَسمَعُ من الْخَلَّاقِ ؟!
وقال آخَرُ :
إذا خاطَبُونِـي بعِلْـمِ الـوَرَقِ برَزْتُ عليهم بعِلْمِ الْخِرَقِ
فاحْذَرْ هؤلاءِ ؛ فإنهم لا للإسلامِ نَصَرُوا ، ولا للكُفْرِ كَسَرُوا ، بل فيهم مَن كان بأسًا وبلاءً على الإسلامِ.
الشيخ :
هذا أدب آخر من آداب طلب العلم وهو : الرحلة في طلب العلم لملاقاة العلماء ، وقد قصّ الله عز وجل علينا قصّة موسى عليه السلام عندما سافر إلى الخَضِر ؛ من أجل أن يستفيد من علمه ، وانظر أيضا في الأخبار ، أخبار الصحابة عندما كان ينتقل بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أجل طلب العلم ، كما في حديث مالك بن الحويرث.1
وانظر إلى أخبار أبي هريرة عندما انتقل ليسمع من النبي صلى الله عليه وسلم2 ، وقصة أبي ذر في آخر صحيح مسلم عندما ارتحل من أجل طلب العلم 3، وهكذا أيضا لم يزل علماء الإسلام يرحلون من أجل طلب العلم ، وينتقلون من مكان إلى مكان ، من أجل ذلك الهدف العظيم.
فالارتحال يحصل فيه عدد من الأمور :
الأول : تنويع التلقي عن العلماء ، فإنّ من خالط علماء كُثر شاهد مناهج مختلفة ، وشاهد طرائق مختلفة في التعليم ، وفي ما يحسنون من العلوم ، وفي طريقة التعلم والتعليم ، وفي الكتب التي تُدرس.
أما من اقتصر على شيخ واحد لن يحصل له مثل ذلك ، إلا أن يكون عالما متفننا في علوم مختلفة.

الفائدة الثانية: أنّ الراحل لطلب العلم يعوّد نفسه على اشتياق التعلم ، وعلى الاشتياق لمعرفة العلماء ، والتفنن في العلم ، فبذلك تنشط نفسه في التعلم.
الفائدة الثالثة : أنّ الراحل المسافر في طلب العلم يجد في وقته فسحة في طلب العلم ، وحينئذ يكون ذلك أدعى لحفظه العلم ، ولكونه يعي ما يتعلّمه.
الفائدة الرابعة : أنّ الرحلة تجعل الإنسان يقارن قرناء يماثلونه في الهدف والمقصد لطلب العلم فيكون لذلك أثر عظيم في تنشيط النفس على التعلم.
الفائدة الخامسة : أنّ المرء عند تنقله من مكان إلى مكان ، حينئذ تعرف نفسه قيمتها ، ولا ينغر بما كان عليه من حال جيد قبل سفره ورحلته ، ومن ثم تعرف النفس قيمتها ، فتبذل ما تستطيعه في ترفيع شأنها ، وتعلية مكانتها عند الله عزوجل.
قال المؤلف : (فمن لم يرحل في طلب العلم ، للبحث عن الشيوخ ، والسياحة في الأخذ عنهم ، فيبعد تأهله ليُرحل إليه) جاء في الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمضي زمان حتى تضرب الإبل فلا تجد عالما أفضل من عالم المدينة" فهذا فيه دلالة على مشروعية الرحلة لطلب العلم.
لماذا؟ لأنّ العلماء قد أمضوا أوقاتا عديدة ، فشاهدوا شيوخا كثيرين ، وعرفوا طرائق في التعلّم والتعليم ، ولذلك يجد الإنسان عندهم تحريرات بحيث يحرّرون المسائل ، ويعرفون المراد بها ، وعندهم ضبط ، ضبط للألفاظ ، وضبط للمسائل ، ومعرفة للفرق بينها ، وكذلك عندهم نكات علميّة ، والمراد بالنكتة العلميّة : الشيء العلمي النافذ ، الذي لا يحصّله الإنسان عند أي مؤلف أو في أي كتاب ، وكذلك يحصّل الإنسان عند هؤلاء العلماء التجارب ، فهم قد مارسوا وعرفوا أحوال الناس ، وعرفوا حقائق أمورهم ، وقد مرّت بهم تجارب كثيرة ، وخبرات عديدة.
فالإنسان إذا قرأ في الكتب ، ولم تمر عليه تلك التجارب ، فقد يكون حينئذ لا يتقن العلم ، وأضرب لذلك مثلا :
في القضاء ؛ من درس كتب أهل العلم في باب القضاء وأتقنها ، وعرفها ، وضبطها ضبطا كاملا ، فإنه تفوته أشياء بخلاف من مارس القضاء ، وأخذ من أصحاب التجارب والخبرة فيه ، فإنه ينتبه إلى أشياء ليست موجودة في الكتب ، بل في الكتب مرّات قد يُطلق اللفظ ويُراد به غير ظاهره ، مثال ذلك : في كتاب الحج ؛ قد يطلقون مرّات : وعليه دم ، ويريدون بالدم فدية الأذى التي يُخيّر الإنسان فيها بين الإطعام أو الصيام أو الذبح ، عندما يجد من ليس لديه خبرة ولا تجربة هذا اللفظ ؛ عليه دم ، سيقول : يتعيّن الدم ، وهذا خلاف مراد الفقهاء.
مثال آخر : في كتاب (مختصر الخرقي) قال في باب الحج: أنّ من جامع قبل رمي الجمرة فسد حجه ، وعليه بدنة ، ويتم المناسك ، ويحج من قابل ، هذا كلامهم على وفق طريقتهم الأولى ، لأنه لا يعقل في زمانهم أن يمر إنسان بمنى فلا يرمي ، ويتجاوزها إلى مكة بدون رمي ، لأنّ منى في الطريق ، لكن في مثل زماننا لمّا توفّرت وسائل الانتقال ووجدت هذه السيارات ، فينتقل الإنسان من مزدلفة إلى مكة بدون أن يمر بمنى ، فقد يطوف ويسعى ويقصّر ، فيكون بذلك تحلل التحلل الأول ، وحينئذ نقول : إذا جامع بعد هذا لم يفسد حجه ، لماذا؟ لأنه قد تحلل التحلل الأول ، ولم تجب عليه بدنة ، ولم يجب عليه الحج من قابل.
فمثل هذه الفائدة إذا قرأها الإنسان في كتاب ، ولم يتصل بعالم يشرح له ذلك ، فسينزّل الكلام على غير مراد مؤلفه به.
وحينئذ نكون بهذا قد سلكنا طريق التعلم بالرحلة إلى العلماء ، أما أهل التصوف الذين من صفتهم البطالة وترك التعلم ، فمثل هؤلاء طريقهم مخالف لطريق الشرع لأنهم يُفضلون علم الخِرَق على علم الورق.
الخِرَق إما الخرقة التي يُعطيها الأول للثاني ، يُعطيها الشيخ لمريده لينتقل العلم ، أو أنّ المراد به ؛ أنّ أهل التصوف يتركون ما الناس فيه من حال ، فيلبسون ثيابا خرقة متقطّعة ، لكن لعلّ المعنى الأول أولى.
قال : (على علم الورق) وهو طلب العلم ؛ الذي يُسجّل في الأوراق.
وبهذا تعرف أنّ منهج أهل السنة والجماعة هو أن يكون الطريق في التعلم ، أما من جاء و جعل الطريق هو الخروج من بلد إلى بلد بدون أن يكون المقصد من ذلك السفر طلب العلم ، هذا ليس مقصودا ، إلا أن يكون له مقصد آخر موافق لمقصد الشرع.
ومن هنا من جعل طريق المال أو طريق الخير في الانتقال وسمّى ذلك في سبيل الله فإنه ليس على الطريقة السلفية.

(
وقد قيلَ لبعضِهم : ألا تَرْحَلُ حتى تَسمعَ من عبدِ الرزاقِ ؟ فقالَ : ما يَصنَعُ بالسماعِ من عبدِ الرزَّاقِ مَن يَسمَعُ من الْخَلَّاقِ ؟!
وذلك أنّ المتصوفة يرون أنّ من مصادر التلقي الإلهام والكشف ، وهذا طريق باطل ، لا يصح بناء الأحكام عليه ، لأنّ الله لم يأمرنا بالرجوع إلى ما في النفوس من ذلك ، وإنما أمرنا بالرجوع إلى الكتاب والسنة.

وكذلك ما يُلقى في النفوس لا يأمن الإنسان ما مصدره ، إن الشياطين تُلقي في النفوس ، حتى يظن بعض الناس أنه الخير ، وأنه الحق ، وبينما حقيقة الحال أنه ليس كذلك.

وقال آخَرُ :
فاحْذَرْ هؤلاءِ ؛ فإنهم لا للإسلامِ نَصَرُوا ، ولا للكُفْرِ كَسَرُوا ، بل فيهم مَن كان بأسًا وبلاءً على الإسلامِ
إذا نظرنا حال المبتدعة وجدناهم يقدّمون طريقتهم في الابتداع على نصرة الإسلام ، ولذلك يحذر الإنسان من طريقة مثل هؤلاء ، وإن كان المرء مأمورا بكف أذاه عنهم ، وعدم إيصال السوء إليهم لكن ذلك لا يعني صحة طريقهم ، وإنما هم على خلاف الطريقة المرضيّة ، فإنّ الطريقة المرضيّة تحصل بالتعلم لا بهذه الأفعال التي تُضيّع الأوقات ، ولا يحُصّل الإنسان بها شيئا ، نعم.

 كما في حديث مالك بن الحويرث.1

عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ:
قَدِمْنَا على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ونحنُ شِبَبَةٌ ، فلَبِثْنَا عندَهُ نحوًا من عشرينَ ليلةً ، وكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رحيمًا ، فقال :" لو رَجعتمْ إلى بلادكم فعلَّمتموهم ، مُرُوهُمْ فليُصلُّواْ صلاةَ كذا في حينِ كذا ، وصلاةَ كذا في حينِ كذا ، وإذا حضرتْ الصلاةُ فليُؤَذِّنْ لكم أَحَدُكُمْ ، وليَؤُمُّكُم أَكْبَرُكُم ".
الراوي: مالك بن الحويرث المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 685- خلاصة حكم المحدث:[صحيح]
الدرر السنية


قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون وهذا في عام الوفود في السنة التاسعة من الهجرة وكانوا شبابا فأقاموا عند النبي صلى الله عليه وسلم عشرين ليلة جاءوا من أجل أن يتفقهوا في دين الله قال مالك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا فظن أنا قد اشتقنا أهلنا يعني اشتقنا إليهم فسألنا عمن تركنا من أهلنا فأخبرناه فقال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وصلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم ....

شرح رياض الصالحين - شرح العثيمين

2

عن مُجَاهِدٌ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - كَانَ يَقُولُ: آللَّهِ الذي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ بكبدي عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ ، وَإِنْ كُنْتُ لأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بطني مِنَ الْجُوعِ ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الذي يَخْرُجُونَ مِنْهُ ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ ليشبعني ، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ ، ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ ليشبعني ، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ ، ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَبَسَّمَ حِينَ رآني وَعَرَفَ ، مَا في نفسي وَمَا في وجهي ثُمَّ قَالَ: « أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « الْحَقْ » . وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ ، فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ ، فَأَذِنَ لي ، فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا في قَدَحٍ فَقَالَ « مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ » . قَالُوا أَهْدَاهُ لَكَ فُلاَنٌ أَوْ فُلاَنَةُ . قَالَ « أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: « الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لي ». قَالَ وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإِسْلاَمِ ، لاَ يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلاَ مَالٍ ، وَلاَ عَلَى أَحَدٍ ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا ، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ ، وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا، فساءني ذَلِكَ فَقُلْتُ وَمَا هَذَا اللَّبَنُ في أَهْلِ الصُّفَّةِ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا ، فَإِذَا جَاءَ أمرني فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ، وَمَا عَسَى أَنْ يبلغني مِنْ هَذَا اللَّبَنِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم- بُدٌّ ، فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا ، فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ ، وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ قَالَ: « يَا أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: « خُذْ فَأَعْطِهِمْ » . قَالَ فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ رَوِىَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَىَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ: « أَبَا هِرٍّ » . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ » . قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ: « اقْعُدْ فَاشْرَبْ » . فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ . فَقَالَ « اشْرَبْ » . فَشَرِبْتُ ، فَمَا زَالَ يَقُولُ: « اشْرَبْ » . حَتَّى قُلْتُ لاَ والذي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا . قَالَ: « فأرني ». فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى، وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ(1).

شرح المفردات (2):

( آللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ ) أي: والله بحُذِفَ حَرْف الْقَسَم، وَثَبَتَ فِي رِوَايَة بإثبات الْوَاوِ فِي أَوَّله.
( لأعتمد بكبدي ) ألصق بطني بالأرض .
( لأشد ) أربط وفائدة شد الحجر المساعدة على الاعتدال والقيام .
( طريقهم ) أي النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه رضي الله عنهم .
(الصُّفَّة) مَكَان فِي مُؤَخَّر الْمَسْجِد النَّبَوِيّ مُظَلَّل أُعِدّ لِنُزُولِ الْغُرَبَاء فِيهِ مِمَّنْ لَا مَأْوَى لَهُ وَلَا أَهْل.
( أضياف الإسلام ) ضيوف المسلمين .
( يأوون ) ينزلون ويلتجئون .
( فساءني ذلك ) أهمني وأحزنني .
( فَحَمِدَ اللَّه وَسَمَّى) أَيْ: حَمِدَ اللَّه عَلَى مَا مَنَّ بِهِ مِنْ الْبَرَكَة الَّتِي وَقَعَتْ فِي اللَّبَن الْمَذْكُور مَعَ قِلَّته حَتَّى رَوِيَ الْقَوْم كُلّهمْ وَأَفْضَلُوا ، وَسَمَّى فِي اِبْتِدَاء الشُّرْب عليه الصلاة والسلام.
( وَشَرِبَ الْفَضْلَة ) أَيْ: الْبَقِيَّة.
___________
(1) - صحيح البخاري، رقم (6452).
(2) - النووي، شرح صحيح مسلم (7/482) فتح الباري - ابن حجر - (18 / 272).
هنا

- قال لنا ابن عباس : ألا أخبركم بإسلام أبي ذر ؟ قال : قلنا : بلى ، قال : قال أبو ذر : كنت رجلا من غفار ، فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي ، فقلت لأخي : انطلق إلى هذا الرجل كلمه وأتني بخبره ، فانطلق فلقيه ثم رجع ، فقلت : ما عندك ؟ فقال : والله لقد رأيت رجلا يأمر بالخير وينهى عن الشر ، فقلت له : لم تشفني من الخبر ، فأخذت جرابا وعصا ، ثم أقبلت إلى مكة ، فجعلت لا أعرفه ، وأكره أن أسأل عنه ، واشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد ، قال : فمر بي علي فقال : كأن الرجل غريب ؟ قال : قلت : نعم ، قال : فانطلق إلى المنزل ، قال : فانطلقت معه ، لا يسألني عن شيء ولا أخبره ، فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه ، وليس أحد يخبرني عنه بشيء ، قال : فمر بي علي ، فقال : أما نال للرجل يعرف منزله بعد ؟ قال : قلت : لا ، قال : انطلق معي ، قال : فقال : ما أمرك ، وما أقدمك هذه البلدة ؟ قال : قلت له : إن كتمت علي أخبرتك ، قال : فإني أفعل ، قال : قلت له : بلغنا أنه قد خرج ها هنا رجل يزعم أنه نبي ، فأرسلت أخي ليكلمه ، فرجع ولم يشفني من الخبر ، فأردت أن ألقاه ، فقال له : أما إنك قد رشدت ، هذا وجهي إليه فاتبعني ، ادخل حيث ادخل ، فإني إن رأيت أحدا أخافه عليك ، قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي وامض أنت ، فمضى ومضيت معه حتى دخل ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت له : اعرض علي الإسلام ، فعرضه فأسلمت مكاني ، فقال لي : ( يا أبا ذر ، اكتم هذا الأمر ، وارجع إلى بلدك ، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل ) . فقلت : والذي بعثك بالحق ، لأصرخن بها بين أظهرهم ، فجاء إلى المسجد وقريش فيه ، فقال : يا معشر قريش ، إني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . فقالوا : قوموا إلى هذا الصابئ ، فقاموا فضربت لأموت ، فأدركني العباس فأكب علي ثم أقبل عليهم ، فقال : ويلكم ، تقتلون رجلا من غفار ، ومتجركم وممركم على غفار ، فأقلعوا عني ، فلما أن أصبحت الغد رجعت ، فقلت مثل ما قلت بالأمس ، فقالوا : قوموا إلى هذا الصابئ ، فصنع بي مثل ما صنع بالأمس ، وأدركني العباس فأكب علي ، وقال مثل مقالته بالأمس . قال : فكان هذا أول إسلام أبي ذر رحمه الله .
الراوي: أبو ذر الغفاري المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 3522 - خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
هنا 



27-حفْظُ العلْمِ كتابةً
«شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله »

*ابْذُل ْالْجَهْدَ في حِفْظِ العلْمِ ( حِفْظَ كتابٍ ) ؛ لأنَّ تقييدَ العلْمِ بالكتابةِ أمانٌ من الضياعِ ، وقَصْرٌ لمسافةِ البحْثِ عندَ الاحتياجِ ، لا سِيَّمَا في مسائلِ العِلْمِ التي تكونُ في غيرِ مَظَانِّها ، ومن أَجَلِّ فوائدِه أنه عندَ كِبَرِ السنِّ وضَعْفِ الْقُوَى يكونُ لديكَ مادَّةٌ تَسْتَجِرُّ منها مادَّةً تَكْتُبُ فيها بلا عَناءٍ في البَحْثِ والتَّقَصِّي .

 ولذا ؛ فاجْعَلْ لك ( كُناشًا ) أو ( مُذَكِّرَةً ) لتقييدِ الفوائدِ والفرائدِ والأبحاثِ الْمَنثورةِ في غيرِ مَظَانِّها ، وإن اسْتَعْمَلْتَ غُلافَ الكتابِ لتَقييدِ ما فيه من ذلك ؛ فحَسَنٌ ، ثم تَنْقُلُ ما يَجْتَمِعُ لك بعدُ في مُذَكِّرَةٍ ؛ مُرَتِّبًا له على الموضوعاتِ مُقَيِّدًا رأسَ المسألةِ ، واسمَ الكتابِ ، ورقْمَ الصفحةِ والمجلَّدِ ، ثم اكْتُبْ على ما قَيَّدْتَه : ( نُقِلَ ) ؛ حتى لا يَخْتَلِطَ بما لم يُنْقَلْ كما تَكتُبُ : ( بلَغَ صفحةَ كذا ) فيما وَصَلْتَ إليه من قراءةِ الكتابِ حتى لا يَفُوتَك ما لم تَبْلُغْه قراءةً .
- «ابذل» همزة وصل، لكن عند الابتداء بها تكون همزة قطع. بذل الجهد في الكتابة مهم، لا سيما في نوادر المسائل أو في التقسيمات التي لا تجدها في بعض الكتب.
كم من مسألة نادرة مهمة لا يقيدها اعتمادا على أنه يقول: إن شاء الله لا أنساها. فإذا به ينساها ويتمنى لو كتبها، ولكن احذر أن تكتب على كتابك على هامشه أو بين سطوره، كتابة تطمس الأصل فإن بعض الناس يكتب على هامش الكتاب أو بين سطوره كتابة تطمس الأصل، لكن يجب إذا أردت أن تكتب على كتابك أن تجعله على الهامش البعيد من الأصل لئلا يلتبس هذا بهذا، فإن لم يتيسر هذا، كأن ما تريد تعليقه أكثر من الهامش فلا ضير عليك أن تجعل ورقة بيضاء تلصقها بين الورقات وتشير إلى موضعها من الأصل وتكتب ما شئت، وكان طلبة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله يحدثوننا أنهم يأخذون مذكرات صغيرة يجعلونها في الجيب كلما ذكر الإنسان منهم مسألة قيدها، إما فائدة علم في خاطر، أو مسألة يُسأل عنها الشيخ فيقيدها، فاستفادوا بذلك كثيرا. ولذا، فاجعل لك (كناشا) أو (مذكرة) لتقييد الفوائد والفرائد والأبحاث المنثورة في غير مظانها، وإن استعملت غلاف الكتاب لتقييد ما فيه من ذلك، فحسن، ثم تنقل ما يجمع لك بعد في مذكرة، مرتبا له على الموضوعات، مقيدا رأس المسألة، واسم الكتاب، ورقم الصفحة والمجلد، ثم اكتب على ما قيدته :«نقل»، حتى لا يختلط بما لم ينقل، كما تكتب :«بلغ صفحة كذا» فيما وصلت إليه من قراءة الكتاب حتى لا يفوتك ما لم تبلغه قراءة.
*وللعلماءِ مؤَلَّفَاتٌ عدَّةٌ في هذا ؛ منها : ( بدائعُ الفوائدِ ) لابنِ القَيَّمِ و( خَبايَا الزوايا ) للزَّرْكَشيِّ ، ومنها : كتابُ ( الإغفالِ ) ، و( بَقَايا الْخَبَايا ) وغيرُها ، وعليه فَقَيِّدِ العِلْمَ بالكتابِ لا سِيَّمَا بدائعَ الفوائدِ في غيرِ مَظَانِّها ، وخَبَايَا الزوايا في غيرِ مَسَاقِها ، ودُرَرًا مَنثورةً تَراهَا وتَسْمَعُها تَخْشَى فَوَاتَها … وهكذا ؛ فإنَّ الْحِفْظَ يَضْعُفُ ، والنسيانَ يَعْرِضُ .قالَ الشعبيُّ : ( إذا سَمِعْتَ شيئًا ؛ فاكْتُبْهُ ولو في الحائطِ ) .رواه خَيثَمَةُ .
وإذا اجْتَمَعَ لديك ما شاءَ اللهُ أن يَجْتَمِعَ ؛ فرَتِّبْهُ في ( تَذْكِرَةٍ ) أو ( كُناشٍ ) على الموضوعاتِ ؛ فإنه يُسْعِفُكَ في أَضْيَقِ الأوقاتِ التي قد يَعْجِزُ عن الإدراكِ فيها كِبارُ الأثباتِ .

- ومنها أيضا «صيد الخاطر» لابن الجوزي، لكن أحسن ما رأيت «بدائع الفوائد» لأبن القيم أربعة أجزاء في مجلدين، فيها من بدائع العلوم ما لا تكاد تجده في كتاب أخر لكل فن. كل ما طرأ على باله قيده، لذلك تجد فيه من العقائد في التوحيد، في الفقه، في النحو، في البلاغة، في التفسير، في كل شيء.
أحيانا يبحث في كلمة من الكلمات اللغوية في صفحة تحليلا وتفريعا واشتقاقا وغير ذلك. بحث بحثا بالغا في الفرق بين «المدح والحمد»، كتب كتابة فائقة في ذلك، وقال: كان شيخنا إذا بحث في مثل هذا أتى بالعجب العجاب لكنه كما قيل:

تألق البرق نجديا فقلت له=إليك عني فإني عنك مشغولا

بما هو أهم من التحقق في اللغة العربية وإلا فهو- شيخ الإسلام – رحمه الله آية في اللغة العربية، لما قدم مصر اجتمع بأبي حيان المصري الشهير صاحب «البحر المحيط» في التفسير، وكان أبو حيان يثني على شيخ الإسلام ثناء عطرا، ويمدحه بقصائد عصامية، ومن جملة ما يقول فيه:

قام ابن تيمية في نصر شريعتنامقام سيد يتم إذ عصت مضر

يعني أبي بكر يوم الردة. فلما قدم مصر شيخ الإسلام اجتمع بهذا الرجل- أبي حيان- وتناظر معه في مسألة نحوية واحتج عليه أبو حيان بقول سيبويه في كتابه، قال إن سيبويه في كتابه قال كذا وكذا. فكيف تخالفه؟.
فقال له شيخ الإسلام:«وهل سيبويه نبي النحو؟!» يعني: حتى يجب علينا اتباعه، ثم قال:«لقد غلط في الكتاب في أكثر من 80 موضعًا لا تعلمها أنت ولا هو». سبحان الله !! هكذا يقول لسيد النحاة.
يقال: إن أبا حيان بعد ذلك أخذ عليه وصار بنفسه فأنشأ قصيدة يهجوه فيها.
عفا الله عنا وعنهم جميعا. المهم أن كتاب «بدائع الفوائد» من أجمل الكتب، فيه فوائد لا تجدها في غيره.
وعليه، فقيد العلم بالكتاب، لاسيما بدائع الفوائد في غير مظانها، وخبايا الزوايا في غير مساقها، ودررا منثورة تراها وتسمعها تخشي فواتها...... وهكذا، فإن الحفظ يضعف، والنسيان يعرض.
قوله:«لاسيما بدائع» الأفصح في هذا أن تكون مرفوعة بعد لاسيما، يجوز النصب ولكن الأحسن الرفع.
ومعني الكلام: أنه يحث على كتابة هذه الأشياء، بدائع الفوائد التي تعرض للإنسان حتى لا ينساها وكذلك أيضا ولاسيما إذا كانت في غير مظانها لأنك أحيانا تبحث عن مسألة تظنها مثلا في باب الصيد وهي مذكورة في مكان آخر، فإذا ذكرت في مكان آخر فقيدها، وكذلك أيضا«خبايا الزوايا في غير مساقها» وهي بمعني الجملة الأولي. و«درر منثورة تراها» وتسمعها تخشي فواتها. وهذه أيضا مسائل تعرض لك أو تعرض في كتب أهل العلم وهي منثورة، فهذه يجب أن تجمعها وتجعلها في كتاب.
قال
الشَّعْبِيَُ:«إذا سمعت شيئا، فاكتبه، ولو في الحائط». رواه خيثمة.
وإذا اجتمع لديك ما شاء الله أن يجتمع، فرتبه في (تذكرة) أو (
كُناش) على الموضوعات، فإنه يسعفك في أضيق الأوقات التي قد يعجز عن الإدراك فيها كبار الأثبات.
وهل الأولى أن ترتبها على الموضوعات أو أن ترتبها على ألف وباء؟ نرى أنه على ألف باء أحسن، وذلك لأن ترتيبها على الموضوعات تختلف فيه كتب العلماء، تجد مثلا: ترتيب الحنابلة يفترق عن الشافعية لاسيما في المعاملات، بل إن نفس المذهب الواحد يختلف ترتيبه. ترتيب المتقدمين منهم والمتأخرين.
آفاق التيسير

« شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري (مفرغ)»

القارئ :
قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
27- حفْظُ العلْمِ كتابةً :
ابْذُل ْالْجَهْدَ في حِفْظِ العلْمِ ( حِفْظَ كتابٍ ) ؛ لأنَّ تقييدَ العلْمِ بالكتابةِ أمانٌ من الضياعِ ، وقَصْرٌ لمسافةِ البحْثِ عندَ الاحتياجِ ، لا سِيَّمَا في مسائلِ العِلْمِ التي تكونُ في غيرِ مَظَانِّها ، ومن أَجَلِّ فوائدِه أنه عندَ كِبَرِ السنِّ وضَعْفِ الْقُوَى يكونُ لديكَ مادَّةٌ تَسْتَجِرُّ منها مادَّةً تَكْتُبُ فيها بلا عَناءٍ في البَحْثِ والتَّقَصِّي .
ولذا؛ فاجْعَلْلك ( كُناشًا ) أو ( مُذَكِّرَةً ) لتقييدِ الفوائدِ والفرائدِ والأبحاثِ الْمَنثورةِ في غيرِ مَظَانِّها ، وإن اسْتَعْمَلْتَ غُلافَ الكتابِ لتَقييدِ مافيه من ذلك ؛ فحَسَنٌ ، ثم تَنْقُلُ ما يَجْتَمِعُ لك بعدُ في مُذَكِّرَةٍ ؛ مُرَتِّبًا له على الموضوعاتِ مُقَيِّدًا رأسَ المسألةِ ، واسمَ الكتابِ ، ورقْمَ الصفحةِ والمجلَّدِ ، ثم اكْتُبْ على ما قَيَّدْتَه : ( نُقِلَ ) ؛ حتى لايَخْتَلِطَ بما لم يُنْقَلْ كما تَكتُبُ : ( بلَغَ صفحةَ كذا ) فيما وَصَلْتَ إليه من قراءةِ الكتابِ حتى لا يَفُوتَك ما لم تَبْلُغْه قراءةً .
وللعلماءِ مؤَلَّفَاتٌ عدَّةٌ في هذا ؛ منها : ( بدائعُ الفوائدِ ) لابنِ القَيَّمِ و( خَبايَا الزوايا ) للزَّرْكَشيِّ ، ومنها : كتابُ ( الإغفالِ ) ، و( بَقَاياالْخَبَايا ) وغيرُها ، وعليه فَقَيِّدِ العِلْمَ بالكتابِ لا سِيَّمَا بدائعَ الفوائدِ في غيرِ مَظَانِّها ، وخَبَايَا الزوايا في غيرِ مَسَاقِها ، ودُرَرًا مَنثورةً تَراهَا وتَسْمَعُها تَخْشَى فَوَاتَها … وهكذا ؛ فإنَّ الْحِفْظَ يَضْعُفُ ، والنسيانَ يَعْرِضُ .قال َالشعبيُّ : ( إذا سَمِعْتَ شيئًا ؛ فاكْتُبْهُ ولو في الحائطِ) .رواه خَيثَمَةُ .
وإذا اجْتَمَعَ لديك ماشاءَ اللهُ أن يَجْتَمِعَ ؛ فرَتِّبْهُ في ( تَذْكِرَةٍ ) أو ( كُناشٍ ) على الموضوعاتِ ؛ فإنه يُسْعِفُكَ في أَضْيَقِ الأوقاتِ التي قد يَعْجِزُ عن الإدراكِ فيها كِبارُ الأثباتِ .
الشيخ :
هذه من آداب طالب العلم ؛ تقييد الفوائد الفرائد وكتابتها ، فإنّ الإنسان تمرّ به حال كتابته مسائل في غير مظانّها ، وتمرّ به مسائل وفوائد لا يتوقع مرورها عليه في ذلك الموطن ، وكذلك تمرّ على الإنسان معلومات غرائب بحيث تلفت ذهنه لفتا ، وتجرّ نفسه إلى تذكرها ومعرفتها ، والإنسان ينسى ، فيحسن به أن يقيّد هذه الفوائد سواء كانت غريبة عليه أو عجيبة لديه أو كانت في غير مواطن بحثها ، بحيث يسهل عليه مراجعتها ، والكتابة للعلم جاءت به الشريعة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "اكتبوا لأبي شاه" ، ويدل على هذا أنّ الله عز وجل قد كتب ما هو كائن إلى قيام الساعة ، ولم يكتف بذلك بكونه محفوظا.
وقال : جاء في الحديث: "أنّ الله عز وجل لما خلق الخلق كتب في كتاب فهو عنده ؛ أنّ رحمتي سبقت غضبي" وقد أُثرت كتابة عدد من الأحاديث عن جماعة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في عهد النبوة بإقراره صلى الله عليه وسلم ، إذا تقرر هذا ، فإنّ الكتابة تفيد إبعاد النسيان عن الإنسان ، وتذكيره بأدنى لفتة بما كان يعرفه في الوقت السابق ، وتعينه حال كبره وفترة نسيانه ، فإنّ الإنسان عند كبر سنه إذا كان قد وضع مادة علميّة تختصر له المعلومات ؛ فإنه بذلك يتمكّن من مراجعة هذا الجزء فيكون حافظا لعلمه.
ومن هنا أمر المؤلف بوضع مذكرة لتقييد الفوائد والفرائد والمسائل التي تُبحث في غير مظانّها ، ومن أنواع ذلك أن يكتب الإنسان هذه الكتابة في أول الكتب التي تمر عليه ، وينبغي فيه أن يُقيّد رأس المسألة في أول هذه الفائدة ثم ما نُقل منه من كتاب ورقم صفحته وجزئه ، ثم بعد ذلك إذا نقل هذه المعلومات التي في أول الكتاب وفي غلاف الكتاب إلى دفتره الأصلي ، بيّن أنها قد نُقلت إلى ذلك الدفتر حتى لا تختلط ما نُقل مما لم يُنقل ، وقد ذكر المؤلف أنّ هذه الطريقة استخدمها بعض أهل العلم فكانت سببا في شهرة كتبهم ، ومن ذلك كتاب (بدائع الفوائد) لابن القيم ، و(خبايا الزوايا) للزركشي.
في (بدائع الفوائد) نقل المؤلف ابن القيم رحمه الله فوائد متنوعة ، بعضها بلاغية ، وبعضها حديثية ، وبعضها نحوية ، وبعضها عقدية في هذا الكتاب.
وفي (خبايا الزوايا) اعتنى الزركشي بالمسائل الفقهية التي تُبحث في غير مظانّها.
ذكر المؤلف كلام الشعبي قال: (إنّ الحفظ يضعف ، والنسيان يعرض ، قال الشعبي: "إذا سمعت شيئا فاكتبه ولو في الحائط") وكان الشعبي من أكثر الناس حفظا ، وكان له قوة غريبة في الحفظ ، ومع ذلك أمر بالكتابة ، نعم.
آفاق التيسير 


مجلس 57
27-
حفْظُ العلْمِ كتابةً :
*ابْذُلْ الْجَهْدَ في حِفْظِ العلْمِ ( حِفْظَ كتابٍ ) ؛ لأنَّ تقييدَ العلْمِ بالكتابةِ أمانٌ من الضياعِ ، وقَصْرٌ لمسافةِ البحْثِ عندَ الاحتياجِ ، لا سِيَّمَا في مسائلِ العِلْمِ التي تكونُ في غيرِ مَظَانِّها ، ومن أَجَلِّ فوائدِه أنه عندَ كِبَرِ السنِّ وضَعْفِ الْقُوَى يكونُ لديكَ مادَّةٌ تَسْتَجِرُّ منها مادَّةً تَكْتُبُ فيها بلا عَناءٍ في البَحْثِ والتَّقَصِّي .

ولذا ؛ فاجْعَلْ لك ( كُناشًا ) أو ( مُذَكِّرَةً ) لتقييدِ الفوائدِ والفرائدِ والأبحاثِ الْمَنثورةِ في غيرِ مَظَانِّها ، وإن اسْتَعْمَلْتَ غُلافَ الكتابِ لتَقييدِ ما فيه من ذلك ؛ فحَسَنٌ ، ثم تَنْقُلُ ما يَجْتَمِعُ لك بعدُ في مُذَكِّرَةٍ ؛ مُرَتِّبًا له على الموضوعاتِ مُقَيِّدًا رأسَ المسألةِ ، واسمَ الكتابِ ، ورقْمَ الصفحةِ والمجلَّدِ ، ثم اكْتُبْ على ما قَيَّدْتَه : ( نُقِلَ ) ؛ حتى لا يَخْتَلِطَ بما لم يُنْقَلْ كما تَكتُبُ : ( بلَغَ صفحةَ كذا ) فيما وَصَلْتَ إليه من قراءةِ الكتابِ حتى لا يَفُوتَك ما لم تَبْلُغْه قراءةً
شرح الشيخ العثيمين
«ابذل» همزة وصل، لكن عند الابتداء بها تكون همزة قطع. بذل الجهد في الكتابة مهم، لا سيما في نوادر المسائل أو في التقسيمات التي لا تجدها في بعض الكتب.
كم من مسألة نادرة مهمة لا يقيدها اعتمادا على أنه يقول: إن شاء الله لا أنساها. فإذا به ينساها ويتمنى لو كتبها، ولكن احذر أن تكتب على كتابك على هامشه أو بين سطوره، كتابة تطمس الأصل فإن بعض الناس يكتب على هامش الكتاب أو بين سطوره كتابة تطمس الأصل، لكن يجب إذا أردت أن تكتب على كتابك أن تجعله على الهامش البعيد من الأصل لئلا يلتبس هذا بهذا، فإن لم يتيسر هذا، كأن ما تريد تعليقه أكثر من الهامش فلا ضير عليك أن تجعل ورقة بيضاء تلصقها بين الورقات وتشير إلى موضعها من الأصل وتكتب ما شئت، وكان طلبة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله يحدثوننا أنهم يأخذون مذكرات صغيرة يجعلونها في الجيب كلما ذكر الإنسان منهم مسألة قيدها، إما فائدة علم في خاطر، أو مسألة يسأل عنها الشيخ فيقيدها، فاستفادوا بذلك كثيرا. ولذا، فاجعل لك (كناشا) أو (مذكرة) لتقييد الفوائد والفرائد والأبحاث المنثورة في غير مظانها، وإن استعملت غلاف الكتاب لتقييد ما فيه من ذلك، فحسن، ثم تنقل ما يجمع لك بعد في مذكرة، مرتبا له على الموضوعات، مقيدا رأس المسألة، واسم الكتاب، ورقم الصفحة والمجلد، ثم اكتب على ما قيدته :«نقل»، حتى لا يختلط بما لم ينقل، كما تكتب :«بلغ صفحة كذا» فيما وصلت إليه من قراءة الكتاب حتى لا يفوتك ما لم تبلغه قراءة.

*وللعلماءِ مؤَلَّفَاتٌ عدَّةٌ في هذا ؛ منها : ( بدائعُ الفوائدِ ) لابنِ القَيَّمِ و( خَبايَا الزوايا ) للزَّرْكَشيِّ ، ومنها : كتابُ ( الإغفالِ ) ، و( بَقَايا الْخَبَايا ) وغيرُها ، ومنها أيضا «صيد الخاطر» لابن الجوزي، لكن أحسن ما رأيت «بدائع الفوائد» لأبن القيم أربعة أجزاء في مجلدين، فيها من بدائع العلوم ما لا تكاد تجده في كتاب أخر لكل فن. كل ما طرأ على باله قيده، لذلك تجد فيه من العقائد في التوحيد، في الفقه، في النحو، في البلاغة، في التفسير، في كل شيء.
أحيانا يبحث في كلمة من الكلمات اللغوية في صفحة تحليلا وتفريعا واشتقاقا وغير ذلك. بحث بحثا بالغا في الفرق بين «المدح والحمد»، كتب كتابة فائقة في ذلك، وقال: كان شيخنا إذا بحث في مثل هذا أتى بالعجب العجاب لكنه كما قيل:

تألق البرق نجديا فقلت له=إليك عني فإني عنك مشغولا


يعني رحمه الله مشغول بما هو أهم من التحقق في اللغة العربية وإلا فهو- شيخ الإسلام – رحمه الله آية في اللغة العربية، لما قدم مصر اجتمع بأبي حيان المصري الشهير صاحب «البحر المحيط» في التفسير، وكان أبو حيان يثني على شيخ الإسلام ثناء عطرا، ويمدحه بقصائد عصامية، ومن جملة ما يقول فيه:



قام ابن تيمية في نصر شريعتنامقام سيد يتم إذ عصت مضر

يعني أبي بكر يوم الردة. فلما قدم مصر شيخ الإسلام اجتمع بهذا الرجل- أبي حيان- وتناظر معه في مسألة نحوية واحتج عليه أبو حيان بقول سيبويه في كتابه، قال إن سيبويه في كتابه قال كذا وكذا. فكيف تخالفه؟.
فقال له شيخ الإسلام:«وهل سيبويه نبي النحو؟!» يعني: حتى يجب علينا اتباعه، ثم قال:«لقد غلط في الكتاب في أكثر من 80 موضعا لا تعلمها أنت ولا هو». سبحان الله !! هكذا يقول لسيد النحاة.
يقال: إن أبا حيان بعد ذلك أخذ عليه وصار بنفسه فأنشأ قصيدة يهجوه فيها.
عفا الله عنا وعنهم جميعا. المهم أن كتاب «بدائع الفوائد» من أجمل الكتب، فيه فوائد لا تجدها في غيره.
وعليه، فقيد العلم بالكتاب، لاسيما بدائع الفوائد في غير مظانها، وخبايا الزوايا في غير مساقها، ودررا منثورة تراها وتسمعها تخشي فواتها...... وهكذا، فإن الحفظ يضعف، والنسيان يعرض.
قوله:«لاسيما بدائع» الأفصح في هذا أن تكون مرفوعة بعد لاسيما، يجوز النصب ولكن الأحسن الرفع.
ومعني الكلام: أنه يحث على كتابة هذه الأشياء، بدائع الفوائد التي تعرض للإنسان حتى لا ينساها وكذلك أيضا ولاسيما إذا كانت في غير مظانها لأنك أحيانا تبحث عن مسألة تظنها مثلا في باب الصيد وهي مذكورة في مكان آخر، فإذا ذكرت في مكان آخر فقيدها، وكذلك أيضا«خبايا الزوايا في غير مساقها» وهي بمعني الجملة الأولي. و«درر منثورة تراها» وتسمعها تخشي فواتها. وهذه أيضا مسائل تعرض لك أو تعرض في كتب أهل العلم وهي منثورة، فهذه يجب أن تجمعها وتجعلها في كتاب.
قال الشعبي:«إذا سمعت شيئا، فاكتبه، ولو في الحائط». رواه خيثمة.
وإذا اجتمع لديك ما شاء الله أن يجتمع، فرتبه في (تذكرة) أو (كناش) على الموضوعات، فإنه يسعفك في أضيق الأوقات التي قد يعجز عن الإدراك فيها كبار الأثبات.
وهل الأولى أن ترتبها على الموضوعات أو أن ترتبها على ألف وباء؟ نرى أنه على ألف باء أحسن، وذلك لأن ترتيبها على الموضوعات تختلف فيه كتب العلماء، تجد مثلا: ترتيب الحنابلة يفترق عن الشافعية لاسيما في المعاملات، بل إن نفس المذهب الواحد يختلف ترتيبه. ترتيب المتقدمين منهم والمتأخرين.
آفاق التيسير

مجلس 58
شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري (مفرغ)

القارئ :
قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :

27- حفْظُ العلْمِ كتابةً :
ابْذُل ْالْجَهْدَ في حِفْظِ العلْمِ ( حِفْظَ كتابٍ ) ؛ لأنَّ تقييدَ العلْمِ بالكتابةِ أمانٌ من الضياعِ ، وقَصْرٌ لمسافةِ البحْثِ عندَ الاحتياجِ ، لا سِيَّمَا في مسائلِ العِلْمِ التي تكونُ في غيرِ مَظَانِّها ، ومن أَجَلِّ فوائدِه أنه عندَ كِبَرِ السنِّ وضَعْفِ الْقُوَى يكونُ لديكَ مادَّةٌ تَسْتَجِرُّ منها مادَّةً تَكْتُبُ فيها بلا عَناءٍ في البَحْثِ والتَّقَصِّي .
ولذا؛ فاجْعَلْلك ( كُناشًا ) أو ( مُذَكِّرَةً ) لتقييدِ الفوائدِ والفرائدِ والأبحاثِ الْمَنثورةِ في غيرِ مَظَانِّها ، وإن اسْتَعْمَلْتَ غُلافَ الكتابِ لتَقييدِ مافيه من ذلك ؛ فحَسَنٌ ، ثم تَنْقُلُ ما يَجْتَمِعُ لك بعدُ في مُذَكِّرَةٍ ؛ مُرَتِّبًا له على الموضوعاتِ مُقَيِّدًا رأسَ المسألةِ ، واسمَ الكتابِ ، ورقْمَ الصفحةِ والمجلَّدِ ، ثم اكْتُبْ على ما قَيَّدْتَه : ( نُقِلَ ) ؛ حتى لايَخْتَلِطَ بما لم يُنْقَلْ كما تَكتُبُ : ( بلَغَ صفحةَ كذا ) فيما وَصَلْتَ إليه من قراءةِ الكتابِ حتى لا يَفُوتَك ما لم تَبْلُغْه قراءةً .
وللعلماءِ مؤَلَّفَاتٌ عدَّةٌ في هذا ؛ منها : ( بدائعُ الفوائدِ ) لابنِ القَيَّمِ و( خَبايَا الزوايا ) للزَّرْكَشيِّ ، ومنها : كتابُ ( الإغفالِ ) ، و( بَقَاياالْخَبَايا ) وغيرُها ، وعليه فَقَيِّدِ العِلْمَ بالكتابِ لا سِيَّمَا بدائعَ الفوائدِ في غيرِ مَظَانِّها ، وخَبَايَا الزوايا في غيرِ مَسَاقِها ، ودُرَرًا مَنثورةً تَراهَا وتَسْمَعُها تَخْشَى فَوَاتَها … وهكذا ؛ فإنَّ الْحِفْظَ يَضْعُفُ ، والنسيانَ يَعْرِضُ .قال َالشعبيُّ : ( إذا سَمِعْتَ شيئًا ؛ فاكْتُبْهُ ولو في الحائطِ) .رواه خَيثَمَةُ .
وإذا اجْتَمَعَ لديك ماشاءَ اللهُ أن يَجْتَمِعَ ؛ فرَتِّبْهُ في ( تَذْكِرَةٍ ) أو ( كُناشٍ ) على الموضوعاتِ ؛ فإنه يُسْعِفُكَ في أَضْيَقِ الأوقاتِ التي قد يَعْجِزُ عن الإدراكِ فيها كِبارُ الأثباتِ .
الشيخ :
هذه من آداب طالب العلم ؛ تقييد الفوائد الفرائد وكتابتها ، فإنّ الإنسان تمرّ به حال كتابته مسائل في غير مظانّها ، وتمرّ به مسائل وفوائد لا يتوقع مرورها عليه في ذلك الموطن ، وكذلك تمرّ على الإنسان معلومات غرائب بحيث تلفت ذهنه لفتا ، وتجرّ نفسه إلى تذكرها ومعرفتها ، والإنسان ينسى ، فيحسن به أن يقيّد هذه الفوائد سواء كانت غريبة عليه أو عجيبة لديه أو كانت في غير مواطن بحثها ، بحيث يسهل عليه مراجعتها ، والكتابة للعلم جاءت به الشريعة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "اكتبوا لأبي شاه" ، ويدل على هذا أنّ الله عز وجل قد كتب ما هو كائن إلى قيام الساعة ، ولم يكتف بذلك بكونه محفوظا.
وقال : جاء في الحديث: "أنّ الله عز وجل لما خلق الخلق كتب في كتاب فهو عنده ؛ أنّ رحمتي سبقت غضبي" وقد أُثرت كتابة عدد من الأحاديث عن جماعة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في عهد النبوة بإقراره صلى الله عليه وسلم ، إذا تقرر هذا ، فإنّ الكتابة تفيد إبعاد النسيان عن الإنسان ، وتذكيره بأدنى لفتة بما كان يعرفه في الوقت السابق ، وتعينه حال كبره وفترة نسيانه ، فإنّ الإنسان عند كبر سنه إذا كان قد وضع مادة علميّة تختصر له المعلومات ؛ فإنه بذلك يتمكّن من مراجعة هذا الجزء فيكون حافظا لعلمه.
ومن هنا أمر المؤلف بوضع مذكرة لتقييد الفوائد والفرائد والمسائل التي تُبحث في غير مظانّها ، ومن أنواع ذلك أن يكتب الإنسان هذه الكتابة في أول الكتب التي تمر عليه ، وينبغي فيه أن يُقيّد رأس المسألة في أول هذه الفائدة ثم ما نُقل منه من كتاب ورقم صفحته وجزئه ، ثم بعد ذلك إذا نقل هذه المعلومات التي في أول الكتاب وفي غلاف الكتاب إلى دفتره الأصلي ، بيّن أنها قد نُقلت إلى ذلك الدفتر حتى لا تختلط ما نُقل مما لم يُنقل ، وقد ذكر المؤلف أنّ هذه الطريقة استخدمها بعض أهل العلم فكانت سببا في شهرة كتبهم ، ومن ذلك كتاب (بدائع الفوائد) لابن القيم ، و(خبايا الزوايا) للزركشي.
في (بدائع الفوائد) نقل المؤلف ابن القيم رحمه الله فوائد متنوعة ، بعضها بلاغية ، وبعضها حديثية ، وبعضها نحوية ، وبعضها عقدية في هذا الكتاب.
وفي (خبايا الزوايا) اعتنى الزركشي بالمسائل الفقهية التي تُبحث في غير مظانّها.
ذكر المؤلف كلام الشعبي قال: (إنّ الحفظ يضعف ، والنسيان يعرض ، قال الشعبي: "إذا سمعت شيئا فاكتبه ولو في الحائط") وكان الشعبي من أكثر الناس حفظا ، وكان له قوة غريبة في الحفظ ، ومع ذلك أمر بالكتابة ، نعم.
آفاق التيسير
السؤال الأول : ما معنى الكناش ؟
الجواب : الكُنَّاش هو ما يسمى بالكشكول، وهو دفتر الفوائد.

آفاق التيسير 


تابع مجلس 58
1حديث أبي شاه أخرجه البخاري من حديث أَبُي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ:
"لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:" إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهَا لا تَحِلُّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَإِنَّهَا لا تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي فَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلا يُخْتَلَى شَوْكُهَا وَلا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلا لِمُنْشِدٍ وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُفْدَى وَإِمَّا أَنْ يُقِيدَ" فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّا نَجْعَلُهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"إِلا الإِذْخِرَ ".فَقَامَ أَبُو شَاهٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ : اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ "

البخاري:" اللقطة/2254 " -ومسلم :"الحج/1355 .
لراوي: أبو هريرة المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 2434- خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
الدرر السنية

قال ابن حجر : وَيُسْتَفَاد ..َ مِنْ قِصَّة أَبِي شَاه ( أكتبوا لأبي شاه ) أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ فِي كِتَابَة الْحَدِيث عَنْهُ ,
وَهُوَ يُعَارِض حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "- لا تكتبُوا عني . ومن كتب عني غيرَ القرآنِ فليمْحُه . وحدِّثوا عني ، ولا حرجَ . ومَن كذب علَيَّ - قال همامٌ أحسبُه قال - متعمِّدًا فليتبوأْ مقعدَه من النارِ"
الراوي: أبو سعيد الخدري المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 3004- خلاصة حكم المحدث: صحيح
الدرر السنية
وَالْجَمْع بَيْنهمَا أَنَّ النَّهْي خَاصّ بِوَقْتِ نُزُول الْقُرْآن خَشْيَة اِلْتِبَاسه بِغَيْرِهِ , وَالإِذْن فِي غَيْر ذَلِكَ .
أَوْ أَنَّ النَّهْي خَاصّ بِكِتَابَةِ غَيْر الْقُرْآن مَعَ الْقُرْآن فِي شَيْء وَاحِد وَالإِذْن فِي تَفْرِيقهمَا ,
أَوْ النَّهْي مُتَقَدِّم وَالإِذْن نَاسِخ لَهُ عِنْد الأَمْن مِنْ الِالْتِبَاس وَهُوَ أَقْرَبهَا مَعَ أَنَّهُ لا يُنَافِيهَا .
وَقِيلَ النَّهْي خَاصّ بِمَنْ خُشِيَ مِنْهُ الاتِّكَال عَلَى الْكِتَابَة دُون الْحِفْظ , وَالإِذْن لِمَنْ أُمِنَ مِنْهُ ذَلِكَ ..
قَالَ الْعُلَمَاء . كَرِهَ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ كِتَابَة الْحَدِيث وَاسْتَحَبُّوا أَنْ يُؤْخَذ عَنْهُمْ حِفْظًا كَمَا أَخَذُوا حِفْظًا , لَكِنْ لَمَّا قَصُرَتْ الْهِمَم وَخَشِيَ الأَئِمَّة ضَيَاع الْعِلْم دَوَّنُوهُ ..أهـ "فتح الباري" 1/208
الإسلام سؤال وجواب

وهناك الكثير من النصوص التي تدل على أن الكتابة تمت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبإذن منه.. منها:

"ما من أصحابِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحَدٌ أكثرَ حديثًا عنه مني ، إلا ما كان من عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو، فإنه كان يَكتُبُ ولا أكتُبُ ".
الراوي: أبو هريرة المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 113-خلاصة حكم المحدث:[صحيح]
الدرر السنية

- كُنتُ أَكْتبُ كلَّ شيءٍ أسمعُهُ مِن رسولِ اللَّهِ - صلَّى اللَّه عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ - أُريدُ حفظَهُ ، فنَهَتني قُرَيْشٌ وقالوا: أتَكْتُبُ كلَّ شيءٍ تسمعُهُ ورسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه علَيهِ وعلَى آلِهِ وسلَّمَ بَشرٌ يتَكَلَّمُ في الغضَبِ، والرِّضى، فأمسَكْتُ عنِ الكتابِ، فذَكَرتُ ذلِكَ إلى رسول اللَّهِ صلَّى اللَّه عليهِ وعلَى آلِهِ وسلَّمَ فأومَأَ بأصبعِهِ إلى فيهِ، فقالَ: "اكتُب فوالَّذي نَفسي بيدِهِ ما يَخرُجُ منهُ إلَّا حقٌّ " . الراوي: عبدالله بن عمرو المحدث: الوادعي - المصدر: الصحيح المسند - الصفحة أو الرقم: 800- خلاصة حكم المحدث: صحيح
الدرر السنية

وسمّى عبد الله بن عمرو صحيفته التي جمع فيها كتابته هذه "الصادقة"، واشتهرت هذه التسمية بين أهل العلم
فقد أورد الخطيب البغدادي في شأن صحيفة عبد الله بن عمرو ما يلي : " وكان عبد الله بن عمرو يسمي صحيفته التي كتبها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادقة . وكان يقول : " هذه الصادقة هذه ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليس بيني وبينه أحد ، إذا سلمت لي هذه ، وكتاب الله تبارك وتعالى والوهط - أرض تصدق بها عمرو بن العاص كان يقوم عليها - فما أبالي ما كانت عليه الدنيا "
مجلة البحوث الإسلامية

والوهط هي أرض تصدق بها عمرو بن العاص (رضي الله عنه). كان عبد الله -رضي الله عنه- يقوم على رعايتها، وهذه الأرض كانت بستانا بالطائف

- " لما حُضِرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال، وفي البيتِ رجالٌ فيهم عمرُ بنُ الخطابِ، قال:" هلمَّ أكتبْ لكم كتابًا لن تضلوا بعدَه". قال عمرُ: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم غلبه الوجعُ، وعندَكم القرآنُ . فحسبنا كتابُ اللهِ. واختلفَ أهلُ البيتِ، اختصموا: فمنهم من يقولُ: قرِّبوا يكتبْ لكم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كتابًا لن تضلوا بعدَه ، ومنهم من يقولُ ما قال عمرُ، فلما أكثروا اللغطَ والاختلافَ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "قوموا عني ".
الراوي: عبدالله بن عباس المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 7366 -خلاصة حكم المحدث:[صحيح]
الدرر السنية


هو من فضائل عمر وفقهه وفهمه الثاقب لدين الله، ولو لم يوافق رأيه الصواب- كما وقع له في عدة مواقف معروفة- لما تنازل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكتابة مهما كان الأمر.
وننقل لك هنا بعض ما قاله أهل العلم في هذا الموضوع، فقد جاء في شرح مسلم للإمام النووي قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم همَّ بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة أو أوحي إليه بذلك، ثم ظهر له أن المصلحة تركه أو أوحي إليه بذلك ونسخ ذلك الأمر الأول، وأما كلام عمر رضي الله عنه فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره لأنه خشي أن يكتب صلى الله عليه وسلم أمورا ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها؛ لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، فقال عمر: حسبنا كتاب الله؛ لقوله تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شيء، وقوله: اليوم أكملت لكم دينكم، فعلم أن الله تعالى أكمل دينه فأمن الضلال على الأمة، وأراد الترفيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه. قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في أواخر كتابه دلائل النبوة: إنما قصد عمر التخفيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غلبه الوجع، ولو كان مراده صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركه لاختلافهم ولا لغيره؛ لقوله تعالى: بلغ ما أنزل إليك، كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه.
إسلام ويب

أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر بالكتابة إلى الضحاك بن سفيان الكلابي أن يُورِّثَ امـرأة أشيم الضباني من ديته.
- كانَ عمرُ بنُ الخطَّابِ يقولُ : الدِّيةُ للعاقلَةِ ، ولا ترِثُ المرأةُ مِن ديَةِ زَوجِها شيئًا ، حتَّى قالَ لَهُ الضَّحَّاكُ بنُ سُفيانَ : كتبَ إليَّ رسولُ اللَّهِ صلّى اللَّه علَيهِ وسلَّمَ أن أُوَرِّثَ امرأةَ أشْيَمَ الضِّبابيِّ مِن ديَةِ زَوجِها
الراوي: سعيد بن المسيب - المحدث: الألباني - المصدر: صحيح أبي داود - الصفحة أو الرقم: 2927- خلاصة حكم المحدث:صحيح
الدرر السنية 

28- حِفْظُ الرِّعايةِ
*ابْذُل الوُسْعَ في حِفْظِ العلْمِ ( حفْظَ رِعايةٍ ) بالعمَلِ والاتِّباعِ ؛ قالَ الْخَطيبُ البَغداديُّ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( يَجِبُ على طالِبِ الحديثِ أن يُخْلِصَ نِيَّتَه في طَلَبِه ، ويكونَ قَصْدُه وَجْهَ اللهِ سبحانَه ، ولْيَحْذَرْ أن يَجْعَلَه سَبيلًا إلى نَيْلِ الأعراضِ ) ، وطريقًا إلى أَخْذِ الأعواضِ ؛ فقد جاءَ الوعيدُ لِمَن ابْتَغَى ذلك بعِلْمِه

شرح الشيخ العثيمين 

- جاء الوعيد لمن طلب علما وهو يبتغي به وجه الله لغير الله لم يجد عرف الجنة، أي ريحها،
*"
مَن تعلَّمَ علمًا مِمَّا يُبتَغى بِهِ وجهُ اللَّهِ ، لا يتعلَّمُهُ إلَّا ليُصيبَ بِهِ عرضًا منَ الدُّنيا ، لم يجِدْ عَرفَ الجنَّةِ يومَ القِيامَةِ يَعني ريحَها" الراوي: أبو هريرة المحدث: الألباني - المصدر: صحيح ابن ماجه - الصفحة أو الرقم: 206 - خلاصة حكم المحدث: صحيح الدرر
وما ذكره الخطيب البغدادي- رحمه الله- حق أن يخلص الإنسان النية في طلب العلم بأن ينوي امتثال أمر الله تعالى والوصول إلى ثواب طلب العلم وحماية الشريعة والذب عنها ورفع الجهل عن نفسه ورفع الجهل عن غيره، كل هذه تدل على الإخلاص، ولا يكون قصده نيل الأعراض كالجاه والرئاسة والمرتبة، أو طريقا إلى أحد الأعواض كالمرتبات لا يريد هذا.
فإذا قال قائل: كل الذين يطلبون العلم في الكليات إنما يقصدون الشهادة ولذلك نرى بعضهم يريد الوصول إلى هذه الشهادات ولو بالباطل كالشهادات المزيفة والغش وما أشبه ذلك. فيقال يمكن للإنسان أن يريد الشهادة في الكلية مع إخلاص النية وذلك أن يريد الوصول إلى منفعة الخلق لأن من لم يحمل الشهادة لا يتمكن من أن يكون مدرسا أو مديرا أو ما أشبه ذلك مما يتوقف على نيل الشهادة.
فإذا قال: أنا أريد أن أنال الشهادة لأتمكن من التدريس في الكلية مثلا، ولولا هذه الشهادة ما درست. أريد الشهادة لأن أكون داعية، لأننا في عصر لا يمكن أن يكون الإنسان فيه داعيا إلى الله إلا بالشهادة.
فإذا كانت هذه نية الإنسان فهي نية حسنة لا تضر إن شاء الله هذا في العلم الشرعي. أما في العلم الدنيوي فانو فيه ما شئت مما أحله الله. لو تعلم الإنسان الهندسة وقال أريد أن أكون مهندسا ليكون الراتب 10 آلاف ريال. فهل هذا حرام؟
لا.. لماذا؟ لأن هذا علم دنيوي، كالتاجر يتاجر من أجل أن يحصل على ربح.

*ولْيَتَّقِّ المفاخَرَةَ والْمُباهاةَ به ، وأن يكونَ قَصْدُه في طَلَبِ الحديثِ نَيْلَ الرئاسةِ واتِّخاذَ الأتباعِ وعَقْدَ المجالِسِ ؛ فإنَّ الآفَةَ الداخلةَ على العُلماءِ أَكْثَرُها من هذا الوجْهِ .
- وقد جاء الوعيد فيمن طلب ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء. فأنت لا تقصد بعلمك المفاخرة والمباهاة، وأن يكون قصدك أن تصرف وجوه الناس إليك وما أشبه ذلك. هذه نيات سيئة، وهي ستحصل لك مع النية الصالحة إذا نويت نية صالحة، صرت إماما، صرت رئيسا يشير الناس إليك وأخذوا بقولك.
*ولْيَجْعَلْ حِفْظَه للحديثِ حِفْظَ رعايةٍ لا حِفْظَ روايةٍ ؛ فإنَّ رُواةَ العُلومِ كثيرٌ ، ورُعاتَها قَليلٌ ، ورُبَّ حاضرٍ كالغائبِ ، وعالِمٍ كالجاهِلِ ، وحاملٍ للحديثِ ليس معه منه شيءٌ إذ كان في اطِّرَاحِه لِحُكْمِهِ بِمَنْزِلَةِ الذاهبِ عن مَعرفتِه وعِلْمِه .
-

ومعنى «رعاية» أن يفقه الحديث ويعمل به ويبينه للناس، لأن مجرد الحفظ بدون فقه للمعنى ناقص جدا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :«رب مبلغ أوعى من سامع» .
والمقصود بالأحاديث أو القرآن الكريم هو فقه المعنى حتى يعمل به الإنسان ويدعو إليه، ولكن الله سبحانه وتعالى بحكمته جعل الناس أصنافا، منهم راو فقط ولا يعرف من المعنى شيئا إلا شيء واضح بين لا يحتاج الناس إلى مناقشته فيه، لكنه في الحفظ والثبات قوي جدا، ومن الناس من أعطاه الله فهما وفقها لكنه ضعيف الحفظ إلا أنه يفجر ينابيع العلم من النصوص إلا أنه ضعيف الحفظ، ومن الناس من يعطيه الله الأمرين: قوة الحفظ وقوة الفقه، لكن هذا نادر، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلا لما أتاه الله تعالى من العلم والحكمة مطر أصاب أرضا فصارت الأرض ثلاثة أقسام:
قسم: قيعان ابتلعت الماء ولم تنبت الكلأ، فهذا مثل من أتاه الله العلم والحكمة ولكنه لم يرفع به رأسا ولم ينتفع به ولم ينفع به غيره.
والقسم الثاني- أرض أمسكت الماء ولكنها لم تنبت الكلأ. هؤلاء من الرواة، امسكوا الماء فسقوا الناس واستقوا وزرعوا، لكن هم أنفسهم ليس عندهم إلا حفظ هذا الشيء.
والأرض الثالثة- أرض رياض قبلت الماء فأنبتت العشب والكلأ فانتفع الناس وأكلوا وأكلت مواشيهم. وهؤلاء الذين من الله عليهم بالعلم والفقه، فنفعوا الناس وانتفعوا به.


*ويَنبغِي لطالِبِ الحديثِ أن يَتمَيَّزَ في عامَّةِ أمورِه عن طرائقِ العَوَامِّ باستمعالِ آثارِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أَمْكَنَه ، وتوظيفِ السُّنَنِ على نفسِه ؛ فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } اهـ .

«ينبغي» أحيانا يراد بها الوجوب، لكن الشائع في استعمالها أنها للندب. وهذا في الأمور التعبدية ظاهر. أنه ينبغي للإنسان أن يتميز باستعمال آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمور الاتفاقية التي وقعت اتفاقا من غير قصد هل يشرع أن يتبعها الإنسان أم لا ؟
كان ابن عمر رضي الله عنه وعن أبيه يتبع ذلك، حتى أنه يتحرى المكان الذي نزل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وبال فيه، فنزل ويبول. وإن لم يكن محتاجا للبول.
كل هذا من شدة تحريه لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لكن هذا قد خالف أكثر الصحابة فيه ورأوا أن ما وقع اتفاقا فليس بمشروع اتباعه للإنسان. ولهذا لو قال قائل: أيسن لنا الآن ألا نقدم مكة في الحج إلا في اليوم الرابع لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قدم في اليوم الرابع؟
الصحيح أنه لا يشرع لأنه وقع اتفاقا لا قصدا.
ما وقع عادة فهل يشرع لنا أن نتبعه فيه؟ مثلا: العمامة والرداء والإزار. نقول: نعم يشرع أن نتبعه فيه.
لكن ما معنى الاتباع. هل معناه اتباعه في عين ما لبس؟ أو اتباعه في جنس ما لبس؟ الجواب: الثاني. لأنه لبس ما اعتاده الناس في ذلك الوقت.
وعلى ذلك نقول: السنة لبس ما يعتاده الناس، ما لم يكن محرما، فإن كان محرما وجب اجتنابه ما وقع على سبيل التشهي فهل نتبعه فيه. كان عليه الصلاة والسلام يحب الحلوى، يحب العسل، يتتبع الدباء في الأكل. هل نتبعه في ذلك.
قال أنس رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء- يعني القرع- في الطعام، فمازلت أتتبعها منذ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبعها.
وعلى هذا فهل نقول من المشروع أنك تتبع الدباء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتبعه أم لا؟
الظاهر أن هذا الاتباع فيه أحرى من الاتباع فيما سبقه- وهو ما وقع اتفاقا- لأن هذا لم يقع اتفاقا، حيث أننا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين يتتبعها أنه يتتبعها قصدا لا اتفاقا، ولا شك أن الإنسان إذا تتبع الدباء من على ظهر القصعة وهو يشعر أنه يفعل كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لا شك أن هذا يوجب له محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع آثاره وحينئذ نقول: إذا تتبعت هذا فإنك على الخير، وقد يكون في الدباء منفعة طبية، تسهل وتلين وتكون قدما للطعام.
قوله «باستعمال آثار» هذه العبارة فيها شيء من الركاكة، ولو قال «باتباع آثار» كما عبر بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية قال: من أصول أهل السنة والجماعة اتباع آثار النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا». وهذا هو اللفظ المطابق للقرآن ." قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ "آل عمران31 .
أما استعمال الآثار فقد يتوهم واحد أن استعمال ثيابه وعمامته وما أشبه ذلك. لكن إذا قلنا اتباع آثار كان ذلك أحسن وأوضح.

وقوله :«توظيف السنن على نفسه» يراد بذلك أن يطبق توظيفها، بمعنى تطبيق السنن على نفسه لأن الله يقول: "
"لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ" (سورة الأحزاب: 21).
ولو ذكر آخر الآية لكان أحسن ما هي "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً "الأحزاب21

آفاق التيسير

القارئ :
قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا:
28- حِفْظُ الرِّعايةِ :
ابْذُل الوُسْعَ في حِفْظِ العلْمِ ( حفْظَ رِعايةٍ ) بالعمَلِ والاتِّباعِ ؛ قالَ الْخَطيبُ البَغداديُّ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( يَجِبُ على طالِبِ الحديثِ أن يُخْلِصَ نِيَّتَه في طَلَبِه ، ويكونَ قَصْدُه وَجْهَ اللهِ سبحانَه ، ولْيَحْذَرْ أن يَجْعَلَه سَبيلًا إلى نَيْلِ الأعراضِ ) ، وطريقًا إلى أَخْذِ الأعواضِ ؛ فقد جاءَ الوعيدُ لِمَن ابْتَغَى ذلك بعِلْمِه .
ولْيَتَّقِّ المفاخَرَةَ والْمُباهاةَ به ، وأن يكونَ قَصْدُه فيطَلَبِ الحديثِ نَيْلَ الرئاسةِ واتِّخاذَ الأتباعِ وعَقْدَ المجالِسِ ؛ فإنَّ الآفَةَ الداخلةَ على العُلماءِ أَكْثَرُها من هذا الوجْهِ .
ولْيَجْعَلْ حِفْظَه للحديثِ حِفْظَ رعايةٍ لا حِفْظَ روايةٍ ؛ فإنَّ رُواةَ العُلومِ كثيرٌ ، ورُعاتَها قَليلٌ ، ورُبَّ حاضرٍ كالغائبِ ، وعالِمٍ كالجاهِلِ ، وحاملٍ للحديثِ ليس معه منه شيءٌ إذ كان في اطِّرَاحِه لِحُكْمِهِ بِمَنْزِلَةِ الذاهبِ عن مَعرفتِه وعِلْمِه .
ويَنبغِي لطالِبِ الحديثِ أن يَتمَيَّزَ في عامَّةِ أمورِه عن طرائقِ العَوَامِّ باستعمالِ آثارِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أَمْكَنَه ، وتوظيفِ السُّنَنِ على نفسِه ؛ فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} اهـ .
الشيخ:
الأدب الثامن والعشرون من آداب طالب العلم أن يحفظ الطالب العلم من خلال رعايته، ورعاية العلم على أنواع :
أولها: أن يرعاه بالعمل ، بحيث كلما علم مسألة عمل بها ، وهذا يكون به قد عمل بعلمه ، وترك العمل بالعلم من أسباب غضب الله تعالى كما في سورة الفاتحة ، وقد جاء في الحديث أنّ رجلا كان يأمر الناس بالمعروف فألقي في نار جهنم على أقتابه فقيل له في ذلك : ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، قال : كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه.
وكثير من أهل العلم قد حذّر من هذا ، وجاء في حديث في السنن أنّ من لم يعمل بعلمه يُعذّب قبل عابد الوثن.
الطريقة الثانية لرعاية العلم : أن يكون مقصد الإنسان وجه الله والدار الآخرة ، فإنك إذا قصدت ذلك ، بارك الله في علمك ، وجعلك تحفظه ويبقى في ذهنك.
أما من قصد الدنيا، فإن الدنيا زائلة ، وما عُمل لله يبقى ، وما كان لغيره يفنى.
الطريقة الثالثة : الدعوة إلى ما لديك من العلم ، فإنّ هذا يُبقي العلم عندك ، فمتى كنت تدعو الناس ، وتُدَرِّسُهم ، وتعلمهم ، بقي العلم لديك ، ومتى أهملت ما لديك من العلم فلم تُراعي فيه ذلك ، ولم تدع إليه ، فإنه مع مرور الزمن ستنساه ، ولن يبقى عندك.
الأمر الرابع مما تحصل به رعاية العلم وحفظه : حفظ العلم رعايةً له ، ترك المفاخرة به ، فإنّ من فاخر بالعلم عاقبه الله بزوال ذلك العلم منه.
وكثير من الناس فاخر بما لديه من العلم فكان ذلك سببا من أسباب زوال العلم عنه ، لأنّ الله جل وعلا جعل من سيمة العلماء التواضع ، فمن فاخر بالعلم وترفّع به وقال : علمي أحسن من علم غيري ، وضعه الله جل وعلا، وانظر لقصة موسى عليه السلام لما قيل له: هل على الأرض أحد أعلم منك؟ فقال : نعم ، قال الله عز وجل : بلى عبدي الخضر أعلم منك.
الطريقة الخامسة من طرق حفظ العلم من جانب الرعاية : عدم الاستهزاء بالجهّال والضحك على تصرفاتهم ، فإنّ الإنسان متى استهزأ بالآخرين بكونهم لا يعلمون ، عاقبه الله بسلب العلم منه.
وقد جاء في الحديث : "لا تُظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك" ، كما ورد ذلك في سنن الترمذي.
كذلك من طرائق حفظ العلم ورعايته : حفظ مكانة أهل العلم ، فإنك عندما تنتقص غيرك من العلماء فإن ذلك يكون سببا لعدم تمكينك من تحصيل العلم ، فإنّ الله جل وعلا جعل حملة العلم لهم مكانة وحرمة ، وجعل المعتدي لهم بالأذية يعاقب بالعقوبات الدنيوية والأخروية ، كما جاء في الحديث : "من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب" ، ولذلك يحفظ الإنسان سلا لسانه من الكلام في علماء الشريعة.
قال المؤلف: (وليتق المفاخرة والمباهاة به) يعني وصف النفس بالعلو لكونها قد اتصفت بالعلم.
(وأن يكون قصده في طلب الحديث نيل الرئاسة) وإنما ينوي بطلبه للحديث ، رضا رب العالمين ودخول الجنة.
قال : (وليجعل حفظه للحديث حفظ رعاية) وهذه وسيلة أخرى من وسائل حفظ العلم بالرعاية ، ألا وهي : التأمل والتدبر والتفكر في العلم الذي تعلّمته ، لتستفيد منه وتستخرج منه الفوائد ، فإنّ من يحفظ العلوم كُثر ، لكن من يستفيد منها ويأخذ منها الفوائد قليل ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : "رب حامل فقه ليس بفقيه ، رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه".
قال : (ورب) يعني يمكن أن يوجد حاضر يكون كالغائب ، بل قد يكون الغائب أكثر فهما وحفظا ومعرفة وإدراكا من الحاضر.
وفي مرّات يكون هناك عالم يحفظ المرويّات وتكون منزلته بمنزلة الجاهل لا يستفيد من ذلك العلم ، بل قد تكون منزلته أدنى من منزلة الجاهل.
قال : (ورب حامل للحديث ليس معه منه شيء ، إذا كان في اطراحه لحكمه) يعني ترك حكم الحديث.
(بمنزلة الذاهب عن معرفته وعلمه) يكون كالجاهل.
ونقول الصواب أنّ حامل العلم الذي لا يعمل به ، أقل درجة من الشخص الذي لا يحمل ذلك العلم ، لأنه إذا كان عندك عينان تتمكن من الإبصار بهما ، ثم بعد ذلك تغلق عينيك وتكون ممن يضرب في الأعمدة والجدران ، حال من كان كذلك أقل من الأعمى الذي يضرب في الأعمدة والجدران لعجزه عن الرؤية.
قال: (وينبغي لطالب الحديث أن يتميّز في عامّة أموره عن طرائق العوام ، باستعمال آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمكنه ، وتوظيف السنن على نفسه بالعمل ، فإنّ الله تعالى يقول :"لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا" ، نعم.

آفاق التيسير 


29– تَعَاهُدُ المحفوظاتِ :

القارئ:
تَعاهَدْ عِلْمَك من وَقتٍ إلى آخَرَ ؛ فإنَّ عَدَمَ التعاهُدِ عُنوانُ الذهابِ للعِلْمِ مهما كان
شرح الشيخ العثيمين:

الشيخ:

 فإن عدم التعاهد عنوان الذهاب، يعني دليل الذهاب ، ولكن لو عبر بقوله :«فإن عدم التعاهد سبب الذهاب للعلم» لكان أولى لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها».
"تعاهَدوا هذا القرآنَ . فوالذي نفسُ محمدٍ بيدِه ! لهو أشَدُّ تفَلُّتًا من الإبِل في عُقُلِها . ولفظُ الحديثِ لابنِ برادٍ ".الراوي : أبو موسى الأشعري عبدالله بن قيس المحدث : مسلم المصدر :صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 791 خلاصة حكم المحدث : صحيح الدرر السنية
فيدل ذلك على أن عدم التعاهد سبب للنسيان، وليس عنوان الذهاب للعلم، لأن عنوان الشيء يكون بعد الشيء. وسبب الشيء يكون قبل الشيء، وعدم التعاهد سابق على عدم البقاء ، أي بقاء العلم، والخطب في هذا يسير إذا كان المعنى مفهوما ، فالأمر يسير بالنسبة للألفاظ .القارئ:

عن ابنِ عمرَ رَضِي اللهُ عنهما أنَّ رسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ :(( إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعْقَلَةِ ، إن عاهدَ عليها أَمْسَكَها وإن أَطْلَقَها ذَهَبَتْ )). رواه الشيخانِ ، ومالِكٌ في ( الْمُوَطَّأِ ) .
- إنما مَثَلُ صاحبِ القرآنِ كمَثَلِ صاحبِ الإبلِ المعقلةِ : إن عاهَد عليها أمسَكها ، وإن أطلَقها ذهبَتْالراوي : عبدالله بن عمر المحدث : البخاري المصدر :صحيح البخاري- الصفحة أو الرقم: 5031 -خلاصة حكم المحدث : [صحيح]الدرر السنية

قالَ الحافظُ ابنُ عبدِ البَرِّ رَحِمَه اللهُ : ( وفي هذا الحديثِ دليلٌ على أنَّ مَن لم يَتَعَاهَدْ عِلْمَه ذَهَبَ عنه ، أيْ مَنْ كان ؛ لأنَّ عِلْمَهم كان ذلك الوَقْتَ القرآنَ لا غيرَ ، وإذا كان القرآنُ الْمُيَسَّرُ للذكْرِ يَذْهَبُ إن لم يُتَعَاهَدْ ؛ فما ظَنُّكَ بغيرِه من العلومِ المعهودةِ ؟! وخيرُ العلومِ ما ضُبِطَ أَصْلُه ، واسْتُذْكِرَ فَرْعُه ، وقادَ إلى اللهِ تعالى ودَلَّ على ما يَرضاهُ ) .

الشيخ:
( وفي هذا الحديثِ دليلٌ على أنَّ مَن لم يَتَعَاهَدْ عِلْمَه ذَهَبَ عنه ) وهذا واضح أن من لم يتعاهد حفظه نسي وكما أن هذا في المعقول فهو أيضا في المحسوس فمن لم يتعاهد الشجرة بالماء تموت، أو تذبل ، وكذلك من لم يتعاهد أغصانها بالشتل ، تتكاثر ويفسد بعضها بعضا فلا تستقيم وكذلك العلوم
(خيرُ العلومِ ما ضُبِطَ أَصْلُه ، واسْتُذْكِرَ فَرْعُه ) يعني كأنه يرد على القواعد والأصول وأنا أحثكم دائما عليهما عليكم بالقواعد والأصول لأن المسائل الفقهية المتفرعة كتلاقط الجراد من أرض صحراء تضيع عليك لكن الذي عنده علم بالأصول هذا هو العالم من فاتته الأصول فاته الوصول.

القارئ:
وقالَ بعضُهم ( كلُّ عِزٍّ لم يُؤَكَّدْ بعِلْمٍ فإلى ذُلٍّ مَصيرُه ) اهـ .
الشيخ:
يعني غالبا ، وإلا فقد يكون الإنسان عزيزا بماله وإنفاقه ونفع الناس به فيبقى عزيزا إلى أن يموت ولكن في الغالب أن العز الذي لم يأكد بالعلم أنه يزول.
آفاق التيسير

شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري

لقارئ :
قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
29- تَعَاهُدُ المحفوظاتِ :
تَعاهَدْ عِلْمَك من وَقتٍ إلى آخَرَ ؛ فإنَّ عَدَمَ التعاهُدِ عُنوانُ الذهابِ للعِلْمِ مهما كان .
عن ابنِ عمرَ رَضِي اللهُ عنهما أنَّ رسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ : (( إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعْقَلَةِ - قال الشيخ مصححا : الـمُعَقَّلَة كلاهما مشهور الـمُعَقَّلَة و الْمُعْقَلَةِ والـمُعَقَّلَة أشهر يعني المربوطة أقدامها ، يقومون بربط قدمي الإبل ، البعير من أجل ألا يتمكن من الهروب -، إن عاهدَ عليها أَمْسَكَها وإن أَطْلَقَها ذَهَبَتْ )).رواه الشيخانِ ، ومالِكٌ في ( الْمُوَطَّأِ) .
قال َالحافظُ ابنُ عبدِ البَرِّ رَحِمَه اللهُ : ( وفي هذا الحديثِ دليلٌ على أنَّ مَن لم يَتَعَاهَدْ عِلْمَه ذَهَبَ عنه ، أيْ مَنْ كان ؛ لأنَّ عِلْمَهم كان ذلك الوَقْتَ القرآنَ لا غيرَ ، وإذا كان القرآنُ الْمُيَسَّرُ للذكْرِ يَذْهَبُ إن لم يُتَعَاهَدْ ؛ فما ظَنُّكَ بغيرِه من العلومِ المعهودةِ ؟! وخيرُ العلومِ ما ضُبِطَ أَصْلُه ، واسْتُذْكِرَ فَرْعُه ، وقادَ إلى اللهِ تعالى ودَلَّ على ما يَرضاهُ ) اهـ . وقالَ بعضُهم ( كلُّ عِزٍّ لم يُؤَكَّدْ بعِلْمٍ فإلى ذُلٍّ مَصيرُه ) اهـ .
الشيخ :
هذا هو الأدب التاسع والعشرون من آداب طالب العلم ؛ تعاهد المحفوظات :
بحيث يكرر الإنسان ما يحفظه من وقت لآخر ، سواء كان هذا المحفوظ من كتاب الله عز وجل الذي ينبغي لطالب العلم أن يجعل له وردا يوميا من كتاب الله ، ولا ينبغي أن يقل ورده عن جزء في اليوم ليختم في كل شهر.
وهكذا يتعاهد ما يحفظه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون بذلك قد تمكن من حفظ هذه الأحاديث وتمكن بذلك من أن يكون داعيا إلى الله منطلقا في دعوته من النصوص الشرعية كتابا وسنة.
وهكذا يتعاهد ما يحفظه من فنون أهل العلم ومتونهم ، فإنك إذا لم تتعاهد هذه المحفوظات فإنها ستذهب ، فإذا كان القرآن مع عظمه ومع كونه ميسرا للذكر ، كما قال تعالى : ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) إلا أنه مع ذلك إذا لم يتعاهده المرء فإنه يفوت ويُنسى.
فإنّ الله جل وعلا يغار على قلب العبد ، فإذا صرف العبد قلبه في تذكر محفوظاته ، ومن أولاها : كتاب الله ، فإنه حينئذ يبقى هذا المحفوظ ، وإذا كان القلب لا يشتغل بذكر الله ولا بقراءة كتابه ، غار الله على كتابه فلم يجعله باقيا في قلب ذلك العبد ، دلّ على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : "تعاهدوا القرآن فلهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها"
وحديث ابن عمر : "إنما مثل صاحب القرآن –يعني حافظ القرآن- كمثل صاحب الإبل الـمُعَقّلَة –يعني المربوطة بالأقدام- إن عاهد عليها –يعني تفقّد هذا الرباط تمكن من إمساكها- وإن أطلقها .." ولم يربطها ولم يعقلها فإنّ هذه الإبل ستذهب وستكون من الإبل الشوارد.
ونقل المؤلف كلام الحافظ ابن عبد البر وهو هو مكانة ومنزلة علما وفضلا :
(قال: "وفي هذا الحديث دليل على أنّ من لم يتعاهد علمه) يعني لم يكرره ، ولم يعده مرة بعد أخرى ، سواء كانت الإعادة بقراءته أو بتكرار تدريسه أو بقراءة الناس عليه ذلك العلم.
(فإنّ من لم يتعاهد علمه ذهب عنه أي من كان ، لأنّ علمهم كان ذلك الوقت القرآن لا غير) لأنه هو أساس العلوم ، ويبدو أنّ السنة أيضا كانت كذلك ، لكن السنة قد يعتبرها بعضهم تابعة أو مفسّرة، وقد يعتبرها بعضهم دليلا مستقلا.
(وإذا كان القرآن الميسّر للذكر يذهب إن لم يُتعاهد فما ظنّك بغيره من العلوم المعهودة) والعلوم لها أصول ، متى ضبطت الأصل ، ضبطت ما يترتب عليه من الفروع ، فاضبط الأصل واحفظه حفظا كاملا ، وبذلك تكون قد عرفت تلك الفروع وعرفت الرابط بينها ، ومن ضبط الأصل واستذكر الفرع ، بنية التقرب لله حصل حينئذ على رضا رب العالمين.
ثم ذكر قول بعضهم :
(كل عز لم يؤكد بعلم ، فإلى ذل مصيره) وذلك أنّ أيّ عز إذا لم يكن معه علم يقيد تصرفات صاحب ذلك العز بقيود الشريعة ، فإنّ الله جل وعلا سيعاقبه بسلب تلك النعمة ، لأنّ الله تعالى يقول : "لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ"إبراهيم 7 فمثلا : عز المال ، من كان عنده مال عزّ به ، فإن سار فيه على موجب الشريعة ، وعلى طرائقها فإنه حينئذ ستستمر تلك النعمة ، وسيبقى عزّه ، أما إذا لم يؤكد هذه بعلم وأصبح يتصرف فيها خبط عشواء فإنه حينئذ عمّا قريب في الدنيا سيزول عنه ذلك المال ، مهما كان صاحبه.
المثال الثاني : من كان عنده عز متعلق بمكانة وجاه ، فإن كان يصرفها ويصرفها في علم بقيت هذه النعمة ، وإن لم يكن له علم فإنها ستسلب منه هذه النعمة ، وسيصير إلى الذل ، وهكذا أيضا في بقية الأسباب المؤديّة إلى العز ، فإذا لم تؤكد بعلم ستئول بالإنسان إلى ذل ، وأنتم تشاهدون هذا في زمانكم ، تأملوا وتجدوه واضحا جليا.
انظر من كان عنده مال فعمل فيه بالشرع وأنفق منه في الخير بارك الله له في ماله ، وأبقى عزّه.
ومن أفسده ماله ثم أصبح يخبط بها خبط عشواء ، فإنه عما قريب سيفتقر ، وكم من إنسان شاهدتموه كان صاحب مال وعز ومكانة ثم بعد ذلك افتقر ، وشاهِدُ ذلك في كتاب الله قصة قارون.
وهكذا أيضا من كان عزه بوظيفة أو بعمل أو بجاه أو بمكانة أو بمنزلة أو بغير ذلك من الأسباب التي يعزّ الإنسان بها ، إذا لم يؤكّد ذلك العز بعلم ، فإنه عمّا قريب سيصير إلى ذلّ.
لعلنا نقف على هذا.
نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإيّاكم العلم النّافع والعمل الصالح اللهم أدبنا بآداب طلاب العلم اللهم أكسبنا العلم واجعلنا ممن يعمل به اللهم ياحي يا قيوم بارك لنا في علمنا وفي فهمنا وفي قدراتنا وفي حواسنا وفي أموالنا وفي أولادنا وفي أزواجنا وفي سائر أمورنا اللهم أصلح حال الأمة وردهم إليك ردا جميلا اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لما تحب وترضى اللهم وفق ولاة أمورنا لكل خير و اجعلهم من أسباب الهدى والتقى والصلاح والسعادة هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

سؤال : أحسن الله إليكم ....
الشيخ : من فضل الله عز وجل على العباد أن يسر لهم سبل طلب العلم ، وإذا كان العبد في زماننا لا يجد في قريته من يتصف بهذه الصفات أمكنه أن ينتقل ولو انتقالا مؤقتا ، خصوصا في زماننا هذا الذي توفرت فيه وسائل الإنتقال هذه السيارات ، وهذه طائرات ، وهذه المركوبات ، وهذه وسائل اتصال حديثة تمكن الإنسان بالإتصال بالعلماء ، وبإمكان الإنسان أن يستفيد رفقة صالحة بهذه الوسائل الحديثة للاتصال ، كم من صديقين تواصيا على طلب العلم من خلال هاتف أو من خلال انترنت أو غيرها .

سؤال : أحسن الله إليكم ...
الشيخ : من المعلوم أنّ المرأة لا يجوز لها أن تسافر بدون محرم لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم) وسفر النساء مع محارمهن وارد من عهد النبوة ، و كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، وكذلك كما تقدم في وسائل الإتصال الحديثة ما يتمكن به النساء من التقرب لله عز وجل بطلب العلم من خلاله.

سؤال : أحسن الله إليكم ...
الشيخ : بعض الناس يقصر في حق المتأخرين ويقول إنهم لن يتمكنوا أن يأتوا بفائدة جديدة ويقولون ما ترك الأول للآخر ، يعني أنّ الأوائل قد استنفدوا جميع الفوائد وهذا كلام خاطئ ، بل هناك فوائد كثيرة يلهمها الله جل وعلا لمن جاء في الزمان المتأخر.

سؤال : أحسن الله إليكم ...
الشيخ : المقصود بهذا بأنّ من كان عنده همة عالية فإنّ الهمة العالية ستحركه إلى المقاصد والأهداف العالية ، ومن فقدت منه الهمة العالية فسيكون ذلك سالبا للمنافع والعلوم والمراتب النافعة والعالية.
نسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لخيري الدنيا والآخرة هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.





30– التَّفَقُّهُ بتخريجِ الفروعِ على الأُصولِ :

من وراءِ الفِقْهِ : التَّفَقُّهُ ، ومُعْتَمِلُه هو الذي يُعَلِّقُ الأحكامَ بِمَدارِكِها الشرعيَّةِ .
وفي حديثِ ابنِ مسعودٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ : أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ : (( نَضَّرَ اللهُ امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا ، فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ )) .
- نضَّرَ اللَّهُ امرأً سمعَ منَّا حديثًا فحفظَهُ حتَّى يبلِّغَهُ فربَّ حاملِ فقْهٍ إلى من هوَ أفقَهُ منْهُ وربَّ حاملِ فقْهٍ ليسَ بفقيهٍ

  الراوي : زيد بن ثابت المحدث : الألباني
المصدر : صحيح أبي داود الصفحة أو الرقم: 3660 خلاصة حكم المحدث : صحيح
الدرر السنية
- نضَّرَ اللَّهُ عبدًا سمعَ مقالتي فحفِظَها ووعاها وأدَّاها فربَّ حاملِ فقهٍ غيرِ فقيهٍ وربَّ حاملِ فقهٍ إلى من هوَ أفقَهُ منه وقال ثلاثٌ لا يُغَلُّ عليهنَّ قلبُ امرئٍ مسلمٍ إخلاصُ العملِ للَّهِ والنَّصيحةُ للمسلمينَ ولزومُ جماعتِهم فإنَّ دعوتَهم تحيطُ مِن ورائِهمالراوي : عبدالله بن مسعود المحدث : ابن حجر العسقلاني المصدر : تخريج مشكاة المصابيح الصفحة أو الرقم: 1/156 خلاصة حكم المحدث : [حسن كما قال في المقدمة] الدرر السنية






الشيخ العثيمين:
«التفقه» يعني طلب الفقه، والفقه ليس العلم. بل هو إدراك أسرار الشريعة. وكم من إنسان عنده كثير ولكنه ليس بفقيه، ولهذا حذر ابن مسعود رضي الله عنه من ذلك فقال: «كيف لكم إذا كثر قراؤكم وقل فقهاؤكم».
الفقيه هو العالم بأسرار الشريعة وغاياتها وحكمها حتى يستطيع أن يرد الفروع الشاردة إلى الأصول الموجودة، ويتمكن من تطبيق الأشياء على أصولها، فيحصل له بذلك خير كثير.

قال: «نضر الله.. » نضر بمعنى: حسنه، ومنه قوله تعالى : (وجوه يومئذ ناضرة) (سورة القيامة: 22). أي: حسنه، وقوله تعالى : (فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا) (سورة الإنسان: 11). نضرة: يعني حسنا في وجوههم، وسرورا في قلوبهم، فيجتمع لهم حسن الظاهر والباطن. لأن الإنسان قد يغتم قلبه، ووجهه قد أعطاه الله نضارة لكن سرعان ما تزول. ومن الناس من يكون قلبه مسرورا لكن لم يعطه الله نضارة الوجه، ومن الناس من يحصل له الأمران: السرور في القلب ونضارة في الوجه. وبذلك تتم النعمة.

قالَ ابنُ خَيْرٍ رَحِمَه اللهُ تعالى في فِقْهِ هذا الحديثِ : ( وفيه بيانُ أنَّ الفِقْهَ هو الاستنباطُ والاستدراكُ في معاني الكلامِ من طريقِ التَّفَهُّمِ ، وفي ضِمْنِه بيانُ وُجوبِ التفَقُّهِ ، والبحْثُ على معاني الحديثِ واستخراجُ الْمَكنونِ من سِرِّهِ ) اهـ .
وللشيخين ؛ شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميةَ وتِلميذِه ابنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ رَحِمَهما اللهُ تعالى ، في ذلك القِدْحُ الْمُعَلَّى ، ومَن نَظَرَ في كُتُبِ هذين الإمامينِ ؛ سَلَكَ به النَّظَرُ فيها إلى التَّفَقُّهِ طَرِيقًا مُستَقِيمًا .

الشيخ العثيمين:

لا شك أن ما ذكره- وفقه الله- هو الصواب؛ أن الفقه هو استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة. لكن لا ينبغي أن يقتصر على الحديث، بل نقول من الأدلة في القرآن والسنة ودلالات القرآن أقوى من دلالات السنة وأثبت، لأنه لا يعتريه عيب النقل بالمعنى، وأما السنة فهي تنقل بالمعنى. وعلى هذا فيقال: «بالبحث عن معاني القرآن والحديث».
ومن أحسن من رأيت في استخراج الأحكام من الآيات شيخنا- رحمه الله- عبد الرحمن بن سعدي، فإنه يستخرج – أحيانا- من الآيات من الفقه ما لا تراه في كتاب آخر، وهذا الطريق- أعني طريق استنباط الأحكام من القرآن والسنة- هو طريق الصحابة، فما كانوا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلمونها، وما فيها من العلم والعمل. ثم أشار الشيخ بكر إلى شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم- رحمهم الله- وبيان ما يتوصلان إليه من الأحكام الكثيرة من الأدلة القليلة، وقد أعطاهما الله فهما عجيبا في القرآن والسنة.
ونضرب مثلا لهذا- أعني التفقه-، أن العلماء اتخذوا الحكم بأن أقل مدة الحمل ستة أشهر من قوله تعالى :(وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) (سورة الأحقاف:15).
ومن قوله : (وفصاله في عامين) (سورة لقمان: 14). فإن ثلاثين شهرا، عامان وستة أشهر، فإذا كان حمله وفصاله (ثلاثون شهرا) وفي الآية الآخرى (في عامين) لزم أن يكون الحمل أقله ستة أشهر.


ومن مَلِيحِ كلامِ ابنِ تَيميةَ رَحِمَه اللهُ تعالى قولُه في مَجْلِسٍ للتَّفَقُّهِ : ( أَمَّا بعدُ ؛ فقد كُنَّا في مَجلِسِ التَّفَقُّهِ في الدِّينِ ، والنظَرِ في مَدارِكِ الأحكامِ المشروعةِ ؛ تَصويرًا ، وتَقريرًا ، وتَأصيلًا ، وتَفصيلًا ، فوقَعَ الكلامُ في ... فأقولُ : لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ ، هذا مَبْنِيٌّ على أَصْلٍ وفَصلَيْنِ ...)


واعْلَمْ أَرْشَدَك اللهُ أنَّ بينَ يَدَي التَّفَقُّهِ : ( التَّفَكُّرَ ) فإنَّ اللهَ - سبحانَه وتعالى – دعا عِبادَه في غيرِ ما آيةٍ من كتابِه إلى التحَرُّكِ بإجالةِ النظَرِ العميقِ في ( التَّفَكُّرِ ) في مَلكوتِ السماواتِ والأرضِ وإلى إن يُمْعِنَ المرءُ النظَرَ في نفسِه ، وما حولَه ؛ فَتْحًا للقُوَى العَقليَّةِ على مِصراعَيْهَا ، وحتى يَصِلَ إلى تَقويةِ الإيمانِ ، وتَعميقِ الأحكامِ والانتصارِ العِلْمِيِّ : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ } . وعليه فإنَّ ( التفَقُّهَ ) أبعَدُ مَدًى من ( التفَكُّرِ ) ؛ إذ هو حَصيلتُه وإنتاجُه ؛ وإلا { فَمَال هؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} .
لكنَّ هذا التَّفَقُّهَ مَحجوزٌ بالبُرهانِ ، مَحجورٌ عن التَّشَهِّي والْهَوَى : { وَلِئْنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ }

العثيمين :

واعلم أرشدك الله أن بين يدي التفقه : (التفكر). فإن الله سبحانه وتعالى دعا عباده في غير ما آية من كتابه إلى التحرك بإجالة النظر العميق في (التفكر) في ملكوت السموات والأرض، وإلى أن يمعن النظر في نفسه، وما حوله، فتحا للقوى العقلية على مصراعيها، وحتى يصل إلى تقوية الإيمان، وتعميق الأحكام، والانتصار العلمي : (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) (سورة البقرة: 219). ، (قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون) (سورة الأنعام: 50).
وعليه، فإن «التفقه» أبعد مدى من (التفكر)، إذ هو حصيلته وإنتاجه، وإلا: (فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) (سورة النساء: 78). لكن هذا التفقه محجوز بالبرهان، محجوز عن التشهي والهوى: (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) (سورة البقرة: 12).
إذا نقول : المراتب، أولا- العلم، ثم الفهم، ثم التفكير، ثم التفقه. لا بد من هذا، فمن لا علم عنده كيف يتفقه؟ وكيف يعلم... من عنده علم وليس عنده فهم.. كيف يتفقه؟ حتى لو حاول أن يتفقه وهو مما لا يفهم لا يمكن ذلك. بعد أن تفهم... تتفكر ما مدلول هذه الآيات؟ وما مدلول هذا الحديث؟ وتتفكر أيضا في أنواع الدلالة، وأنواع الدلالة ثلاثة:
دلالة المطابقة، ودلالة التضمن، ودلالة الالتزام.
فدلالة اللفظ على جميع معناه، دلالة مطابقة.
ودلالته على بعض معناه، دلالة تضمن.
ودلالته على لازم خارج، هذه دلالة التزام.
وهذا النوع الثالث من الدلالة هو الذي يختلف فيه الناس اختلافا عظيما، إذ قد يلتزم بعض الناس من الدليل ما لا يلزم، وقد يفوته ما يلزم. وبين ذلك تفاوت عظيم، فلا بد أن يعمل هذه الدلالات حينئذ يصل إلى درجة التفقه واستنباط الأحكام من أدلتها.
ويذكر أن الشافعي رحمه الله نزل ضيفا على الإمام أحمد بن حنبل- وأحمد تلميذ الشافعي وكان يثني عليه عند أهله- فقدم له العشاء فأكله كله ورد الصحفة.
خالية، فتعجب أهل أحمد كيف يأكل الطعام كله، والسنة أن الإنسان يأكل قليلا.
«حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه» . لكن الشافعي أكل كل الطعام. هذه واحدة ثم إن الإمام أحمد انصرف إلى أهله ونام الشافعي فلما كان في آخر الليل قام يتهجد ولم يطلب ماء يتوضأ به، أو أظنه أنه لم يقم يتهجد، ثم أذن الفجر فخرج إلى الصلاة ولم يطلب ماء للوضوء، هذه اثنتان.
فلما أصبح قال أهل الإمام أحمد له كيف تقول في الشافعي ما تقول، والرجل أكل الطعام ونام وقام ولم يتوضأ كيف إذا؟
قال :«آتيكم بالخبر ..» فسأله. قال: فأما الطعام فلا أجد أحل من طعام الإمام أحمد بن حنبل فأردت أن أملأ بطني منه، أما كوني لم أتهجد فلأن التفكير في العلم أفضل من التهجد، وأنا جعلت أتفكر في العلم واستنبط من قول الرسول صلى الله عليه وسلم : «يا أبا عمير ما فعل النغير» . كذا وكذا ما أدري قال: مائة، أو ألف.
أما كوني لم أطلب ماء وأن خارج لصلاة الفجر، فلم أشأ أن أطلب ماء وأنا على وضوء. فذكر ذلك لأهله. فقالوا: الآن !!

**************
فيا أيُّها الطالبُ ! تَحَلَّ بالنظَرِ والتفَكُّرِ ، والفقْهِ والتفَقُّهِ ؛ لعلك أن تَتجاوَزَ من مَرحلةِ الفقيهِ إلى ( فقيهِ النفْسِ) كما يقولُ الفُقهاءُ ، وهو الذي يُعَلِّقُ الأحكامَ بِمَدارِكِها الشرعيَّةِ ، أو ( فقيهِ البَدَنِ ) كما في اصطلاحِ الْمُحَدِّثِينَ .


هناك فقه ثالث ظهر، وهو فقه الواقع الذي علق عليه بعض الناس العلم.
وقالوا: من لم يكن فقيها للواقع فليس بعالم، ونسوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين». ثم غفلوا عن كون الإنسان يشتغل بفقه الواقع أن ذلك يشغله عن فقه الدين، بل ربما يشغله عن الاشتغال بالتعبد الصحيح، عبادة الله وحده وانصراف القلب إلى الله والتفكر في آياته الكونية والشرعية. والحقيقة أن انشغال الشباب بفقه الواقع صد لهم عن الفقه في دين الله، لأن القلب إذا امتلأ بشيء امتنع عن الآخر.
فانشغال الإنسان بالفقه في الدين وتحقيق العبادة والدين والإخلاص خيرا له من البحث عن الواقع، وماذا فعل فلان؟ وماذا فعل فلان، وربما يتلقون فقه الواقع من روايات ضعيفة أو موضوعة في وسائل الإعلام المسموعة أو المقرؤة أو المرئية أو يبنون ما يظنون فقه واقع على تقديرات وتخمينات يقدرها الإنسان، ثم يقول هذا فعل لهذا، ويعلل بتعليلات قد تكون بعيدة من الواقع.
أو ينظر إلى أشياء خطط لها أعداؤنا من قبل على واقع معين، تغير الواقع وزال بالكلية فبقيت هذه الخطط لا شيء.
والمهم أن فقه النفس، الذي هو صلاح القلب والعقيدة السليمة ومحبة الخير للمسلمين وما أشبه ذلك هذا ينبني عليه فقد البدن: معرفة هذا القول حلال أم حرام. هذا الفعل حلال أم حرام.


فأَجْلِ النظَرَ عندَ الوارداتِ بتَخريجِ الفُروعِ على الأصولِ ، وتَمامِ العنايةِ بالقواعدِ والضوابطِ . وأَجْمِعْ للنَّظَرِ في فَرْعٍ ما بينَ تَتَبُّعِه وإفراغِه في قالَبِ الشريعةِ العامِّ من قواعدِها وأصولِها الْمُطَّرِدَةِ ؛ كقواعدِ المصالِحِ ، ودفْعِ الضرَرِ والمشَقَّةِ وجَلْبِ التيسيرِ ، وسَدِّ بابِ الْحِيَلِ وسَدِّ الذرائعِ .


وهكذا هُدِيتَ لرُشْدِكَ أَبَدًا ؛ فإنَّ هذا يُسْعِفُكَ في مَواطِنِ الْمَضايِقِ وعليك بالتَّفَقُّهِ – كما أَسْلَفْتُ – في نصوصِ الشرْعِ ، والتبَصُّرِ فيما يَحُفُّ أحوالَ التشريعِ، والتأمُّلِ في مَقاصِدِ الشريعةِ ، فإنْ خَلَا فَهْمُك من هذا ، أو نَبَا سَمْعُكَ ؛ فإنَّ وَقْتَكَ ضائعٌ ، وإنَّ اسمَ الْجَهْلِ عليك لواقِعٌ وهذه الْخَلَّةُ بالذاتِ هي التي تُعطيكَ التمييزَ الدقيقَ ، والْمِعيارَ الصحيحَ ، لِمَدَى التحصيلِ والقُدرةِ على التخريجِ .
فالفقيهُ هو مَن تَعْرِضُ له النازلةُ لا نَصَّ فيها فيَقْتَبِسُ لها حُكْمًا ، والبَلاغِيُّ ليس من يَذْكُرُ لك أقسامَها وتَفريعاتِها ، لكنه مَن تَسْرِي بَصيرتُه البلاغيَّةُ في كتابِ اللهِ ، مَثَلًا ، فيُخْرِجُ من مَكنونِ عُلومِه وُجُوهَها وإن كَتَبَ أو خَطَبَ نَظَمَ لك عِقْدَها . وهكذا في العلومِ كافَّةً .


لا بد لطالب العلم من أصول يرجع إليها، والأصول الثلاثة: الأدلة من القرآن والسنة والقواعد والضوابط المأخوذة من الكتاب والسنة.
والمهم أن يكون لدى الإنسان علم بالقواعد والضوابط حتى ينزل عليها الجزئيات.
والفرق بين القاعدة والضابط:
أن الضابط يكون لمسائل محصورة معينة.
والقاعدة أصل يتفرع عليه أشياء كثيرة.
فالضابط أقل رتبة من القاعدة، كما يدل ذلك اللفظ، الضابط يضبط الأشياء ويجمعها في قالب واحد. والقاعدة أصل تفرع عنه الجزيئات.
قوله:«فأجل النظر عند الواردات بتخريج الفروع على الأصوال، وتمام العناية بالقواعد والضوابط» هذا من أهم ما يكون، أن الإنسان يجعل نظره أي فكره يتجول بتخريج الفروع على الأصول حتى يتمرن، لأن بعض الناس قد يحفظ القاعدة كما يحفظ الفاتحة ولكن لا يعرف أن يخرج عليها. وهذا لا شك نقص في التفكير. فلا بد من أن يجتهد ويجيل نظره بتخريج القواعد على الأصول.
قوله: «وأجمع للنظر في فرع ما بين تتبعه وإفراغه في قالب الشريعة العام...» وهذا أيضا مهم عند أهل الحديث. يأتي مثلا نص ظاهرة. الحكم بكذا لكن إذا تأملت في هذا النص وجدنه مخالفا للقواعد العامة من الشريعة، فما موقفك؟
نقول: لا بد أن نرجع إلى القواعد، ويحكم على هذا بما تقتضيه الحاجة. وكذلك قال العلماء فيما لو خالف الإنسان الثقة الثبت من هو أرجح منه، فإن حديثه هذا- وإن كان من حيث النظر إلى مجرد الطريق نحكم بصحته- نقول: إن هذا غير صحيح. لماذا؟ لأنه شاذ. والذي أوجب لكثير من المبتدئين في طلب العلم أن يسلكوا مسلكا شاذا هو هذا. أعني عدم النظر إلى القواعد والأصول الثابتة. وهذا أمر مهم، وذلك لأن الشريعة إنما جاءت لجلب المصالح الدينية والدنيوية ولدرء المفاسد أو تقليلها، سواء كانت المفاسد دينية أو دنيوية، ولهذا تجد أن الله عز وجل يقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة شرعا وقدرا.
تنزل الأمطار على الأرض، وهذا رجل تم بنيانه قريبا. هل يضره المطر أو لا؟ نعم يضره، لكن لا عبرة. لأن العبرة بالعموم.
وكذلك تنزل وهذا الرجل قد انتهي من السقي، والمعروف أن الزرع إذا أصابه الماء، مطرا كان أو سقي بعد الانتهاء من سقيه أنه يضره لكن العبرة بالعموم.
فهذه مسائل ينبغي لطالب العلم أن ينتبه لها، ولهذا قال الشيخ بكر رحمه الله ووفقه الله«وأصولها المطردة كقواعد المصالح».
وهنا نقف لنبين أن بعض الأصوليين أتى بدليل خامس: هو المصالح المرسلة.
فقال: الأدلة هي القرآن والسنة والقياس الصحيح والمصالح المرسلة.
وهذا غلط لأن هذه المصالح الذين يدعون أنها – مصالح مرسلة – إن كان الشرع قد شهد لها أنها مصالح مرسلة فهي من الشرع داخلة في عموم الشرع: كتاب أو سنة قياس كان أو إجماع، وإن لم تكن فيها مصالح شرعية فهي باطلة فاسدة الاعتبار، وحينئذ لا تؤصل أصلا، دليلا ندين الله بالتعبد به بدون دليل من القرآن والسنة. لأن كونك تؤصل أصلا يعني أنك تبني دينك على هذا.
وعلى هذا فتمسح أو فتنسخ ذكر المصالح المرسلة من الأدلة. لماذا؟ لأننا نقول: إن شهد الشرع بهذه المصلحة فهي ثابتة بالكتاب والسنة بعمومتها وقواعدها، وإن شهد ببطلانها فهي باطلة.
الآن من أهل البدع من ركب بدعته على هذا الدليل. قال: هذا من المصالح المرسلة. فالإنسان يحيي قلبه ويحركه بماذا؟ ببدعة صوفية وما أشبه ذلك وقال: نحن نطمئن الآن إذا أتينا بهذه الأذكار وعلى هذه الصفة ويضرب الأرض حتى تتغبر قدماه. قال: هذه مصلحة عظيمة تحرك القلوب.
ماذا نقول: لو قلنا باعتبار المصالح المرسلة كل واحد يدعي أن هذه المصلحة وأصل النزاع الذي أمر الله فيه بالرد إلى الكتاب والسنة أصله أن كل واحد يرى أن كل ما عليه مصلحة، وربما يماري ليكون قوله المقبول.
المهم أن قول الشيخ بكر «كقواعد المصالح» مراده بذلك المصالح الشرعية، فإن كان هذا مراده فهو حق، وإن كان يريد المصالح المرسلة فهو بعيد، لأنه قال بعد ذلك «ودفع الضرر والمشقة»، إنا كان يشير إلى المصالح المرسلة فقد علمت فساد ما يجعلها دليلا مستقلا.
وقوله :«ودفع الضرر» أين نجد من القرآن والسنة دفع الضرر؟ كثير، قال الله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم) (سورة النساء: 29). وهذه الآية تعم قتل النفس مباشرة بأن ينتحر الإنسان أو فعل ما يكون سببا للهلاك، ولهذا استدل عمرو بن العاص رضي الله عنه بهذه الآية على التيمم خوفا من البرد، مع أن البرد قد لا يميت الإنسان، ولكن قد يكون سببا لموته، استدل بها، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وضحك.
هذا من القرآن. وأيضا من القرآن قوله تعالى : (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا) (سورة المائدة: 6). الشاهد قوله : (مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا) لماذا يتيمم وهو مريض، يقدر أن يستعمل الماء؟ لكن لئلا يزاد مرضه أو يتأخر برأه.
ومن دفع المشقة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى زحاما وهو في السفر، ورجلا قد ظلل عليه. فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم. قال:«ليس من البر الصيام في السفر» . مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يصوم وهو مسافر، وهل يفعل غير البر ؟! لا لكن إذا وصلت الحال من المشقة فإنه ليس من البر، وإذا انتفى أن يكون من البر، فهو إما من الإثم وإما أن يكون من لا لك ولا عليك.
شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس عطاش وقد شق عليهم الصيام، لكنهم ينظرون متى، فدعا بماء بعد صلاة العصر ووضعه على فخده الشريفة، وجعل الناس ينظرون إليه، فأخذه وشرب، والناس ينظرون. ثم قيل له إن بعض الناس قد صام. فقال: «أولئك العصاة، أولئك العصاة».
هل ورد نهي أن يبقوا على صيامهم؟ لا، ولكن العموم ( ولا تقتلوا أنفسكم) (سورة النساء: 29). ، (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (سورة الحج: 78). إذا الشرع يراعي قواعد المصالح ودفع الضرر، دفع المشقة.
قوله :«وجلب التيسير» كل الإسلام تيسير، لكن هل اليسر هوما تيسر على كل شخص بعينه أو باعتبار العموم؟ باعتبار العموم. ومع ذلك إذا حصل للإنسان ما يقتضي التيسير وجد الباب مفتوحا: «صل قائما..». إذا هذا تيسير، بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الدين يسر ولا يشاد الدين أحدا إلا غلبه».
كل الدين يسر، وكان إذا بعث البعوث يقول: «يسروا لا وتعسروا، بشروا ولا تنفروا فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين».
فالحمد لله. هذا الدين للإنسان دين يسر، وبناء على ذلك هل يتعمد الإنسان فعل العبادة على وجه يشق عليه أو أن يفعلها على الوجه الأيسر. أيهما أقرب إلى مقاصد الشريعة؟
الثاني، ولهذا لو أن رجلا في البرد حانت صلاة الفجر وعنده ماء، أحدهما ساخن والآخر بارد.
فقال أنا أريد أن أتوضأ بالماء البارد حتى أنال أجر إسباغ الوضوء على المكاره.
وقال الثاني أنا أريد أن أتوضأ بالماء الساخن حتى أوافق مراد الله الشرعي، حيث قال: (يريد الله بكم اليسر) (سورة البقرة: 185). أيهما أصوب؟ الثاني بالإجماع بلا شك هو الموافق للشريعة، لأن إسباغ الوضوء على المكاره ليس المراد منه أن يقتصد الإنسان ما يكره. المراد إذا لم يكن الوضوء إلا بمكروه.. يتوضأ هذا معناه.
وإلا لكان يقول أحجج البيت على قدميك... سر من أفغانستان إلى مكة على قدميك، فإن لم تفعل فعلى سيارة خربة، تمشي قليلا وتقف كثيرا لماذا؟ لأنها أشق.
فإن لم تستطع فعلى طيارة. ليس هذا بصحيح!! أيهما أفضل الطيارة لأنها أسهل وأيسر.
وأول ما خرجت الطيارات كنا نحدث ونحن صغار أن الحج على الطيارة ثمن الحج. وعلى السيارة نصف الحج.
والشاهد على كل حال: جلب التيسير هو الموافق لروح الدين. من هنا نرى أنه إذا اختلف عالمان في رأي، ولم يتبين لنا الأرجح من قولهما لا من حيث الدليل، ولا من حيث الاستدلال، ولا من حيث المستدل.
وأحدهما أشد من الثاني، فمن نتبع الأيسر أم الأشد؟ الأيسر. وقيل الأشد لأنه أحوط؟ لكن في هذا القول لأننا نقول ما هو الأحوط؟ هل هو الأشد على بني آدم أم هو الموافق للشرع؟ الثاني.... ما كان أوفق للشرع.
ثم قال :«وسد الحيل وسد الذرائع». إن هذه الأمة اتبعت سنن من كان قبلها في مسألة الحيل، وأشد الناس حيلا ومكرا هم اليهود، وهذه الأمة فيها من تشبه باليهود وتحايلوا على محارم الله.
والحيلة: أصلها حولة من حال يحول. هذا في اللغة.
أما في الشرع والاصطلاح: هي التوصل إلى إسقاط واجب أو انتهاك محرم بما ظاهره الإباحة .
مثال ذلك: رجل سافر في نهار رمضان، قصده أن يفطر في رمضان وليس له قصد في السفر إلا أن يفطر. ظاهر فعله أنه حلال، لكن أراد بذلك إلى إسقاط واجب وهو الصوم.
مثال آخر: رجل تزوج بمطلقة صاحبه ثلاثا، ورآه محزونا عليها فذهب وتزوجها من أجل أن يحللها للزوج الأول- الذي هو صاحبه- ليس له غرض في المرأة، وإنما يريد أن يجامعها ليلة ثم يدعها.
نقول: هذا تحيل على محرم، لأن هذه المرأة لا تحل لزوجها الأول الذي طلقها ثلاثا وأراد أن يحللها له.
ولهذا جاء في الحديث بما هو أهل له حيث سمي «التيس المستعار». ومن باب الحيل أيضا ما يفعله كثير من الناس اليوم في مسائل الربا رجل باع سلعة ب، 10 آلاف إلى سنة، ثم اشتراها نقدا بـ 8 آلاف. هذه حيلة على أن يعطي 8 آلاف ويأخذ 10 آلاف لأن هذا العقد صوري. ولهذا قال فيه عبد الله بن مسعود أنه دراهم بدراهم دخلت بينهم حريرة، يعني قطة قماش.
«سد الذرائع» الذرائع جمع ذريعة، وهي الوسيلة. والفرق بينها وبين الحيلة: أن فاعل الحيلة قد قصد التحيل. وفاعل الذريعة لم يقصد، ولكن فعله يكون ذريعة إلى الشر والفساد.
مثال ذلك: بعض النساء اليوم صارت تلبس النقاب، تغطي وجهها بالنقاب، لكن هل إن المرأة بقيت على هذا. بمعنى أنها لم تخرق فيه لتستر وجهها إلا مقدار العين؟... لا. إذا يمنع النقاب لأنه ذريعة يتوصل به إلى شيء محرم؟
وهكذا هديت لرشدك أبدا، فإن هذا يسعفك في مواطن المضايق. وعليك بالتفقه كما أسلفت في نصوص الشرع، والتبصر فيما يحف أحوال التشريع، والتأمل في مقاصد الشريعة، فإن خلا فهمك من هذا، أو نبا سمعك، فإن وقتك ضائع، وإن اسم الجهل عليك لواقع. وهذه الخلة بالذات هي التي تعطيك التمييز الدقيق، والمعيار الصحيح، لمدى التحصيل والقدرة على التخريج:
فالفقيه هو من تعرض له النازلة لا نص فيها فيقتبس لها حكما.
والبلاغي ليس من يذكر لك أقسامها وتفريعاتها، لكنه من تسري بصيرته البلاغية في كتاب الله، مثلا، فيخرج من مكنون علومه وجوهها، وإن كتب أو خطب، نظم لك عقدها. وهكذا في العلوم كافة.
هذا صحيح .. الفقيه حقيقة هو الذي يستنبط الأحكام من النصوص وينزل الأحكام عليها، وليس من يقرأ النصوص.
من يقرأ النصوص فهو كنسخة من الكتاب، لكن من يشقق النصوص وينزل الوقائع عليها، كالبلاغي... وهل البلاغي هو من يبين لك البلاغة وأقسامها، والفصاحة وأقسامها؟ أم من يكون كلامه بليغا؟... الثاني، من يكون كلامه بليغا فهو البلاغي، حتى ولو لم يكن يعرف من البلاغة شيئا.

ولهذا ينبغي للإنسان أن يطبق المعلومات على الواقع. بمعنى: أنه إذا نزلت نازلة يعرف كيف يتصرف في النصوص حتى يعرف الحكم، وإذا عرف شيئا يمرن نفسه على أن يطبق هذا في حياته القولية والفعلية.



آفاق التيسير
الشيخ:
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أما بعد :
نواصل ما بدأنا به من كتاب (حلية طالب العلم) للشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد رحمه الله تعالى.
القارئ:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد
قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
30- التَّفَقُّهُ بتخريجِ الفروعِ على الأُصولِ :
من وراءِ الفِقْهِ : التَّفَقُّهُ ، ومُعْتَمِلُه هوالذي يُعَلِّقُ الأحكامَ بِمَدارِكِها الشرعيَّةِ .
وفي حديثِ ابنِ مسعودٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ : أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ : (( نَضَّرَ اللهُ امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا ، فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ )) .
قال َابنُ خَيْرٍ رَحِمَه اللهُ تعالى في فِقْهِ هذا الحديثِ : ( وفيه بيانُ أنَّ الفِقْهَ هو الاستنباطُ والاستدراكُ في معاني الكلامِ من طريقِ التَّفَهُّمِ ، وفي ضِمْنِه بيانُ وُجوبِ التفَقُّهِ ، والبحْثُ على معاني الحديثِ واستخراجُ الْمَكنونِ من سِرِّهِ ) اهـ .
وللشيخين شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميةَ وتِلميذِه ابنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ رَحِمَهما اللهُ تعالى ، في ذلك القِدْحُ الْمُعَلَّى ، ومَن نَظَرَ في كُتُبِ هذين الإمامينِ ؛ سَلَكَ به النَّظَرُ فيها إلى التَّفَقُّهِ طَرِيقًا مُستَقِيمًا .
ومن مَلِيحِ كلامِ ابنِ تَيميةَ رَحِمَه اللهُ تعالى قولُه في مَجْلِسٍ للتَّفَقُّهِ : ( أَمَّا بعدُ ؛ فقد كُنَّا في مَجلِسِ التَّفَقُّهِ في الدِّينِ ، والنظَرِ في مَدارِكِ الأحكامِ المشروعةِ ؛ تَصويرًا ،وتَقريرًا ، وتَأصيلًا ، وتَفصيلًا ، فوقَعَ الكلامُ في ... فأقولُ : لا حَوْلَ ولاقُوَّةَ إلا باللهِ ، هذا مَبْنِيٌّ على أَصْلٍ وفَصلَيْنِ ...)
واعْلَمْ أَرْشَدَك اللهُ أنَّ بينَ يَدَي التَّفَقُّهِ : ( التَّفَكُّرَ ) فإنَّ اللهَ - سبحانَه وتعالى – دعا عِبادَه في غيرِ ما آيةٍ من كتابِه إلى التحَرُّكِ بإجالةِ النظَرِ العميقِ في ( التَّفَكُّرِ ) في مَلكوتِ السماواتِ والأرضِ وإلى إن يُمْعِنَ المرءُ النظَرَ في نفسِه ، وما حولَه ؛ فَتْحًا للقُوَى العَقليَّةِ على مِصراعَيْهَا ، وحتى يَصِلَ إلى تَقويةِ الإيمانِ ، وتَعميقِ الأحكامِ والانتصارِ العِلْمِيِّ : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ } . وعليه فإنَّ ( التفَقُّهَ ) أبعَدُ مَدًى من ( التفَكُّرِ ) ؛ إذ هو حَصيلتُه وإنتاجُه ؛ وإلا{ فَمَا لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} .
لكنَّ هذا التَّفَقُّهَ مَحجوزٌ بالبُرهانِ ، مَحجورٌ عن التَّشَهِّي والْهَوَى : { وَلِئْنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَانَصِيرٍ } .
فياأيُّها الطالبُ ! تَحَلَّ بالنظَرِ والتفَكُّرِ ، والفقْهِ والتفَقُّهِ ؛ لعلك أن تَتجاوَزَ من مَرحلةِ الفقيهِ إلى ( فقيهِ النفْسِ) كما يقولُ الفُقهاءُ ، وهو الذي يُعَلِّقُ الأحكامَ بِمَدارِكِها الشرعيَّةِ ، أو ( فقيهِ البَدَنِ ) كما في اصطلاحِ الْمُحَدِّثِينَ .
فأَجْلِ النظَرَ عندَ الوارداتِ بتَخريجِ الفُروعِ على الأصولِ ، وتَمامِ العنايةِ بالقواعدِ والضوابطِ . وأَجْمِعْ للنَّظَرِ في فَرْعٍ ما بينَ تَتَبُّعِه وإفراغِه في قالَبِ الشريعةِ العامِّ من قواعدِها وأصولِها الْمُطَّرِدَةِ ؛ كقواعدِ المصالِحِ ، ودفْعِ الضرَرِ والمشَقَّةِ وجَلْبِ التيسيرِ ، وسَدِّ بابِ الْحِيَلِ وسَدِّ الذرائعِ .
وهكذا هُدِيتَ لرُشْدِكَ أَبَدًا ؛ فإنَّ هذايُسْعِفُكَ في مَواطِنِ الْمَضايِقِ وعليك بالتَّفَقُّهِ – كما أَسْلَفْتُ – في نصوصِ الشرْعِ ، والتبَصُّرِ فيما يَحُفُّ أحوالَ التشريعِ ، والتأمُّلِ في مَقاصِدِالشريعةِ ، فإنْ خَلَا فَهْمُك من هذا ، أو نَبَا سَمْعُكَ ؛ فإنَّ وَقْتَكَ ضائعٌ ، وإنَّ اسمَ الْجَهْلِ عليك لواقِعٌ وهذه الْخَلَّةُ بالذاتِ هي التي تُعطيكَ التمييزَ الدقيقَ ، والْمِعيارَ الصحيحَ ، لِمَدَى التحصيلِ والقُدرةِ على التخريجِ .
فالفقيهُ هو مَن تَعْرِضُ له النازلةُ لا نَصَّ فيهافيَقْتَبِسُ لها حُكْمًا ، والبَلاغِيُّ ليس من يَذْكُرُ لك أقسامَها وتَفريعاتِها ، لكنه مَن تَسْرِي بَصيرتُه البلاغيَّةُ في كتابِ اللهِ مَثَلًا ، فيُخْرِجُ من مَكنونِ عُلومِه وُجُوهَها وإن كَتَبَ أو خَطَبَ نَظَمَ لك عِقْدَها . وهكذافي العلومِ كافَّةً .
الشيخ:
الأدب الثلاثون من آداب طالب العلم : التفقه بتخريج الفروع على الأصول ، فالمراد بالفقه : الفهم الدقيق الذي يمكّنك من استخراج الأحكام من الأدلة ، هذا هو الفقه ، وهو من أجَلِّ العبادات ، وحاجة الأمة إليه من أعظم الحاجات ، وقد رغّب الله عز وجل في ذلك في قوله سبحانه : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}
وأمر الله عز وجل بالرجوع إلى هذا الصنف ، وهم الفقهاء الذين يستنبطون الأحكام من الأدلة لقوله سبحانه : {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } يعني يستخرجون الحكم من الأدلة ، وهذا هو الفقه.
قال المؤلف : (وجاء في الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين") ولفظة الفقه تطلق على اصطلاحات متعددة :
أولها : الاصطلاح الشرعي ، حيث يراد بالفقه ؛ معرفة الأحكام من الأدلة ، سواء كانت أحكاما عقديّة ، أو أحكاما عمليّة ، بحيث يشمل العقيدة ، ويشمل علم الفروع ، ويشمل التفسير ، ويشمل فهم الحديث ، كله يُسمّى فقها في الاصطلاح الشرعي.
الثاني من مسمّى الفقه : القدرة على استخراج الأحكام من الأدلة ، التي يسمّونها الملكة.
الثالث : إطلاق اسم الفقه على الأحكام العملية ، وهذا هو الغالب في عمل المؤلفين ، إذا قالوا : كتب الفقه ، فالمراد بها الأحكام العملية ، وهناك طائفة خصّوه بالأحكام الاجتهاديّة ، غير ما يُعلم من الدين بالضرورة ، كما فعل الرازي وغيره.
لكن الاصطلاح المشهور هو الثالث ، أما الاصطلاح والاستعمال الشرعي فهو الأول ، وهو الذي كان عليه علماء الشريعة في الزمان الأول ، ولذلك كان الإمام أبوحنيفة يقول : الفقه هو معرفة النفس مالها وما عليها.
قال المؤلف : (بتخريج الفروع على الأصول) المراد بالفروع المسائل التي تُبنى على غيرها ، وتُعرف أحكامها من خلال غيرها ، والفرع في اللغة هو الجزء المستخرج ، وبعضهم يقول : هو ما يُبنى على غيره.
قال : والأصول جمع أصل ، والأصول قد يُراد بها أحد ثلاثة اصطلاحات :
الأول : الأدلة الشرعية : فالقرآن والسنة هي أصول الأحكام ، وهي الأصل في تخريج الفروع على الأصول ، وحينئذ نحتاج مع هذه الأصول إلى علم أصول الفقه ، الذي هو تخريج أو تفقه.
المعنى الثاني أن يُراد بالأصول : القواعد الفقهيّة فإنها قواعد يُحكم بها على فروع كثيرة ، وتشتمل على دليل المسألة ، وعلى مأخذها.
والثالث : أن يُراد بالأصول ؛ الضوابط الفقهية لكل باب ، وهذه الضوابط اعتنى العلماء في كتابتها في مؤلفاتهم الفقهية وخصوصا المختصرات ، كزاد المستقنع ونحوه.
وحينئذ الناس الذين يستخرجون الأحكام على ثلاثة أنواع :
النوع الأول : من يقيس في المسائل الجديدة على المسائل التي تكلّم فيها الأئمّة ، و هؤلاء يُسمّوْن أهل التخريج.
الثاني : من إذا وردت إليه مسألة عرف حكمها من القواعد الفقهية التي عنده ، ما أحكام ركوب الطائرات ووجود الضيق فيها ، يستخرجه من قواعد المشقة والضرر ، المشقة تجلب التيسير ، أو قول بعضهم : العسر سبب لليسر.
فهذه الرتبة أعلى من الرتبة السابقة ، لأنه يعتمد على العلل وعلى مآخذ الأدلة ، أما الأول فيعتمد على أقوال الفقهاء.
الثالث : من يعتمد على الأصول الشرعية كتابا وسنة ، فكلما وردت إليه مسألة نظر في كتاب الله وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم بالقواعد الأصولية ، فاستخرج الحكم منها ، من الكتاب والسنة.
وهؤلاء كالكبريت الأحمر ، ووجودهم في الأمة قليل نادر ، ولو يوجد في الزمان عشرة من هؤلاء لكفوا الأمة.
أسأل الله جل وعلا أن يكثر من هذا الصنف في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة ، وأن يجعلكم من هذا الصنف.
إذا تقرر هذا ؛ فإنّ الكتاب والسنة فيهما نص على جميع المسائل إما بذكر المسألة باسمها أو بالإتيان بحكم عام يشمل مسائل متعددة كثيرة ، ولذلك ما من مسألة إلا وفي كتاب الله حكمها ، قال تعالى : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، لكن قد يخفى النص في بعض المواطن على بعض الفقهاء ، فيحتاج إلى إعمال القياس.
قال المؤلف : (من وراء الفقه التفقه) بعد ذلك اعتنى أهل العلم بالتأليف في فن يسمّونه تخريج الفروع على الأصول ، بحيث يُرجعون المسائل الفقهية الفرعية إلى القواعد الأصولية.
ولعلّ هذا ليس مراد المؤلف ، فالأصول عنده إمّا القواعد وإمّا النصوص ، إما القواعد الفقهيّة أو النصوص.
وألّف جماعات في تخريج الفروع على الأصول ، ممن ألّف الزنجاني المتوفى سنة 656هـ كتابه (تخريج الفروع على الأصول) ، وابن التلمساني في (مفتاح الأصول إلى علم الأصول) ، وممن ألّف أيضا ابن اللحام في كتابه (القواعد والفوائد الأصولية) ، وممن ألف في هذا التمرتاشي ، وألف جماعة في هذا الباب.
ولكن يلاحظ عليهم أمور :
أولها : أنّ المسألة الفقهية تُبنى على أدلة كثيرة ، فعند حصر المسألة الفقهية في دليل واحد ، يكون ذلك جوْرا على بعض الأدلة لصالح بعض ، عندنا مسألة فقهية انبنت على دليل من شرع من قبلنا ، ودليل من الكتاب ، ودليل من السنة ، فعندما تحصر المسألة الفقهية في شرع من قبلنا يكون كلامك خاطئا.
الأمر الثاني : أنّ كثيرا من أهل العلم يُخرّج المسائل أو يُخرّج ألفاظ الناس على الكلام الفقهي ، فعندك مثلا : إذا قال الزوج للزوجة : طالق ، فهم خرّجوها على مسألة المفرد المضاف إلى معرفة ، هل يعم أو لا؟
حينئذ نقول : نحن لا نعتني بتخريج كلام الناس على الأصول ، وإنما نعتني بتخريج المسائل الفقهية الشرعية على الأصول.
الأمر الثالث : أنّ كثيرا منهم يُخرّج المسألة على أصل التقعيد ، وإن كانت متفرّعة على بعض شروط المسألة الأصولية ، مثال هذا : عندنا مسألة : الأمر هل يفيد الوجوب أو لا؟ يأتي الفقيه ويخرّج عليها مسألة الإشهاد بالبيع ، لقوله : {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} في الحقيقة هذه لا تخرج على قاعدة : الأمر للوجوب ، وإنما تخرّج على قاعدة : هل وجدت قرينة تصرف هذا الأمر عن أصله الذي هو الوجوب أو لا.
على كلٍ الأصل أن تخرّج المسائل الفقهيّة على النصوص ، فإن عجز الإنسان خرّجها على العلل والقواعد الفقهيّة.
قال المؤلف : (من وراء الفقه التفقه) فمنشأ حصول الفقه عندك هو التفقه ، والتفقه والفقه هو الذي يجعلك تعلّق الأحكام الشرعية بأدلّتها وبعللها ، وهذا هو الفقه الذي هو تعليق الحكم بدليله ، هذا هو الفقه ، وهو الداخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم : "رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"
فالفقه هو الاستنباط : يعني استخراج الحكم من الدليل ، وهو الاستدراك في معاني الكلام من طريق فهم ، يعني استخراج الفوائد من الكلام ، وفي ضمن هذا الحديث أنّ التفقه واجب للحاجة إليه ، والبحث على معاني الحديث ، هذا مما يدخل في الحديث في التفقه.
فمن معاني التفقه : استنباط الفوائد واستنباط الأحكام من الأدلة.
(للشيخين في ذلك القِدح المعلى) ما هو القِدح؟ السهم ، فالسهم الذي يسبق ، أو يفوز ، أو يُدرك محل السبق.
وبعضهم يقول : هو الرِيَش التي تكون في السهم أو في مقدمته.
(ومن نظر في كتب هذين الإمامين) شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم ، فإنه يستنبط منهما فوائد ، يقول: كيف فتح الله عليهم هذه الفوائد.
(قال ابن تيمية : كنا في مجلس التفقه في الدين ، والنظر في مدارك الأحكام) المدارك التي هي العلل والمعاني التي يُربط الحكم بها.
(تصويرا) يعني معرفة صورة المسألة ، وهذا أول ما تبدأ به ، ثم بعد ذلك :
(تقريرا) تقرر هذه المسألة.
ثم (تأصيلا) معرفة الأصل الذي ترجع إليه.
(تفصيلا) معرفة كيف انبنت هذه المسألة على أصلها.
(وبين يدي التفقه التفكر) وهو التأمل قبل أن تحصل لك رتبة الفقه ، لابد أن يسبقها التفكر ، والله جل وعلا قد أمر عباده بالتفكر ، سواء التفكر في الآيات الشرعية كتابا وسنة ، أو التفكر في الآيات الكونية.
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} آياته الشرعية هنا ، لأنّ البيان في الكتاب والسنة.
وحينئذ التفكر طريق للتفقه ، لكن التفقه أعمق ، فالتفكر وسيلة ، والتفقه نتيجة.
وقد عاب الله على المنافقين بأنهم لا يكادون يفقهون حديثا ، ومن هنا فالتفقه مبني على الأدلة والبراهين ، لكنه إذا حصل هناك هوى وتشهّي فإنّ الإنسان لن يفقه ، التشهّي والهوى يصد العقل عن التفقه.
(فيا أيها الطالب تحلّى بالنظر والتفكر والفقه والتفقه) وحينئذ تصل إلى مرحلة فقيه النفس ، والناظر في الأحكام الشرعية يجد أنّ الفقهاء على ثلاثة أنواع :
النوع الأول : الفقيه الذي ينظر في جزئيات المسائل ، ويتقنها ، فمثل هذا يُسمونه بالفقيه ، ولكنه لا يجوز له استنباط الأحكام من الأدلة.
والنوع الثاني : من يتجاوز الجزئيات إلى الكلّيات ، فيُحصّل كُلّيات الشريعة ، فهذا يتمكّن من التخريج والتفقه ، و لكن قد يُخطئ كثيرا ، لأنه يغفل عن جزئيات تُرتب عليها كُلّيات.
الثالث : من أدرك الجزئيات والكليات ، هذا هو الفقيه ، هذا هو فقيه النفس.
قال المؤلف في تفسير التفكر : (هو التحرك بإجالة النظر –يعني تقليب النظر وجعله يجول- العميق في التفكر)
(فأجل النظر عند الواردات) يعني المسائل الجديدة ، بتخريج هذه الواردات على أصولها ، ومما يعينك على ذلك ، ضبطك للقواعد الفقهية والضوابط.
ذكر المؤلف شيئا من الكليات : (المصالح ، ودفع الضرر والمشقة ، جلب التيسير ، سد باب الحيل ، سد الذرائع) هذه كلها إيش؟ من القواعد الكلية ، سبق أن ذكرنا أنّ الشرع ينقسم إلى جزئيات و كليات ، من حصّل الجزئيات ولم يحصّل الكليات ، لا يجوز له أن يجتهد ، ليس مؤهلا.
الثاني : من تجاوز الجزئيات إلى معرفة الكليات، لكنه لم يحط بالجزئيات ، فهذا يجوز له الاجتهاد ، لكن كثيرا ما يخطئ ، يعني يخفى عليه بعض الجزئيات التي تخالف تفصيله ، مثال هذا :
ما هي المعاني في باب صلاة الجمعة ، اليوم صلينا الجمعة ، ما مقصود الشارع من هذا؟
قال : مقصد الشارع من هذا هو اجتماع الناس ، فقد يأتيك فقيه فيقول : قد نؤخر صلاة الجمعة عن أول الوقت ، فالمستحب أن نؤخر صلاة الجمعة عن أول الوقت إذا كان هناك عمل ، كان هناك شغل ، حينئذ نقول : هذا اجتهاد جيد ، لكن مرّة قد يقول : الناس لا يتمكنون من الاجتماع يوم الجمعة لانشغالهم بالوظائف في دول الغرب ، ويوم الإجازة هو يوم الأحد فمراعاةً لمقصد الشريعة الكلّي في اجتماع الناس نجعل صلاة الجمعة يوم الأحد ، ماشي! ليش؟ راعينا الكليات ، إذن هنا وقعنا في خطأ ، لماذا؟ لأننا راعينا الكليّ ولم نلحظ الجزئي.
هكذا أيضا فيما يتعلّق بدفع الضرر أو بجلب التيسير ، أو بالحيل أو الذرائع ، لابد من ملاحظة الأمرين معا ، الكلي والجزئي.
إن لاحظنا الجزئي وقعنا في غلط ، وصادمنا كلّيات الشريعة ، وإن لاحظنا الكليَ وحده فيمشي على ضعف لأننا قد لا ننتبه إلى جزئي يلحظ فيه كليٌ آخر ، لأننا لو جعلنا صلاة الجمعة يوم الأحد ، لأدّى ذلك إلى تغيير مراسم الشرع ، وانطماس الشريعة بالكلية ، وكل ما جاءنا مسألة رحنا نغير في الشرع من أجل هذه المسألة.
فحينئذ صحيح التفتنا إلى كلي لكن غفلنا عن كلي أهم منه وأولى منه ، وما ذاك إلا لأننا غفلنا عن الجزئيات.
دعا المؤلف إلى التفقه في نصوص الشرع وهذا أعلى من التفقه في القواعد ، وأعلى من التفقه في المقاصد والكليات الشرعية.
قال : (فإن خلا فهمك من هذا أو نبا سمعك –يعني انتقل وتركه- فإن وقتك ضائع)
(هذه الخلة) وهي تخريج الفروع على الأصول والتفقه هي التي تعطيك التمييز الدقيق ، يعني الفصل بين المسائل المختلفة لاختلاف عللها ومداركها.
وهو الذي يعطيك المعيار الصحيح الذي تحكم به على المسائل وعلى المتكلّمين في الحكم.
قال المؤلف : (فالفقيه هو الذي تعرض له النازلة لا نصّ فيها فيقتبس لها حكما من النصوص) هذا هو الفقيه ، لكن لابد أن يعرف الأصول أي النصوص الشرعية ، ويعرف قواعد الاستنباط ، ويتمكّن من تطبيقها.
قول المؤلف هنا : (لا نص لها) أو (لا نص فيها) مراده : لم يعرف الناس النص بتلك المسألة وإلا ما من مسألة إلا وفيها نص ، لكن في بعض المواطن تخفى النصوص على بعض الفقهاء ، فيحتاجون إلى إعمال التخريج وإعمال القياس.
من حفظ القواعد الأصولية لكنه لا يتمكن من تطبيقها فليس بأصولي ، هكذا الفقيه ، من حفظ الفروع الفقهية لكنه لا يتمكن من استخراجها ، هذا ليس بفقيه وإنما هو فروعي ، إنما هذا فروعي.
حفظ المغني ، حفظ المنذر ، حفظ زاد المستقنع ، والروض ، لكنه لا يعرف استخراج أحكام المسائل الجديدة من الأدلة ، هذا ليس بفقيه ، هذا فروعي ، هكذا أيضا في البلاغي ، أو النحوي ، إنسان حفظ قواعد النحو ، لكن ما يعرف يطبّقها ، ولا يعرف يستخرج الخطأ ، ولا يعرف يفهم من خلال قواعد النحو كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الناس ، فحينئذ هذا ليس بنحوي ، مثله الفقيه الذي لا يعرف كيفية الاستنباط هذا ليس بفقيه ، نعم.
آفاق التيسير 



31- اللجوءُ إلى اللهِ تعالى في الطَّلَبِ والتحصيلِ :

شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
*لا تَفْزَعْ إذا لم يُفْتَحْ لك في علْمٍ من العلومِ ؛ فقد تَعاصَتْ بعضُ العُلومِ على بعضِ الأعلامِ المشاهيرِ ، ومنهم مَن صَرَّحَ بذلك كما يُعْلَمُ من تَرَاجِمِهم، ومنهم : الأَصْمَعِيُّ في عِلْمِ العَروضِ1 والرُّهاويُّ المحدِّثُ في الْخَطِّ ، وابنُ صالحٍ في الْمَنْطِقِ ، وأبو مسلِمٍ النحويُّ في عِلْمِ التصريفِ2 والسيوطيُّ في الْحِسابِ ، وأبو عُبيدةَ ، ومحمَّدُ بنُ عبدِ الباقي الأنصاريُّ ، وأبو الحسَنِ القَطيعيُّ ، وأبو زَكَرِيَّا يَحْيَى بنُ زِيادٍ الفَرّاءُ ، وأبو حامدٍ الغزاليُّ ، خَمْسَتُهُم لم يُفْتَحْ لهم بالنحوِ .
الشيخ:

لكن هذا لا يضر... ما دمنا نطلب الفقه لا يضرنا أن نتكلم بكلام أو ألا نعرف النحو. لكن لا شك إذا تكلم بكلام مطابق للغة العربية فإن كلامَهُ يكون مقبولا محبوبا للنفس، والإنسان الذي يعرف العربية أكره ما يسمع أن يتكلم الإنسان ويلحن، يكره الكلام من هذا الرجل كراهية عظيمة.
فإن عجزت عن فن فالجأ إلى الله عز وجل، ومر علينا في خلاف الأدباء أن أحد أئمة النحو- إذا لم يكن الكسائي- فهو مثله، طلب النحو وعجز عن إدراكه في يوم من الأيام رأى نملة تريد أن تصعد بطعام لها من الجدار فكلما صعدت سقطت ثم تأخذ هذا الطعام وتمشي ثم تسقط ثم تصعد وربما كل مرة تقول: أرفع قليلا حتى اقتحمت العقبة وتجاوزته، فقال: إذا كانت هذه تحاول وتفشل عدة مرات ولكنها استمرت حتى انتهى أمرها، فرجع إلى علم النحو وتعلمه حتى صار من أئمته.
فأنت تحاول، لا تقول عجزت هذه المرة، تعجز هذه المرة، لكن المرة الثانية يقرب لك الأمر.


*فيا أيُّها الطالِبُ ! ضاعِف الرَّغبةَ ، وافْزَعْ إلى اللهِ في الدعاءِ واللجوءِ إليه والانكسارِ بينَ يَدَيْهِ .وكانَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميةَ رَحِمَه اللهُ تعالى ، كثيرًا ما يَقولُ في دعائِه إذا اسْتَعْصَى عليه تفسيرُ آيةٍ من كتابِ اللهِ تعالى : ( اللَّهُمَّ يَا مُعَلِّمَ آدَمَ 3وإبراهيمَ عَلِّمْنِي ، ويا مُفَهِّمَ سليمانَ4 فَهِّمْنِي. فيَجِدُ الْفَتْحَ في ذلك ) .
الشيخ:

وهذا من باب التوسل بأفعال الله، والتوسل بأفعال الله جائز، لأن التوسل جائز وممنوع، وإن شئت فقل: مشروع وغير مشروع.
التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته وأفعاله من المشروع، وكذلك التوسل إلى الله تعالى بذكر شكوى الحال وأنه مفتقر إليه، والتوسل إلى الله بالإيمان به، والتوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح، والتوسل إلى الله تعالى بدعاء من يرجي استجابة دعاءه.كل هذا مشروع.
آفاق التيسير
شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري:
القارئ :
قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
31- اللجوءُ إلى اللهِ تعالى في الطَّلَبِ و التحصيلِ :
لاتَفْزَعْ إذا لم يُفْتَحْ لك في علْمٍ من العلومِ ؛ فقد تَعاصَتْ بعضُ العُلومِ على بعضِ الأعلامِ المشاهيرِ ، ومنهم مَن صَرَّحَ بذلك كما يُعْلَمُ من تَرَاجِمِهم ، ومنهم : الأَصْمَعِيُّ في عِلْمِ العَروضِ والرُّهاويُّ المحدِّثُ في الْخَطِّ ، وابنُ صالحٍ في الْمَنْطِقِ ، وأبو مسلِمٍ النحويُّ في عِلْمِ التصريفِ والسيوطيُّ في الْحِسابِ ، وأبو عُبيدةَ ، ومحمَّدُ بنُ عبدِ الباقي الأنصاريُّ ، وأبو الحسَنِ القَطيعيُّ ، وأبو زَكَرِيَّا يَحْيَى بنُ زِيادٍ الفَرّاءُ ، وأبو حامدٍ الغزاليُّ ، خَمْسَتُهُم لم يُفْتَحْ لهم بالنحوِ .
فياأيُّها الطالِبُ ! ضاعِف الرَّغبةَ ، وافْزَعْ إلى اللهِ في الدعاءِ واللجوءِ إليه والانكسارِ بينَ يَدَيْهِ .وكانَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميةَ رَحِمَه اللهُ تعالى ، كثيرًا ما يَقولُ في دعائِه إذا اسْتَعْصَى عليه تفسيرُ آيةٍ من كتابِ اللهِ تعالى : (اللَّهُمَّ يَا مُعَلِّمَ آدَمَ وإبراهيمَ عَلِّمْنِي ، ويا مُفَهِّمَ سليمانَ فَهِّمْنِي. فيَجِدُ الْفَتْحَ في ذلك) .
الشيخ :
هذا الأدب متعلق بصعوبة بعض المسائل أو بعض الفنون ، هل تكون عائقا لطالب العلم عن مواصلة العلم ، نقول : لا، لماذا؟
لأنه أولا : طلب العلم لله ، فمقصوده الأساسي هو الأجر والثواب ، وهذا حاصل على كل حال ولو لم يفهم العلم.
ثانيا : كيف نعالج ، أو ثانيا نقول : العلم مسائل متعددة ، وفنون مختلفة ، فإذا استعصى عليك فن وفهمت غيره ، أو استعصت عليك مسألة وفهمت غيرها ، فحينئذ أنت قد حصّلت ولا لوم عليك في ذلك.
ماذا نفعل عند استعصاء بعض العلوم والفنون؟
أولا : نواصل العلم والتعلم في بقية العلوم وبقية المسائل ، وهذه المسألة التي استشكلت علينا نتركها ، حتى يأتي وقت فهمها ، فكونك تريد فهم مسألة ، فتعيقك عن فهم بقية المسائل ، ليس من العقل في شيء ، فاتركها حتى يأتي سبيل فهمها.
الثاني : الاتصال بالعلماء الفاهمين الناصحين ، فهم سيشرحون لك هذه المسألة ، ويبيّنونها لك.
الثالث : مراجعة كتب أهل العلم الأخرى ، فإنها تسهّل لك الفهم ، إذ قد يُعبّر الإنسان ، وقد يتكلم الإنسان بجملة غير مفهومة في موطن ، ويتكلم إنسان آخر عن هذا المعنى في كتاب آخر بأسلوب واضح سهل.
الأمر الرابع : التوكل على الله وحسن اللجوء إليه ، بأن يعلمك ويفهمك ، والله قد وعد بإجابة الداعين ، ومما يتعلّق بهذا طلب العبد من ربّه جل وعلا أن يزيده من العلم ، كما قال تعالى : {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}
قال المؤلف : (لا تفزع) يعني لا تحزن ولا يصدّنك عن طلب العلم كونك لم تفهم علما من العلوم ، مالم تفهمه تجاوزه إلى غيره.
ولهذا نجد بعض الأئمة عَسُر عليه فهم بعض العلوم ، فلم يصدّهم ذلك عن التعلم ، بل أصبحوا أئمة علماء مشهورين في فنون أخرى غير الفنون التي استعصت عليهم ، وقد ذكر المؤلف نماذج لهذا ، وحينئذ على طالب العلم أن يتقرّب إلى الله بالسؤال والتضرع بين يديه أن يفهّمه ما استشكل عليه ، وكان من الأدعية : "اللهم إني أسألك فهم النبيين وحفظ المرسلين والملائكة المقربين"توقف 5 وكم من إمام عرضت لهم مثل هذه المسائل ، وعرضت عليهم إشكالات فلجؤوا إلى الله ، وإلى الصلاة ، فسهّل لهم ما استعصى عليهم.
وقد قال ابن عمر: مكثت سنين في حفظ سورة البقرة 6، لم ينقص هذا من مكانته بل هم من علماء الأمة.
وقال الإمام أحمد : جلست تسع سنوات أدرس وأبحث.
وماذاك إلا أنه استعصى عليهم العلم فقلّبوا النظر فيه وكرّروه وأعادوه حتى فهموه ، نعم.

آفاق التيسير

1- تعريف العَروض: العَروض: على وزن فَعُول، كلمة مؤنثة، تعني القواعد التي تدل على الميزان الدقيق الذي يُعرفُ به صحيح أوزان الشعر العربي من فاسدها.هنا
2-عِلْمِ التصريفِ
في الاصطلاح : فهو تحويل الأصل الواحد إلى أمثلة مختلفة لمعان مقصودة ، لا تحصل تلك المعاني إلا بهذا التغيير . وذلك كتحويل المصدر " قطْع " إلى الفعل الماضي " قطع " ، والمضارع " يقطع " ، والأمر : اقْطَعْ " ، وغيرها مما يمكن أن نتوصل إليه من مشتقات تتصرف عن الكلمة الأصل كاسم الفاعل ، واسم المفعول ، والصفة المشبهة ، وغيرها ،
3-{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }البقرة31

4 -فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}الأنبياء79
5-سؤال :السلام عليكم ورحمة الله وبركاته حياكم الله جميعا لمن هو قريب من العلماء أرجو عرض سؤالى عليهم وسؤالى هو:
هل هذا الدعاء فيه تعدٍّ على الله - عز وجل - وهل ورد عن النبي - صل الله عليه وسلم -: (اللهم إني أسألك فهم النبيين وحفظ المرسلين والملائكة المقربين اللهم اجعل ألسنتنا عامرة بذكرك وقلوبنا بخشيتك وأسرارنا بطاعتك إنك نعم المولى ونعم النصير وحسبنا الله ونعم الوكيل)؟

هذه إجابة فضيلة الشيخ عثمان بن عبد الله السالمي اليمني عن هذا
تفريغ جواب الشيخ - حفظه الله - :

هَذَا فِيه تَعَدٍّ ، نَعَمْ . تقول أَنّه يُعطيك فَهْمَ النبِيِّينَ ، هذا فيه منزلةٌ عاليةٌ ، وكذلك حِفْظ المرسَلِين ، وهكذا حِفْظ الملائكة المقَرَّبِين ، في هذا تَعَدٍّ .
لكن قُلْ : اللَّهُمَّ ارزُقْنِي عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلًا صَالِحًا ، اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي - مَثَلًا - مِثْلَ عِلْمِ السَّلَفِ كَعِلْمِ الزُّهْرِي ، عِلْم الصَّحَابَة - مَثَلًا - مِثْلَ عِلْمِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوْ عِلْمًا مِثْل عِلْمِ البُخَارِيّ .. مُمكن .
أما تَقُول : فَهْمَ الأَنْبِياء ! هَذَا فِيهِ تَطَاوُل كَثِير .
هنا
وهنا

6-
أثر ابن عمر : فقد ذكره الإمام مالك في " الموطأ " ( 479 ) أَنَّهُ بَلَغَهُ " أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَكَثَ عَلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثَمَانِيَ سِنِينَ يَتَعَلَّمُهَا " ، والبلاغ يعني : أنه مقطوع الإسناد في أوله ، وعليه : فيكون الأثر ضعيفاً .
وقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنه بإسناد صحيح متصل أنه مكث أربع سنين في تعلُّم سورة البقرة ، وهو ما رواه ابن سعد في " الطبقات الكبرى " ( 4 / 164 ) قال : أخبرنا عبد الله بن جعفر حدثنا أبو المليح عن ميمون " أن ابن عمر تعلَّم سورة البقرة في أربع سنين " .
الإسلام سؤال وجواب 



32- الأمانةُ العلْمِيَّةُ :
الأمر الثاني والثلاثون - الأمانةُ العلْمِيَّةُ :
يَجِبُ على طالبِ العلْمِ ، فائِقُ التحَلِّي بالأمانةِ العِلْمِيَّةِ ، في الطلَبِ والتحَمُّلِ والعمَلِ والبلاغِ ، والأداءِ :
( فإنَّ فَلاحَ الأُمَّةِ في صَلاحِ أعمالِها ، وصلاحَ أعمالِها في صِحَّةِ عُلُومِها ،

 وصِحَّةَ عُلومِها في أن يكونَ رجالُها أُمناءَ فيما يَرْوُونَ أو يَصِفُونَ، فمَن تَحَدَّثَ في العِلْمِ بغيرِ أمانةٍ ؛ فقد مَسَّ العلْمَ بقُرحةٍ ووَضَعَ في سبيلِ فَلاحِ الأُمَّةِ حَجَرَ عَثْرَةٍ ) .شرح الشيخ العثيمين رحمه الله:
الشيخ:
هذا أيضا من أهم ما يكون في طالب العلم أن يكون أمينا في علمه، فيكون أمينا في نقله، وأمينا في وصفه. إذا وصف الحال فليكن أمينا لا يزيد ولا ينقص، وإذا نقل فليكن أمينا في النقل لا يزيد ولا ينقص وكثير من الناس تنقصه هذه الأمانة، فتجده يصف من الأحوال ما يناسب رأيه ويحذف الباقي، وينقل من أقوال أهل العلم، بل ومن النصوص ما يوافق رأيه ويحذف الباقي فيكون كالذي قال:
ما قال ربك ويل للأولى سكروا = بل قال ربك ويل للمصلين"فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ"
الماعون 4
نعوذ بالله وحذف "الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ"الماعون 5. وهذا لا شك أنه حجر عثرة وأنه تدليس على العلم، لأن الواجب النقل بأمانة والوصف بأمانة، وما يضرك إذا كان الدليل على خلاف ما تقول، فإنه يجب عليك أن تتبع الدليل وأن تنقله للأمة حتى يكونوا على بصيرة من الأمر.
ومثل هذه الحال- أعني عدم الأمانة- يوجب أن يكون الإنسان فاسقا لا يوثق له بخبر ولا يقبل له نقل لأنه مدلس.

القارئ:
لا تَخلُو الطوائفُ المنتمِيَةُ إلى العلومِ من أشخاصٍ لا يَطلبونَ العِلْمَ ليَتَحَلَّوْا بأَسْنَى فضِيلَةٍ ، أو ليَنْفَعُوا الناسَ بما عَرَفُوا من حِكمةٍ ، وأمثالُ هؤلاءِ لا تَجِدُ الأمانةُ في نفوسِهم مُسْتَقَرًّا ، فلا يَتَحَرَّجُون أن يَرْوُوا ما لم يَسْمَعُوا أو يَصِفُوا ما لم يَعْلَمُوا ، وهذا ما كان يَدْعُو جهابذةَ أهلِ العلْمِ إلى نَقْدِ الرجالِ .

الشيخ:
يقول: (لا تَخلُو الطوائفُ المنتمِيَةُ إلى العلومِ من أشخاصٍ لا يَطلبونَ العِلْمَ ليَتَحَلَّوْا بأَسْنَى فضِيلَةٍ ) لأن طلب العلم يؤدي إلى التحلي بأسنى فضيلة، أي: بأعلاها، (أو ليَنْفَعُوا الناسَ بما عَرَفُوا من حِكمةٍ) ، وإنما يطلبون العلم من أجل نصر آرائهم فتجده يبحث في بطون الكتب ليجد شيئا يقوي به رأيه، سواء كان خطأ أم صوابا، وهذا والعياذ بالله هو المراء والجدال المنهي عنه، أما من يقلب بطون الكتب من أجل أن يعرف الحق فيصل إليه، فلا شك أن هذا هو الأمين المنصف.

القارئ:
وهذا ما كان يَدْعُو جهابذةَ أهلِ العلْمِ إلى نَقْدِ الرجالِ

الشيخ:
يعني هذا هو الذي يدعو جهابذة أهل العلم إلى نقد الرجال ليبينوا أحوالهم وأنه رجل يتبع الهوى ولا يريد الهدى.

القارئ:
وتَمييزِ مَن يُسْرِفُ في القوْلِ مِمَّنْ يَصوغُه على قَدْرِ ما يَعْلَمُ ، حتى أَصْبَحَ طُلَّابُ العِلْمِ على بَصيرةٍ من قِيمةِ ما يَقرؤونَه ، فلا تَخْفى عليهم مَنْزِلَتُه ، من القطْعِ بصِدقِه أو كَذِبِه ، أو رُجحانِ أحدِهما على الآخَرِ ، أو احتمالِهما على سواءٍ ) اهـ .

آفاق التيسير
شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري
القارئ :
قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
32- الأمانةُ العلْمِيَّةُ :
يَجِبُ على طالبِ العلْمِ ، فائِقُ التحَلِّي بالأمانةِ العِلْمِيَّةِ ، في الطلَبِ والتحَمُّلِ والعمَلِ والبلاغِ ، والأداءِ :
(فإنَّ فَلاحَ الأُمَّةِ في صَلاحِ أعمالِها ، وصلاحَ أعمالِها في صِحَّةِ عُلُومِها ، وصِحَّةَ عُلومِها في أن يكونَ رجالُها أُمناءَ فيما يَرْوُونَ أو يَصِفُونَ ، فمَن تَحَدَّثَ في العِلْمِ بغيرِ أمانةٍ ؛ فقد مَسَّ العلْمَ بقُرحةٍ ووَضَعَ في سبيلِ فَلاحِ الأُمَّةِ حَجَرَ عَثْرَةٍ)
لاتَخلُو الطوائفُ المنتمِيَةُ إلى العلومِ من أشخاصٍ لايَطلبونَ العِلْمَ ليَتَحَلَّوْا بأَسْنَى فضِيلَةٍ ، أو ليَنْفَعُوا الناسَ بماعَرَفُوا من حِكمةٍ ، وأمثالُ هؤلاءِ لا تَجِدُ الأمانةُ في نفوسِهم مُسْتَقَرًّا ، فلا يَتَحَرَّجُون أن يَرْوُوا ما لم يَسْمَعُوا أو يَصِفُوا ما لم يَعْلَمُوا ، وهذا ما كان يَدْعُو جهابذةَ أهلِ العلْمِ إلى نَقْدِ الرجالِ ، وتَمييزِ مَن يُسْرِفُ في القوْلِ مِمَّنْ يَصوغُه على قَدْرِ ما يَعْلَمُ ، حتى أَصْبَحَ طُلَّابُ العِلْمِ على بَصيرةٍ من قِيمةِ ما يَقرؤونَه ، فلا تَخْفى عليهم مَنْزِلَتُه ، من القطْعِ بصِدقِه أو كَذِبِه ، أو رُجحانِ أحدِهما على الآخَرِ ، أو احتمالِهما على سواءٍ ) اهـ .
الشيخ:
الصفة الثانية والثلاثون من صفات طالب العلم : الأمانة العلمية ، بحيث لا يكون كاذباً بنسبة شيء إلى نفسه وهو من كلام غيره ، ولا يكون كذلك خائناً فيما يتعلق بعلمه ، فلا يُعطي ولا يتكلم إلا بما يظنه هو الصواب والصحيح ، فالأمانة العلمية في النقل ، والأمانة العلمية في الحديث والتكلم.
وقد جاءت النصوص بالترغيب في الأمانة وفي حفظها ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وحذرت الشريعة من الخيانة ، فمن خصال المنافق أنه إذا عاهد غدر ، وإذا اؤتمن خان.
ونهت الشريعة عن الخيانة ، في الحديث : أنّ أهل الخيانة ينصب لهم ألوية يوم القيامة على أستائهم يقولون : هذه غدرة فلان بن فلان.1
إذا تقرر هذا ، فإنّ الأمانه تكون في الطلب وتكون في وقت التحمل والحفظ ، وتكون وقت العمل ، وتكون أثناء الدعوة والبلاغ.
قال المؤلف : (من تحدث في العلم بغير أمانه ، فقد مسّ العلم بقرحة) القرحة مرض باطني يكون في المعدة ، يصيبها فيجعلها لا تتمكن من هضم الطعام ، فمن تحدث في العلم بغير أمانة ، فإنه سيشوّش على الناس ، (ووضع في سبيل فلاح الأمة حجر عثرة).
ثم قال المؤلف هناك طوائف يتعلمون العلم لأهداف غير مقبولة ، هم لا يتعلمون العلم ليتحلّوا بالفضائل ويتخلقوا بها ، وهم لا يتعلمون العلم لنفع الناس وتعليمهم ، فحينئذ لم توجد أمانة علمية.
بعض الناس يحاول أن يمدح نفسه في نسبة أفعال جميلة للآخرين إليه ، وفي الحديث :" المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" 2 وهذا هو الذي جعل بعض الأئمة يتكلم في بعض الرواة قدحاً ، فكلما وجدوا شخصاً ألَّف أو روى تكلموا فيه ، ببيان مواطن خطأه ، ومواطن تعثره ، ليصبح الطلاب على بصيرة من قيمة هذه المقروءات والمسموعات.
والأولى عدم ذكر الشخص باسمه ليكون ذلك أدعى لنهي التعصب ، ولعله يهدي الله عز وجل ذلك الشخص ، نعم.

آفاق التيسير
- " إذا جمعَ اللهُ الأولينَ والآخرينِ يومَ القيامةِ ، يُرفعُ لكل غادرٍ لواءٌ ، فقيل : هذه غدرةُ فلانِ بن فلانٍ" الراوي : عبدالله بن عمر المحدث : مسلم- المصدر : صحيح مسلم -الصفحة أو الرقم: 1735 خلاصة حكم المحدث : صحيح
الدرر السنية
2
"جاءت امرأةٌ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقالت : إنَّ لي ضَرَّةً . فهل عليَّ جناحٌ أن أتشبَّعَ من مالِ زوجي بما لم يُعطني ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ " المتشبِّعُ بما لم يُعْطَ ، كلابسِ ثوبيْ زورٍ" .


الراوي : أسماء بنت أبي بكر المحدث : مسلم-المصدر : صحيح مسلم الصفحة أو الرقم: 2130 خلاصة حكم المحدث : صحيح

الدرر السنية 

33- الصِّدْقُ :
*صِدْقُ اللهجةِ : عُنوانُ الوَقارِ وشَرَفُ النفْسِ ، ونقاءُ السَّريرةِ وسُمُوُّ الْهِمَّةِ ورُجحانُ العَقْلِ ، ورسولُ الْمَوَدَّةِ من الْخَلْقِ ، وسعادةُ الجماعةِ وصِيانةُ الديانةِ ، ولهذا كان فَرْضُ عينٍ ، فيا خَيْبَةَ مَن فَرَّطَ فيه ، ومَن فَعَلَ فقد مَسَّ نفسَه وعِلْمَهُ بأَذًى
*شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله 

 الصدق هنا قريب من مسألة الأمانة العلمية، لأن الأمانة العلمية تكون بالصدق، والصدق كما قال: عنوان الوقار، وشرف النفس، ونقاء السريرة وإذا كان الكذب ينجي، فإن الصدق أنجى وأنجى. وإن كان الكذب أيضا لا يدوم، لأنه سرعان ما يتبين الكذب ويفتضح الكاذب.
لكن الصدق عاقبته حميدة. فعليك بالصدق، ولو كنت تتخيل أنه يضرك فاصبر، فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا.

- إنَّ الصِّدقَ يَهدي إلى البِرِّ ، وإنَّ البِرَّ يَهدي إلى الجنَّةِ ، وإنَّ الرَّجُلَ ليَصدُقُ حتَّى يَكونَ صدِّيقًا ، وإنَّ الكذِبَ يَهدي إلى الفُجورِ ، وإنَّ الفجورَ يَهدي إلى النَّارِ ، وإنَّ الرَّجُلَ ليَكذِبُ ، حتَّى يُكتَبَ عندَ اللَّهِ كذَّابًا .

الراوي : عبدالله بن مسعود المحدث : البخاري-المصدر : صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 6094 خلاصة حكم المحدث : [صحيح]الدرر السنية


وإني لأذكر رجلا من عامة الناس شهر بالصدق، فكان الناس يتناقلون أخباره في المجالس على التلذذ بها أكثر مما يذكرون أخبار العلماء الذين في وقته لأن الصدق يرفع الله به من اتصف به، لا سيما في مسائل العلم.
فلا تقل إن الله حرم هذا وهو لم يحرمه، ولا أوجب هذا وهو لم يوجبه، ولا قال فلان كذا وهو لم يقله. بل تجنب هذا كله.
وكان الإمام أحمد – رحمه الله – وغيره من الأئمة لا يصرحون بالتحريم إلا ما جاءت النصوص به، وإلا فإنك تجد الإمام أحمد يقول: أكره كذا، لا يعجبني ، لا تفعل . وما أشبه ذلك.
وقول الشيخ بكر – وفقه الله- «ولهذا كان فرض عين»، يعني الصدق فرض عين، لا فرض كفاية، فلا يقول: أنا أكذب، والثاني يصدق.. لا ... لا يجوز أن تكذب.
استثنى بعض العلماء ما جاء عن طريق التورية، ولكن لا حاجة للاستثناء، لأن التورية صدق باعتبار ما في نفس القائل، كمثل قول إبراهيم عليه السلام للملك الجبار هذه أختي.
وهذا ليس بالكذب، وإن كان إبراهيم اعتذر عن الشفاعة بأنه كذب ثلاث كذبات، لكنه كذب من وجه وهو التلبيس على الظالم المعتدي، ولكنه صدق باعتبار ما في نفس القائل.
استثنى بعض العلماء أيضا ما جاء في الحديث أنه لا يجوز الكذب إلا في ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث المرأة لزوجها وحديث الرجل لزوجته.
ولكن بعض العلماء يقول: إن هذا محمول على التورية، وليس على الحقيقة، فالحرب خدعة، بأن تري عدوك أنك تريد جهة ما، وأنت تريد الجهة الأخرى، أو تري عدوك أن عندك جنود كثيرة بحيث أن تجعل الجيش يتراسم، كما فعل القعقاع بن عمرو في أحدى غزواته، قسم الجيش وهم عدد قليل، لكن العدو يظنه عددا كثيرا.
كذلك الإصلاح بين الناس ... لا تكذب، ولكن تأل. إذا قال لك فلان: يقول في كذا وكذا. تقول: لا لم يقل فيك شيئا.
كذلك حديث المرأة زوجها وحديث الرجل زوجته، يعني: على سبيل التورية لا التصريح وهذا القول ليس ببعيد، لأن الكذب كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم يهدي إلى الفجور، لا يهدي إلى الخير. ثم إن الإنسان إذا اعتاد هذا- لاسيما مع الزوجة وصار كلما حدثها بحديث وبحثت عنه وجدته كذبا لم تثق فيه بعد ذلك، وربما يكون سببا لفقدها إياه وللفراق التام.
وعند العامة يستثني كذبا أكثر من ذلك يقولون: الكذب الحرام ما كان فيه أكل للمال بالباطل، وأما ما سواه فهو كذب أبيض ويقسمون الكذب إلى قسمين: كذب أبيض وكذب أسود. والأبيض حلال، والأسود حرام. والأسود ما فيه أكل المال بالباطل، والأبيض ما ليس كذلك، ولكن هذا هو دين العامة وليس شريعة محمد صلى الله عليه وسلم
*قالَ الأوزاعيُّ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( تَعَلَّمِ الصدْقَ قبلَ أن تَتَعَلَّمَ العِلْمَ ) .
وقالَ وَكيعٌ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( هذه الصَّنْعَةُ لا يَرتفِعُ فيها إلا صادقٌ ) .
فتَعَلَّمْ – رَحِمَكَ اللهُ – الصدْقَ قبلَ أن تَتَعَلَّمَ العلْمَ ، والصدْقُ : إلقاءُ الكلامِ على وَجْهٍ مُطابِقٍ للواقِعِ والاعتقادِ ، فالصدْقُ من طريقٍ واحدٍ ، أمَّا نقيضُه الكَذِبُ فضُروبٌ وألوانٌ ومَسالِكُ وأَوديةٌ ، يَجْمَعُها ثلاثةٌ :
كَذِبُ الْمُتَمَلِّقِ : وهو ما يُخالِفُ الواقِعَ والاعتقادَ ، كمن يَتَمَلَّقُ لِمَنْ يَعْرِفُه فاسقًا أو مُبْتَدِعًا فيَصِفُه بالاستقامةِ .
وكَذِبُ المنافِقِ : وهو ما يُخالِفُ الاعتقادَ ويطابِقُ الواقعَ كالمنافِقِ يَنْطِقُ بما يقولُه أهلُ السُّنَّةِ والهدايةِ .
وكَذِبُ الغَبِيِّ : بما يُخالِفُ الواقِعَ ويُطابِقُ الاعتقادَ ، كمَن يَعتقِدُ صلاحَ صُوفِيٍّ مبتدِعٍ فيَصِفُه بالوَلايةِ .

الشرح:
الصدق لا شك أنه سبيل واحد، والكذب سبل، وهكذا الهداية والضلالة.

الهداية سبيلها واحد، والضلالة سبل متفرقة. قال الله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) (سورة الأنعام:153). وأما قوله: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام)(سورة المائدة:16). فقد جمعها باعتبار تنوع الشرائع... صلاة، زكاة، صيام، حج، بر، صلة، صدقة- وما أشبه ذلك فجمعها باعتبار وتوحيدها باعتبار آخر.
أما الكذب فضروب وألوان متعددة، ويتعدد بتعدد أغراضه فهو يجمعها ثلاثة. يقول:
1- «كذب المتملق: وهو ما يخالف الواقع والاعتقاد، كمن يتملق لمن يعرفه فاسقا أو مبتدعا فيصفه بالاستقامة».
تعرف أن هذا الرجل فاسق ثم تأتي إليه وتقول: ما شاء الله أنت رجل مستقيم، مستقيم الأخلاق، مستقيم الدين، مستقيم المنهج. وأنت تعرف أنه أفسق عباد الله.
هذا ماذا يقال له؟ يقال له متملق وهذا أكثر ما يكون عند الملوك والأمراء، تجد الرجل يتملق إلى الأمير أو الملك ويقول: أنت فيك كذا وأنت فيك كذا، وهذا من النفاق العلمي: إذا حدث كذب والعياذ بالله.
2- «كذب المنافق: وهو ما يخالف الاعتقاد ويطابق الواقع» ومنه قوله تعالي (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله). وكونه رسول الله مطابق للواقع. ما الدليل؟ قوله: (والله يعلم إنك لرسوله) . لكن شهادتهم هذه مخالفة لاعتقادهم، لأن الله قال: (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) (سورة المنافقون:1).
أي في قولهم نشهد إنك لرسول الله لا في قولهم إنه لرسول الله. هذا يخالف الاعتقاد ويطابق الواقع.
وهذا باعتبار قول المنافق في غيره، أما باعتبار قوله في نفسه مثلا أنه صالح، فهو يخالف الاعتقاد، ويخالف الواقع إلا ظاهرا.
3- «كذب الغبي: بما يخالف الواقع ويطابق الاعتقاد». وهو أن يقول الشيء ما ليس فيه لغباءه، فيقول مثلا عن أهل الكلام أنهم هم العقلاء، وأنهم أهل العلم والحكمة، أما أهل السنة فهم أغبياء يفوضون النصوص ولا يعرفون لها معنى.
نقول: هذا غبي، ولهذا عبر شيخ الإسلام- رحمه الله- في كتابه الفتوى الحموية، عبر بهذا الوصف فقال:«قال بعض الأغبياء: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم».
وكذلك من يشاهد الصوفية وتصنعهم وعباداتهم، فيقول: إنهم أهل الصلاح وأهل الولاية.
نقول: أنت غبي لا تعرف حقيقتهم فلا تحكم عليهم بالصلاح حتى تعرف الحقيقة، وإلا كنت غبيا.
فهذا كاذب، فهل يعذر بكذبه؟ نقول: إذا أفرط في البحث فلا بعذر وإن كان هذا منتهي علمه، فإنه يعذر لأنه جاهل. أما الأول فهو متملق، والثاني فهو منافق فلا عذر لهم في ذلك.
*فالْزَم الْجَادَّةَ ( الصدْقَ ) ، فلا تَضْغَطْ على عَكَدِ اللسانِ ، ولا تَضُمَّ شَفَتَيْكَ ، ولا تَفتَحْ فاكَ ناطقًا إلا على حُروفٍ تُعَبِّرُ عن إحساسِك الصادِقِ في الباطِنِ ؛ كالحُبِّ والبُغْضِ ، أو إحساسِك في الظاهِرِ ؛ كالذي تُدْرِكُه الحواسُّ الخمْسُ : السمْعُ، البَصَرُ ، الشمُّ ، الذَّوْقُ ، اللمْسُ .فالصادقُ لا يقولُ : ( أَحْبَبْتُكَ ) وهو مُبْغِضٌ ، ولا يقولُ : ( سَمِعْتُ ) وهو لم يَسْمَعْ ، وهكذا .
واحْذَرْ أن تَحومَ حولَك الظنونُ ، فتَخونَك العزيمةُ في صِدْقِ اللهجةِ ، فتُسَجَّلَ في قائمةِ الكذابينَ .وطريقُ الضَّمانةِ لهذا – إذا نَازَعَتْكَ نفسُك بكلامٍ غيرِ صادقٍ فيه - : أن تَقْهَرَهَا بذِكْرِ مَنزِلَةِ الصدْقِ وشَرَفِه ورَذيلةِ الكَذِبِ ودَرَكِه ، وأنَّ الكَاذِبَ عن قريبٍ يَنْكَشِفُ .
واستَعِنْ باللهِ ولا تَعْجِزَنَّ .ولا تَفْتَحْ لنفسِك سابلةَ الْمَعارِيضِ في غيرِ ما حَصَرَه الشرْعُ .
فيا طالبَ العلْمِ ! احْذَرْ أن تَمْرُقَ من الصدْقِ إلى الْمَعارِيضِ فالْكَذِبِ ، وأَسوأُ مَرَامِي هذا الْمُروقِ ( الكَذِبُ في العلمِ ) ؛ لداءِ مُنافَسَةِ الأقرانِ وطَيَرانِ السُّمعةِ في الآفاقِ .

هنا إضافة مهمة جدا، هو أن بعض الناس يتسرع في الرقي إلى العلو بما يلفقه ويوهم الناس به من أنه عنده علم واسع، وأنه عبقري، وأنه في كل فن له يد وما أشبه ذلك. وهذا لا شك أنه غلط عظيم، فهو مع جمعه الكذب، فيه خيانة الناس وإيهامهم بخلاف الواقع. وفيه أيضا التغرير بالنفس، أن الإنسان يزهو بنفسه حتى يحجمها ويكبرها وهي دون ذلك، وكم من إنسان هلك بمثل هذا سواء في طريق العلم أو في طريق العبادة، ولكن سرعان ما ينكشف، سرعان ما يرد عليه شيء يعجز عنه وحينئذ إما أن يقول ما هو معلوم كذبه فينكشف، وإما أن يتذبذب ويفتضح أمره.
ولهذا كان مما قاله عبد الله بن مسعود:«إن من العلم أن تقول لما لا تعلم لا أعلم».
وذكر بعضهم أن قول القائل:«لا أعلم» هي نصف العلم، ولكن في الواقع: العلم كله، والإنسان إذا عرف بالتحري وأنه يقول بما لا يعلم«لا أعلم» وثق الناس بقوله، أما إذا كان يجيب على كل ما يسأل حتى لو كان لا يعرف شيئا فيما سئل فيه، فإنه سوف ينكشف أمره وسوف لا يثق الناس بقوله حتى ولو كان حقا. ولكن ما الذي يحمل الإنسان على أن يقول مثل هذا؟
يحمله طلب العلو، أن يكون فائقا على الأقران، أو طلب الصيت والشهرة بحيث يقال العلامة، الفهامة، البحر الزاخر وما أشبه ذلك.
وهذه لا شك أنها من مكائد الشيطان، فالواجب عليك أن تعرف قدر نفسك وأن لا تنزلها فوق منزلتها، ثم إن القول في مسائل الدين أخطر ما يكون لأنه قول على الله بلا علم، وقد قال الله عز وجل (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) (سورة الأعراف: 33).
بعض الناس إذا عثر على خطأه قال: سبحان الله، سبحان الذي لا ينسى نعم.... لكن أنت لم تنس، بل أنت جاهل من أصله.
ومَن تَطَلَّعَ إلى سُمْعَةٍ فوقَ مَنْزِلَتِه ؛ فلْيَعْلَمْ أنَّ في الْمِرصادِ رِجالًا يَحْمِلون بصائرَ نافذةً ، وأقلامًا ناقدةً ، فيَزِنُونَ السُّمعةَ بالأَثَرِ ، فتَتِمُّ تَعريتُك عن ثلاثةِ معانٍ :
فَقْدُ الثقةِ من القلوبِ .
ذَهابُ عِلْمِكَ وانحسارُ القَبولِ .
أن لا تُصَدَّقَ ولو صَدَقْتَ .
وبالجملةِ ؛ فمَن يَحترِفْ زُخرُفَ القولِ ؛ فهو أَخُو الساحرِ ، ولا يُفْلِحُ الساحرُ حيث أَتَى، واللهُ أَعْلَمُ .

هذا صحيح.. الإنسان إذا تطلع إلى السمعة فقط ونزل فوق منزلته فسرعان ما ينكشف،ثم إن النية في طلب العلم يجب فيها الإخلاص لله عز وجل، ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم :«أن من طلب علما وهو مما يبتغي به وجه الله لا يريد إلا أن ينال عرضا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة. وأن من طلب العلم ليماري به السفهاء أو ليجاري به العلماء فليتبوء مقعده من النار» . فالمسألة خطيرة، ولا سيما العلوم الشرعية. وذكر ثلاث مضار.
أولا- فقد الثقة في القلوب، متى تفقد؟ إذا تبين أنه قال عن جهل؛ ما يثقون به وينصرفون إلى غيره.
ثانيا- ذهاب علمك وانحسار القبول: لأنه إذا فقدت الثقة لم يقبله الناس فإذا كان يقبله مثلا (10)، فإنهم إذا فقدوا الثقة انحسروا إلى (5) أو إلى (4).
ثالثا- أن لا تصدق ولو صدقت: حتى لو حدثتهم بحديث يعرفونه. قالوا: هذا رمية من غير رام.
فالحاصل أن الإنسان يجب أن يعرف مقدار نفسه وأن يحترم العلم، وأن لا يجعله به وسيلة للرقي الخادع.
آفاق التيسير


*شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري

القارئ :
قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
33- الصِّدْقُ :
صِدْقُ اللهجةِ : عُنوانُ الوَقارِ وشَرَفُ النفْسِ ، ونقاءُ السَّريرةِ وسُمُوُّ الْهِمَّةِ ورُجحانُ العَقْلِ ، ورسولُ الْمَوَدَّةِ من الْخَلْقِ ، وسعادةُ الجماعةِ وصِيانةُ الديانةِ ، ولهذا كان فَرْضُ عينٍ ، فياخَيْبَةَ مَن فَرَّطَ فيه ، ومَن فَعَلَ فقد مَسَّ نفسَه وعِلْمَهُ بأَذًى .
قالَ الأوزاعيُّ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( تَعَلَّمِ الصدْقَ قبلَ أن تَتَعَلَّمَ العِلْمَ) .
وقالَ وَكيعٌ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( هذه الصَّنْعَةُ لا يَرتفِعُ فيها إلاصادقٌ) .
فتَعَلَّمْ – رَحِمَكَ اللهُ – الصدْقَ قبلَ أن تَتَعَلَّمَ العلْمَ ، والصدْقُ : إلقاءُ الكلامِ على وَجْهٍ مُطابِقٍ للواقِعِ والاعتقادِ ، فالصدْقُ من طريقٍ واحدٍ ، أمَّا نقيضُه الكَذِبُ فضُروبٌ وألوانٌ ومَسالِكُ وأَوديةٌ ، يَجْمَعُها ثلاثةٌ :
كَذِبُ الْمُتَمَلِّقِ : وهو ما يُخالِفُ الواقِعَ والاعتقادَ ، كمن يَتَمَلَّقُ لِمَنْ يَعْرِفُه فاسقًا أو مُبْتَدِعًا فيَصِفُه بالاستقامةِ .
وكَذِبُ المنافِقِ : وهو ما يُخالِفُ الاعتقادَ ويطابِقُ الواقعَ كالمنافِقِ يَنْطِقُ بما يقولُه أهلُ السُّنَّةِ والهدايةِ .
وكَذِبُ الغَبِيِّ : بما يُخالِفُ الواقِعَ ويُطابِقُ الاعتقادَ ، كمَن يَعتقِدُ صلاحَ صُوفِيٍّ مبتدِعٍ فيَصِفُه بالوَلايةِ .
فالْزَم الْجَادَّةَ ( الصدْقَ ) ، فلا تَضْغَطْ على عَكَدِ اللسانِ ، ولا تَضُمَّ شَفَتَيْكَ ، ولا تَفتَحْ فاكَ ناطقًا إلا على حُروفٍ تُعَبِّرُ عن إحساسِك الصادِقِ في الباطِنِ ؛ كالحُبِّ والبُغْضِ ، أو إحساسِك في الظاهِرِ ؛ كالذي تُدْرِكُه الحواسُّ الخمْسُ : السمْعُ، البَصَرُ ، الشمُّ ، الذَّوْقُ ، اللمْسُ .فالصادقُ لا يقولُ : ( أَحْبَبْتُكَ ) وهو مُبْغِضٌ ، ولا يقولُ : ( سَمِعْتُ ) وهو لم يَسْمَعْ ، وهكذا .
واحْذَرْ أن تَحومَ حولَك الظنونُ ، فتَخونَك العزيمةُ في صِدْقِ اللهجةِ ، فتُسَجَّلَ في قائمةِ الكذابينَ .وطريقُ الضَّمانةِ لهذا – إذا نَازَعَتْكَ نفسُك بكلامٍ غيرِ صادقٍ فيه - : أن تَقْهَرَهَا بذِكْرِ مَنزِلَةِ الصدْقِ وشَرَفِه ورَذيلةِ الكَذِبِ ودَرَكِه ، وأنَّ الكَاذِبَ عن قريبٍ يَنْكَشِفُ .
واستَعِنْ باللهِ ولا تَعْجِزَنَّ .ولاتَفْتَحْ لنفسِك سابلةَ الْمَعارِيضِ في غيرِ ما حَصَرَه الشرْعُ .
فيا طالبَ العلْمِ ! احْذَرْ أن تَمْرُقَ من الصدْقِ إلى الْمَعارِيضِ فالْكَذِبِ ، وأَسوأُ مَرَامِي هذا الْمُروقِ ( الكَذِبُ في العلمِ ) ؛ لداءِ مُنافَسَةِ الأقرانِ وطَيَرانِ السُّمعةِ في الآفاقِ .
ومَن تَطَلَّعَ إلى سُمْعَةٍ فوقَ مَنْزِلَتِه ؛ فلْيَعْلَمْ أنَّ في الْمِرصادِ رِجالًا يَحْمِلون بصائرَ نافذةً ، وأقلامًا ناقدةً ، فيَزِنُونَ السُّمعةَ بالأَثَرِ ، فتَتِمُّ تَعريتُك عن ثلاثةِ معانٍ :
فَقْدُ الثقةِ من القلوبِ .
ذَهابُ عِلْمِكَ وانحسارُ القَبولِ .
أن لا تُصَدَّقَ ولوصَدَقْتَ .
وبالجملةِ ؛ فمَن يَحترِفْ زُخرُفَ القولِ ؛ فهو أَخُو الساحرِ ، ولا يُفْلِحُ الساحرُ حيث أَتَى ، واللهُ أَعْلَمُ .
الشيخ :
هذا هو الأدب الثالث والثلاثون من آداب طالب العلم : الصدق ، قد قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم :" عليكم بالصدق ، فإنّ الصدق يهدي إلى البر ، وإنّ البر يهدي إلى الجنة ، وإياكم والكذب ، فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور ، وإنّ الفجور يهدي إلى النار".
ويقول صلى الله عليه وسلم :" الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة"
والصدق له صلة بالأمانة ، فإنّ غير الأمين غير صادق ، ونضرب لهذا مثلاً :
من قال أنّ الفقيه الفلاني يقول : بكذا وهو لم يتأكد أو يعرف خلافه ، فحينئذ ليس بصادق ولا بأمين.
وصدق اللهجة ينتج عن أمور :
أولها : رضا رب العزة والجلال وتحصيل التقوى.
وثانيها : أنّ الصدق سبب لتوقير الخلق بالإنسان وقبولهم ما جاء به.
وثالثها : أنّ الصدق يحصل به الشرف وطمأنينة النفس ، ونقاء السريرة ، وسمو الهمة.
الصدق يحصل به رجحان العقل ، ويحصل به محبة الخلق ويحصل به (صيانة الديانة) ، (قال الأوزاعي :" تعلم الصدق قبل العلم").
(قال وكيع :" هذه الصنعة لا يرتفع بها إلا الصادق") يعني لا يحُصِّل فيها العلم إلا صادق.
ومن هنا يقّدم تعويد النفس على الصدق على طلب العلم ، والصدق يكون بأمرين : موافقة الواقع ، وموافقة الاعتقاد.
أنا أظن أنّ زيد ليس وراء الجدار ، وقلت : زيد وراء الجدار ، فصار حقيقةً زيد وراء الجدار ، حينئذ هذا يخالف الاعتقاد لكنه لا يخالف الواقع.
مثال هذا : رأى أخته حاملاً ، قال في بطنها ولد ذكر ، ولدت وأصبح ولداً ذكراً ، نقول هنا : هذا كلام كاذب وهو وإن وافق الواقع لكنه يخالف الاعتقاد وبالتالي يكون كلاماً كذباً.
ومن هنا قسم المؤلف الناس ثلاثة أقسام :
كذب المتملق : وهو الذي يعتقد أنّ كلامه باطل ، ويكون كلامه مخالفاً للواقع.
أبو محمد قابله شخص بينه وبينه عداوة ، فقال له : إني أحبك.
وهو لا يحبه ولا شيء ، ويعاديه ، حينئذ ؛ هل هو موافق للواقع ، هل هو موافق للاعتقاد ، مخالف للواقع ومخالف للاعتقاد ، هذا إذاً متملق ، هذا إيش يصير؟ متملق.
الثاني كذب المنافق : المنافق يقول : أنا أحب المؤمنين ، وأحب أهل التقوى وهو يكذب ، يقول : الدعاةُ صادقون ، لكن في نفسه يقول : ما لهم فائدة في المجتمع ، فهو يقول الدعاة صادقون نافعون للأمة بلسانه ، لكن في قلبه يقول : ضيّقوا على الناس ، حينئذ نقول : هذا منافق ، لأنه تكلم بكلام يوافق الواقع لكنه يخالف اعتقاده.
النوع الثالث كذب الغبي : بما يخالف الواقع ، قال : يظن أنّ محمد خلف الجدار فقال : محمد خلف الجدار ، لكنه لم يكن خلف الجدار.
كذلك من اعتقد أنّ الصوفي صالح ، وهو مبتدع ، ووصفه بالولاية ، هذا يخالف الواقع ، لأنّ شرط الولاية الإيمان والتقوى ، كما في قوله سبحانه :" أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" إذا جاءك صوفي يقول : تُطرح التكاليف ، فحينئذ نقول : هذا ، هل هو مخالف للواقع؟ نعم ، مخالف للواقع ، لكنه يطابق اعتقاده ، فيكون هذا من كذب الغبي.
قال : (فلا تضغط على عكد اللسان) جزء من الزائد من اللسان ، يعني بالكذب.
(ولا تضم شفتيك ولا تفتح فاك –يعني الفم- ناطقا) ولاتتكلم إلا بالصدق.
(بحروف تعبر عن إحساسك الصادق في الباطن ، كالحب والبغض ، وإحساسك في الظاهر ، سواء أدركته بالحواس الخمس) أو أدركته بواسطة الاستدلال.
قال : ( فالصادق لايقول "أحببتك" وهو مبغضك) هذا من أي أنواع الكذبة ، المتملق ، مخالف الواقع والاعتقاد.
(ولا يقول "سمعت" وهو لم يسمع ، واحذر أن تحوم حولك الظنون) فيتهموك بالكذب ، وحينئذ لا يقبل منك ، وبالتالي تصبح من الكذبة.
قد يقول قائل : كيف أدرّب نفسي على الصدق وترك الكذب؟ هذا بأمور :
أولاً : استحضار أنّ الله أمرك بذلك.
ثانياً : بمعرفة رذيلة الكذب وفائدة الصدق.
وثالثاً : بالنظر في أحوال الصدقة والكذبة ، أهل الصدق نصرهم الله وأيّدهم ، وأهل الكذب خذلهم الله.
قال المؤلف عن المعاريض ؛ المعاريض : أن تتكلم بكلام له معنيان ، أحدهما صدق وواقع وتريد غيرك يطلع عليه ، والثاني خفي قد تُكَذّب فيه.
جاء في الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم :" إنّ في المعاريض لمندوحةً عن الكذب" ، نمثل للمعاريض : هذا أخوك؟ لـمّا سألته : هذا أخوك ، وهو ليس ابن أبيه ولا أمه ، قال : نعم ، وأراد أخوة الإسلام ، ظاهر مني لـمّا سألت : هل هذا أخوك أريد الأخوة من النسب ، فلما قال : نعم ، حينئذ أوهمني بأن المراد الأخوة النسبية ، وكان مراده الأخوة الإيمانية.
هكذا أيضاً ، ما حكم المعاريض ، المعاريض على أربعة أنواع :
النوع الأول : إذا كان يتوصل بها إلى إبطال الحقوق وأكل أموال الناس فهي حرام.
قال : أشهد بالله أنّ ماله عند زيد شيء ، ظاهر هذه العبارة أنّ ما نافية ، أليس كذلك ؛ تنفي وجود الحق ، لكن لما عدنا إليه وسألناه ، قال: أنا أقصد ما الموصولة ، ما له يعني : الذي له على زيد شيء ، هذا إيش؟ من المعاريض ، وتوصّلنا به إلى إبطال الحق ، فيكون محرماً.
كذلك المعاريض في الأيمان ماتجوز ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :" يمينك على مايصدقك به صاحبك"
المعاريض التي يتوصل بها إلى إحقاق حق أو إصلاح بين اثنين ، أو إبطال خصومه ، هذه مشروعة.
ويؤجر إن شاء الله الإنسان عليها.
بعض الناس يكذب في المسائل العلمية ليهزّ الناس ، ويكون له مكانة ومنزلة ، قال : أنا وجدت في الكتاب الفلاني ، وما قرأ ولا اطّلع عليه ، هذا كذب ، لا يبارك له في كلامه.
قال المؤلف : ( فمن تطلع إلى سمعة فوق منزلته) فإنّ الله سيعاقبه ، وما طار طيرٌ وارتفع إلا كما طار وقع.
والكذب يورث عدم الثقة في الكاذب ، إذا كذب أول مرة احتمال أن يكذب عليك مرة ثانية ، وذهاب بركة علمه ، بل قد يؤدي إلى زوال علمه بالكلية ، والثالث : عدم قبول الناس وعدم تصديق الناس لكلامه.
الساحر يُظهر للناس أمور مخالفة للحق وللواقع ، فحينئذ كان فيه شبه من الكاذب ، ولذلك قارن المؤلف بينهما ، نعم.

آفاق التيسير 



34-جُنَّةُ طالِبِ العلْمِ :
جُنَّةُ العالِمِ ( لا أَدْرِي ) ويَهْتِكُ حِجابَه الاستنكافُ منها ، وقولُه: يُقالُ .....
وعليه ؛ فإن كان نِصْفُ العلْمِ ( لا أَدْرِي ) ؛ فنِصْفُ الجهْلِ ( يُقالُ ) و( أَظُنُّ )
*شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
 الشيخ:
نعم صحيح. هذا تتميم لما قبله، أن الإنسان يجب عليه إذا لم يعلم أن يقول: لا أعلم ولا يضره هذا، بل يزيده ثقة بقوله.
وأما قوله :«نصف الجهل أظن أو يقال » هذا صحيح. بعض العوام تسأله هل هذا حرام أم حلال ؟ يقول أظنه حرام. هذا عامي، يقول أظنه حرام. أو يقولون: إنه حرام، بدل يقال ، هذا أيضا نصف الجهل في الواقع، ولكن هل أثق بقول العامي أظن كذا؟! لا يجوز، ولهذا كم من أناس أفتاهم العوام بفتاوي خاطئة ولا سيما في أيام الحج. سبحان الله العظيم أيام الحج يكثر العلماء تجد كل عمود خيمة تحته عالمان كل واحد منهما يفتي ، حتى إنه قيل لي: إن أحد الناس قال: إن الذي يطوف في السطح أو في الدور الثاني يكفيه عن سبعة أشواط ثلاثة أشواط ونصف . لماذا؟ لاتساع الدائرة ، وكأنه قاس الأشواط بالخطوات، وعلى قياس قوله أن الذي يطوف في أطراف الصحن يكفيه كم؟ خمسة ، لأنه ليس كالذي عند الكعبة ن لأن عند الكعبة أقل، إلا أن يقال: مشقة هذا الذي عند الكعبة، تقابل كثرة خطوات هذا فيمتنع القياس ، على كل حال أنا أقول: إنه لا يجوز الاعتماد على فتوى العامي أبداً، لا تستفتي إلا إنسانا تثق في علمه وأمانته.

آفاق التيسير

*شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري

القارئ :
قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
34- جُنَّةُ طالِبِ العلْمِ :
جُنَّةُ العالِمِ ( لا أَدْرِي ) ويَهْتِكُ حِجابَه الاستنكافُ منها ، وقولُه : يُقالُ .....
وعليه ؛ فإن كان نِصْفُ العلْمِ ( لا أَدْرِي ) ؛ فنِصْفُ الجهْلِ ( يُقالُ ) و( أَظُنُّ ) .
الشيخ :
جُنة طالب العلم ، هذا هو الأدب الرابع والثلاثون ، والجُنّة : الوقاية.
إذا كان على بدنك حديد يحميك في المعارك يسمونها واقية الرصاص ، هذا الجُنّة مثل واقية الرصاص.
ما هي التي تقي طالب العلم من الشرور ، كلمة (لا أدري) ، فإذا سئل عن مسألة وهو لا يعرفها قال : (لا أدري)
كان الأئمة يحرصون على هذا ، قال قائلهم : من أخطأ (لا أدري) أصيبت مقاتله ، كأنه أصيب في المحل الذي يموت منه غالباً.
سئل الإمام مالك : عن ست وثلاثين مسألة ، فقال في ثنتين وثلاثين منها : لا أدري ، وأجاب في أربع.
قيل للإمام مالك في مسألة ، فقال : لا أدري ، قال : أتيت إليك من مصر ، وقد سأل أهلها عن هذه المسألة ، قال : أخبر من وراءك أنّ مالكاً لا يدري ، هل أنقص من درجة الإمام مالك ، هل قلل من قيمته وإمامته ، لا والله ، بل زاده إمامة و رفعة .
ومن هنا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عن وقت الساعة قال :" ما المسئول .." يعني لا أعلم.

- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سلوني فهابوه أن يسألوه . فجاء رجل فجلس عند ركبتيه . فقال : يا رسول الله ! ما الإسلام ؟ قال " لا تشرك بالله شيئا . وتقيم الصلاة . وتؤتى الزكاة . وتصوم رمضان " قال : صدقت . قال : يا رسول الله ! ما الإيمان ؟ قال " أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتابه ، ولقائه ، ورسله ، وتؤمن بالبعث ، وتؤمن بالقدر كله " قال : صدقت . قال : يا رسول الله ! ما لإحسان ؟ قال " أن تخشى الله كأنك تراه . فإنك إن لا تكن تراه فإنه يراك " قال صدقت . قال : يا رسول الله ! متى تقوم الساعة ؟ قال " ما المسئول عنها بأعلم من السائل . وسأحدثك عن أشراطها . إذا رأيت المرأة تلد ربها فذاك من أشراطها . وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض فذاك من أشراطها . وإذا رأيت رعاء البهم يتطاولون في البنيان فذاك من أشراطها . في خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله . ثم قرأ :" إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }سورة لقمان ، آية 34 ] قال ثم قام الرجل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ردوه على " فالتمس فلم يجدوه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا جبريل أراد أن تعلموا . إذا لم تسألوا " الراوي : أبو هريرة المحدث : مسلم المصدر : صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 10 خلاصة حكم المحدث : صحيحالدرر السنية


فإذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يُسأل المسألة ما يجيب ، ينتظر الوحي ، فإذا كان من كان كذلك يَتوقف في الجواب عن مسائل ، فكيف بنا نحن.
ومن هنا ؛ ما يستحي الواحد منا أن يقول : لا أدري ، ومثله الجملة الأخرى التي تماثلها : هذه المسألة تحتاج إلى بحث ولم أبحثها ، تحتاج إلى تقليب نظر.
إذا استنكف الإنسان عن هذه الكلمة ، بمعنى أنه تركها تكبراً عليها وظناً أنها من أسباب التنقص ، فحينئذٍ وقع في الجهل ، وخُشي عليه ممن يقول على الله بلا علم ، نعم.
آفاق التيسير


35- المحافَظَةُ على رأسِ مالِك ( ساعاتِ عُمُرِك) :
الوقتَ الوقتَ للتحصيلِ ، فكن حِلْفَ عمَلٍ لا حِلْفَ بَطالةٍ وبَطَرٍ ، وحِلْسَ مَعْمَلٍ لا حِلْسَ تَلَهٍّ وسَمَرٍ ، فالْحِفْظُ على الوَقْتِ ؛ بالجِدِّ والاجتهادِ ومُلازَمَةِ الطلبِّ ، ومُثافَنَةِ الأشياخِ ، والاشتغالِ بالعلْمِ قراءةً وإقراءً ومطالَعَةً وتَدَبُّرًا وحِفْظًا وبَحْثًا ، لا سِيَّمَا في أوقاتِ شرْخِ الشبابِ ، ومُقْتَبَلِ العُمْرِ ، ومَعْدِنِ العافيةِ ، فاغْتَنِمْ هذه الفرصةَ الغاليةَ ، لتنالَ رُتَبَ العلْمِ العاليةَ ؛ فإنها ( وقتُ جَمْعِ القلبِ ، واجتماعِ الفِكْرِ ) ؛ لقِلَّةِ الشواغِلِ والصوارِفِ عن التزاماتِ الحياةِ والتَّرَؤُّسِ ، ولِخِفَّةِ الظَّهْرِ والعِيالِ :
ما للمُعيلِ وللعوالِي إنمـايَسْعَى إليهنَّ الفريدُ الفارِدُ

*شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
 الشيخ:
ولهذا قال عمر رضي الله عنه :«تفقهوا قبل أن تسودوا»

إياك والتذرع بكثرة الأشغال عن تحصيل العلم ، فقد قال عمرـ رضي الله عنه ـ :(تفقهوا قبل أن تسودوا )،[رواه البخاري تعليقاً مجزوماً به] ؛ وقال ـ أي البخاري ـ : وبعد أن تسودوا فقد تعلم أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كبر سنهم..هنا
- قالَ عمرُ: تفقَّهوا قبلَ أن تُسَوَّدوا"
الراوي : - المحدث : ابن حجر العسقلاني-المصدر : فتح الباري لابن حجر الصفحة أو الرقم: 1/199 خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح- الدرر السنية
وفي لفظ «تسودوا» لأن الإنسان إذا ساد كثرت المشاكل، وكثرت أفكاره وتفرقت وتمزقت عزائمه، فبينما يعزم على شيء إذا بحاجة نزلت به أشد إلحاحا مما عزم عليه... فيتفرق. ولذلك اجتهد ما دمت في زمن الإمهال وانتبح، واعمل، وابحث، واجعل بطون الكتب هي مرئياتك حتى تعتاد على هذا، واعلم أنك إذا اعتدت على هذا- يعني على الجد والاجتهاد- صار طبيعة لك بحيث لو أنك إذا كسلت يوما من الأيام في الرحلة فإنك تستنكر هذا وتجد الفراغ.
وليكن بحثك مركزا، بحيث لا تقطف من كل زهرة جزءا، اجعل بحثك مركزا الأهم فالأهم، حتى يكون لك ملكة تستطيع أن تخرج المسائل على القواعد والفروع على الأصول.
ما للمعيل وللعوالي إنما = يسعى إليهن الفريد الفارد
المعيل: كثير العيال. والعوالي: جمع عالية- يعني المنازل العالية فإذا كثرت العيال وكثرت المشاغل ألهتك لأن الإنسان بشر، والطاقة محدودة، فما دمت متفرغا فلتكن متفردا. ولا تظن أن المؤلف يريد بهذا ألا تطلب العيال والنكاح، بل إن النكاح قد يكون من أسباب الراحة إذا وفق الإنسان فيه ويسرت له امرأة صالحة.

*وإيَّاك وتأميرَ التسويفِ على نفسِك ؛ فلا تُسَوِّفْ لنفسِكَ بعدَ الفراغِ من كذا ؛ وبعدَ ( التقاعُدِ ) من العَمَلِ هذا ... وهكذا ، بل البِدارَ قبلَ أن يَصْدُقَ عليك قولُ أبي الطَّحَّانِ القَيْنيِّ 

حَنَتْنِي حانياتُ الدهْـرِ حَتَّـى كأني خَاتِـلٌ أَدْنُـو لصَيْـدٍ
قصيرُ الْخَطْوِ يَحْسَبُ مَن رآنِيولسْتُ مُقَيَّـدًا أنِّـي بِقَيْـدِ
خاتل أدنو لصيد: الرجل يكسر ظهره كأنه راكب يمشي ببطء على الأرض يخشى أن الطير يحس به فيطير.
«ولست مقيدا أني بقيد» وهذا صحيح، لأن الله عز وجل قال في كتابه "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ "(سورة الروم:54).

والإنسان في حالة شبابه يظن أنه لن يتعب ولن يسأم ولن يمل، لكن إذا كبر فكما قال عن زكريا :قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً "سورة مريم:4. لا بد أن يتعب، لا بد أن يمل، فكون الإنسان ينتهز الفرصة هذا أمر لا بد منه.
*وقال أُسامةُ بنُ مُنْقِذٍ :

مع الثمانينَ عاثَ الضعْفُ في جَسَدِي وساءني ضَعْفُ رِجْلِي واضطرابُ يَدِي
إذا كَتَبْتُ فخَطِّي خـطُّ مُضْطَـرِبٍ كخـطِّ مُرْتَعِـشِ الكَفَّيْـنِ مُرْتَعِـدِ
فاعْجَبْ لضَعْفِ يَدِي عن حَمْلِها قَلَمًامن بعدِ حَمْلِ الْقَنَا في لَبَّـةِ الأسَـدِ
فقـلْ لِمَـن يَتَمَنَّـى طُـولَ مُدَّتِـهِ هذي عَواقِبُ طُولِ العُمُرِ والْمُـدَدِ
*فإن أَعْمَلْتَ البِدارَ فهذا شاهدٌ منك على أنك تَحْمِلُ ( كِبَرَ الهمَّةِ في العِلْمِ ) .

هذه كلها أبيات تدل على الحكمة، أن الإنسان مآله إلى هذا. يقول: «مع الثمانين عاث الضعف في جسدي» أي: انتشر وشاع.
لكن المؤمن- والحمد لله- ما دام عقله باقيا وقلبه ثابتا، فإن بلغ هذا المبلغ من العجز البدني، فالقلب حاضر يستطيع أن يشغل وقته بذكر الله عز وجل والتفكير في آياته، لأن هذا لا عجز عن مراده إلا الغفلة، والغفلة شيء مشكل.
على كل حال فالمؤلف- وفقه الله- يدعونا إلى انتهاز الفرصة وألا نضيع الأوقات واعلم أنك إذا اعتدت على تضييع الوقت، عجزت بعد ذلك عن الحرص عليه وعن الانتفاع به، لأنك تكون قد اعتدت على الكسل. فإن قال قائل: أليس لنفسك عليك حقا؟1
1
- آخى النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بين سلمانَ وأبي الدرداءِ، فزار سلمانُ أبا الدرداءِ، فرأى أمَّ الدرداءِ متبذِّلةً، فقال لها : ما شأنُكِ ؟ قالت : أَخُوكَ أبو الدرداءِ ليس له حاجةٌ في الدنيا، فجاء أبو الدرداءِ، فصنع له طعامًا، فقال : كُلْ فإني صائمٌ، قال : ما أنا بآكِلٍ حتى تأكلَ، فأكل، فلما كان الليلُ ذهب أبو الدرداءِ يقومُ، فقال : نَمْ، فنام، ثم ذهب يقومُ، فقال : نَمْ، فلما كان آخِرُ الليلِ، قال سلمانُ : قُمِ الآنَ، قال : فصَلَّيَا، فقال له سلمانُ : إن لربِّكَ عليك حقًّا، ولنفسِك عليك حقًّا، ولأهلِك عليك حقًّا، فأَعْطِ كلَّ ذِي حقٍّ حقَّه، فأتى النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فذكر ذلك له، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم : ( صَدَق سلمانُ ) . أبو جُحَيْفَةَ وهبٌ السُّوائيُّ، يقال : وَهْبُ الخيرِ . الراوي : وهب بن عبدالله السوائي أبو جحيفة المحدث : البخاري

المصدر : صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 6139 خلاصة حكم المحدث : [صحيح]
الدرر السنية
فالجواب: بلى، إن لنفسك عليك حقا، ونحن لا نقول إذا تعبت أو مللت استمر. نقول: لا استرح، حتى إن الإنسان الذي يصلي إذا أتاه النعاس مأمور أن يدع الصلاة وينام.
لكن ما دمت نشيطا فاحرص، لأن هناك فرقا بين العجز والكسل. الكسل ضعف في الإرادة، والعجز ضعف في البدن، وضعف البدن لا حيلة فيه. لكن الإرادة هي التي يستطيع الإنسان يعود نفسه على الهمة العالية كي يستغل.
آفاق التسير

القارئ :
قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
35- المحافَظَةُ على رأسِ مالِك ( ساعاتِ عُمُرِك) :
الوقتَ الوقتَ للتحصيلِ ، فكن حِلْفَ عمَلٍ لا حِلْفَ بَطالةٍ وبَطَرٍ ، وحِلْسَ مَعْمَلٍ لا حِلْسَ تَلَهٍّ وسَمَرٍ ، فالْحِفْظُ على الوَقْتِ ؛ بالجِدِّ والاجتهادِ ومُلازَمَةِ الطلبِّ ، ومُثافَنَةِ الأشياخِ ،والاشتغالِ بالعلْمِ قراءةً وإقراءً ومطالَعَةً وتَدَبُّرًا وحِفْظًا وبَحْثًا ، لاسِيَّمَا في أوقاتِ شرْخِ الشبابِ ، ومُقْتَبَلِ العُمْرِ ، ومَعْدِنِ العافيةِ ، فاغْتَنِمْ هذه الفرصةَ الغاليةَ ، لتنالَ رُتَبَ العلْمِ العاليةَ ؛ فإنها ( وقتُ جَمْعِ القلبِ ، واجتماعِ الفِكْرِ ) ؛ لقِلَّةِ الشواغِلِ والصوارِفِ عن التزاماتِ الحياةِ والتَّرَؤُّسِ ، ولِخِفَّةِ الظَّهْرِ والعِيالِ :
مـا للمُعيـلِ وللعوالِـي إنـمـا يَسْعَى إليهنَّ الفريدُ الفارِدُ
وإيَّاك وتأميرَ التسويفِ على نفسِك ؛ فلا تُسَوِّفْ لنفسِكَ بعدَ الفراغِ من كذا ؛ وبعدَ ( التقاعُدِ ) من العَمَلِ هذا ... وهكذا ، بل البِدارَ قبلَ أن يَصْدُقَ عليك قولُ أبي الطَّحَّانِ القَيْنيِّ :
حَنَـتْـنِـي حـانـيـاتُ الـدهْــرِ حَـتَّــى كـــأنـــي خَـــاتِـــلٌ أَدْنُـــــــو لــصَــيْـــدٍ
قصيرُ الْخَطْوِ يَحْسَبُ مَن رآنِي ولـــسْــــتُ مُــقَــيَّـــدًا أنِّـــــــي بِــقَــيْـــدِ
وقال أُسامةُ بنُ مُنْقِذٍ :
مع الثمانينَ عاثَ الضعْفُ في جَسَدِي وساءني ضَعْفُ رِجْلِي واضطرابُ يَـدِي
إذا كَـتَـبْــتُ فـخَــطِّــي خـــــطُّ مُـضْــطَــرِبٍ كــــخــــطِّ مُــرْتَـــعِـــشِ الــكَــفَّــيْــنِ مُـــرْتَـــعِـــدِ
فاعْجَبْ لضَعْفِ يَدِي عن حَمْلِها قَلَمًا مــن بـعـدِ حَـمْـلِ الْـقَـنَـا فـــي لَـبَّــةِ الأسَـــدِ
فـــقــــلْ لِـــمَــــن يَـتَــمَــنَّــى طُــــــــولَ مُــــدَّتِــــهِ هـــذي عَــواقِــبُ طُــــولِ الـعُـمُــرِ والْــمُــدَدِ
فإن أَعْمَلْتَ البِدارَ فهذا شاهدٌ منك على أنك تَحْمِلُ ( كِبَرَ الهمَّةِ في العِلْمِ) .
الشيخ :
الله جل وعلا خلقنا من أجل غاية وهي عبادته جل وعلا كما في قوله :{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ومن أعلى درجات العبادة ، طلب العلم.
ومن هنا فاستعمل حياتك فيما خلقت له ، واستعمل جميع وقتك للهدف والغاية التي خلقت من أجلها ، ثم إنك ستَرِد على رب العزة والجلال ، وسيسألك عن كل أعمالك وجميع أوقاتك ، ماذا علمت بها فحينئذ استعمل هذا الوقت فيما إذا أَخْبرت عنه عند الله كان سباباً لنجاحك وفلاحك.

- لاَ تزولُ قدَمُ ابنِ آدمَ يومَ القيامةِ من عندِ ربِّهِ حتَّى يسألَ عن خمسٍ : عن عمرِهِ فيمَ أفناهُ ، وعن شبابِهِ فيما أبلاَهُ ، وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ ، وماذا عملَ فيما علِمَ

الراوي : عبدالله بن مسعود المحدث : الألباني

المصدر : صحيح الترمذي الصفحة أو الرقم: 2416 خلاصة حكم المحدث : صحيح
الدرر السنية
ومن ثَمّ يترك الإنسان تضييع الأوقات فيما لا يفيد ، كان بعض الأئمة يحرص على استعمال وقته فيما يفيد ، ولا يترك منه شيئاً حتى أنّ المجد بن تيمية ، جد شيخ الإسلام كان يُقرأ عليه العلم عند قضائه للحاجة ، لا يريد أن يفوت وقتاً ، وبعضهم كان إذا جاءه الأضياف يحرص أن يشتغل ببري القلم عند أضيافه لئلا يضيع شيء من وقته ، والشواهد في هذا كثيرة ، ومن هنا فاحفظ عمرك.
قال : ( كن حلف عمل لا حلف بطالة وبطر) الحلف : وهو العقد الذي يعقده الإنسان ، فاعقد نفسك مع الأعمال ، حتى تنتج وتثمر ، ولا تكون مع البطالة وهي ترك العمل ، والبطر الذي هو تضييع الوقت وجحد هذه النعمة.
وحينئذ تكون(حلس معمل) الحلس هو المرابط.
لا تكن (حلس ثلة أو تلّهٍ وسمر) فالتلّهي ابتعد عنه ، والسمر الذي لا يفيدك : ابتعد عنه.
(فالحفظ على الوقت يكون بالجد والاجتهاد وملازمة الطلب ومثافنة الأشياخ) بملازمتهم حتى تكون قريباً منهم.
(والاشتغال بالعلم قراءة) يقرأ لنفسه (وإقراءًا) يقرأ لغيره ، أو يُقرأ عليه.
(ومطالعة وتدبراً –فهماً- وحفظاً وبحثاً ، وخصوصاً في أوقات شرخ الشباب) ووقت الشباب أدعى بأن تحفظه.
(ومقتبل العمر) وبذلك إذا اغتنمت الوقت حَصَلت على رتب العلم العالية ، فإنّ وقت الشباب هو وقت اجتماع القلب ، ما عندك مشغلات كثيرة تشغل قلبك ، تجعلك تنسى.
( ووقت الشباب هو وقت اجتماع الفكر لقلة الشواغل والصوارف) ماعنده عيال ولا عنده حوائج يُرسل فيها.
ولا يهتم بقضايا العامة أوالخاصة ، ومن ثَمّ اجتنب التسويف : بعدين ، شغلي بسويه بكره ، لا ، ابدأ ، بادر ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : "بادروا بالأعمال ، هل تنتظرون إلا مرضاً مفسداً ، أو كبراً مفنّداً ، ...." إلى آخر ما ذكر من السبع التي وردت في الحديث.

- أنه سمعَ عبدَ اللهِ بن عمروٍ رضي الله عنهما بلغَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أني أسرُدُ الصومَ وأصلي الليلَ ، فإما أرسلَ إليَّ وإما لقِيتُه ، فقال: ألم أُخْبَرْ أنك تصومُ ولا تُفطرُ ، وتصلِّي ولا تنامُ ؟ فصمْ وأَفطرْ ، وقمْ ونمْ ، فإن لعيْنِك عليك حظًّا ، وإن لنفسِك وأهلِك عليك حظًّا قال : إني لأقوَى لذلك ، قال : فصمْ صيامَ داودَ عليه السلام قال: وكيف ؟ قال: كان يصومُ يومًا ويُفطرُ يومًا ، ولا يفرُّ إذا لاقَى . قال : من لي بهذه يا نبيَّ اللهِ ؟ قال عطاءٌ : لا أدري كيف ذكرَ صيامَ الأبدِ؟ ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : لا صامَ من صامَ الأبدِ مرتين .
الراوي : عبدالله بن عمرو المحدث : البخاري
المصدر : صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 1977 خلاصة حكم المحدث : [صحيح]
الدرر السنية
بادروا بالأعمالِ ستًّا طلوعُ الشمسِ من مغربِها أو الدُّخانُ أو الدجالُ أو الدابةُ أو خاصةُ أحدِكم أو أمرُ العامةِ


الراوي : أبو هريرة المحدث : مسلم - المصدر : صحيح مسلم -الصفحة أو الرقم: 2947 خلاصة حكم المحدث : صحيح- الدرر السنية


- بادِرُوا بِالأعمالِ سبعًا ، هل تَنظُرُونَ إلَّا فَقرًا مُنْسِيًا ، أو غِنًى مُطْغِيًا ، أو مَرَضًا مُفسِدًا ، أو هَرَمًا مُفَنِّدًا ، أو مَوتًا مُجْهِزًا ، أو الدَّجالُ ، فشَرُّ غائِبٍ يَنتَظِرُ ، أو الساعةُ ، فالساعةُ أدْهَى وأمَرَّ


الراوي : أبو هريرة المحدث :الألباني-المصدر : ضعيف الترغيب-الصفحة أو الرقم: 1957 خلاصة حكم المحدث : ضعيف جداً الدرر السنية


إذا بادر الإنسان على أعمال الطاعة ، ومنها طلب العلم فهذا شاهد وجود كبر الهمة لديه.
آفاق التسير 


36-إجمامُ النفْسِ :
خُذْ من وَقْتِك سُويعاتٍ تُجِمُّ بها نفسَك في رِياضِ العِلْمِ من كُتُبِ المحاضراتِ ( الثقافةِ العامَّةِ ) ؛ فإنَّ القلوبَ يُرَوَّحُ عنها ساعةً فساعةً .
وفي المأثورِ عن أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ أنه قالَ : ( أَجِمُّوا هذه القلوبَ ، وابْتَغُوا لها طرائفَ الْحِكمةِ ، فإنها تَمَلُّ كما تَمَلُّ الأبدانُ ) .
 وقالُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميةَ رَحِمَه اللهُ تعالى في حِكْمَةِ النهيِ عن التَّطَوُّعِ في مُطْلَقِ الأوقاتِ :( بل في النهيِ عنه بعضَ الأوقاتِ مصالِحُ أُخَرُ من إِجمامِ النفوسِ بعضَ الأوقاتِ ، من ثِقَلِ العِبادةِ ؛ كما يُجَمُّ بالنوْمِ وغيرِه ، ولهذا قالَ مُعاذٌ : إني لأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي ، كما أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي ...
وقالَ : ( بل قد قيلَ : إنَّ من جُملةِ حِكمةِ النهيِ عن التَّطَوُّعِ المطلَقِ في بعضِ الأوقاتِ : إجمامَ النفوسِ في وَقْتِ النهيِ لتَنْشَطَ للصلاةِ ؛ فإنها تَنْبَسِطُ إلى ما كانت مَمنوعةً منه ، وتَنْشَطُ للصلاةِ بعدَ الراحةِ . واللهُ أَعْلَمُ ) اهـ .

*شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين:
الشيخ:
وهنا يجب أن نعلم أن إجمام النفس وإعطاءها شيئا من الراحة حتى تنشط في المستقبل وحتى تستريح بعض الراحة مما سبق أن هذا من الأمور الشرعية التي دل عليها قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (إن لنفسك عليك حقا ولربك عليك حقا ولأهلك عليك حقا ولزوجك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه).

- آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وبين أبي الدرداء ، فزار سلمان أبا الدرداء ، فرأى أم الدرداء متبذلة ، فقال : ما شأنك متبذلة ؟ ! قالت : إن أخاك أبا الدرداء ليس له حاجة في الدنيا ، قال : فلما جاء أبو الدرداء ، قرب إليه طعاما ، فقال : كل ، فإني صائم ، قال : ما أنا بآكل حتى تأكل ، قال : فأكل ، فلما كان الليل ، ذهب أبو الدرداء ليقوم ، فقال له سلمان : نم ، فنام ، ثم ذهب يقوم ، فقال له : نم ، فنام ، فلما كان عند الصبح ، قال له سلمان : قم الآن ، فقاما فصليا ، فقال : إن لنفسك عليك حقا ، ولربك عليك حقا ، ولضيفيك عليك حقا ، وإن لأهلك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه ، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرا ذلك ؟ فقال له : صدق سلمان

الراوي : وهب بن عبدالله السوائي أبو جحيفة المحدث : الألباني

المصدر : صحيح الترمذي الصفحة أو الرقم: 2413 خلاصة حكم المحدث : صحيح
الدرر السنية
- أنه سمعَ عبدَ اللهِ بن عمروٍ رضي الله عنهما بلغَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أني أسرُدُ الصومَ وأصلي الليلَ ، فإما أرسلَ إليَّ وإما لقِيتُه ، فقال: ألم أُخْبَرْ أنك تصومُ ولا تُفطرُ ، وتصلِّي ولا تنامُ ؟ فصمْ وأَفطرْ ، وقمْ ونمْ ، فإن لعيْنِك عليك حظًّا ، وإن لنفسِك وأهلِك عليك حظًّا قال : إني لأقوَى لذلك ، قال : فصمْ صيامَ داودَ عليه السلام قال: وكيف ؟ قال: كان يصومُ يومًا ويُفطرُ يومًا ، ولا يفرُّ إذا لاقَى . قال : من لي بهذه يا نبيَّ اللهِ ؟ قال عطاءٌ : لا أدري كيف ذكرَ صيامَ الأبدِ؟ ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : لا صامَ من صامَ الأبدِ مرتين .
الراوي : عبدالله بن عمرو المحدث : البخاري
المصدر : صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 1977 خلاصة حكم المحدث : [صحيح]. الدرر السنية
وهذا الحديث هو الميزان الحقيقي الذي تطمئن إليه النفس لا ما روي عن عمر ولا عن علي وغيرهما، فلو أن المؤلف استدل بهذا الحديث لكان أبين وأظهر، والنفس إذا جعلتها دائما في جد لا بد أن تمل وتسأم، وأما ما قيل: إن من جملة حكمة النهي عن التطوع المطلق في بعض الأوقات. فهذا من جملة الحكمة، وليس هو الحكمة، بل الحكمة الحقيقية ما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام: أن الشمس إذا طلعت فإنها تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار وكذلك إذا غربت يسجدون لها. فهم يسجدون لها استقبالا، ويسجدون لها وداعا.

أما وقت الزوال فإن الحكمة فيه: أنه الوقت التي تسجر فيه جهنم فيلحق النفس من التعب في الحر لا سيما في أيام الصيف ما ينهى أن يصلي الإنسان فيه. وليس هذا القيل الذي قيل معارضا للحديث لكنه من جملة الحكمة، والله أعلم.
القارئ:
ولهذا كانت العُطَلُ الأسبوعيَّةُ للطُّلَّابِ مُنتشِرَةً منذُ أَمَدٍ بعيدٍ ، وكان الأَغْلَبُ فيها يومَ الْجُمعةِ وعَصْرَ الخميسِ ، وعندَ بعضِهم يومَ الثلاثاءِ ويومَ الاثنينِ ، وفي عِيدَي الفطْرِ والأَضْحَى من يومٍ إلى ثلاثةِ أيَّامٍ وهكذا .
الشيخ:
صحيح... العطل الأسبوعية منتشرة منذ زمن، لكن بعضهم يقتصر على الجمعة فقط، وبعضهم يضيف إلى الجمعة يوم الخميس، وبعضهم يجعل الجمعة ونصف الأسبوع، وكان شيخنا عبد الرحمن بن سعدي –رحمه الله- يفعل هذا، يكون العطلة يوم الجمعة، ويوم الثلاثاء الذي هو وسط الأسبوع لأجل ألا يتوالى يومان كلاهما عطلة، ولئلا يمل الإنسان، وهذا يرجع على كل حال إلى أحوال الناس والأحوال تختلف، فيجعل من العطل ما يناسب.

القارئ:
ونَجِدُ ذلك في كُتُبِ آدابِ التعليمِ ، وفي السِّيَرِ ، ومنه على سبيلِ الْمِثالِ : ( آدابُ المعَلِّمِينَ ) لسُحْنونٍ ( ص 104 ) ، ( والرسالةُ الْمُفَصَّلَةُ ) للقابسيِّ ، ( والشقائقُ النُّعْمانيَّةُ ) وعنه في : ( أَبْجَدِ العلومِ ) ، وكتابِ ( أَلَيْسَ الصبْحُ بقريبٍ ) للطاهرِ ابنِ عاشورٍ ، ( وفتاوَى رَشيد رِضَا ) و( مُعْجَمِ البِلدانِ ) و ( فتاوى شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميةَ ) .
آفاق التيسير
*شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري:
القارئ :
قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
36- إجمامُ النفْسِ :
خُذْمن وَقْتِك سُويعاتٍ تُجِمُّ بها نفسَك في رِياضِ العِلْمِ من كُتُبِ المحاضراتِ ( الثقافةِ العامَّةِ ) ؛ فإنَّ القلوبَ يُرَوَّحُ عنها ساعةً فساعةً .
وفي المأثورِ عن أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ أنه قالَ : ( أَجِمُّوا هذه القلوبَ ، وابْتَغُوا لها طرائفَ الْحِكمةِ ، فإنها تَمَلُّ كما تَمَلُّ الأبدانُ ) .
وقالُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميةَ رَحِمَه اللهُ تعالى في حِكْمَةِ النهيِ عن التَّطَوُّعِ في مُطْلَقِ الأوقاتِ : ( بل في النهيِ عنه بعضَ الأوقاتِ مصالِحُ أُخَرُ من إِجمامِ النفوسِ بعضَ الأوقاتِ ، من ثِقَلِ العِبادةِ ؛ كما يُجَمُّ بالنوْمِ وغيرِه ، ولهذا قالَ مُعاذٌ : إني لأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي ، كما أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي ... )
وقالَ : ( بل قد قيلَ : إنَّ من جُملةِ حِكمةِ النهيِ عن التَّطَوُّعِ المطلَقِ في بعضِ الأوقاتِ : إجمامَ النفوسِ في وَقْتِ النهيِ لتَنْشَطَ للصلاةِ ؛ فإنها تَنْبَسِطُ إلى ما كانت مَمنوعةً منه ، وتَنْشَطُ للصلاةِ بعدَ الراحةِ . واللهُ أَعْلَمُ ) اهـ .
ولهذاكانت العُطَلُ الأسبوعيَّةُ للطُّلَّابِ مُنتشِرَةً منذُ أَمَدٍ بعيدٍ ، وكان الأَغْلَبُ فيها يومَ الْجُمعةِ وعَصْرَ الخميسِ ، وعندَ بعضِهم يومَ الثلاثاءِ ويومَ الاثنينِ، وفي عِيدَي الفطْرِ والأَضْحَى من يومٍ إلى ثلاثةِ أيَّامٍ وهكذا .
ونَجِدُ ذلك فيكُتُبِ آدابِ التعليمِ ، وفي السِّيَرِ ، ومنه على سبيلِ الْمِثالِ : ( آدابُ المعَلِّمِينَ ) لسُحْنونٍ ( ص 104 ) ، ( والرسالةُ الْمُفَصَّلَةُ ) للقابسيِّ ( ص135-137 ) ، ( والشقائقُ النُّعْمانيَّةُ ) ( ص20) وعنه في : ( أَبْجَدِ العلومِ ) ( 1/195-196 ) ، وكتابِ ( أَلَيْسَ الصبْحُ بقريبٍ ) للطاهرِ ابنِ عاشورٍ ، ( وفتاوَى رَشيد رِضَا ) (1212) و( مُعْجَمِ البِلدانِ ) ( 3/102) و ( فتاوى شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميةَ ) ( 25/318-320، 329)
الشيخ :
هذا هو الأدب السادس والثلاثون من آداب طالب العلم : إجمام النفس ، بحيث لا يحملها على شيء في جميع الأوقات فتملّ منه ، وكذلك لا يُذهب نفسه تعبا يجعلها تصبح لا تميّز العلوم ، من جعل نومه قليلا ، أقل مما تحتاجه إليه نفسه ضعفت نفسه ، ولم يستطع التركيز والفهم ، وهكذا من لم يطعم الطعام الذي يغذيه فإنّ نفسه تضعف ، وبالتالي يكلّ ولا يتمكن من الفهم ومن مواصلة التعلم.
وشاهد هذا كثير في النصوص الشرعية ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : "المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى"
ضعيف المنبت الذي يركب ناقته ويسير بها ويواصل بدون أن يرتاح.
- إِنَّ هذا الدينَ متينٌ ، فأوْغِلْ فيه برِفْقٍ ، فإِنَّ الْمُنبَتَّ لا أرضًا قطعَ ، ولَا ظهْرًا أبْقَى
الراوي : جابر بن عبدالله المحدث : الألباني-المصدر : ضعيف الجامع- الصفحة أو الرقم: 2022 خلاصة حكم المحدث : ضعيف
الدرر السنية
فحينئذ يُتعب ناقته فتعجز في نصف الطريق ، فيكون لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ، وجاء في الحديث : حديث النفر الثلاثة الذين قال قائلهم : أصوم ولا أفطر ، وقال الآخر: أقوم ولا أنام ، وقال الثالث : لا أتزوج النساء ، فعتب عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : "إني أخشاكم لله وأتقاكم له ، أما أني أقوم وأنام ، وأصوم ، وأفطر ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني"

- جاء ثلاثُ رهطٍ إلى بُيوتِ أزواجِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، يَسأَلونَ عن عبادةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، فلما أُخبِروا كأنهم تَقالُّوها ، فقالوا : أين نحن منَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ؟ قد غفَر اللهُ له ما تقدَّم من ذَنْبِه وما تأخَّر ، قال أحدُهم : أما أنا فإني أُصلِّي الليلَ أبدًا ، وقال آخَرُ : أنا أصومُ الدهرَ ولا أُفطِرُ ، وقال آخَرُ : أنا أعتزِلُ النساءَ فلا أتزوَّجُ أبدًا ، فجاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال : ( أنتمُ الذين قلتُم كذا وكذا ؟ أما واللهِ إني لأخشاكم للهِ وأتقاكم له ، لكني أصومُ وأُفطِرُ ، وأُصلِّي وأرقُدُ ، وأتزوَّجُ النساءَ ، فمَن رغِب عن سُنَّتي فليس مني .الراوي : أنس بن مالك المحدث :البخاري-المصدر :صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 5063 خلاصة حكم المحدث : [صحيح]الدرر السنية


وشاهدوا هذا أيضا في منع المكلّف من العبادة في بعض الأوقات من أجل أن لا يتعب نفسه ، وانظر إلى حديث عبدالله بن عمرو لما كان يصوم ولا يُفطر ، وكان يقوم حتى أثّر ذلك على نفسه ، فجاء أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن عبادته ، ثم بعد ذلك أرشده إلى ترك مواصلة العبادة ، بحيث يجعل وقتا للراحة ، ولا يشق على نفسه.
وانظر في حديث تلك المرأة التي كانت تضع حبلا في المسجد صفيّة ، حتى إذا تعبت استندت إلى الحبل ، فقال صلى الله عليه وسلم : "حلّوه –فكوا الحبل- ليصلّي أحدكم نشاطه ، فإذا فتر فليرقد ، فلعلّه يذهب يسأل ربه فيسب نفسه"

دخلَ المسجدَ فرأى حبلًا ممدودًا بينَ ساريتينِ فقالَ ما هذا الحبلُ قالوا لزينبَ تصلِّي فيهِ فإذا فترت تعلَّقت بِه فقالَ "حلُّوهُ حلُّوهُ ليصلِّ أحدُكم نشاطَه فإذا فترَ فليقعُدْ"
الراوي : أنس بن مالك المحدث : الألباني
المصدر : صحيح ابن ماجه الصفحة أو الرقم: 1137 خلاصة حكم المحدث : صحيح- الدرر السنية
حتى عاد ما ميّز في الكلام ، هكذا في طلب العلم ، يصبح ما عاد يميّز.

- أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: إذا نَعَسَ أحدُكم وهو يصلي فلْيرقُدْ ، حتى يذهبَ عنه النومُ ، فإن أحدَكم إذا صلى وهو ناعِسٌ ، لا يدري لعلَّه يَستغفِرُ فيسُبَّ نفسَه .


الراوي :عائشة أم المؤمنين المحدث : البخاري-المصدر :صحيح البخاري-الصفحة أو الرقم: 212 خلاصة حكم المحدث : [صحيح]

الدرر السنية
ومن ذلك المفاوتة بين الفنون ، لو استمريت على فن واحد يمكن تمل نفسك منه ، فتنتقل من علم إلى علم ، كداخل البستان ، مرة يأكل عنبا ، ومرة يأكل رمانا ، ومرة يأكل تينا ، ومرة يأكل من غيره ، فيلتذّ ذلك ، أما لو أكل من صنف واحد فسيملّ منه.
ومن وسائل ذلك ، إعطاء النفس راحتها ، والقيام على النفس بشئونها ، سواء في نظافة الإنسان أو في مأكله أو في مشربه ، أو نحو ذلك.
وكذلك النظر في بعض النكت والطرائف ، النكت : هي الأمور الغريبة ، حتى تنشط نفسك ، والطرائف : هي التي تتحرّك لها النفس وتطرب ، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما جاء منه المزاح.
(قال علي : أجمّوا هذه القلوب ، وابتغوا لها طرائف الحكمة ، فإنها تملّ) ومن هذا حرص أهل العلم على جعل إجازة وعطلة في الدراسة ، نعم.


آفاق التيسير 


الأمر السابع والثلاثون – قراءةُ التصحيحِ والضبْطِ :

احْرِصْ على قِراءةِ التصحيحِ والضبْطِ على شيخٍ مُتْقِنٍ؛ لتأْمَنَ من التحريفِ والتصحيفِ والغلَطِ والوَهْمِ . وإذا اسْتَقْرَأْتَ تَراجمَ العُلماءِ – وبخاصَّةٍ الْحُفَّاظَ منهم – تَجِدُ عَددًا غيرَ قليلٍ مِمَّنْ جَرَّدَ المطَوَّلَاتِ في مجالِسَ أو أيَّامٍ قراءةَ ضَبْطٍ على شيخٍ مُتْقِنٍ .
الشيخ: 
 وهذه الفقرة من أهم الفقرات، وهو إتقان العلم وضبطه ومحاولة الرسوخ في القلب، لأن ذلك هو العلم، ولا بد أن يكون على شيخ متقن أما الشيخ المتمشيخ فإياك إياك فقد يضرك ضررا كثيرا والإتقان يكون في كل فن بحسبه، قد نجد رجلا متقنا في الفرائض مثلا غير متقن في أحكام الصلاة، ونجد رجلا متقنا في علوم العربية غير عارف بالعلوم الشرعية وآخر بالعكس، فخذ من كل عالم ما يكون متقنا فيه ما لم يتضمن ذلك ضررا، مثل أن نجد رجلا متقنا في علوم العربية، لكنه منحرف في عقيدته وسلوكه فهذا لا ينبغي أن نجلس إليه لأننا إذا جلسنا إليه اغتر به الآخرون وظنوا أنه على حق، فنحن نطلب العلم من غيره وإن كان أجود الناس في هذا الفن، لكن ما دام منحرفا فلا ينبغي أن نجلس إليه.

القارئ:
فهذا الحافظُ ابنُ حَجَرٍ رَحِمَه اللهُ تعالى قَرَأَ ( صحيحَ البخاريِّ ) في عشرةِ مجالسَ ، كلُّ مجلِسٍ عشرُ ساعاتٍ .

كم عدد الساعات ؟ ! 100 ساعة .. الله المستعان ، ولكن على كل حال هو قراءة فقط دون شرح وتأمل.
( وصحيحَ مسلِمٍ ) في أربعةِ مجالسَ في نحوِ يومينِ وشيءٍ من بُكْرَةِ النهارِ إلى الظهْرِ وانتهى ذلك في يومِ عَرَفَةَ ،
وانتهى ذلك في يومِ عَرَفَةَ ، وكان يومَ الجمُعَةِ سنةَ 813 هـ ، وقرأَ ( سُنَنَ ابنِ ماجهْ ) في أربعةِ مجالِسَ ، و ( مُعجَمَ الطبرانيِّ الصغيرَ ) في مَجلِسٍ واحدٍ ، بينَ صَلَاتَي الظهْرِ والعَصْرِ .

وشيخُه الفَيروزآباديُّ قَرَأَ في دِمَشْقَ ( صحيحَ مُسْلِمٍ ) على شيخِه ابنِ جَهْبَلَ قِراءةَ ضَبْطٍ في ثلاثةِ أيَّامٍ .
وللخطيبِ البَغدادىِّ والمؤتَمَنِ الساجيِّ ، وابنِ الأبَّارِ وغيرِهم في ذلك عجائبُ وغرائبُ يَطولُ ذِكْرُها، وانْظُرْها في ( السِّيَرِ ) للذهبيِّ و ( طَبقاتِ الشافعيَّةِ ) للسُّبْكيِّ ، و ( الجواهِرِ والدُّرَرِ ) للسَّخَاويِّ ، و( فتْحِ الْمُغيثِ ) و ( شَذَراتِ الذهَبِ ) ، و ( خُلاصةِ الأثَرِ ) ، و ( فِهْرِسِ الفهارِسِ ) للكَتَّانِيِّ ، و ( تاجِ العَروسِ ) .

فلا تَنْسَ حَظَّكَ من هذا .
الشيخ:
الظاهر أن ما لي حظ أبدا في هذا . سبحان الله، والله المستعان.

شرح الشيخ العثمين آفاق التيسير

*شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري :
القارئ :
قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
37- قراءةُ التصحيحِ والضبْطِ :
احْرِصْ على قِراءةِ التصحيحِ والضبْطِ على شيخٍ مُتْقِنٍ ؛ لتأْمَنَ من التحريفِ والتصحيفِ والغلَطِ والوَهْمِ . وإذا اسْتَقْرَأْتَ تَراجمَ العُلماءِ – وبخاصَّةٍ الْحُفَّاظَ منهم – تَجِدُ عَددًا غيرَ قليلٍ مِمَّنْ جَرَّدَ المطَوَّلَاتِ في مجالِسَ أو أيَّامٍ قراءةَ ضَبْطٍ على شيخٍ مُتْقِنٍ .
فهذا الحافظُ ابنُ حَجَرٍ رَحِمَه اللهُ تعالى قَرَأَ ( صحيحَ البخاريِّ ) في عشرةِ مجالسَ ،كلُّ مجلِسٍ عشرُ ساعاتٍ ، ( وصحيحَ مسلِمٍ ) في أربعةِ مجالسَ في نحوِ يومينِ وشيءٍ من بُكْرَةِ النهارِ إلى الظهْرِ وانتهى ذلك في يومِ عَرَفَةَ ، وكان يومَ الجمُعَةِ سنةَ 813 هـ ، وقرأَ ( سُنَنَ ابنِ ماجهْ ) في أربعةِ مجالِسَ ، و ( مُعجَمَ الطبرانيِّ الصغيرَ ) في مَجلِسٍ واحدٍ ، بينَ صَلَاتَي الظهْرِ والعَصْرِ .
وشيخُه الفَيروزآباديُّ قَرَأَ في دِمَشْقَ ( صحيحَ مُسْلِمٍ ) على شيخِه ابنِ جَهْبَلَ قِراءةَ ضَبْطٍ في ثلاثةِ أيَّامٍ .
وللخطيبِ البَغدادىِّ والمؤتَمَنِ الساجيِّ ، وابنِ الأبَّارِ و غيرِهم في ذلك عجائبُ وغرائبُ يَطولُ ذِكْرُها ، وانْظُرْها في ( السِّيَرِ ) للذهبيِّ 18/277 و 279، 19/310، 21/253 ) و ( طَبقاتِ الشافعيَّةِ ) للسُّبْكيِّ ( 4/30 ) ، و ( الجواهِرِ والدُّرَرِ ) للسَّخَاويِّ ( 1/103-105 ) ، و( فتْحِ الْمُغيثِ ) (2/46) و ( شَذَراتِ الذهَبِ ) ( 8/121و206 ) ، و ( خُلاصةِ الأثَرِ ) ( 1/72-73 ) ، و ( فِهْرِسِ الفهارِسِ ) للكَتَّانِيِّ ، و ( تاجِ العَروسِ ) ( 1/45-46 ) . فلا تَنْسَ حَظَّكَ من هذا .

الشيخ :
هذه من آداب طالب العلم أنه يحرص على قراءة الكتب خصوصا المطوّلات على أشياخه من أجل أن يضبط كيفية نطق الكلمات ويضبط التشكيل ويضبط النحو ، وكذلك يأمن من الغلط ، والوهم ، من إدخال الجملة في جملة أخرى ، ويسأل عما استشكل لديه من مثل هذا.
فكان أهل العلم يفعلون هذا ، وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون في القرآن فيقرأون على النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الله ، وإذا وقع عندهم استشكال جاءوا وقرءوا ، وكم من صحابي قد قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم.
وبواسطة قراءة هذه المطولات في المجالس القليلة والأوقات القليلة يحصل فوائد منها :
تحصيل العلوم والمعارف الكثيرة في الزمن القليل ، ومنها توسيع مدارك الإنسان بحيث يعرف أمورا وأقوالا مخالفة لما يستقر في نفسه ، وبذلك يتمكن من استخراج النوادر والمسائل والفرائد الغريبة ، وبذلك أيضا يتكون عند الإنسان قدرة على معرفة موطن بحث المسائل في كتب أهل العلم ، وكذلك تعرف طرائق التأليف ، وأنواع المؤلفات والمصطلحات التي يستخدمها علماء الشريعة فيها ، وينبغي أن تميّز ما قرأته وتضع علامة بحيث لا يفوتك شيء من المقروء.

 الأمر الثامن والثلاثون: جَرْدُ الْمُطَوَّلَاتِ :

القارئ:
الأمر الثامن والثلاثون: جَرْدُ الْمُطَوَّلَاتِ :

الْجَرْدُ للمُطَوَّلاتِ من أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ ؛ لتَعَدُّدِ المعارِفِ ، وتوسيعِ الْمَدَارِكِ واستخراجِ مَكنونِها من الفوائدِ والفرائدِ ، والخبرةِ في مَظَانِّ الأبحاثِ والمسائلِ ، ومَعرِفَةِ طرائقِ الْمُصَنِّفِينَ في تآليفِهم واصطلاحِهم فيها .

وقد كان السالِفون يَكتبون عندَ وُقوفِهم : ( بَلَغَ ) حتى لا يَفوتَه شيءٌ عندَ الْمُعاوَدَةِ ، لا سيَّمَا مع طُولِ الزَّمَنِ .


الشيخ:
هذه فيها نظر – يعني جرد المطولات- قد يكون فيه مصلحة للطالب وقد يكون فيه مضرة، فإذا كان الطالب مبتدئا، فإن جرد المطولات له هلكة، كرجل لا يحسن السباحة يرمي نفسه في البحر.
وإن كان عند الإنسان العلم، ولكنه أراد أن يسرد هذه المطولات من أجل أن يكسب فوق علمه الذي عنده، فهذا قد يكون حسن.
فهذه الفقرة تحتاج إلى تفصيل. لو أن رجلا بدأ بالعلم من الآن ونقول له اذهب راجع المغني وراجع شرح المهذب وراجع الحاوي الكبير... وراجع كذا وعددت له من الكتب الموسعة. هذا معناه أنك أهلكته، رميته في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج. أما الإنسان الذي أعطاه الله علما وأراد أن يتبحر ويتوسع فهنا نقول: عليك بالمطولات، وقد ذكر لي بعض الإخوة أن الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله- أنه لم يتجاوز (الروض المربع) في مراجعاته في الفقه، ومع ذلك كان يطلق عليه مفتي الديار النجدية وله حواش على الروض المربع وهو لم يتجاوزه، لكنه يكرره ويتأمله منطوقا ومفهوما وإماء وإشارة.
أما كتابة «بلغ» فهذا طيب إنك إذا راجعت كتابا فاكتب عند المنتهى «بلغ» لتستفيد فائدتين:
الأولى- ألا تنسى ما قرأت، لأن الإنسان ربما ينسى فلا يدري هل بلغ هذه الصفحة أم لا؟ وربما يفوته بعض الصفحات إذا ظن أنه قد تقدم في المطالعة.
والفائدة الثانية- أن يعلم الآتي بعدك الذي يقرأ هذا الكتاب أنك قد أحصيته وأكملته فيثق به أكثر.
شرح الشيخ العثمين

آفاق التيسير

*شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري :
القارئ :
قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
38-جَرْدُ الْمُطَوَّلَاتِ :
الْجَرْدُ للمُطَوَّلاتِ من أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ ؛ لتَعَدُّدِ المعارِفِ ، وتوسيعِ الْمَدَارِكِ واستخراجِ مَكنونِها من الفوائدِ والفرائدِ ، والخبرةِ في مَظَانِّ الأبحاثِ والمسائلِ ، ومَعرِفَةِ طرائقِ الْمُصَنِّفِينَ في تآليفِهم واصطلاحِهم فيها .
وقدكان السالِفون يَكتبون عندَ وُقوفِهم : ( بَلَغَ ) حتى لا يَفوتَه شيءٌ عندَ الْمُعاوَدَةِ ، لا سيَّمَا مع طُولِ الزَّمَنِ .
الشيخ :
وهذا هو شأن أهل العلم ، والدروس العلمية كانت تُجعل على نوعين :
النوع الأول : دروس جرد المطولات ، يقرأون فيها ولا يتوقفون إلا عند نقطة مشكلة.
والثاني : قراءة المتون ، والمتون للمبتدئين ، ويحرص فيها على التفهيم والإفهام.
وللعلماء طرائق متعددة في التفهيم أول هذه الطرائق :
الطلب من الطلاب أن يبيّنوا فهمهم للكتاب ثم يقوم الشيخ بالتصحيح ، مثال هذا : عندنا درس في زاد المستقنع مثلا ، أتينا بجملة ، أقول : ما معناها يا زيد؟ ما معناها يا عمرو؟ ما معناها يا خالد؟ ثم أصحح ، وأقول : الصواب في الفهم كذا.
وأما فهمك في الفهم الفلاني فهو خطأ ، وسبب خطأه كذا ، فتستقر المعلومات ، وكل جملة يسأل عنها أشخاص مختلفين ، وهذه أحسن الطرق وهي التي تستقرّ في الذهن.
النوع الثاني : نوع المجادلة والمناقشة ، بحيث نقسّم الطلاب إلى فريقين ، وكلما جاءت مسألة نقول : انتخبوا لنا واحدا مغايرا لما أخذتموه في المسائل السابقة ، فيشرح ثم يشرح الثاني ونقارن بينهما ، أو يشرح أحدهما ويصحح له الآخر ، ثم يصحح الشيخ لهما ، وهذه أيضا طريقة جميلة ويستقر بها.
وهاتان الطريقتان لهما أصل في السنة ، كما في حديث ابن عمر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن شجرة صفتها كذا وصفتها كذا ، هذا سؤال ؛ الشيخ هو الذي يسأل ، ويطلب من الطلاب أن يجيبوه.
الطريقة الثالثة : أن يقوم طالبان بالمناظرة ، تُسمّى طريقة المناظرة ، يتناظران في المسألة بحيث هذا يناظر هذا ، وننظر ، هذا يتبنى قولا وهذا يتبنى قولا ، وننظر من يكون معه الغلبة ، ثم يعقّب الشيخ بما يستقيم.
الطريقة الرابعة : طريقة السرد ، مثل طريقتنا هذه ، وهي من أضعف الطرق في إبقاء المعلومات ، ولكنها جيدة ، يحصّل الناس منها شيء ، خصوصا إذا كان هناك كتاب وتسجيل ، وتَنَاقش الطلاب فيها فيما بعد ، فإنها تبقى المعلومة
حينئذ.

آفاق التيسير 


39- حسن السؤال:
مجلس 71



39- حُسْنُ السؤالِ :
الْتَزِمْ أَدَبَ الْمُباحَثَةِ ، من حُسْنِ السؤالِ ، فالاستماعِ ، فصِحَّةِ الفَهْمِ للجَوابِ ، وإيَّاكَ إذا حَصَلَ الجوابُ أن تَقولَ : لكنَّ الشيخَ فلانًا قالَ لي كذا ، أو قالَ كذا ، فإنَّ هذا وَهَنٌ في الأَدَبِ ، وضَرْبٌ لأَهْلِ العِلْمِ بعضِهم ببعضٍ ، فاحْذَرْ هذا .
وإن كنتَ لا بُدَّ فاعلاً ، فكنْ واضحًا في السؤالِ ، وقل ما رأيُك في الفَتْوَى بكذا ، ولا تُسَمِّ أَحَدًا .

من آداب طالب العلم:
أولا- أن يكون عنده حسن سؤال، حسن إلقاء مثل أن يقول: أحسن الله إليك ما تقول في كذا، وإن لم يقل هذه العبارة فليكن قوله رقيقا بأدب.
الثاني- حسن الاستماع، أما أن تقول: يا شيخ أحسن الله إليك ماذا تقول في كذا وكذا.. وانتظر.
الثالث- صحة الفهم للجواب.. وهذا أيضا يفوت بعض الطلبة، تجده إذا سأل وأجيب. يستحيي أن يقول ما فهمت.
بعد هذا يأتي بعض الناس بعدما يستمع للجواب يقول: لكن قال الشيخ الفلاني كذا وكذا.. في وسط الحلقة. هذا من سوء الأدب، معنى هذا إنك لم تقتنع بجوابه، ومعنى هذا إثارة البلبلة بين العلماء.
وإن كان لا بد فيقول: قال قائل... ثم يورد ما قاله الشيخ فلان لأن أحدا لا يفهم إذا قال إن قال قائل أنه أراد بذلك جواب شيخ آخر. لهذا يقول: «لكن إذا كنت لا بد فاعلا فقل ما رأيك في الفتوى بكذا» وهذا أيضا ما هو بحسن.
أحسن منه أن تقول (فإن قال قائل)، لأنك إذا قلت: ما رأيك في الفتوى بكذا- وهي خلاف ما أفتاك به- فيعني إنك تريد أن تعارض فتواه بفتوى آخر، لكن هي أحسن من قولك: قال الشيخ الفلاني كذا.

قالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( وقيلَ : إذا جَلَسْتَ إلى عالِمٍ ؛ فسَلْ تَفَقُّهًا لا تَعَنُّتًا ) اهـ .
وقالَ أيضًا : ( وللعلْمِ سِتَّةُ مَراتِبَ ) .
أوَّلُها : حسْنُ السؤالِ .
الثانيةُ : حسْنُ الإنصاتِ والاستماعِ .
الثالثةُ : حسْنُ الْفَهْمِ .
الرابعةُ : الْحِفْظُ .
الخامسةُ : التعليمُ .
السادسةُ : وهي ثَمَرَتُه ؛ العمَلُ به ومُراعاةُ حُدودِه اهـ .
ثم أَخَذَ في بيانِها ببَحْثٍ مُهِمٍّ .
ترتيبها على هذا الوجه لا شك أنه مناسب.
حسن السؤال: إذا دعَت الحاجة إلى حسن السؤال أما إذا لم تدعُ إلى السؤال فلا تلق السؤال، لأنه لا ينبغي للإنسان أن يسأل إلا إذا احتاج هو إلى السؤال، أو ظن أن غيره يحتاج إلى السؤال قد يكون مثلا هو فاهم الدرس، ولكن فيه مسائل صعبة يحتاج إلى بيانها إلى بقية الطلبة، بل من أجل حاجة غيره.
والسائل من أجل حاجة غيره كالمعلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه جبريل وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأشراطها. قال «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم».1
فإذا كان الباعث على السؤال حاجة السائل. فسؤاله واضح أنه وجيه أو حاجة غيره إن سئأل ليعلم غيرَه فهذا أيضا طيب، أما إذا سأل ليقول الناس: ما شاء الله فلان عنده حرص على العلم كثير السؤال، وابن عباس رضي الله عنه يقول: لما سئل بما أدركت العلم؟ قال :«بلسان سؤول وقلب عقول وبدن غير ملول»، فهذا غلط، وعلى عكس من ذلك من يقول: لا أسأل حياء. فالثاني مفرط.
والأول- مفرط، وخير الأمور الوسط.
الثاني- حسن الاتصال الانصات للاستماع.
الثالث- حسن الفهم.
الرابع- الحفظ، وهذا الحفظ ينقسم إلى قسمين: قسم غريزي يهبه الله لمن يشاء، فتجد الإنسان يمر عليه المسألة والبحث فيحفظه ولا ينساه، وقسم آخر كسبي.
بمعنى أن يمرن الإنسان نفسه على الحفظ ويتذكر ما حفظ، فإذا عود نفسه تذكر ما حفظ، سهل عليه الحفظ.
الخامسة- التعليم، والذي أرى أن تكون هي السادسة وأن العمل بالعلم قبل السادسة، فيعمل بالعلم ليصلح نفسه قبل أن يبدأ بإصلاح غيره ثم بعد ذلك يعلم الناس. قال النبي صلى الله عليه وسلم :«ابدأ بنفسك ثم بمن تعول».2 فالعمل به قبل تعليمه. بلى قد تقول أن تعليمه من العمل به، لأن من جملة العمل بالعلم أن تفعل ما أوجب الله عليك فيه من بثه ونشره.
شرح الشيخ العثمين
آفاق التيسير

1-.....ثم قال لي : " يا عمر ! أتدري من السائل ؟ " قلت : الله ورسوله أعلم . قال : " فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " الراوي : عمر بن الخطاب - المحدث : مسلم - المصدر : صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 8- خلاصة حكم المحدث : صحيح
الدرر السنية
2-"ابدأْبنَفسِكَ ثمَّ بمَنْ تعولَ"

الراوي : جابر بن عبدالله - المحدث : الألباني - المصدر : إرواء الغليل
الصفحة أو الرقم: 1448 - خلاصة حكم المحدث : صحيح مركب من حديثين الدرر السنية

وقد أبدع أبو الأسود الدؤلي في بيان تلك الحقيقة حين قال: يا أيها الرجل المعلم غيره، هلاّ لنفسك كان ذا التعليمُ، تصف الدواء لذي السّقام وذي الضّنى، كيما يصح به وأنت سقيمُ، إلى أن قال: ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها، فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ، فهناك يُقبل ما وعظت ويقتدى، بالعلم منك وينفع التعليمُ.
فهذا نبينا وقدوتنا عليه الصلاة والسلام نجده دائماً في أحاديثه وكلامه يبدأ بنفسه، ففي حديث النساء :

"خيرُكُم خيرُكم لِأهْلِهِ ، وَأَنَا خيرُكم لِأَهْلِي"الراوي : عائشة و ابن عباس و معاوية بن أبي سفيان - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الجامع الصفحة أو الرقم: 3314 - خلاصة حكم المحدث : صحيح- الدرر السنية

*شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري :
القارئ :
قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا:
39- حُسْنُ السؤالِ:
الْتَزِمْ أَدَبَ الْمُباحَثَةِ ، من حُسْنِ السؤالِ ، فالاستماعِ ، فصِحَّةِ الفَهْمِ للجَوابِ ، وإيَّاكَ إذا حَصَلَ الجوابُ أن تَقولَ : لكنَّ الشيخَ فلانًا قالَ لي كذا ، أو قالَ كذا ، فإنَّ هذا وَهَنٌ في الأَدَبِ ، وضَرْبٌ لأَهْلِ العِلْمِ بعضِهم ببعضٍ ، فاحْذَرْ هذا .
وإن كنتَ لا بُدَّ فاعلاً ، فكنْ واضحًا في السؤالِ ، وقلما رأيُك في الفَتْوَى بكذا ، ولا تُسَمِّ أَحَدًا .
قال َابنُ القَيِّمِ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( وقيلَ : إذاجَلَسْتَ إلى عالِمٍ ؛ فسَلْ تَفَقُّهًا لا تَعَنُّتًا ) اهـ .
وقال َأيضًا : ( وللعلْمِ سِتُ مَراتِبَ ) .
أوَّلُها : حسْنُ السؤالِ .
الثانيةُ : حسْنُ الإنصاتِ والاستماعِ .
الثالثةُ : حسْنُ الْفَهْمِ .
الرابعةُ : الْحِفْظُ .
الخامسةُ : التعليمُ .
السادسةُ : وهي ثَمَرَتُه ؛ العمَلُ به ومُراعاةُ حُدودِه اهـ .
ثم أَخَذَ في بيانِها ببَحْثٍ مُهِمٍّ .

الشيخ :
من آداب طالب العلم حسن السؤال ، السؤال من الأمور التي يرغب فيها ، فإذا استشكل عليك فاسأل حتى تتقن العلم ، ولذلك أثنى عمر على ابن مسعود أو ابن عباس فقال : نالا العلم بلسان سؤول وقلب عقول.
وإذا تقرر هذا فإنّ السؤال لابد أن يكون على السند ، بحيث يلتزم فيه الطالب بالأدب ، فلا يسأل في غير الفن الذي يتدارسونه.
درسنا هذا في آداب طالب العلم فلا تنقلنا إلى مسائل الفتوى ، ندرس في باب الصيام ، فلا يحق لك أن تنقلنا إلى باب القصاص ، أو باب ، أبواب الأنكحة.
الثاني : حسن انتقاء الألفاظ ، حسن انتقاء الألفاظ ، لا تأتي بلفظ نابي ، ولا لفظ غريب ، ولا لفظ غير مرغوب فيه.
الثالث : أن لا تسأل في شيء قد تكلم فيه الشيخ ، فمسألة طرحها الشيخ وهي واضحة وجلية وحكم قد قرره الشيخ لا يصح أن تقول بعد ذلك ، ما الحكم في كذا ، والشيخ قد قرره.
الأمر الرابع : لابد أن يكون سؤالك سؤالا صحيحا ، فبعض الناس يسأل سؤال مركب بصياغة غير صحيحة.
الأمر الخامس : أن يكون سؤالك سؤالا واقعيا.
والأمر السادس : أن لا يكون من التعنت ، تريد أن تختبر الشيخ ، وقد جاء في الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات في العلم.*
والأمر السابع : أن لا يكون سؤالك على جهة إبطال قول الشيخ ، قد تستفهم لكن لا تحاول الإبطال ، إبطال قول الشيخ ، فإنّ هذا سوء أدب ، وقد يكون سوء فهم منك ، وبالتالي لا يكون كلامك صحيحا ، قد تعترض وتقول : كيف الجمع بين كذا وكذا ، هذا لا بأس فيه ، لكن أن تقول : كلامك فيه ما فيه لأنّ الله يقول : كذا ، هذا سوء أدب ، وليس من حسن السؤال في شيء.
قال المؤلف : (التزم أدب المباحثة من حسن السؤال) وكذلك التزم الاستماع ، والتزم صحة الفهم للجواب ، مرات يأخذ بعض الناس جزءا من الجملة ، ولا يلتفت إلى بقيتها فيفهم فهما خاطئا ، وهذا يحصل خصوصا من عوام الناس يمسك ربع جملة ثم يبدأ ينسب إلى الشيخ ما لم يقله ، ولذلك لا يجوز أن ينسب إلى عالم أي مقالة ، إلا إذا كان الإنسان قد سمع المقالة كاملة ، مرّات يأتي العالم ويتكلم بنقل كلام باطل ، ثم يجيب عنه ويرد عليه ، فيأتيك بعض الناس ما سمع إلا المقالة الباطلة ، فيقول الشيخ الفلاني يقول كذا ، فيكون قد كذب عليه ، لأنّ الشيخ نقل هذه الجملة ليردّ عليها ويبطلها.
وبعض الناس يجئ بشريط وينقل هذه الجملة ، الجزء ، ويقول اسمعوا الشيخ يقول كذا ، وبالتالي يكون قد كذب عليه وصدّ الناس عن سبيل الله ، لأنّ إبعاد الناس عن علماء الشريعة والكلام في أعراضهم ، وتشويه سمعتهم وإنزال مكانتهم يؤدّي إلى جعل الناس ينصرفون عن العلم الذي يحملونه.
كذلك من سوء الأدب معارضة الأقوال بعضها ببعض ، قال المؤلف : (هذا وهن في الأدب) تكلّم وقال : طيب الشيخ االفلاني يقول كذا ، هذا اجتهاده وهذا اجتهادي ، ما يصح لك أن تضرب قولي بقوله.
(قال ابن القيم : سل تفقها) يعني من أجل تحصيل الفقه.
(لا تعنتا) من أجل إنزال المشقة على العالم.
ثم ذكر للعلم ست مراتب : حسن السؤال ، وحسن الإنصات ، وحسن الفهم ، ثم الحفظ والتعليم ثم العمل.

آفاق التيسير
*-" أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ نهى عنِ الأُغلوطاتِ" الراوي : معاوية بن أبي سفيان - المحدث : ابن حجر العسقلاني - المصدر : تخريج مشكاة المصابيح -الصفحة أو الرقم: 1/161 - خلاصة حكم المحدث : [حسن كما قال في المقدمة] الدرر السنية

*قال ابن حجر _ رحمه الله _ في الفتح :
وأما ما رواه أبو داود من حديث معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الأغلوطات - قال الأوزاعي أحد رواته : هي صعاب المسائل - فإن ذلك محمول على ما لا نفع فيه ، أو ما خرج على سبيل تعنت المسئول أو تعجيزه.
وقال في موضع آخر : وقد ثبت النهي عن الأغلوطات أخرجه أبو داود من حديث معاوية ، وثبت عن جمع من السلف كراهة تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادة أو يندر جدا ، وإنما كرهوا ذلك لما فيه من التنطع والقول بالظن ، إذ لا يخلو صاحبه من الخطأ .

*وفيه كراهة التعمق والتكلف مما لا حاجة للإنسان إليه من المسألة ،ووجوب التوقف عما لا علم للمسئول به.
وقد رُوِينا عن أبي بن كعب :أن رجلاً سأله عن مسألة فيها غموض ،فقال : هل كان هذا ؟ قال: لا. فقال:أمهلني إلى أن يكون .
وسأل رجلٌ مالك بن أنس ؛عن رجلٍ شرب في الصلاة ناسيًا ؟ .فقال : ولم لم يأكل؟! ،ثم قال : حدثنا الزهري عن علي بن حسين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من حسن إسلام المرء تركه ما لايعنيه

-" من حسنِ إسلامِ المَرءِ تركُه ما لا يَعنيه"الراوي : أبو هريرة - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترمذي -الصفحة أو الرقم: 2317 - خلاصة حكم المحدث : صحيح. الدرر السنية

40- الْمُناظَرَةُ بلا مُمَارَاةٍ

إيَّاكَ والْمُمَارَاةَ ؛ فإنها نِقْمَةٌ ، أمَّا المناظَرَةُ في الْحَقِّ ؛ فإنها نِعْمَةٌ إذ الْمُناظَرَةُ الْحَقَّةُ فيها إظهارُ الحقِّ على الباطلِ ، والراجِحِ على المرجوحِ ، فهي مَبْنِيَّةٌ على الْمُناصَحَةِ والْحِلْمِ ، ونَشْرِ العلْمِ ، أمَّا الْمُماراةُ في المحاوَرَاتِ والمناظَرَاتِ ؛ فإنها تَحَجُّجٌ ورِياءٌ ، ولَغَطٌ وكِبرياءُ ومُغالَبَةٌ ومِراءٌ ، واختيالٌ وشَحْنَاءُ ، ومُجاراةٌ للسفهاءِ ، فاحْذَرْها واحْذَرْ فاعِلَها ؛ تَسْلَمْ من المآثِمِ وهَتْكِ الْمَحارِمِ ، وأَعْرِضْ تَسْلَمْ وتَكْبُت الْمَأْثَمَ والْمَغْرَمَ .
*شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله ( مفرغ )
المناظرة والمناقشة تشحذ الفهم وتعطي الإنسان قدرة على المجادلة. والمجادلة في الحق مأمور بها كما قال الله تعالى: "ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
فإذا تمرن الإنسان على المناظرة والمجادلة حصل على خير كثير، وكم من إنسان جادل بالباطل فغلب صاحب الحق لعدم قدرته على المجادلة.
لكن المجادلة نوعان: مجادلة المماراة، يماري بذلك السفهاء ويجادل الفقهاء ويريد أن ينتصر لقوله،فهذه مذمومة.
والثاني لإثبات الحق وإن كان عليه، فهذه محمودة مأمور بها. وعلامة ذلك- المجادلة الحقة - أن الإنسان إذا بلغه الحق اقتنع وأعلن الرجوع، أما المجادل الذي يريد الانتصار لنفسه فتجده لو بان الحق، وكان ظاهر الحق مع خصمه يورد إيرادات: لو قال قائل. ثم إذا أجيب. ولو قال قائل. ثم إذا أجيب، قال ولو قال قائل. ثم تكون سلسلة لا منتهي لها، ومثل هذا عليه خطر أن لا يقبل قلبُه الحقَ، لا بالنسبة للمجادلة مع الآخر، لكن حتى في خلوته، ربما يورد الشيطان عليه هذه الإيرادات.
قال الله تعالى:" وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ "الأنعام110. وقال الله تعالى: "وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ "المائدة49
فعليك يا أخي ابتغاء الحق سواء كان بمجادلة غيرك أو بمجادلة نفسك متى تبين قل: سمعنا وأطعنا. لهذا تجد الصحابة يقبلون ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم وما أخبر به دون أن يوردوا عليه الاعتراضات أو قول: أرأيت . . . أرأيت.
ولهذا جادل رجل عبد الله بن عمر فقال له: أرأيت؟! قال له :«اجعل أرأيت في اليمن». لأنه من أهل اليمن.
عندما سأل أهل العراق عن دم البعوضة. وهل يجوز قتل البعوضة؟! قال: سبحان الله !! أهل العراق يقتلون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأتون يسألون عن دم البعوضة!! هذه مجادلة ولا شك.
آفاق التيسير

شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري (مفرغ):

الشيخ:
المماراة هي المناقشات العقيمة ، والمناقشات التي تكون لإظهار النفس ، لا لتعرف الحق ، قد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أنا ضمين ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقا".1
أما المناظرة والمناقشة والمجادلة ، هذه مطلوبة لأنّ الإنسان يقصد بها الوصول إلى الحق ، ولأنّ الكلام فيها يُبنى على دليل صحيح ، ولأنّ المرء في المناظرة والمناقشة إذا وصل إلى الدليل سمع وله أذعن ، أما في المماراة فهو يريد إبطال دليل خصمِه ولو كان دليلا صحيحا في نظره.
وقد قال الله تعالى : {
ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...}النحل125 ، وقال سبحانه : "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }العنكبوت46
ومن هنا فإنّ المناقشة محمودة وهي نوع من أنواع النصح ، ونوع من أنواع التعلم ، وقد ذكر الله في كتابه عددا من المناقشات والمناظرات بين الأنبياء وأقوامهم ، انظر لمناقشة موسى عليه السلام لفرعون ، ومناقشة إبراهيم عليه السلام لقومه ، وبعض مناقشات النبي صلى الله عليه وسلم لبعض مَنْ في زمانه ،" قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }آل عمران64، "هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }آل عمران66
(قرأها الشيخ : جادلتم في الموضعين ) ، "وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ "البقرة111

وبالتالي فإنّ المراء مذموم لأن المقصود فيه الغلبة ، وليس المقصود الحق ، وبالتالي تجده يرفع الصوت ليغلب من أمامه ، وتجده يموّه في الكلام ليغلب من أمامه ، وتجده يحاول أن يوجد تناقضات في كلام مقابله ولو لم تكن صحيحة من أجل أن يغلبه ويتمكّن منه ، وبالتالي فالمراء مؤثّر على صحة النيّة ، غير موصل إلى حق.
من هنا فإنه يُنهى عنه ، لأنه سبب من أسباب الإثم ، فإذا وجدت هذه المناقشات تحوّلت إلى مراء ، مناقشات عقيمة والمقصود الغلبة والانتصار ، حينئذ أعرض عنها ، وأوْصل الحق فقط ، ولا تُجادل ولا تُناقش ، إذا كان المقصود كذلك.

آفاق التيسير
1
-" أنا زعيمٌ ببيتِ في رَبَضِ الجنةِ لمَن تَرَكَ المِراءَ وإن كان مُحِقًّا ، وببيتِ في وسطِ الجنةِ لمَن تركَ الكذبَ وإن كان مازحًا ، وببيتٍ في أعلى الجنةِ لمَن حُسُنَ خلقُه". الراوي : أبو أمامة الباهلي - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح أبي داود-الصفحة أو الرقم: 4800- خلاصة حكم المحدث : حسن- الدرر السنية
41- مُذاكَرَةُ العِلْمِ

- مُذاكَرَةُ العِلْمِ

الأمر الحادي والأربعون: مُذاكَرَةُ العِلْمِ :
تَمَتَّعْ مع البُصَرَاءِ بالْمُذاكَرَةِ والْمُطارَحَةِ ؛ فإنها في مَواطِنَ تَفوقُ الْمُطالَعَةَ وتَشْحَذُ الذهْنَ وتُقَوِّي الذاكرةَ ؛ مُلْتَزِمًا الإنصافَ والملاطَفَةَ مُبْتَعِدًا عن الْحَيْفِ والشَّغَبِ والمجازَفَةِ .
وكُنْ على حَذَرٍ ؛ فإنها تَكْشِفُ عُوارَ مَن لا يَصْدُقُ .
فإن كانت مع قاصرٍ في العِلْمِ ، باردِ الذهْنِ ؛ فهي داءٌ ومُنافَرَةٌ ، وأمَّا مُذاكرَتُك مع نفسِك في تقليبِك لمسائِلِ العلْمِ ؛ فهذا ما لا يَسوغُ أن تَنْفَكَّ عنه .
وقد قيلَ : إحياءُ العِلْمِ مُذاكرَتُه .
شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله ( مفرغ )

الشيخ:
هذا أيضا من الذي ينبغي لطالب العلم أن يقوم به، وهو المذاكرة. والمذاكرة نوعان: مذاكرة مع النفس. ومذاكرة مع الغير.
المذاكرة مع النفس: تجلس مثلا جلسة واحدة، ثم تفرض مسألة من المسائل أو تكون مسألة مرت عليك، ثم تأخذ في محاولة ترجيح ما قيل في هذه المسألة بعضه على بعض. يعني ترجيح بعض الأقوال على بعض في هذه المسألة. وهذه سهلة على (...) هي أيضا تساعد على مسألة المناظرة السابقة.
أما المذاكرة مع الغير: فهي أيضا واضحة يختار الإنسان من إخوانه الطلبة من يكون عونا له على طلب العلم، مفيدا له فيجلس معه ويتذاكرا،
يَقْرَآنِ مثلا ما حفظاه كل واحد يقرأ على الآخر قليلا أو يتذاكران في مسألة من المسائل بالمراجعة أو بالمفاهمة إن قدرا على ذلك، فإن هذا مما ينمي العلم ويزيده.
لكن إياك والشغب والصلف-
صلِف الشَّخصُ :
• ادَّعى ما فوق قَدْره عُجْبًا وتكبُّرًا -هنا
، لأن هذا لا يفيد. أنت الآن تحاج في مقام الإقناع أم في مقام التأديب؟ في مقام الإقناع. واعلم أنه لن يقتنع كلما اشتد غضبك عليه، بل ربما إذا اشتد غضبك عليه، اشتد غضبه عليك ثم ضاع الحق بينكما، لكن بالهدوء.

أما لو علمت منه الإعنات، مثل أن تكون أنت أعلم منه وتفهم من العلم ما لا يفهم، ولكن عرفت أن هذا الرجل يريد العنت-.
الْخَطَأ -والمكابرة عنادا هنا -فحينئذ لك أن تشتد عليه وأن تقول: لن أفهمك لقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }المائدة42. ولهذا قال المؤلف : «فإن كانت مع قاصرٍ في العِلْمِ ، باردِ الذهْنِ ؛ فهي داءٌ ومُنافَرَةٌ ».
(...) بعض الناس أكثر علما من الآخر لكن الثاني أفهم منه في معرفة النصوص والثالث أعقل منهم أيضا في معرفة مصادر الشريعة ومواردها لأنه قد يفهم الإنسان النص فهما كاملا لكن ليس عنده ذاك العقل الذي يجمع بين أدلة الشريعة وبين مقاصدها وأسرارها فتجده يأخذ بظاهر اللفظ ولو كان بعيدا عن مقاصد الشرع وهذا خلل عظيم، أرأيت قول ابن حزم في الشاة الثنية *لا تجزئ وفي الجذعة، تجزئ، هذا بعيد جدا عن مقاصد الشريعة ، إذا كانت الجذعة تجزئ فالثنية من باب أولى ولا شك، أو يقول بعض الظاهرية: إذا استأذن الرجل ابنته البكر في أن يزوجها رجلا فقالت: يا أبت لا أريد إلا هذا الرجل وأمثاله وأنا موافقة يقول: هذا ليس بإذن ، لا يزوجها ، والبنت الثانية لما شاورها سكتت ولم تقل شيء هذه تزوج والأخرى لا تزوج مع أنها صرحت بالرضا والثانية سكوتها دليل الرضا وليس هو الرضا فالمهم أنه لا بد من عقل، فقد يكون بعض الناس أكثر علما لكنه لا يفهم، وقد حدثتكم مرة عن حمار الفروع تذكرون، رجل حفظ كتاب الفروع لابن مفلح (ثلاثة مجلدات) ولكنه لا يفهم منه ولا معنى واحد فكان أصحابه يجعلونه كمكتبة إذا أشكل عليهم شيء قالوا: ماذا قال صاحب الفروع في الفصل الفلاني أو الباب الفلاني أوالكتاب الفلاني؟ (...) وهو ما يعرف معناه أبدا ، فهذا ليس عنده فهم، فلا بد من فهم.

آفاق التيسير
شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري (مفرغ)
الشيخ :
هذا هو الأدب الحادي والأربعون من آداب طالب العلم : مذاكرة العلم ؛ يعني مراجعته والمناقشة فيه ، الباب الفلاني ماذا يشتمل عليه من المسائل؟
يشتمل على المسألة الأولى كذا ، والمسألة الثانية كذا ، والمسألة الثالثة كذا.
الباب الفلاني من أبواب العلم ما هي الأحاديث التي تكون فيه؟
أورد حديثا ، ثم أنت تورد حديثا.
باب الاعتكاف ماذا وجد فيه من الآيات القرآنية والأحاديث؟
أورد الآيات ثم نورد الأحاديث ، واحدا واحدا ، أنت تورد حديثا ، وأنا أورد حديثا آخر ، هذا يُسمّى مذاكرة العلم.
ومذاكرة العلم من أكبر الوسائل المؤدّية إلى حفظ العلم ، وقد كان الصحابة والتابعون والأئمّة يتذاكرون العلم ، إذا جلسوا بدؤوا يتذاكرون ، وكل يوم يتذاكرون في باب أو نحوه ، وبالتالي يحفظون العلم.
قال المؤلف : وهذا شاهده ودليله : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان في رمضان يأتيه جبريل فيقرأ عليه القرآن في كل عام مرة ، هذا من مذاكرة العلم ، وكان الصحابة يُذاكرون العلم ، أبوهريرة كان في الليل يُراجع الأحاديث التي حفظها لتبقى في ذهنه ، وهكذا الأئمة لا زالوا على طلب العلم بواسطة المُذاكرة.
والمذاكرة فوق المُطالعة ، إذا جيت كتاب وقرأت فيه باب الاعتكاف في كتب الحديث ، هذه مطالعة ، فإذا جلست مع طالب علم وبدأت تذاكر ، ماذا ورد في الباب الفلاني في باب الاعتكاف من الأحاديث هذا أقوى في رسوخ المعلومة من الأول ، وفي نفس الوقت تعوّد ، أو تجعل الذهن متوقّدا حاضرا لهذا الباب ، وتقوّي ذاكرة الإنسان ، وتجعله منصفا في كلامه مع غيره ، يعني مرة يُعطي معلومة ، ومرة يأخذ المعلومة من غيره ، وبالتالي يكون لطيفا بخلاف المناظرات فإنه قد يكون فيها ما يكون فيها من القوة ، وما ينافي الملاطفة بخلاف المذاكرة.
لكن ينبغي أن تبتعد عن ذلك المتعالِم أو ذلك الكاذب ، أو من ليس عنده أمانة علميّة ، لأنّ قد يوهمك أنّ في هذا الباب الحديث الفلاني ، ويوهمك أنّ هذه المسألة توجد في باب كذا ، ويوهمك أنّ هذه المعلومة عند هؤلاء الفقهاء على هذا النحو ، ولا يكون الأمر كذلك.
أما مراجعة الإنسان لمسائل العلم في نفسه فهذا عظيم الفائدة كبير الثمرة ، نعم.
آفاق التيسير
* فالجذع من الضأن : ما أتم ستة أشهر عند الحنفية والحنابلة ، وعند المالكية والشافعية ما أتم سنة . والمسنة (الثني) من المعز : ما أتم سنة عند الحنفية والمالكية والحنابلة ، وعند الشافعية ما أتم سنتين .
والمسنة من البقر : ما أتم سنتين عند الحنفية والشافعية والحنابلة ، وعند المالكية ما أتم ثلاث سنوات .
والمسنة من الإبل : ما أتم خمس سنوات عند الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة .
وقال الكاساني في "بدائع الصنائع" (5/70) :
" وتقدير هذه الأسنان بما قلنا لمنع النقصان لا لمنع الزيادة ;
هنا

 42- طالبُ العلْمِ يَعيشُ بينَ الكتابِ والسُّنَّةِ وعلومِها
شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله ( مفرغ )
القارئ:
الأمر الثاني والأربعون: طالبُ العلْمِ يَعيشُ بينَ الكتابِ والسُّنَّةِ وعلومِها :
فهما له كالْجَناحينِ للطائرِ ، فاحْذَرْ أن تكونَ مَهيضَ الْجَناحِ .
 الشيخ:
صحيح .. هذا أيضا من آداب طالب العلم. وبقي شيء آخر (طالب العلم يعيش بين الكتاب والسنة)، فهما كالجناجين للطائر والطائر لا يطير إلا بجناحين إذا انكسر أحدهما لم يطر، إذا لا تراعي السنة وتغفل عن القرآن، أو القرآن وتغفل عن السنة، كثير من طلبة العلم يعتني بالسنة وشروحها ورجالها، ومصطلحاتها اعتناء كاملا، لكن لو سألته عن آية من كتاب الله. ما قدم الإجابة، ولا عرف شيئا.
هذا غلط، لكن لا بد أن يكون الكتاب والسنة كلاهما جناحان لك، والجناح الأصل هو: القرآن.
وثم أيضا شيء ثالث- لكن هو داخل في قول المؤلف و(علومها): كلام العلماء، أيضا لا تهمل كلام العلماء ولا تغفل عنه، لأن العلماء أشد منك رسوخا في العلم، وعندهم من قواعد الشريعة وضوابط الشريعة وأسرارها ما ليس عندك فلا تغفله.
ولذلك كان العلماء الأجلاء المحققون إذا ترجح عندهم قول يقولون: «إن كان أحد قال به وإلا فلا نقول به».
شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على علمه وسعة إطلاعه، إذا قال قولا لا يعلم به قائلا. قال : «أنا أقول به إن كان قد قيل به». ولا يأخذ برأيه، ويقول: خلاص أنا فهمت من القرآن كذا ولا علي من الناس.
هذا غلط. أنت إذا رأيت أكثر العلماء على قول، فلا تعدل عن قول أكثر العلماء إلا بعد التمحيص والتحقق، لأنه من المستبعد أن يكون الأقل هم أهل العلم. بمعنى: إذا رأيت مسألة من المسائل اختلف فيها العلماء وأكثرهم يقول بكذا، والآخرون يقولون بكذا، وترجح عندك قول الأقل ، لا تأخذ به مباشرة ، فكر، ما أدلة الآخرين؟ لأن الأكثر في الغالب يكون معهم الحق ، ففكر أولا ، ثم إذا تبين لك أن الحق مع الأقل فاتبع الحق ، لكن كونك تأخذ مباشرة بما ترجح عندك والجمهور على خلافه هذا لا ينبغي أبدا .
كذلك أيضا تأتي مثلا أدلة شواذ تخالف الأدلة التي هي كالجبال في الشريعة والدلالة فيأخذ الإنسان بهذا الدليل الشاذ، ولعله لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ثبت وهو منسوخ ، أو ثبت وهو مخصوص، فنقول ارفق ما دام هذا يخالف الأدلة التي هي كالجبال للشريعة فلا تتعجل في الأخذ به انتظر وتمهل ، فهذان أمران أنبه عليهما لأهميتهما :
- مخالفة الجمهور.
- ومخالفة القواعد في الشريعة الإسلامية.
القواعد التي تعتبر كالجبال للأرض ، رواسخ.


آفاق التيسير


شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري (مفرغ

القارئ :
قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
42- طالبُ العلْمِ يَعيشُ بينَ الكتابِ والسُّنَّةِ وعلومِها :
فهما له كالْجَناحينِ للطائرِ ، فاحْذَرْ أن تكونَ مَهيضَ الْجَناحِ .

الشيخ:
الأصل في العلم الشرعي هو الكتاب والسنة ، وحينئذ لابد أن يكون هما الذي يعوّل عليه طالب العلم في علمه ، ومن ثَمّ فقراءة أقوال العلماء والبحث في كتب الفقه ، إنما هي وسائل يستعين بها الإنسان على ضبط العلم وعلى القدرة على مراجعة النصوص الشرعية كتابا وسنة ، فهذه وسائل ، وإلا فإنّ الأصل هو الكتاب والسنة ، ولذلك طالب العلم تجده يعيش بين هذين الأصلين :
أولا : يراجع حفظه للقرآن ، ويتأمل في فهم القرآن.
وثانيا : يسرد كتب السنة ويحاول ضبط ما يستطيع ضبطه منها.
والله جل وعلا قد أمر بالرجوع إلى الكتاب والسنة ، {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} آيات الله يعني القرآن ، والحكمة يعني السنة.
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} يعني الكتاب والسنة ، نعم .
آفاق التيسير

43-استكمالُ أدواتِ كلِّ فَنٍّ :
لن تكونَ طالبَ عِلْمٍ مُتْقِنًا مُتَفَنِّنًا – حتى يَلِجَ الْجَمَلُ في سَمِّ الْخِياطِ – ما لم تَستكمِلْ أدواتِ ذلك الفَنِّ ، ففي الفِقْهِ بينَ الفقْهِ وأصولِه ، وفي الحديثِ بينَ عِلْمَي الروايةِ والدِّرايةِ .... وهكذا ، وإلا فلا تَتَعَنَّ .
قالَ اللهُ تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } فيُستفادُ منها أنَّ الطالِبَ لا يَتْرُكُ عِلْمًا حتى يُتْقِنَهُ .
شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله ( مفرغ )
 الشيخ:
استكمال أدوات كل فن. يريد بذلك: أنك إذا أردت أن تكون طالب علم في فن معين، وهو ما يعرف عندنا بالتخصص، فلا بد أن تكون مستكملا أدوات ذلك الفن، يعني عندك علما به، فمثلا في الفقه إذا كنت تريد أن تكون عالما بالفقه، فلا بد أن تقرأ الفقه وأصول الفقه لتكون متبحرا فيه، وإلا فيمكن أن تعرف الفقه بدون علم الأصول، ولكن لا يمكن أن تعرف أصول الفقه بدون الفقه.
يعني: يمكن أن يستغني الفقيه عن أصول الفقه، لكن لا يمكن أن يستغني الأصولي عن الفقه، إذا كان يريد الفقه.
ولهذا اختلف العلماء، علماء الأصول: هل الأولى لطالب العلم أن يبدأ بأصول الفقه لابتناء الفقه عليه أو بالفقه لدعاء الحاجة إليه، حيث أن الإنسان يحتاجه في عمله، حاجاته، ومعاملاته قبل أن يفطن إلى أصول الفقه.
والثاني- هو الأولى وهو المتبع غالبا. وهنا استدل بقول الله تعالى :(الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته) (سورة البقرة: 121). والمراد بالتلاوة هنا: التلاوة اللفظية، والتلاوة المعنوية، والتلاوة العملية، مأخوذة من تلاه إذا اتبعه، فالذين آتاهم الكتاب لا يمكن أن يوصفوا بأنهم أهل الكتاب حتى يتلوه حق تلاوته.
قوله :«وفي الحديث بين علمي الرواية والدراية» يعني بذلك الرواية في أسانيد الحديث ورجال الحديث. والدراية في فهم معناه.
آفاق التيسير


شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري (مفرغ)
القارئ :
قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
43- استكمالُ أدواتِ كلِّ فَنٍّ :
لن تكونَ طالبَ عِلْمٍ مُتْقِنًا مُتَفَنِّنًا – حتى يَلِجَ الْجَمَلُ في سَمِّ الْخِياطِ – ما لم تَستكمِلْ أدواتِ ذلك الفَنِّ ، ففي الفِقْهِ بينَ الفقْهِ وأصولِه ، وفي الحديثِ بينَ عِلْمَي الروايةِ والدِّرايةِ .... وهكذا ، وإلا فلا تَتَعَنَّ .
قال َاللهُ تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } فيُستفادُ منها أنَّ الطالِبَ لا يَتْرُكُ عِلْمًا حتى يُتْقِنَهُ .
الشيخ :
هذا الأدب اشتمل على أمرين :
الأمر الأول : معرفة أدوات العلم قبل الدخول فيه ، لو جاءنا إنسان وبدأ يدرس النحو ، وأصبح أخذ المرفوعات والمنصوبات ، لكنه أصلا لا يعلم ولا يعرف أنّ النحو يتعلّق بأواخر الكلمات ، ليس لديه فهم المصطلحات لهذا العلم ، ولا يعرف المنشأ الذي نشأ منه هذا العلم ، فلن يتقن هذا العلم ، وهكذا في بقيّة الفنون ، عندما يريد الإنسان فهم الكتاب والسنة ، واستخراج الأحكام منها ، إذا لم يعرف القواعد الأصولية لن يتمكن من هذا ، وحينئذ إذا أراد أن يحكم على الأحاديث تصحيحا وتضعيفا ، لابد أن يعرف قواعد المصطلح ويكون عنده قدرة على معرفة أحوال الرواة ، فإذا لم يكن محيطا بالوسيلة لن يتمكن من الوصول إلى الغاية ، وبالتالي لابد من معرفة الأدوات قبل الولوج في تعلّم العلم.
الأمر الثاني : مما ذكره المؤلف هنا ؛ ألا يترك العلم حتى يتقنه ، إذا ابتدأ الطالب بعلم ثم ملّ وانتقل إلى غيره ، وأهمل العلم الأوّل فحينئذ قد أضاع وقته ، من أخذ كتابا وقرأ ربعه ، نصفه ثم انتقل إلى غيره ، ما يتمكّن أن يقول : قرأت الكتاب ، ولا يتمكّن أن يقول : هذه المعلومة ليست في الكتاب ، لأنه لم يحط بالكتاب ، نعم.

آفاق التيسير

عِلم الحديث" روايــة " و " درايــة"


*أولاً : علـم الحديــث روايــة :

علـم الحديـث روايـة هـو : نقـل السـنة مـن أقـوال النبــي ـ

صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، وأفعالـه ، وتقريراتـه ،وخَلْقِـهِ ، وخُلقِـهِ ، وغيـر ذلـك ، وحفظهـا في الصـدور ، وإثباتهـا بالسـطور ، وضبطهـا ، وتحريـرألفاظهـا ، وإسـناد ذلـك إلـى مـن عـزي إليـه بتحديـث وإخبـار وغيـر ذلـك.
120 سؤال وجواب ... / الحكمي / ص : 15 .
فعلـم الحديـث روايـة يبحـث عمـا يُنقَـل عـن النبــي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ مـن أقوالـه وأفعالـه وأحوالـه .
مثالـه : إذا جاءنـا حديـث عـن النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فإننـا نبحـث فيـه هـل هـو قـول أو فعـل أو حـال ؟ .
وهـل يـدل علـى كـذا أو لا يـدل ؟ فهـذا هـو علـم الحديـث روايـة ، وموضوعـه
البحـث فـي ذات النبـي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ،ومـا يصـدر عـن هـذه الـذات مـن أقـوال وأفعـال وأحـوال .

ومـن الأفعـال الإقـرار ، فإنـه يعتبـر فعـلاً .
وأمـا الأحـوال فهـي صفاتـه ، كالطـول ، والقِصَـر واللـون والغضـب والفـرح ومـا أشـبه ذلـك .
شرح البيقونية ... / للشيخ العثيمين / ص : 8 / بتصرف .
حكمـــه :
ـ الوجـوب الكفائـي علـى الأمـة .
ـ الوجـوب العينـي علـى مـن تفـرد بـه .
جَنْـي الثمـار فـي مصطلـح أهـل الأثـار . أبـو عبـد الله أشـرف خليفـة عبـد المنعـم السـيوطي / ص : 17 .

*ثانيـًا : علـم الحديــث درايــة :

علـم الحديـث درايـة يُعْـرَف " بمصطلـح الحديـث " أو " بأصـول الحديـث " .
وموضوعـه :
بيـان قواعـد البحـث فـي آحـاد السـنة عـن أحـوال السـند والمتـن وما يتعلـق بهمـا مـن حيـث القبـول والـرد .

120 سؤال وجواب في ... / ص 20 / بتصرف .
أي هـو علـم يُعْـرَف بـه حـال الـراوي والمـروي مـن حيـث القبـول والـرد .
جَنْـي الثمـار فـي مصطلـح أهـل الأثـار . أبـو عبـد الله أشـرف خليفـة عبـد المنعـم السـيوطي / ص : 13 .

حكمـــه :

ـ الوجـوب الكفائـي علـى الأمـة فـي مجموعهـا لتوقـف معرفـة المقبـول والمـردود عليـه .
ـ والوجـوب العينـي علـى مـن تفـرد بمعرفتـه فيجـب عليـه أن يعمـل بمقتضـى العلـم بـه تدريسـًا وتصنيفـًا وتطبيقـًا فـي قبـول مـا يُقْبَـل ورد مـا يُـرد .
جَنْـي الثمـار فـي مصطلـح أهـل الأثـار . أبـو عبـد الله أشـرف خليفـة عبـد المنعـم السـيوطي / ص : 15 .
 فـعلم الحديث رواية : المقصود به هو نقل السنة وضبطها كما فعل العلماء في كتب الحديث والسنن.
أما علم الحديث دراية فالمراد به هو: علم مصطلح الحديث.
فهوعلم يعرف به حال الراوي والمروي من جهة القبول والرد .

 - علم الحديث روايةً: وهو العلم الذي يبحث في نقل الحديث من جيل إلى جيل بشكل منضبط، حفظاً في الصدور وكتابة في السطور.هنا
- علم الحديث درايةً: وهو العلم الذي يبحث في القواعد التي يعرف بها الحديث المقبول من الحديث المردود، فقد وضع العلماء مجموعة من الأسس والقواعد المتعلقة بسند الحديث ومتنه، والتي تساعد في الحكم على الحديث من حيث صحة نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم
أو عدم صحتها، ويسمى علم الحديث درايةً علم مصطلح الحديث أو علم أصول الحديث.
هنا 

أهداف علم الحديث:
لعلم الحديث روايةً ودرايةً أهداف في غاية الأهمية منها:
1- حفظ الحديث النبوي من الضياع والاندثار، وذلك بروايته مشافهةً وكتابته جيلاً عن جيل، حتى وصل إلينا.
2- التمييز بين الأحاديث الصحيحة وغير الصحيحة، وقد منع هذا من دخول الأحاديث الضعيفة والموضوعة في الدين.
3- بناء العقلية الإسلامية الناقدة الممحصة، التي لا تأخذ كلَّ ما تسمع وإنما تبحث وتتحرى وتنقب حتى تصل إلى الحقيقة، فإن صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلناه وإن لم يصح رددناه.
4- ابتغاء الأجر العظيم على بذل الجهد للمحافظة على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

5- تسهيل مهمة المفسر والفقيه لاستنباط الأحكام.هنا
تم الفصل الخامس 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق