المجلس الثامن والأربعون
وقفات وتأملات مع سورة البقرة
هذه آية الدين، وهي أطول آيات القرآن، وقد اشتملت على أحكام عظيمة جليلة المنفعة والمقدار.
فبعد أن أمر- سبحانه - المؤمنين أن يسارعوا في التصدق على المحتاجين، وأن يجتنبوا الربا والمرابين، وبين لهم أن أموالهم تزكو وتنمو بالإنفاق في وجوه الخير، وتمحق وتذهب بتعاطى الربا، بعد أن وضح كل ذلك ساق لهم آية جامعة، متى اتبعوا توجيهاتها استطاعوا أن يحفظوا أموالهم بأفضل طريق، وأشرف وسيلة، وأن يصونوها عن الهلاك والضياع عندما يعطي أحدهم أخاه شيئا من المال على سبيل الدين أو القرض الحسن المنزه عن الربا.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ:هذا إرشاد منه-تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها.
قال ابنُ عبَّاسٍ : أشهَدُ أنَّ السَّلفَ المضمونَ إلى أجلٍ مُسمًّى قد أحلَّهُ اللَّهُ في كتابِهِ وأذِنَ فيهِ ، ثمَّ قرأَ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ"الراوي : أبو حسان الأعرج - المحدث : الألباني - المصدر : إرواء الغليل- الصفحة أو الرقم : 1369 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.
" قَدِمَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ المَدِينَةَ، وَهُمْ يُسْلِفُونَ في الثِّمَارِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، فَقالَ: مَن أَسْلَفَ في تَمْرٍ، فَلْيُسْلِفْ في كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إلى أَجَلٍ مَعْلُومٍ."الراوي : عبدالله بن عباس- صحيح مسلم.
وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ : يُرشِد اللهُ عبادَه المؤمنين أنَّهم إذا حصَل بينهم مداينةٌ إلى وقتٍ معلوم، فليُوثِّقوه بالكتابة، وليكن مَن يَكتُب بينهم عارفًا بالكتابة، معروفًا بالعدل والإنصاف،أي يكتب بدقة من غير ميل إلى أحد الجانبين.
وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ فَلْيَكْتُبْ: ولا يمتنع مَن يعرف الكتابةَ أن يكتُب بين النَّاس، كما تفضَّل الله عليه بتعليمه.نهى الله-تبارك وتعالى- من كان قادرًا على الكتابة عن الامتناع عنها متى دُعِيَ إليها فقال:وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ. ويتحرى العدل والحق في كتابته، وأن يلتزم فيها ما تقتضيه أحكام الشريعة الإسلامية.
وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا : والإملال معناه الإملاء.فهما لغتان معناهما واحد.أى: وعلى المدين الذي عليه الدين وقد التزم بأدائه أن يمل على الكاتب هذا الدين، وذلك ليكون إملاؤه إقرارا به وبالحقوق التي عليه الوفاء بها.وعليه كذلك أن يراقب الله-تبارك وتعالى- في إملائه فلا ينقص من الدين الذي عليه شيئا، لأن هذا الإنقاص ظلم حرمه الله-تبارك وتعالى-.
فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ: فإن كان المَدِين الذي عليه المال جاهلًا، أو لا يُحسِن التصرُّف، أو ضعيفًا لصِغَر أو جنون، أو ليس بمقدوره الإملاءُ لمانعٍ- فلْيَقُم بالإملاء نيابةً عنه مَن يتوَّلى شؤونه، وليتحرَّ الوليُّ الصدقَ، والعدلَ في إملائه.
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى:
أي: اطلبوا شاهدين عدلين من الرجال ليشهدوا على ما يجرى بينكم من معاملات مؤجلة، لأن هذا الإشهاد يعطي الديون والكتابة توثيقا وتثبيتا.والسين والتاء في قوله"واستشهدوا" للطلب..فإن لم يتيسر رجلان للشهادة فليشهد رجل وامرأتان كائنون مرضيون عندكم بعدالتهم.
وهذا الوصف وإن كان في جميع الشهود إلا أنه ذكر هنا للتشديد في اعتباره، لأن اتصاف النساء به قد لا يتوفر كثيرًا.مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ :اختاروا الشهداء من الذين يُرتضى قولُهم، ويقيمون الشهادة على وجهها الحق بدون التأثر بأي نوع من أنواع المؤثرات.
أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى : قال القرطبي: معنى تضل تنسى، والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء، ويبقى المرء حيران بين ذلك ضالا .والمعنى: جعلنا المرأتين بدل رجل واحد في الشهادة، خشية أن تنسى إحداهما فتذكر كل واحدة منهما الأخرى.
إذ المرأة لقوة عاطفتها، وشدة انفعالها بالحوادث، قد تنسى أو لا تتحرى الدقة، فكان من الحكمة أن يكون مع المرأة أخرى في الشهادة بحيث يتذكران الحق فيما بينهما.
وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا: ولا يمتنع الشهود عن أداء الشهادة وتحملها متى دُعُوا إليها، لأن الامتناع عن تحمل الشهادة وأدائها قد يؤدي إلى ضياع الحقوق.
وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ :أي لا تسأموا أن تكتبوه على كل حال قليلا أو كثيرا، وقدم الصغير على الكبير اهتماما به وانتقالا من الأدنى إلى الأعلى.
ثم بين- سبحانه - ثلاث فوائد تعود عليهم إذا ما امتثلوا ما أمرهم الله-تبارك وتعالى- به، فقال: ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ:واسم الإشارة ذَلِكُمْ يعود إلى كل ما سبق ذكره في الآية من الكتابة والإشهاد ومن عدم الامتناع عنهما، ومن تحرى الحق والعدل.أَقْسَطُ بمعنى أعدل.
يقال: أقسط فلان في الحكم يقسط إقساطًا إذا عدل فهو مقسط.
قال-تبارك وتعالى-: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.الحجرات:9.
وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ: معنى أَقْوَمُ أبلغ في الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج.
أى: أثبت لها وأعون على إقامتها وأدائها.
وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا : أي: أقرب إلى زوال الشك والريبة.
أي أن الأوامر والنواهي السابقة إذا نفذت على وجهها كان تنفيذها أعدل في علم الله-تبارك وتعالى- وأعون على إقامة الشهادة إذ بها يتم الاعتماد على الحفظ، وأقرب إلى عدم الشك في جنس الدين وقدره وأجله، وإذا توفرت هذه الفوائد الثلاث في المعاملات ساد الوفاق والتعاون بين الناس، أما إذا فقدت فإن الثقة تزول من بينهم، ويحل محلها النزاع والشقاق.
ثم أباح- سبحانه - في التجارة الحاضرة عدم الكتابة فقال: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها:
والتجارة الحاضرة التي تدور بين التجار: هي التي يجرى فيها التقابض في المجلس أو التي يتأخر فيها الأداء زمنًا يسيرًا.التي تكثرون إدارتها والتعامل فيها، لأنه لو كلفكم بذلك لشق الأمر عليكم، وهو- سبحانه – "ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ"الحج:78.
ولأن أمثال هذه التجارات التي يحصل فيها التقابض ويكثر تكرارها، لا يتوقع فيها التنازع أو النسيان.
وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ: أمر منه- سبحانه - بالإشهاد عند البيع، وهذا الأمر للإرشاد والتعليم عند جمهور العلماء.لأنه أحوط وأبعد مما عسى يقع من الاختلاف.
ثم نهى- سبحانه - عن المضارة فقال: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ.
والمضارة: إدخال الضرر.نهى الدائن والمدين عن أن ينزل أحدهما ضررا بالكاتب أو الشاهد لحملهما على كتابة غير الحق أو قول غير الحق، فإنهما أمينان، والإضرار بهما قد يحملهما على الخيانة وفي ذلك ضياع للأمانة وذهاب للثقة.
ولذا قال-تبارك وتعالى- بعد ذلك وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ.
ثم ختم- سبحانه - الآية الكريمة بالأمر بخشيته.
وبتذكيرهم بنعمه فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أي: واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فهو- سبحانه - الذي يعلمكم ما يصلح لكم أمر دنياكم وما يصلح لكم أمر دينكم متى اتقيتموه واستجبتم له، وهو- سبحانه - بكل شيء عليم لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
ثم بين- سبحانه - ما يحب على المسلمين فعله إذا لم يتمكنوا من كتابة ديونهم بأن كانوا مسافرين وليس معهم كاتب فقال-تبارك وتعالى-"وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ" 283.
أي: إن كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتبًا يكتب بينكم ويحصل به التوثق فرهان مقبوضة - أي: يقبضها صاحب الحق وتكون وثيقة عنده حتى يأتيه حقه، ودل هذا على أن الرهن غير المقبوضة لا يحصل منها التوثق، ودل أيضا على أن الراهن والمرتهن لو اختلفا في قدر ما رهنت به، كان القول قول المرتهن، ووجه ذلك أن الله جعل الرهن عوضا عن الكتابة في توثق صاحب الحق، فلولا أن قول المرتهن مقبول في قدر الذي رهنت به لم يحصل المعنى المقصود، ولما كان المقصود بالرهن التوثق جاز حضرا وسفرا، وإنما نص الله على السفر، لأنه في مظنة الحاجة إليه لعدم الكاتب فيه، هذا كله إذا كان صاحب الحق يحب أن يتوثق لحقه، فما كان صاحب الحق آمنا من غريمه وأحب أن يعامله من دون رهن فعلى من عليه الحق أن يؤدي إليه كاملا غير ظالم له ولا باخس حقه وليتق الله ربه في أداء الحق ويجازي من أحسن به الظن بالإحسان ولا تكتموا الشهادة لأن الحق مبني عليها لا يثبت بدونها، فكتمها من أعظم الذنوب، لأنه يترك ما وجب عليه من الخبر الصدق ويخبر بضده وهو الكذب، ويترتب على ذلك فوات حق من له الحق، ولهذا قال تعالى: ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم وقد اشتملت هذه الأحكام الحسنة التي أرشد الله عباده إليها على حكم عظيمة ومصالح عميمة دلت على أن الخلق لو اهتدوا بإرشاد الله لصلحت دنياهم مع صلاح دينهم، لاشتمالها على العدل والمصلحة، وحفظ الحقوق وقطع المشاجرات والمنازعات، وانتظام أمر المعاش، فلله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه لا نحصي ثناء عليه.
المجلس التاسع والأربعون
مقاصد سورة البقرة
من مقاصد سورة الفاتحة تحديد معالم الدين وتحديد أصول الدين إجمالًا ، لكن سورة البقرة توضح أسس وأصول الدين تفصيلا.ولسورة البقرة خمسة مقاصد رئيسية:
المقصد الأول: من مقاصد سورة البقرة بيان أركان الإسلام : شهادة ألا إله إلا الله ؛ الصلاة ؛ الزكاة؛ الصيام؛ الحج ، وأركان الإيمان الستة : الإيمان بالله؛ وملائكته ؛وكتبه؛ ورسله؛ واليوم الآخر ؛ والقدر خيره وشره .ذُكرت تصريحًا ولزومًا.
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ : وهذا الغيب يلزم ويشتمل :على الإيمان بالله عز وجل وصفاته سبحانه وتعالى وكذلك الإيمان بالملائكة واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، فكل هذه الأمور من الإيمان بالغيب.
المقصد الثاني: تمييز
للمسلمين عن غير المسلمين ، فنزلت
سورة البقرة فيها آيات
الأحكام ، و آيات تحويل القبلة من بيت
المقدس إلى المسجد الحرام. أحكام
الصيام والزكاة والحج والعمرة وأحكام الخمر والميسر والمال والربا والمُداينة ، كل
هذه الأحكام نزلت في هذه السورة لتمييز المسلمين عن غيرهم من اليهود والنصارى.
أنزل الله عز وجل سورة البقرة لبناء المجتمع الإسلامي بالأوامر و التكاليف والتشريعات اللى نزلت فى هذه السورة الكريمة.
المقصد الثالث : الاستخلاف في الأرض: أننا جميعًا خلفاء
في هذه الأرض أي يخلف بعضنا بعضًا ، يموت أقوام ويأتي آخرون
، وعلينا أن نسير بهذا الهدى الذي أنزله الله عز وجل إلينا ألا وهو الوحي ،
القرآن الكريم ورسالة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.وذُكِر في سورة البقرة ثلاث خلفاء في
الأرض قبل بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام.، كنماذج واقعية منهم من أمثل وأخطأ ثم
تاب –آدم عليه السلام- ومنهم من انحرف عن
الجادة وعصى ولم يتب – وهم اليهود المغضوب عليهم- ، ومنهم من امتثل تماما – وهو
إبراهيم عليه السلام.
المقصد الرابع : الانقياد لأمر الله عز وجل والاستسلام لشرعه
سبحانه وتعالى.
" بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"112.
ذكر تعالى البرهان الجلي العام لكل أحد, ..... مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ : أي: أخلص لله أعماله, متوجها إليه بقلبه، وَهُوَ : مع إخلاصه " مُحْسِنٌ " في عبادة ربه, بأن عبده بشرعه, فأولئك هم أهل الجنة وحدهم. " فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ " وهو الجنة بما اشتملت عليه من النعيم، " وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " فحصل لهم المرغوب, ونجوا من المرهوب. ويفهم منها – بمفهوم المخالفة - أن من ليس كذلك, فهو من أهل النار الهالكين، فلا نجاة إلا لأهل الإخلاص للمعبود, والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم .تفسير السعدي.
المقصد الخامس : من مقاصد سورة البقرة هو تحقيق تقوى الله عز وجل:
"ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ"2.
فالتكاليف والأحكام ليس الغرض منها التعب والمشقة وإنما الغرض منها هو تحقيق تقوى الله عز وجل.وعلى سبيل المثال وليس الحصر ورد بعد كل تكليف الغاية منه وهي تحقيق التقوى:
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"21.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"183.
"وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"179.
وهكذا.....
مواضيع سورة البقرة الرئيسية:
الموضوع الأول:هو مقدمة السورة: من آية1 إلى آية 29.
الموضوع الثاني :هو الخلفاء الثلاثة: من آية 30 إلى آية 141.
الموضوع الثالث:هو أحكام التكاليف : من آية 142 إلى آية 283.
الموضوع الرابع:هو خاتمة السورة: من آية 284 إلى آية 286.
*نبذة مختصرة عن كل موضوع :
الموضوع الأول:هو مقدمة السورة: من آية1إلى آية29 "آلم"إلى"هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ"29.
قال سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة" اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ" دعاء بالهداية على الصراط المستقيم ثم تأتي سورة البقرة وتوضح معالم هذه الهداية ومنبعها"ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ"فمقدمة سورة البقرة تحدثت عن القرآن الكريم وكيف أن هذا القرآن يهدي به اللهُ سبحانه وتعالى الناسَ ويُخرجهم به من الظلمات إلى النور..المحور الأساسي الذي تقوم عليه سورة البقرة والمعنى المصاحب لهذه السورة هو الاستسلام والانقياد التام لأمر الله والإذعان والخضوع لأمر الله." يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ"208. وهذا نموذج يحتذى به للاستسلام التام لأوامر الله عز وجل إذ قال لإبراهيم عليه السلام" إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ"131. وختمت السورة أيضا بهذا المعنى قال تعالى " آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"258.
ثم سبحانه وتعالى قسم الناس في هذه المقدمة حسب تعاملهم واستجابتهم للقرآن الكريم وتكاليفه إلى أقسام ثلاثة :
القسم الأول: هم المؤمنون المُتقون ، في أول خمس آيات.
والقسم الثاني: هم الكافرون المشركون، في آية رقم 6 وآية رقم 7 .
والقسم الثالث: هم المنافقون.من آية 8 إلى آية 20.
ثم الآية 21 فيها نداء لكافة الناس لعبادة الله تعالى وهذا أول نداء في القرآن الكريم حسب ترتيب المصحف"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"21.
ثم أقام على المشركين الحُجة والدلائل الموجبة للإيمان ، ثم تحداهم أن يقدموا أدلة صدق دعواهم وأنذرهم بسوء العاقبة ، ثم بشر الصالحين بالجنات "الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ.....24. وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"25.
الموضوع الثاني :هو الخلفاء الثلاثة: من آية30إلى آية141.
*في سورة البقرة ثلاثة نماذج لخلفاء سابقين:
الخليفة الأول:آدم عليه السلام من آية 30إلى آية39. "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً"البقرة : 30.
الخليفة الثاني: بني إسرائيل من آية40إلى آية123.وردت آيات كثيرة لوصف ظلمهم ومخالفتهم لأوامر الله"وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ"91.بنو إسرائيل استخلفهم الله في الأرض قبل أمة النبي صلى، وربنا سبحانه وتعالى أنزل لهم تكاليف وتشريعات لكنهم خالفوا هذه الأوامر.ولذلك استبدلهم الله عز وجل وانتقلت الرسالة والاستخلاف لأمة محمد صلى الله عليه وسلم."وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ"محمد:38.
الخليفة الثالث:إبراهيم عليه السلام. من آية124إلى آية141."وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ"124.
نظرات مستخلصة من الحكمة في ذكر الخلفاء الثلاثة قبل التكاليف:
عُرِضَ ثلاثة نماذج لخلفاء في الأرض نزلت عليهم أوامر وتكاليف وتباينوا في تفاعلهم مع هذه التكاليف:
أولًا آدم عليه السلام عصى ربه وأكل من الشجرة ثم تاب ،"فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"36/37.
ثانيًا بني إسرائيل:هؤلاء كانت حياتهم كلها معصية في معصية .
ثالثًا إبراهيم عليه السلام هذا كانت حياته كلها طاعة في طاعة."وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ"124.
لذا ربنا سبحانه وتعالى بدأ بالحديث عن الخلفاء الثلاثة وتفاعلهم مع التكاليف ليعتبر من أراد الاعتبار . هل ستكون مثل آدم عليه السلام إذا عصيت رجعت وتبت وأنبت إلى الله. أم ستكون مثل بني إسرائيل وسترفض هذه الأوامر والتكاليف وتُعرض عنها ؟ أم ستكون مثل إبراهيم عليه السلام الذي امتثل لأوامر ّالله سبحانه وتعالى فتمتثل لكل التكاليف ما استطعت؟فلذلك جاء الحديث عن الخلفاء الثلاثة قبل الحديث عن الأحكام والتكاليف.
الموضوع الثالث:هو أحكام التكاليف : من آية 142 إلى آية 283.
وتنقسم الأحكام والتكاليف إلى خمسة مواضيع رئيسية:
الموضوع الأول:تحويل القبلة وآيات تحويل القبلة "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ" 144,من آية 149 إلى آية 177 ، هذه الآيات تتحدث عن أول تكليف من التكاليف ألا وهو تحويل القبلة.
الأربعة مواضيع الأخرى كل موضوع فيهم يحتوي على عبادة وحولها بعض الأحكام وسنسمي الموضوع باسم العبادة الموجودة فيه ونشير إلى الأحكام الأخرى المذكورة معه:
الموضوع الثاني من مواضيع التكاليف والأحكام هوعبادة الصيام من آية 178 إلى آية 188."يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"183.وذُكِرَ مع عبادة الصيام وأحكامها بعض الأحكام الأخرى ؛ مثل أحكام القصاص والوصية والرشوة .
الموضوع الثالث:عبادة الحج والعمرة وأحكامهما، من آية189إلى آية218،" وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ" 196.وذُكِرَ مع عبادة الحج والعمرة وأحكامهما بعض الأحكام الأخرى مثل ؛أحكام القتال فى سبيل ّالله،وهي مناسبة لعبادة الحج لأن الحج فيه مشقة وجهاد أيضًا، والإنفاق في سبيل الله وهو مناسب أيضًا لعبادة الحج لأن الحج فيه جهاد بالنفقة أيضًا.
الموضوع الرابع:عبادة الصلاة"حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى" 238، من آية 219 إلى آية 242.
وذُكِرَ مع عبادة الصلاة بعض الأحكام الأخرى مثل: أحكام الخمر والميسر وأحكام اليتامى وأحكام زواج المسلم من غير المسلمة وأحكام الحيض والأيمان، وأحكام الأسرة من إيلاء وطلاق وخلع وعدة وأحكامها ورضاعة ....بَيْنَ كل هذه العبادات تُذكر عبادة الصلاة لما للصلاة من شأن عظيم من توريث التقوى والانتهاء عن الفحشاء والمنكر، فأداء الصلاة بحقها يعين على سائر العبادات.
الموضوع الخامس من مواضيع التكاليف والأحكام هوعبادة الجهاد فى سبيل ّالله عز وجل "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " البقرة:244. من آية 243 إلى آية 283.وذُكِرَ مع عبادة الجهاد في سبيل الله بعض الأحكام الأخرى مثل: أحكام الإنفاق فى سبيل ّالله، وأحكام المال ومنها أحكام المُداينة والربا.
الموضوع الرابع:هو خاتمة السورة.من آية 284 إلى آية 286.
هذه الآيات تتحدث عن تخفيف ّالله عز وجل على المؤمنين"لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ"
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور أبصارنا وبصائرنا، وجلاء همنا وحزننا، وأعنا على إتمام ما قصدناه بفضلك ورعايتك يا أكرم الأكرمين.
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن سار على طريقته إلى يوم الدين.
نسأل ّالله عز وجل أن ينفعنا بما علّمنا وأن يُعلمنا ماينفعنا ، اللّهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل ، اللّهم تقبل منا صالح الأعمال ، اللّهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ، اللّهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار سبحانك اللّهم ربنا وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
مقتبس من سلسلة تعرف للشيخ محمد أحمد نبهان حفظه الله ومصادر أخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق