من آية 124إلى127
"وَإِذِ
ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي
جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا
يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ".124.
بعد أن حاجّ
اللهُ سبحانه أهلَ الكتابِ وبيّن كفرهم بالنبي الذي كانوا ينتظرونه لبشارة
كتبهم به، ذكر هنا الأساس الذي بنى عليه الإسلام والنسب الذي يمتّ به
ويحترمه أهل الكتاب ومشركو العرب، وهو ملة إبراهيم ونسبه، فلا فضل إذًا
لليهود على العرب بأنهم يمتون بالنسب إلى إبراهيم ودين إبراهيم، إذ النسب
واحد والملة واحدة.
ابْتَلَى :اختبر.الابتلاء هو الامتحان والاختبار ويكون بالخير والشر.
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ:الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: واذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم، و"إِذِ"منصوب بـ"اذكر" مقدَّرًا.إِذْ
إذ ظرف لما مضى من الزمان متعلق بفعل اذكر المحذوف وهو في محل نصب مبنية
على السكون في محل نصب مفعولٌ بِهِ ، وكُسرَ حرف الذال لتفادي التقاء
ساكنين ، حيث حرف الذال ساكن وما بعدَهُ ساكن أيضًا. خالد عثمان السبت.
وإبراهيم تفسيره بالسريانية فيما ذكر الماوردي ، وبالعربية فيما ذكر ابن عطية : أب رحيم . قال السهيلي : وكثيرًا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي أو يقاربه في اللفظ.إسلام ويب.
رَبُّهُ: مرفوعة لأنها فاعل .وكان اختبار الله تعالى ذكره إبراهيم، اختبارا بفرائض فرضها عليه, وأمر أمره به. وذلك هو " الكلمات" التي أوحاهن إليه، وكلفه العمل بهن، امتحانا منه له واختبارا.
يقول تعالى مُنَبِّهًا على شرف إبراهيم خليله عليه
السلام وأن الله تعالى جعله إمامًا للناسِ يُقتدَى به في التوحيد حين قام
بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي؛ ولهذا قال"وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ" أي: واذكر
يا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون مِلَّة إبراهيم
وليسوا عليها، وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين معك من المؤمنين،
اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم أي: اختباره له بما كلفه به من الأوامر
والنواهي.
"بِكَلِمَاتٍ" قال ابن جرير الطبري"أرجح الآراء في المراد بهذه الكلمات، أنها الأوامر التي كلفه الله بها، فأتى بها - إبراهيم عليه السلام - على أتم وجه.ا.هـ.
كلمات الله نوعان:
كلمات قدرية كونية ، وهي: ما يُكَوِّن به الكائنات.
كلمات شرعية دينية:وهي القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي أمره ونهيه وخبره.الكلمات
في هذه الآية هي كلمات شرعية والمعنى أن الله ابتلاه بتكاليف معينة أي
بشرائع من أمر ونهي، فقام بها على الوجه المطلوب، وهذا هو المشهور وهو
الذي اختاره ابن جرير الطبري، -رحمه الله- في هذه الآية،
"فَأَتَمَّهُنَّ" أى أتى بهن – أي أتى بهذه الكلمات- على الوجه الأكمل، وأداهنَّ أداء تامًا يليق- به- عليه السلام- ولذا مدحه اللهُ بقولِهِ"وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى" النجم: 37.
وجيء بالفاء في فَأَتَمَّهُنَّ للدلالة على الفور والامتثال. وذلك من شدة العزم، وقوة اليقين.
"قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا"
"إِمَامًا"هو الذي يأتمُّ به الناس، فيتبعونه، ويأخذون عنه، من أَمَّ، وأصله: الأصل، والمرجع، والجماعة، والدِّين.مقاييس اللغة لابن فارس :1/21.
فأتم – إبراهيم عليه السلام - ما ابتلاه الله به، وأكمله ووفاه، فشكر الله له ذلك، ولم يزل الله شكورًا فقال"إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا" أي: يقتدون بك في الهُدَى.
أي قال إني جاعلك للناس رسولًا يؤتمّ بك،
ويقتدَى بهداكَ إلى يومِ القيامةِ، فدعا الناس إلى الحنيفية السمحة وهي
الإيمان بالله وتوحيده والبراءة من الشرك، وما زال هذا جاريًا في ذريته،
فلم ينقطع منها دين التوحيد، ولأجل هذا وصف الله الإسلام بأنه ملة إبراهيم.
"قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي"فلما
اغتبط إبراهيم بهذا المقام، وأدرك هذا، طلب ذلك لذريته، لتعلو درجته
ودرجة ذريته، وهذا أيضًا من إمامته، ونصحه لعباد الله، ومحبته أن يكثر
فيهم المرشدون، فلله عظمة هذه الهمم العالية، والمقامات السامية.
" قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ "
عَهْدِي
: قال السدي "نبوتي"، وقيل: الإمامة ومعنى الآية: لا ينال ما عهدت إليك
من النبوة والإمامة من كان ظالمًا من ولدك .ودل مفهوم الآية، أن غير
الظالم، سينال الإمامة، ولكن مع إتيانه بأسبابها.أي
قال أجبتك إلى ما طلبت، وسأجعل من ذريتك أئمة للناس، ولكن عهدي بالإمامة
لا يناله الظالمون، فأخبره أنه كائن في ذريته ظلمة لا ينالوا عهده، ولا
ينبغي أن يولوا شيئًا من أمره وإن كان من ذرية خليله إذ هم لا يصلحون أن
يكونوا أئمة وقدوة للناس.
والدليل على أنه أجيب إلى طَلَبِهِ قول الله تعالى في سورة العنكبوت" وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ"سورة العنكبوت:27.فكل نبي أرسله الله وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه.
"وإِذْ
جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ
أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ
السُّجُودِ125."
" وإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا" معطوف على قوله- تعالى-" وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ"
ثم
ذكر تعالى، نموذجًا باقيًا دالًّا على إمامة إبراهيم، وهو هذا البيت
الحرام الذي جعل قصده ركنًا من أركان الإسلام، حاطًّا للذنوب والآثام. وفيه من آثار الخليل وذريته، ما عُرف به إمامته.
" الْبَيْتَ" والبيت المقصود به الكعبة.
" مَثابَةً لِلنَّاسِ" إما أن يكون المراد أنه محلاً للثواب، أو أنهم يثوبون إليه فيكون ذلك موافقًا لما جاء أو روي عن ابن عباس :
لا يقضون منه وطرًا يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه، بمعنى
أنهم لا يكتفون بزيارة واحدة إليه، بل كلما أتوا إليه ورجعوا إلى أهليهم
تاقت نفوسهم إليه ثانية.
وابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد جعل ذلك من خصائص مكة، وهذا شيء مشاهد.
ومضمون
ما فسر به هؤلاء الأئمة هذه الآية: أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما
جعله موصوفًا به شرعًا وقدرًا من كونه مثابة للناس، أي: جعله محلاً تشتاق
إليه الأرواح وتحن إليه، ولا تقضي منه وطرًا، ولو ترددت إليه كلَّ عام
استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، في قوله"فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ "إبراهيم:37.
" وَأَمْنًا" وجعلناه
أمنا لاحترام الناس له وتعظيمهم إياه بعدم سفك دم فيه، حتى كان يرى
الرجل قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرّض له بسوء ونحو الآية قوله في سورة
العنكبوت"أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا
جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ،
أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ"العنكبوت:67.
أي
جعلنا لهم حرمًا يأمنون فيه على دمائهم وأموالهم، على حين أن غيرهم
تُشَنّ عليهم الغارات، فيُقْتَلون ويُؤْسَرون وتُسْبَى نساؤهم وذراريهم،
وتُنْهب أموالهم .يعني العرب ، يسبي بعضهم بعضًا ، وأهل مكة آمنون.
" وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى" يحتمل أن يكون المراد بذلك، المقام المعروف الذي قد جعل الآن، مقابل باب الكعبة، فمقام
إبراهيم: هو الحَجَر الذي كان إبراهيم يقوم عليه عند بناء الكعبة لما
ارتفع الجدار. وأن المراد بهذا، ركعتا الطواف، يستحب أن تكونا خلف مقام
إبراهيم، وعليه جمهور المفسرين، ويحتمل أن يكون المقام مفردًا مضافًا، فيعم
جميع مقامات إبراهيم في الحج، وهي المشاعر كلها: من الطواف، والسعي،
والوقوف بعرفة، ومزدلفة ورمي الجمار والنحر، وغير ذلك من أفعال الحج.
" وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى"بفتح الميم اسم المكان الذي قام إبراهيم فيه ليرفع القواعد من البيت ويوجد فيه الحجر الذي وقف إبراهيم عليه وهو يرفع القواعد.
ولكن لماذا أمرنا الله بأن نتخذ من مقام إبراهيم مصلى؟ لأنهم كانوا
يتحرجون عن الصلاة فيه.. فالذي يصلي خلف المقام يكون الحجر بينه وبين
الكعبة.. وكان
المسلمون يتحرجون أن يكون بينهم وبين الكعبة شيء فيخلون من الصلاة ذلك
المكان الذي فيه مقام إبراهيم.. ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه
لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا نتخذ من مقام إبراهيم مصلى؟ وسؤال
عمر ينبع من الحرص على عدم الصلاة وبينه وبين الكعبة عائق وهم لا يريدون
ذلك ولما رأى عمر مكانا في البيت ليس فيه صلاة يصنع فجوة بين المصلين
أراد أن تعم الصلاة على البيت.. فنزلت الآية الكريمة.
قالَ
عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، وافَقْتُ رَبِّي في
ثَلَاثٍ: فَقُلتُ يا رَسولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْنَا مِن مَقَامِ
إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ" وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى" صحيح البخاري.
وهذا الحَديثُ مِن أجَلِّ مَناقِبِ عُمَرَ بن الخطَّاب رَضيَ اللهُ عنه وفضائِلِه، وفيه يقولُ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه"وافقْتُ ربِّي في ثلاثٍ"
وما أحسَنَ عبارَتَه وألْطَفَها! حيثُ راعَى فيها حُسْنَ الأدبِ؛ فَلَم
يَقُلْ: وافَقَني ربِّي في ثلاثٍ؛ لأنَّ الآياتِ إنَّما نَزَلَت مُوافِقةً
لرَأْيِه واجتِهادِه.
الأُولى: أنَّ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه قال: يا رسولَ اللهِ، لو اتَّخَذْنا مِن مَقامِ إبراهيمَ مُصَلًّى؟ فنزَلَتْ" وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى" البقرة: 125، أي:
فاتَّخِذوا أيُّها الناسُ مِن مَقامِ إبراهيمَ مُصلًّى تُصَلُّون
عِندَه؛ عِبادةً منكم للهِ تَعالى، وتَكرمةً لإبراهيمَ عليه السَّلامُ
مِن اللهِ سبحانَه، وذلك عَقِبَ الانتهاءِ مِن الطَّوافِ بالكَعبةِ؛
فيَكون المَقامُ بيْنَ البَيتِ وبيْنَ المُصلِّي، ومَقامُ إبراهيمَ هو
مَوضِعُ قيامِه، وهو الحَجَرُ الَّذي كان يَقِفُ عليه إبراهيمُ عليه
السَّلامُ عندَ بِنائِه لِلكَعبةِ، وفيه أثَرُ قَدَمِه عليه السَّلامُ،
ومَكانُه مَعروفٌ الآنَ إلى جانبِ الكعبةِ.الدرر.
"وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ"
أي:
أوْحَيْنا إليهم بوصيةٍ مؤكَّدة، أمرناهما فيها بتطهير بيت الله تعالى
من الشِّرك، والكُفر والأوثان، ومِن الرِّجس والنَّجاسات، وأنْ يَبْنِياه
بِنيَّةٍ خالصةٍ لله عزَّ وجلَّ.
." بَيْتِيَ" هَذِهِ
إضافَةُ تَشْرِيفٍ، لا أنَّ مَكانًا مَحَلٌّ لِلَّهِ تَعالى، ولَكِنْ
لَمّا أمَرَ بِبِنائِهِ وتَطْهِيرِهِ وإيفادِ النّاسِ مِن كُلِّ فَجٍّ
إلَيْهِ، صارَ لَهُ بِذَلِكَ اخْتِصاصٌ، فَحَسُنَتْ إضافَتُهُ إلى اللَّهِ
بِذَلِكَ، وصارَ نَظِيرَ قَوْلِهِ"ناقَةُ اللَّهِ"الأعراف : 73 .
ليكون "لِلطَّائِفِينَ" فيه "وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ"
أي: المصلين، قدم الطواف، لاختصاصه بالمسجد الحرام ، ثم الاعتكاف، لأن
من شرطه المسجد مطلقًا، ثم الصلاة، مع أنها أفضل، لهذا المعنى. وفي الآية إيماء إلى أن إبراهيم كان مأمورًا هو ومن بعده بهذه العبادات، ولكن لا دليل على معرفة الطريق التي كانوا يؤدونها بها.
" وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ
أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ
إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"126.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ:أي: واذكُروا دعوة إبراهيم عليه السَّلام بحلول الأمْن الدَّائم للبلد الأمين: مكَّةَ.
أي قال: رب اجعل هذا الوادي من البلاد الآمنة، وهذا دعاء منه لذريته وغيرهم بالأمن ورغد العيش
،أن يكون البيت آمنا في نفسه من الجبابرة وغيرهم أن يسلّطوا عليه، ومن
عقوبة الله أن تناله كما تنال سائر البلدان من خسف وزلزال وغرق ونحو ذلك
مما ينبئ عن سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد.
عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال:قال صلى الله عليه وسلم"إنَّ
إبْراهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ ودَعا لَها، وحَرَّمْتُ المَدِينَةَ كما
حَرَّمَ إبْراهِيمُ مَكَّةَ، ودَعَوْتُ لها في مُدِّها وصاعِها مِثْلَ ما
دَعا إبْراهِيمُ عليه السَّلامُ لِمَكَّةَ."الراوي : عبد الله بن زيد - المحدث : البخاري- المصدر : صحيح البخاري- الصفحة أو الرقم : 2129-خلاصة حكم المحدث : صحيح.
وفي
هذا الحَديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّ
إبراهيمَ عليه السَّلامُ حرَّمَ مكَّةَ بِتَحريمِ اللهِ، ودَعا لَها، ومعْنى تَحريمِها: أنْ
يَأمَنَ فيها كلُّ شَيءٍ على نفْسِه، حتَّى الحيوانُ فلا يُصادُ، وحتَّى
الشَّجرُ فلا يُقطَعُ، إلَّا ما يَزرَعُه الآدميُّ بنفْسِه، وألَّا
يُحدِثَ فيها إنسانٌ حَدَثًا يُخالِفُ دِينَ اللهِ، أو جُرمًا، أو ظُلمًا،
أو يَقترِفَ حَدًّا.
وأخذ العلماء من هذه الآية أن
من دخل مكة وقد ارتكب حدًا فإنه لا يقام عليه الحد بمكة، وإنما يخرج من
الحرم ثم يقام عليه الحد، أو يُلجأ إلى الخروج ثم يقام عليه الحد، وكان
الرجل في الجاهلية يلقى قاتل أبيه وأخيه، فلا يحرك ساكنًا حتى يخرج من
الحرم.
وأما
من فعل الجريمة في الحرم كأن يزني في الحرم، أو يسرق، أو يقتل، فيقام
عليه الحد في الحرم؛ لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم، فالذي يزني في الحرم
يقام عليه الحد، والذي يزني في مكة أو يقتل أو يسرق، تقطع يده في مكة،
ويجلد في مكة أو يرجم، ويقتل في مكة؛ لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم.وهذا
بخلاف الذي يأتي إليه من الخارج وقد فعل جناية خارج مكة ثم دخل مكة، فهذا
لجأ إلى مكة عائذًا، فهو مُعظم للحرم، فيخرج من الحرم ثم يقام عليه الحد.تفسير سورة البقرة للشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي.
وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ:
أي وارزق أهله من أنواع الثمار إما بزرعها بالقرب منه، وإما بأن تجبى
إليه من الأقطار الشاسعة، وقد حصل كلاهما استجابة لدعوة إبراهيم كما هو
مشاهد، وقد جاء في سورة القصص"أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ"القصص:57.
مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ :ثم قيد عليه السلام هذا الدعاء للمؤمنين، تأدبًا مع الله، إذ كان دعاؤه الأول، فيه الإطلاق، فجاء الجواب فيه مقيدًا بغير الظالم.
"قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"
فلما دعا لهم بالرزق، وقيده بالمؤمن، وكان رزق الله شاملا للمؤمن والكافر، والعاصي والطائع، قال تعالى"وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا "
أي: أرزقهم كلهم، مسلمهم وكافرهم، أما المسلم فيستعين بالرزق على عبادة
الله، ثم ينتقل منه إلى نعيم الجنة، وأما الكافر، فيتمتع فيها قليلا
"ثُمَّ أَضْطَرُّهُ"أي: أُلْجِئَهُ وأُخرجه مُكْرَهًا " إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" يسوقهم إلى عذاب النار سوقًا اضطراريًّا لا اختيار لهم فيه.
"وإِذْ
يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا
تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " 127.
بعد أن
ذكّر سبحانه العرب بما أنعم عليهم من بناء البيت وجعله مثابة للناس
وأمنا، وبدعاء إبراهيم عليه السلام لقاطني هذا البلد الحرام واستجابته
تعالى دعاءه، إذ جعله بلدا آمنا تُجبى إليه الثمرات من شاسع الأقطار
ليتمتع بها أهلُه، وبعهده إلى إبراهيم وإسماعيل بأن يطهرا بيتَهُ للطائفين
والعاكفين والركّع السجود، تنبيهًا لهم إلى أنه لا ينبغي أن يعبد فيه
غيره، فيجب تنزيهه عن الأصنام والتماثيل وعبادتها الفاسدة.
انتقل بهم إلى
التذكير بأن الذي بنى البيت هو أبوهم إبراهيم بمعونة ابنه إسماعيل،
ليجذبهم بذلك إلى الاقتداء بسلفهم الصالح الذي ينتمون إليه ويفاخرون به،
وقد كانت قريش تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل، وتدّعِي أنها على مِلة إبراهيم،
وسائر العرب في ذلك تبع لقريش.
" يَرْفَعُ "فعل مضارع، والمضارع للحاضر، أو للمستقبل، ورفع البيت ماضٍ؛ لكنه يعبَّر بالمضارع عن الماضي على حكاية الحال، كأن إبراهيم يرفع الآن، يعني: ذكِّرهم بهذه الحال التي كأنها الآن مشاهدة أمامهم
" رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" أي:
واذكر إبراهيم وإسماعيل، في حالة رفعهما القواعد من البيت الأساس،
واستمرارهما على هذا العمل العظيم، وكيف كانت حالهما من الخوف والرجاء، حتى
إنهما مع هذا العمل دعوا الله أن يتقبل منهما عملهما، حتى يحصل فيه
النفع العميم. وتصدير الدعاء
بندائِهِ - سبحانه - باسم الرب المضاف إلى ضميرها مظهر من مظاهر خضوعهما،
وإجلالهما لمقامِهِ، والخضوع له - سبحانه -، وإجلال مقامِهِ من أسنى
الآداب التي تجعل الدعاء مستجاب .
"إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
"أي ربنا أنت السميع لدعائنا، العليم بنياتنا في جميع أعمالِنا. وفي
الآية إشارة إلى أن كل مأمور بعبادة إذا فرغ منها وأدّاها كما أمر وبذل
أقصى الوسع في ذلك - فعليه أن يتضرّع إلى الله ويبتهل، ليتقبل منه ما عمل
ولا يرده خائبًا ولا يضيع سعيه سُدى، كما أنه لا ينبغي أن يجزم بأن
عبادته متقبّلة، ولولا ذلك لما كان لهذا التضرع فائدة.
قال صلى الله عليه وسلم " ............فَجَاءَ
فَوَافَقَ إسْمَاعِيلَ مِن ورَاءِ زَمْزَمَ يُصْلِحُ نَبْلًا له،
فَقالَ: يا إسْمَاعِيلُ، إنَّ رَبَّكَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ له
بَيْتًا، قالَ: أَطِعْ رَبَّكَ، قالَ: إنَّه قدْ أَمَرَنِي أَنْ
تُعِينَنِي عليه، قالَ: إذَنْ أَفْعَلَ، أَوْ كما قالَ: قالَ فَقَاما
فَجَعَلَ إبْرَاهِيمُ يَبْنِي، وإسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ
ويقولَانِ"رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ"البقرة: 127. قالَ: حتَّى
ارْتَفَعَ البِنَاءُ، وضَعُفَ الشَّيْخُ عن نَقْلِ الحِجَارَةِ، فَقَامَ
علَى حَجَرِ المَقَامِ، فَجَعَلَ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ ويقولَانِ"رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ"البقرة: 127. الراوي : عبدالله بن عباس -صحيح البخاري.
وضَعُفَ الشَّيْخُ عن نَقْلِ الحِجَارَةِ
: شَرَعا في البِناءِ حَتَّى رَفَعا الأُسُسَ الَّتي يَقومُ عليها
البَيْتُ. فَجَعَلَ إسْماعيلُ عليه السَّلامُ يَأْتي بالحِجارةِ،
وإبْراهيمُ عليه السَّلامُ يَبْني، حَتَّى إذا ارْتَفعَ البِناءُ وعَلا
وأصْبَحَ لا تَطولُه يَدُه، جاءَ بِهذا الحَجَرِ، فَقامَ ووَقَفَ عليه
إبراهيمُ عليه السَّلامُ، وإسْماعيلُ عليه السَّلامُ يُناوِلُه الحِجارةَ،
وهُما يَقولانِ"رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"
المجلس التاسع عشر
من آية 128إلى 129
" رَبَّنَا
وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً
لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ "128.
أي:
واذكر إبراهيم وإسماعيل, في حالة رفعهما القواعد من البيت الأساس،
واستمرارهما على هذا العمل العظيم، وكيف كانت حالهما من الخوف والرجاء، حتى
إنهما مع هذا العمل دعوا الله أن يتقبل منهما عملهما، حتى يحصل فيه النفع
العميم.دعوا لأنفسهما، وذريتهما بالإسلام، الذي حقيقته، خضوع القلب، وانقياده لربه المتضمن لانقياد الجوارح.
أي
ربنا واجعلنا مخلصين لك في الاعتقاد بألَّا نتوجه بقلبنا إلا إليك، ولا
نستعين بأحد إلا بك، وفي العمل بألا نقصد بعملنا إلا مرضاتك لا اتباع الهوى
ولا إرضاء الشهوة.
" وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ
" أي واجعل من ذريتنا جماعة مخلصة لك، ليستمر الإسلام لك بقوة الأمة
وتعاون الجماعة، وقد أجاب الله دعاءهما وجعل في ذريتهما الأمة الإسلامية
وبعث فيها خاتم النبيين.
ومما
سلف تعلم أن المراد بالإسلام الانقياد والخضوع لخالق السموات والأرض، وليس
المراد منه الأمة الإسلامية خاصة حتى يكون كل من يولد فيها ويلقب بهذا
اللقب ينطبق عليه اسم الإسلام الذي نطق به القرآن ويكون من الذين تنالهم
دعوة إبراهيم صلوات الله عليه.
"وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا " يحتمل
أن يكون المراد بالمناسك: أعمال الحج كلها, كما يدل عليه السياق والمقام،
ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعم من ذلك وهو الدين كله, والعبادات كلها,
كما يدل عليه عموم اللفظ, لأن النسك: التعبد, ولكن غلب على متعبدات الحج,
تغليبا عرفيا، فيكون حاصل دعائهما, يرجع إلى التوفيق للعلم النافع, والعمل
الصالح، ولما كان العبد - مهما كان - لا بد أن يعتريه التقصير, ويحتاج إلى
التوبة قالا" وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" وقيل لقد طلبا من الله تبارك وتعالى التوبة والرحمة لذريتهما. هذا منهما إرشاد لذريتهم، وتعليم منهما لهم بأن البيت وما يتبعه من المناسك والمواقف أمكنة للتخلص من الذنوب وطلب الرحمة من الله.
" إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" أي
إنك أنت وحدك كثير التوبة على عبادك بتوفيقهم لحسن العمل وقبول ذلك منهم،
الرّحيم بالتائبين المنجّى لهم من عذابك وسخطك.فأنت وحْدَك سبحانك
التوَّاب؛ بتوفيقِ عبدك للتوبة أولًا، وقَبولها منه ثانيًا، وأنت وحْدَك
الرَّحِيم؛ فتختصُّ برحمتك عبادَك المؤمنين.
الفرق بين التوبة والاستغفار: التوبة: تتضمن أمرًا ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا ، فالندم على الماضي والإقلاع عن الذنب في الحاضر والعزم على عدم العودة في المستقبل .
والاستغفار :
طلب المغفرة ، وأصله : ستر العبد فلا ينفضح ، ووقايته من شر الذنب فلا
يًعاقب عليه ، فمغفرة الله لعبده تتضمن أمرين : ستره فلا يفضحه ، ووقايته
أثر معصيته فلا يؤاخذ عليها ، وبهذا يعلم أن بين الاستغفار والتوبة فرقًا ،
فقد يستغفر العبد ولم يتب كما هو حال كثير من الناس ، لكن التوبة تتضمن الاستغفار
من هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ختمُ الأعمال الصالحة بالاستغفار:
قال تعالى في آيات الحجِّ" ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
"البقرة : 199، والمراد بالإفاضة هنا أي إلى منى يوم العاشر من ذي الحجة ،
حيث يقوم الحاجُّ بإكمال أعمال حجهم التي هي خاتمة أعماله .
قال
الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السِّعدي رحمه الله في تفسيره لهذه
الآية مبينًا أنَّ الحكمة من ذلك ليكون جابرًا لما حصل من العبد من نقص،
ولما وقع منه من خلل أو تقصير : فالاستغفار للخلل الواقع من العبد في أداء
عبادته وتقصيره فيها، وذِكْرُ اللهِ شُكْرُ اللهِ على إنعامه عليه بالتوفيق
لهذه العبادة العظيمة والمنَّة الجسيمة، وهكذا ينبغي للعبد كلَّما فرغ من
عبادة أن يستغفرَ الله عن التقصير، ويشكره على التوفيق، لا كمَن يرى أنَّه
قد أكملَ العبادةَ ومَنَّ بها على ربِّه، وجعلت له محلاًّ ومنزلةً رفيعة،
فهذا حقيق بالمقت ورد العمل كما أنَّ الأول حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال
أُخر. اهـ.
من توضأ فأحسن الوضوءَ ثم قال : أشهد أن لا إله َ الا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه . اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهِّرين، فُتحت له ثمانيةُ أبوابِ الجنةِ، يدخل من أيّها شاءَ" الراوي : عمر بن الخطاب - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الترمذي .
والحكمة من الاستغفار بعد الوضوء، أشار إليها ابن قاسم الحنبلي في حاشيته على الروض المربع: ......
والتوابون جمع تواب، صيغة مبالغة وهو كثير التوبة، والمتطهر الذي لا ذنب
له،لما كان الوضوء طهارة الظاهر، ناسب ذكر طهارة الباطن بالتوحيد والتوبة،
وهما أعظم المطهرات، وإذا اجتمع له الطهوران، صلح للدخول على الله، والوقوف
بين يديه، ومناجاته.انتهى.
وقد ثبت في صحيح مسلم:
"كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، إذَا انْصَرَفَ مِن صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا وَقالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ. قالَ الوَلِيدُ: فَقُلتُ لِلأَوْزَاعِيِّ: كيفَ الاسْتِغْفَارُ؟ قالَ: تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ."الراوي : ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - صحيح مسلم.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ختم مجالسه بالاستغفار:
كانَ
رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليهِ وعلَى آلِهِ وسلَّمَ ، يقولُ : بآخِرٍ
إذا أرادَ أن يقومَ منَ المَجلسِ : سُبحانَكَ اللَّهمَّ وبحمدِكَ ، أشهدُ
أن لا إلَهَ إلَّا أنتَ ، أستَغفِرُكَ وأَتوبُ إليكَ فقالَ رَجلٌ : يا رسولَ اللَّهِ ، إنَّكَ لَتقولُ قولًا ما كُنتَ تقولُهُ فيما مَضى . قالَ : كفَّارةٌ لما يَكونُ في المَجلسِ" .الراوي : أبو برزة الأسلمي نضلة بن عبيد - المحدث : الوادعي.
بل
لقد ختم عليه الصلاة والسلام حياتَه العامرةَ بتحقيق العبودية وكمال
الطاعة بالاستغفار، ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنَّها سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصغت إليه قبل أن يموت وهو مُسنِدٌ إليها
ظهرَه يقول :
" كانَ
النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يتعَوَّذُ بِهَؤلاءِ الكلِماتِ
أذهبِ البأسَ ربَّ النَّاسِ واشفِ أنتَ الشَّافي لا شفاءَ إلَّا شفاؤُكَ
شفاءً لا يغادِرُ سَقمًا فلمَّا ثقُلَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ
وسلَّمَ في مَرضِهِ الَّذي ماتَ فيهِ أخَذتُ بيدِهِ فجعَلتُ أمسَحُهُ
وأقولُها فنَزَعَ يدَهُ مِن يدي ثمَّ قالَ اللَّهُمَّ اغفِر لي وألحِقني بالرَّفيقِ الأعلَى قالَت فَكانَ هذا آخرَ ما سَمِعْتُ مِن كلامِهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ " الراوي : عائشة أم المؤمنين - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح ابن ماجه.
قال صلى الله عليه وسلم "طوبَى لِمَن وجَدَ في صَحيفَتِه استِغفارًا كثيرًا"الراوي : عبدالله بن بسر - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح ابن ماجه.
فحري
بالمؤمن أن يُلازم الاستغفار وأن يكثر منه ، ولا سيما في ختام الطاعات
جبرا لما فيه من نقص ، وتتميما لطاعته وعبادته ، وليفوز بثواب المستغفرين
وكريم مآبهم ، ونسأل اللهَ - جلَّ وعلا - أن يجعلنا من عباده التوابين
الأوّابين المستغفرين ، وأن يتوب علينا إنَّه هو التواب الرحيم
"رَبَّنَا
وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" 129.
دعاء
إبراهيم عليه السلام الله سبحانه وتعالى ليتم نعمته على ذريته ويزيد رحمته
على عباده.. بأن يرسل لهم رسولًا يبلغهم منهج السماء حتى لا تحدث فترة
ظلام في الأرض تنتشر فيها المعصية والفساد والكفر ويعبد الناس فيها الأصنام
كما حدث قبل إبراهيم.
رَبَّنَا
وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ:أي: دعا كلٌّ من إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السَّلام ربَّهما، بأنْ يبعث رسولًا من ذُريتهما، أي: من العرَب. وَهَذِهِ دَعْوَة إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل لِنَبِيِّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّة.
قال تعالى"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ"الجمعة:2.
استجاب الله تعالى دُعاءَهما، فَبَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسهمْ يَعْرِفُونَ وَجْهه وَنَسَبه ، ويكونوا
أعزّ به، وأقرب لإجابة دعوته، إذ أنهم يكونون قد خبروه وعرفوا منشأه
ودرسوا فاضل أخلاقه من صدق وأمانه وعفة ونحو ذلك مما هو شرط في صحة نبوّة
النبي. يُخْرِجهُمْ مِنْ الظُّلُمَات إلَى النُّور ، وَيَهْدِيهِمْ إلَى
صِرَاط الْعَزِيز الْحَمِيد .فرسولنا الكريم هو استجابة لدعوة إبراهيم
وإسماعيل عليهما السلام وبشرى عيسى عليه السلام . قال تعالى " وَإِذْ
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ
اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ" الصف: 6.
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ: أي يقرأ عليهم ويبلغهم ما توحي إليه من الآيات التي تنزلها سبحانك عليه، لفظًا، وحفظًا، وتحفيظًا.
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ: ..
يجب أن نعرف أن هناك فرقا بين التلاوة وبين التعليم. فالتلاوة هي أن تقرأ
القرآن، أما التعليم فهو أن تعرف معنى الآيات وما جاءت به لتطبقه وتعرف من
أين جاءت.. وإذا كان الكتاب هو القرآن الكريم فإن الحكمة هي أحاديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم التي قال الحق سبحانه وتعالى فيها في خطابه لزوجات
النبي"واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة"الأحزاب: 34.
وقوله تعالى"وَيُزَكِّيهِمْ" ويطهرهم ويقودهم إلى طريق الخير وتمام الإيمان.
وقوله جل جلاله" إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" أي العزيز الذي لا يغلب لجبروته وقوته الذي لا يغلب ولا ينال بضيم من توكل عليك.
فالعزيز من أسماء الله تعالى الحسنى، والعزّة التي هي صفة لله لها ثلاث معان: عزة القوة والامتناع ، فممتنع أن يناله أحد من المخلوقات لقوته سبحانه . وعزة القهر ؛ أي قَهَرَ جميع الموجودات ، وعزة الغلبة ودانت له الخليقة وخضعت لعظمته. ،. وكلها لله تعالى على أتم وجه وأكمله.
الْحَكِيمُ :الذي لا يصدر منه الشيء إلا بحكمة بالغة.فلا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
معنى الحِكْمَة اصطلاحًا:
قال أبو إسماعيل الهروي: الحِكْمَة اسم لإحكام وضع الشيء في موضعه. منازل السائرين: للهروي :ص 78.
وقال ابن القيِّم: الحِكْمَة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي. مدارج السالكين: لابن القيم :2/449.
فحكمة
الله من الغيبيات وقد تكون ظاهرة في بعض الأشياء إلا أنها تغيب عنا في
أشياء أخر ونحن مأمورون أن نؤمن بالله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى ومن
أسمائه الحكيم، ومن صفاته الحكمة
فما
من شئ خلقه إلا لحكمة وما من عطاء يعطيه إلا لحكمة وما من منع منعه إلا
لحكمة وما من تأخير مصلحة ظاهرة أو تفويتها إلا لحكمة وما من تعجيل شر ظاهر
إلا لحكمة.
وقد
ختم إبراهيم دعواته بالثناء على ربه، وذكر له من الأوصاف ما يشاكل مطالبه.
وقد أجاب الله دعاءه وجعل منهم أمة كانت خير الأمم، سادت العالم وملكت
المشارق والمغارب ردحا من الزمان، وكان فيها رجال حفظ لهم التاريخ صادق
بلائهم، وعظيم سياستهم للشعوب التي انضوت تحت لوائهم، بما لم تجارهم فيه
أرقى الأمم مدنية في عصرنا، عصر الرقي والحضارة.
قال تعالى" كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم
مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ "110.
من آية 130إلى 136
"وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ
نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ
الصَّالِحِينَ"130.
ما ملة إبراهيم؟ إنها عبادة الله وحده لا شريك له . بعد أن ذكر سبحانه أنه ابتلى إبراهيم بكلمات
فأتمهنّ، وأنه عهد إليه ببناء البيت وتطهيره للعبادة، فصدَعَ بما أُمر، أردَفَ ذلك
بذكر أن ملة إبراهيم التي كان يدعو إليها وهي التوحيد وإسلام القلب لله، والإخلاص
له في العمل، لا ينبغي التحول عنها، ولا يرضى عاقل أن يتركها، إلا إذا ذلّ نفسه
واحتقرها.
"وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ "
رغب في الشيء: أحبه
وأراده ، ورغب عن كذا أي كرهه وأعرض عنه وصَدَّ
عنه ، سَفِهَ نَفْسَهُ: أذلّها واحتقرها، والذين يصدُّون عن ملة إبراهيم ويرفضونها هؤلاء
هم السفهاء الجهلة، فلا يرغب عنها إلا سفيه يُعرض عن التأمل في ملكوت السموات
والأرض، ورؤية الآثار الكونية والنفسية الدالة على وحدانية الله تعالى وعظيم
قدرته.
لذلك قال عنهم الله سبحانه
وتعالى"إِلَّا مَن سَفِهَ
نَفْسَهُ".. دليل على ضعف
الرأي وعدم التفرقة بين النافع والضار.. فعندما يكون هناك من ورثوا مالًا وهم غير
ناضجي العقل لا يتفق عقلهم مع سنهم نسميهم السفهاء.. والسفيه هو من لم ينضج رأيه
ولذلك تُنقل قوامته على ماله إلى ولي أو وصي؛ لأنه بِسَفَهِهِ غيرُ قادر على أن
ينفق المال فيما ينفع.
وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ: أي اخترناه وأصل الاصطفاء أخذ صفوة الشيء وهي خالصه. أي
ولقد اجتبيناه من بين خلقنا، وجعلنا في ذريته أئمة يهدون بأمرنا.
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ : وفي الآية بشارة لإبراهيم بصلاح حاله في الآخرة. وَالصَّالِح
مِنْ بَنِي آدَم هُوَ الْمُؤَدِّي حُقُوق اللَّه عَلَيْهِ . فَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْره
عَنْ إبْرَاهِيم خَلِيله أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا لَهُ صَفِيّ , وَفِي الْآخِرَة وَلِيّ
, وَإِنَّهُ وَارِد مَوَارِد أَوْلِيَائِهِ الْمُوفِينَ بِعَهْدِهِ ، المشهود لهم
بالخير والصلاح الذين لهم أعلى
الدرجات.
" إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ
أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ"131.
ثم بين الله تعالى كمال استقامة إبراهيم التي رفعته إلى المنازل العليا، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ : أي: أمَر الله تعالى خليلَه
إبراهيمَ عليه السَّلام حين اصطفاه، بأن يُخلص دِينَه وتوحيدَه له سبحانه، وينقادَ
إليه بكل ذلٍّ وخضوعٍ ومَحبَّة، فأجاب إبراهيمُ إلى ذلك على الفور وقال أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي:استجاب إخلاصًا وتوحيدًا, ومحبة, وإنابة لله فكان التوحيد لله نعته.
فأجاب إبراهيم إلى ذلك شرعًا وقدرًا . فلم
يَدْعُ معه غيره، ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه، وخالف في ذلك سائر
قومه حتى تبرأ من أبيه.
فإرادة الله تعالى تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: إرادة كونية قدرية، وهي التي بمعنى المشيئة، وضابط هذا
القسم أمران :
1. أنها لابد أن تقع.
2. أنها قد تكون مما يحبه الله تعالى، وقد تكون مما لا يحبه الله.
ومثال هذا القسم: قوله تعالى عن نوح عليه السلام"وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ
كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ"هود:34.
القسم الثاني : إرادة دينية شرعية : وهي التي بمعنى المحبة . وضابط
هذا القسم أمران أيضًا:
1. أنها قد تقع وقد لا تقع.
2. أنها لا تكون إلا مما يحبه الله تعالى ويرضاه.
"وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ
بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ"132.
وبعد أن بين الله- تعالى- أن إبراهيم- عليه السلام- كان كاملا في نفسه،
أتبع ذلك ببيان أنه كان- أيضًا- يعمل على تكميل غيره، ودعوته إلى توحيد الله تعالى.
فوصى إبراهيم بنيه باتباع ملته، وجعلها
كلمة باقية في عقبه, وتوارثت فيهم, حتى وصلت ليعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم
السلام فوصى بها بنيه. ويعقوب كذلك أوصى بنيه باتباعها، فقال كل منهما لأبنائه:
"يَا بَنِيَّ
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ "
أي: اختاره وتخيره لكم, رحمة بكم, وإحسانًا إليكم, فقوموا به, واتصفوا بشرائعه, وانصبغوا
بأخلاقه, فاثبتوا على الإسلام. واستقيموا على أمره حتى يدرككم الموت وأنتم مقيمون على
هذا الدين الحنيف.
"يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ علَى ما ماتَ عليه."الراوي : جابر بن عبدالله - المحدث : مسلم - المصدر : صحيح مسلم.
فإنَّ الكَريمَ قدْ أجْرى سُنَّتَه بكَرَمِه أنَّه مَن عاشَ على شَيءٍ
ماتَ عليه، ومَن ماتَ على شَيءٍ بُعِثَ عليه، والحاج يبعث ملبيًّا ، هل يتعدى الحكم هذا إلى غيره مثلا من مات مصليًّا
أو من مات مثلًا في الراتبة؟
الشيخ العثيمين : والله يرجى له ذلك لكن ما نجزم بهذا الشيء، لأن
القياس في العبادات أو في الثواب فيه نظر. ومَن ماتَ على شَيءٍ بُعِثَ عليه :يعني من التوحيد والإخلاص ولا يلزم منه أنه إذا مات مصليا فإنه
يبعث مصليًا وإذا مات طالب علم فإنه يبعث طالب علم لكن يرجى ذلك إن شاء الله. العثيمين.
" فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا
وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ "أي فحافظوا على الإسلام لله ولا
تفارقوه بُرهة واحدة، فربما تأتيكم مناياكم وأنتم على غير الدين الذي اصطفاه لكم
ربكم.
وفي هذا
النهى إيماء إلى أنّ من كان منحرفًا عن الجادّة لا ييأس، بل عليه أن يبادر بالرجوع
إلى الله ويعتصم بحبل الدين، خيفة أن يموت وهو على غير هدى، فالمرء مهدّد في كل آن
بالموت.
دقات قلب
المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني وفي
هذا حثٌّ على دَوامِ عَملِ الصَّالحاتِ والخيراتِ؛ فإنَّه لا يَدْري أحدٌ متَى يموتُ.
ثم أكد أمر
الوصية وزاده تقريرًا، وأقام الْحُجَّةَ على أهلِ الكتابِ فوجَّهَ إليهمُ الخطابَ وقالَ:
" أَمْ
كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ
مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"133.
ولما كان اليهود يزعمون أنهم على ملة إبراهيم, ومن بعده يعقوب, قال
تعالى منكرا عليهم" أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ " أي: هل كنتم يا معشرَ اليهود، المكَذِّبين بمحمَّدٍ صلَّى الله
عليه وسلَّمَ، شهودًا حاضرين -
يريد ما كنتم شهداء حضورًا. -حين أتتْ أباكم يعقوبَ عليه
السَّلام مقدِّماتُ الموت فقال لبنيه على وجه الاختبار, ولتقر عينه في حياته بامتثالهم
ما وصاهم به" مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي " ؟ فأجابوه بما قرت به عينُه فقالوا" نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
إِلَهًا وَاحِدًا " أي:
أجاب أبناءُ يعقوبَ عليه السَّلام أباهم بأنَّهم يعبُدون معبودَه ومعبودَ آبائه- وهم: جَدُّه
إبراهيم، وعمُّه إسماعيل - والعرب
تُسمِّي العمَّ أبًا كما تُسمِّي الخالةَ أمًّا ، وأبوه إسحاق- وهو الذي لا مَعبودَ بحقٍّ سواه، لا يُشرِكون به في عبادته
أحدًا من دونه.
فلا نشرك به شيئًا, ولا نعدل
به أحدًا، " وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ " أي: مُستسلِمون ومنقادون لأمْره، خاضِعون لعبادتِه .
فجمعوا بين التوحيد والعمل. ومن المعلوم أنهم لم يحضروا يعقوب, لأنهم
لم يُوجَدُوا بعد، فإذا لم يحضروا, فقد أخبر الله عنه أنه وصى بنيه بالحنيفية, لا باليهودية.تفسير السعدي.
"تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ
لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ
وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ " 134.
ثم حذر الله- تعالى- أهل الكتاب من ترك طاعته اتكالًا على انتسابهم
لآباء كانوا أنبياء أو صالحين .
تِلْكَ إشارة إلى إبراهيم وبنيه،
أي أن إبراهيم وذريته، أمة قد مضت وانقرضت، لها جزاء ما كسبت من خير أو شر، ولا تُسألون
يوم القيامة عن أعمالهم في الدنيا فلا يقال لكم على وجه المحاسبة لم عملوا كذا وإنما
ستُسألون عن أعمالكم وحدها فأصلحوها وحسنوها، وآمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي
هو دعوة إبراهيم- عليه السلام- وعلى دينه وملته.
"وَقَالُوا كُونُوا هُودًا
أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ "135.
دعا كل من اليهود والنصارى المسلمين إلى الدخول في دينهم, زاعمين أنهم
هم المهتدون وغيرهم ضال.
أي وقالت اليهود: لا دين إلا اليهودية ولا يتقبل الله سواها، لأن نبيهم
موسى أفضل الأنبياء، وكتابهم أفضل الكتب، ودينهم خير الأديان، ويكفرون بعيسى والإنجيل
ومحمد والقرآن، وقالت النصارى: لا يتقبل الله إلا النصرانية لأن الهداية خاصة بها،
إذ عيسى أفضل الأنبياء وكتابهم أجلّ الكتب، ودينهم خير الأديان، وقد كفروا بموسى والتوراة
ومحمد والقرآن، ولو صحّ ما تقولون: لما كان إبراهيم مهتديا لأنه لم يكن يهوديًا ولا
نصرانيًا، وأنتم جميعًا متفقون على أنه سيد المهتدين وإمامهم" هُودًا أَوْ نَصَارَى: أَوْ: للتنويع، ومن ثمّ ردّ الله عليهم بقوله" قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" أي قل يا محمد : بل نتبع ملة إبراهيم ، حَنِيفًا: أي: مائلًا عن الدِّين
الباطل إلى الدِّين الحقِّ، أي: مسلمًا مستقيمًا، وأصل الحنف: الميل.
وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: أي ولم يكن إبراهيم ممن يشرك بالله سواه من وثن أو صنم.وفي هذا تعريض
بأهل الكتاب وبيان بطلان دعواهم اتباع إبراهيم مع إشراكهم لقولهم عزير ابن الله، والمسيح
ابن الله.
وبعد أن أمر الله نبيّه أن يدعو الناس إلى اتباع ملة إبراهيم، أمر المؤمنين
بمثل ذلك فقال:
" قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ
وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ
مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" 136.
أي قولوا آمنا بالله ، وبما أنزل
إلينا بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مفصلًا ،وبما أنزل على الأنبياء المتقدمين
مجملًا، ونص على أعيان من الرسل :إبراهيم عليه السلام وابناه: إسماعيل وإسحاق ،
ويعقوب ابن إسحاق ، والأسباط: وسبط الرجل ولد ولده، والأسباط: هم حفدة يعقوب وذراري
أبنائه الاثنى عشر، والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب والشعوب من العجم ، وَمَا أُوتِيَ مُوسَى: يعني يؤمنوا بالمعجزات المؤيدة له والتوراة غير المحرفة. وَعِيسَى: يعني يؤمنوا بالمعجزات
المؤيدة له والإنجيل غير المحرف. وأَجْمَلَ
ذكرَ بقية الأنبياء بقوله"
وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ " دخل فيها كل النبييبن لأنه ما أوتوا من وحي هو إيتاء .
يلاحظ أن هذه الآية فيها إنزال وإيتاء ، الإنزال يأتي من السماء ويستعمل للكتب ، أما الإيتاء فهو يستعمل للكتب وغيرها
مثل إعطاء النبوة أو الملك أو المعجزات أو غيرها من العطايا الإلهية. .وبالعودة إلى
قصة موسى بالقرآن عمومًا نجد أن حُجَجَ موسى - عليه السلام - لم تكن في الكتاب وإنما
جاءه الكتاب بعدما أوتي المعجزات ، وللعلم فإنه لم يرد في القرآن كلمة "أُنْزِلَ" مطلقًا لموسى في
القرآن كله وإنما استعملت كلمة "أُوتِي" لموسى. أما بالنسبة
للرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد جاء في القرآن "وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ" الحجر: 87 . وجاء أيضًا "وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ"البقرة : 4 . د.فاضل السامرائي
بتصرف.
وقال سليمان بن حبيب : إنما أمرنا أن نؤمن بالتوراة والإنجيل ، ولا نعمل بما فيهما .تفسير ابن كثير.
"مِنْ رَبِّهِمْ " إشارة إلى أنه من كمال ربوبيته لعباده, أن ينزل عليهم الكتب,
ويرسل إليهم الرسل, فلا تقتضي ربوبيته, تركهم سُدى ولا هَمْلًا. والرسل كلهم على منهاج واحد في الدعوة إلى توحيد
الله، والعمل بطاعته ، والرسل لا يدعون إلا إلى الخير, ولا ينهون إلا عن كل شر، وكل
واحد منهم, يصدق الآخر, ويشهد له بالحق, من غير تخالف ولا تناقض لكونه من عند ربهم وفيه أن الأنبياء مبلغون عن الله ، وأن لا يفرقوا
بين أحد منهم ، بل يؤمنوا بهم كلهم ، وبنبوة جميع الأنبياء والمرسلين مع الخضوع والطاعة
لرب العالمين، فلا نكذّب أحدًا منهم فيما ادّعاه ودعا إليه في عصره، بل نصدق بذلك تصديقًا
جمليًا ولا يضيرنا تحريف بعض وضياع بعض، فإن التصديق التفصيلي إنما يكون لما أنزل إلينا
فحسب.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم
" إنَّ مَثَلِي ومَثَلَ الأنْبِياءِ
مِن قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فأحْسَنَهُ وأَجْمَلَهُ، إلَّا مَوْضِعَ
لَبِنَةٍ مِن زاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ به، ويَعْجَبُونَ له، ويقولونَ:
هَلَّا وُضِعَتْ هذِه اللَّبِنَةُ؟ قالَ: فأنا اللَّبِنَةُ، وأنا خاتِمُ النَّبيِّينَ." صحيح البخاري.
رَسولُ اللهِ مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو خاتَمُ الأنْبياءِ
والمُرسَلينَ، صَلَواتُ اللهِ عليهم أجمَعينَ، بعَثَه اللهُ سُبحانَه ليُتِمَّ به البِناءَ
الإيمانيَّ، والهَدْيَ الرَّبَّانيَّ؛ فبِه اكتمَلَ للإنْسانيَّةِ النُّورُ الَّذي
يُضيءُ لها طَريقَ السَّعادةِ، واكتمَلَتْ مَكارِمُ الأخْلاقِ ودَعائِمُ الحَقِّ والعَدلِ،
وخُتِمتْ به النُّبوَّةُ. فهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالنِّسبةِ إلى الأنْبياءِ
السَّابِقينَ كاللَّبِنةِ المُتَمِّمةِ لذلك البِناءِ؛ لأنَّ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
كَمالَ الشَّرائِعِ السَّابِقةِ، وليس مَعنى هذا أنَّ الأدْيانَ السَّابِقةَ كانت ناقِصةً،
وإنَّما المُرادُ أنَّه وإنْ كانت كُلُّ شَريعةٍ كامِلةً بالنِّسبةِ إلى عَصرِها
مبشرة به عليه الصلاة والسلام، فإنَّ الشَّريعةَ المُحَمَّديَّةَ هي الشَّريعةُ الأكمَلُ
والأتَمُّ الناسخة لما سبق ، وكَونُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خاتَمَ النَّبيِّينَ،
أي: لا نَبيَّ بعْدَه. الدرر السنية بتصرف.
عن أبي هريرة قال:كانَ أهْلُ
الكِتَابِ يَقْرَؤُونَ التَّوْرَاةَ بالعِبْرَانِيَّةِ، ويُفَسِّرُونَهَا بالعَرَبِيَّةِ
لأهْلِ الإسْلَامِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لا تُصَدِّقُوا أهْلَ الكِتَابِ ولا تُكَذِّبُوهُمْ، وقُولوا: "آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا"البقرة: 136.
الآيَةَ.صحيح البخاري.
أَنزَلَ اللهُ سُبحانَه وتعالَى القُرآنَ حاكِمًا على ما سبَقَه مِن
كُتبٍ وشَرائعَ؛ فشَريعتُه وأحْكامُه قاضيةٌ على كلِّ ما سبَقَه مِن شَرائعَ، وقدْ
طالَت أيْدي التَّحْريفِ ما سبَقَه مِن كتُبٍ سَماويَّةٍ، فحرَّفَ اليَهودُ التَّوراةَ،
وحرَّفَ النَّصارى الإنْجيلَ وزادوا التَّوْراةَ تَحريفًا.
وفي هذا الحَديثِ يُحذِّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُمَّتَه
مِن الاغْتِرارِ بما يَرْويه أهلُ الكِتابِ مِن كتُبِهم، فيُخبِرُ أبو هُرَيْرةَ رَضيَ
اللهُ عنه أنَّ اليَهودَ على عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانوا يَقرَؤونَ
التَّوْراةَ بالعِبْرانيَّةِ، يَعني اللُّغةَ العِبْريَّةَ، وهي لُغةُ اليَهودِ، ويُفسِّرونَها
ويُتَرجِمونَها لأهلِ الإسْلامِ بالعَربيَّةِ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"لا تُصدِّقوا أهلَ الكِتابِ ولا تُكَذِّبوهم"، وهذا فيما لا يُعرَفُ صِدقُه مِن كَذِبِه؛ وذلك لأنَّ اللهَ
تعالَى أمَرَنا أنْ نؤمِنَ بما أنزَلَ إلينا منَ القُرآنِ، وما أنزَلَ إليهم مِن الكِتابِ،
إلَّا أنَّه لا سَبيلَ لنا إلى أنْ نَعلَمَ صَحيحَ ما يَحْكونَه عن تلك الكتُبِ مِن
سَقيمِه إذا لم يَرِدْ في شَريعَتِنا ما يوَضِّحُ صِدْقَه مِن كَذِبِه، فنتَوقَّفُ؛
فلا نُصدِّقُهم؛ لئلَّا نَكونَ شُركاءَ معَهم فيما حَرَّفوه منه، ولا نُكَذِّبُهم؛
فلعَلَّه يكونُ صَحيحًا، فنَكونُ مُنكِرينَ لمَا أُمِرْنا أنْ نُؤمِنَ به، وأمَرَ النَّبيُّ
صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ نَقولَ "آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى
وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"البقرة: 136.
وأمَّا ما عُلِمَ كَذِبُه ممَّا أخبَرَ به اليَهودُ والنَّصارى -كافْتِرائِهم
على اللهِ ورَسولِه- فلا يَسَعُ المُسلِمَ إلَّا أنْ يُكَذِّبَهم فيما قالوا.
وفي الحَديثِ: أنَّ المُسلِمَ مِن حيث الإجْمالُ يُؤمِنُ بما جاء به
أنْبياءُ اللهِ جَميعًا، ولا يُصدِّقُ إلَّا ما جاء موافِقًا للقُرآنِ الكَريمِ، وسُنَّةِ
النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.الدرر السنية.
لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ:أي لا نفرق بين جماعة النبيين، فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلتم يا
معشر اليهود، إذ كفرتم بعيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم وفعلكم هذا في حقيقته كفر
بالأنبياء جميعًا لأن من كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل، ولذلك فنحن معشر المسلمين نؤمن
بجميع الأنبياء بدون تفرقة أو استثناء.
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ : أي: خاضعون لعظمته سبحانه, منقادون لعبادته, بباطننا وظاهرنا, مخلصون
له العبادة.
"فَإِنْ
آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ"137.
أي:
فإنْ آمَن اليهودُ والنَّصارى إيمانًا مماثلًا من كلِّ الوجوه لإيمانكم-
أيُّها المسلمون- ومِن ذلك الإيمانُ بجميعِ كتُب الله تعالى، وبجميع رُسله
عليهم الصَّلاة والسَّلام- فقد رَشَدوا ووُفِّقوا للحقِّ والخير.واهتدوا للصراط المستقيم, الموصل لجنات النعيم. و والهُدَى هو العلم بالحق, والعمل به.
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ:أي:
فإنْ أعرَض أولئك اليهودُ والنَّصارى عن الحقِّ بعد إقامة الحُجَّة عليهم،
فلم يُؤمِنوا بمِثل إيمانكم، فاعلموا- أيُّها المؤمنون- أنَّهم يَقصِدون
المخالفةَ والمنازعةَ والعداوةَ لكم.الدرر موسوعة التفسير .
فالمشاق:
هو الذي يكون في شق والله ورسوله في شق، ويلزم من المشاقة المحادة,
والعداوة البليغة, التي من لوازمها, بذل ما يقدرون عليه من أذية الرسول صلى
الله عليه وسلم ، فلهذا وعد الله رسوله, أن يكفيه إياهم أي يكفيه شرهم .
وقد أنجز الله لرسوله وعده, وسلطه عليهم حتى قتل بعضهم, وسبى بعضهم, وأجلى
بعضهم, وشردهم كل مشرد. ففيه معجزة من معجزات القرآن, وهو الإخبار بالشيء
قبل وقوعه, فوقع طبق ما أخبر.تفسير السعدي.
وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ : فهو سبحانه السميع لأقوالهم العليم بأحوالهم و بما يُبطنون لك ولأصحابك المؤمنين في أنفسهم من الحَسد والبغضاء.
"صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ"138.
صِبْغَةَ اللَّهِ :
الصبغة في الآية بمعنى الإيمان . وإنما أطلقت الصبغة على الإيمان ،لأن
الإيمان يمتزج بالقلوب امتزاج الصبغ بالمصبوغ، وتبدو آثاره على المؤمنين
كما تبدو آثار الصبغ على المصبوغ. وكأنهم قالوا صبغنا الله بالإيمان صبغته.
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً :
والاستفهام هنا للإنكار والنفي ، والمعنى: لا أحد أحسن من الله صبغة
لأنه هو الذي يصبغ عباده بالإيمان ويطهرهم من أدران الكفر والضلال، فهي
صبغة ثابتة لا تزول لأن الإيمان متى خالطت بشاشته القلوب لا يرتد عنه أحد
سخطة له.
بخلاف
ما يتلقنه أهل الكتاب عن أحبارهم ورهبانهم من الأديان الباطلة فهو من
الصبغة البشرية، التي تجعل من الدين الواحد أديانا مختلفة ومذاهب متنافرة.
وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ
:عابدون أي مطيعون . والمعنى: قل لهم يا محمد إننا نحن معاشر المسلمين
نعبد الله وحده وصبغته هي صبغتنا ولا نعبد غيره فلا نتخذ الأحبار والرهبان
أربابًا يزيدون في ديننا وينقصون ويحلون ويحرمون ويمحون من النفوس صبغة
التوحيد، ليحلوا محلها بأهوائهم صبغة الشرك والكفر.
"قُلْ
أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا
أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ"139.
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ
:المحاجة هي: المجادلة بين اثنين فأكثر, تتعلق بالمسائل الخلافية, حتى
يكون كل من الخصمين يريد نصرة قوله, وإبطال قول خصمه، فكل واحد منهما,
يجتهد في إقامة الحُجة على ذلك. والمعنى أتجادلوننا
في شأن الله، وتقولون أنكم الأقرب إلى الله، وتزعمون أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ
اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ
كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى. وإن ديننا هو الأقدم وكتابنا هو الأسبق ولو
كنتَ نبيًّا لكنتَ منَّا.
وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ: يعنى ليس أحد منا أولى بالله من الآخر، لأنه تعالى "رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ" وعطاء الربوبية عام لكل الناس ، المتصرف فينا وفيكم ، المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له !
"وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ"
نحن لَنَا أَعْمَالُنَا التى سنحاسب عليها، وأنتم لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ
التى ستحاسبون عليها، والعمل وحده هو الذي يقرب لله تعالى، وليس كما تزعمون
أنكم أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وأن آبائكم الأنبياء سيشفعون لكم.
فشُبْهَةِ
أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُ
لَا يَنْجُو مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَتِهِمْ، وَإِنْ أَحْسَنَ فِي
عَمَلِهِ وَأَخْلَصَ فِي قَصْدِهِ، وَأَنَّهُمْ هُمُ النَّاجُونَ
الْفَائِزُونَ وَإِنْ أَسَاءُوا عَمَلًا وَنِيَّةً؛ لِأَنَّ
أَنْبِيَاءَهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُنْجُونَهُمْ وَيُخَلِّصُونَهُمْ
بِجَاهِهِمْ، فَالْفَوْزُ عِنْدَهُمْ بِعَمَلِ سَلَفِهِمْ لَا بِصَلَاحِ
أَنْفُسِهِمْ وَلَا أَعْمَالِهِمْ، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ هَدْمٌ لِدِينِ
اللهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ جَمِيعَ أَنْبِيَائِهِ .
"وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ"
ونحن مخلصون في أعمالنا، والْإِخْلَاصُ هو رُوحُ الْأَعْمَالِ، والإخلاص,
هو الطريق إلى الخلاص، فهذا هو الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
قَالَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْإِخْلَاصُ أَنْ يُخْلِصَ الْعَبْدُ دِينَهُ
وَعَمَلَهُ فَلَا يُشْرِكَ بِهِ فِي دِينِهِ وَلَا يُرَائِيَ بِعَمَلِهِ،
قَالَ الفضيل: ترك العمل من أجل النَّاسِ رِيَاءٌ، وَالْعَمَلُ مِنْ أَجْلِ
النَّاسِ شِرْكٌ، وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُعَافِيَكَ الله منهما.الألوكة.
"أَمْ
تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ
اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ
وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " 140.
وهذه دعوى أخرى منهم, ومحاجة في رسل الله، زعموا أنهم أولى بهؤلاء الرسل المذكورين من المسلمين.
فرد الله عليهم بقوله" أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ " وقال سبحانه في موضع آخر " مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ "آل عمران : 67.وهم
يقولون: بل كان يهوديًا أو نصرانيًا. فإما أن يكونوا، هم الصادقين
العالمين، أو يكون الله تعالى هو الصادق العالم بذلك, فأحد الأمرين متعين
لا محالة، وصورة الجواب مبهم، وهو في غاية الوضوح والبيان، حتى إنه - من
وضوحه - لم يحتج أن يقول بل الله أعلم وهو أصدق، ونحو ذلك، لانجلائه لكل
أحد، كما إذا قيل: الليل أنور، أم النهار؟ والنار أحر أم الماء؟ والشرك
أحسن أم التوحيد؟ ونحو ذلك. وهذا
يعرفه كل من له أدنى عقل حتى إنهم بأنفسهم يعرفون ذلك, ويعرفون أن إبراهيم
وغيره من الأنبياء, لم يكونوا هودا ولا نصارى, فكتموا هذا العلم وهذه
الشهادة، فلهذا كان ظلمهم أعظم الظلم. ولهذا قال تعالى "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ " ولا أحدَ أشدُّ ظلمًا في كِتمان الشَّهادة؛ ممَّن يَكتُم ما أنزل الله في كُتبه . فهي
شهادة عندهم، مودعة من الله، لا من الخلق، فيقتضي الاهتمام بإقامتها،
فكتموها، وأظهروا ضدها، جمعوا بين كتم الحق، وعدم النطق به، وإظهار الباطل،
والدعوة إليه، أليس هذا أعظم الظلم؟ بلى والله، وسيعاقبهم عليه أشد
العقوبة، فلهذا قال سبحانه " وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " فيه
تهديد ووعيد شديد، فالله سبحانه وتعالى ليس بسَاهٍ عن هؤلاء اليهودِ
والنَّصارى، بل هو على عِلمٍ بجميع أعمالِهم محيط بها ، ولا يَخفَى عليه
منها شيء.فقد أحصى أعمالهم، وعدها وادخر لهم جزاءها، فبئس الجزاء جزاؤهم, وبئست النار، مثوى للظالمين.تفسير السعدي.وموسوعة التفسير .
"تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ"141.
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ : أي : تِلْكَ إشارة إلى إبراهيم وبنيه، أي أن إبراهيم وذريته، أمة قد مضت وانقرضت،. لهم
أعمالهم ولكم أعمالكم، وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم ، من غير متابعة
منكم لهم ، ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا مثلهم منقادين لأوامر
الله واتباع رسله ، الذين بعثوا مبشرين ومنذرين ، فإنه من كفر بنبي واحد
فقد كفر بسائر الرسل ، ولا سيما من كفر بسيد الأنبياء ، وخاتم المرسلين
ورسول رب العالمين إلى جميع الإنس والجن من سائر المكلفين ، صلوات الله
وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين .من تفسير ابن كثير.