الاثنين، 28 نوفمبر 2022

05- تفسير سورة البقرة

 

تفسير سورة البقرة
من آية  177إلى   182.

" لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا  وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ  أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا  وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ "177.

الآيات السابقة قد ذكرت ألوانًا من العقوبات الأليمة التي توعد الله بها كل من يكتم أمرًا نهى الله عن كتمانه، لكي يقلع كل من يتأتى له الخطاب عن هذه الرذيلة وفاء للعهد الذي أخذه الله على الناس بصفة عامة، وعلى أولي العلم بصفة خاصة.

ثم ساق القرآن الكريم آية جامعة لأنواع البر، ووجوه الخير، تهدي المتمسك بها إلى السعادة الدنيوية والأخروية " لَّيْسَ الْبِرَّ أَن......

الْبِرّ : اسم جامع لكل خير ، ولكل طاعة وقُرْبَة يتقرب بها العبد إلى خالقه - عز وجل- .

البِرّ: قُرِئ بالنَّصب والرَّفْع؛ فعَلى قِراءة النصب، فالبرّ خبَر "ليس" مقدَّم منصوب ، وقوله: أَن تُوَلُّوا- مصدر مُؤوَّل، أي: توليكم- في محلِّ رفْع اسم "ليس" مؤخَّر.

وأمَّا على قراءة رفع البِرّ ، فلا تقديم ولا تأخير. فالبِرّ: اسم "ليس"، وأن تولوا: مصدر مُؤوَّل، أي: توليكم خبرُها في محلِّ نصب خبر "ليس". موسوعة التفسير-الدرر.بقليل تصرف بمزيد تفصيل وتوضيح.

لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ :

لما أمر اللهُ تعالى المؤمنين أولًا بالتوجه إلى بيت المقدس ، ثم حولهم إلى الكعبة ، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين ، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك ، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل ، وامتثال أوامره ، والتوجه حيثما وجه ، واتباع ما شرع ، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل ، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق إلى المغرب بر ولا طاعة ، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه.تفسير ابن كثير.

والمعنى : ليس البر - الذي هو كل طاعة يتقرب بها الإِنسان إلى خالقه - في تولية الوجه عند الصلاة إلى جهة المشرق والمغرب فقط ، وإنما البر الذي يجب الاهتمام به لأنه يؤدي إلى السعادة والفلاح – يكون أيضًا في الإِيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وفي إنفاق المال في وجوه الخير ، وفي اتباع ما ذكرته الآية الكريمة من خصال جليلة .الوسيط و.....

وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى:

مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ : وقد ابتدأت الآية حديثها عن خصال البر بالإِيمان بالله ، لأنه أساس كل بِر . وأصل كل خير ، والإِيمان بالله : هو التصديق بأنه إله واحد, موصوف بكل صفة كمال, منزه عن كل نقص ، هو الواحد الفرد الصمد ، الذي لا تعنو – أي لا تخضع - الوجوه إلا له ، ولا تتجه القلوب بالعبادة إلا إليه ، ومتى رسخ هذا الإِيمان في النفوس ارتفع بها إلى مكانة التكريم التي أرادها الله - تعالى - لبني آدم وصانها عن الذلة والاستكانة وأعطاها نبراس الهداية والسداد في كل نواحي الحياة .

وَالْيَوْمِ الْآخِرِ: قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ" الإيمانُ باليَومِ الآخِرِ: هو التَّصديقُ بيَومِ القيامةِ، وما اشتَمَلَ عليه مِنَ الإعادةِ بَعدَ المَوتِ، والنَّشْرِ، والحَشْرِ، والحِسابِ والميزانِ والصِّراطِ، والجَنَّةِ والنَّارِ، وأنَّهما دارَا ثَوابِه وجَزائِه لِلمُحْسِنِينَ والمُسيئِينَ، إلَى غَيرِ ذلك مِمَّا صَحَّ نَصُّه، وثَبَتَ نَقلُه"ا.هـ.

وقال ابنُ بازٍ: أمَّا الإيمانُ باليَومِ الآخِرِ فيَدخُلُ فيه الإيمانُ بكُلِّ ما أخبَرَ اللَّهُ به ورُسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِمَّا يَكونُ بَعدَ المَوتِ كَفتنةِ القَبرِ وعَذابِه ونَعيمِه، وما يَكونُ يَومَ القيامةِ مِنَ الأهوالِ والشَّدائِدِ والصِّراطِ والميزانِ والحِسابِ والجَزَاءِ ونَشْرِ الصُّحُفِ بَينَ النَّاسِ، فآخِذٌ كِتابَه بيَمينِه وآخِذٌ كِتابَه بشِمالِه، أو من وراءِ ظَهرِه، ويَدخُلُ في ذلك أيضًا الإيمانُ بالحَوضِ المَورودِ لنَبِيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والإيمانُ بالجَنَّةِ والنَّارِ، ورُؤيةِ المُؤمِنينَ لِرَبِّهم سَبحانَه وتَكليمِه إيَّاهم، وغَيرُ ذلك مِمَّا جاءَ في القُرآنِ الكِريمِ والسُّنَّةِ الصَّحيحةِ عَن رَسولِ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَجِبُ الإيمانُ بذلك كُلِّه وتَصديقُه على الوَجهِ الَّذي بَيَّنَه اللَّهُ ورُسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.مجموع فتاوى ابن باز: 1/ 21.الموسوعة العقدية.الدرر.

والإِيمان باليوم الآخر من ثماره أنه يغرس في النفوس محبة الخير ، والحرص على إسداء المعروف وينفرها من اقتراف الشرور وارتكاب الآثام .

وَالْمَلَائِكَةِ :  أجسام لطيفة نورانية ، قادرون على التشكل في صورة حسنة مختلفة ، وصفهم القرآن بأنهم" لَا يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ "التحريم:6. - ومن وجوه دخول التصديق بالملائكة - في حقيقة الإِيمان ، أن الله وسطهم في إبلاغ وحيه لأنبيائه ، وبيَّن ذلك في كتابه ، وتحدث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عنهم في كثير من أحاديثه ، فمن لم يؤمن بالملائكة على هذا الوجه الذي جاءت به الشريعة فقد أنكر الوحي ، إذ الإِيمان بهم أصل للإِيمان بالوحي ، فيلزم من إنكارهم إنكار الوحي ، وهو يستلزم إنكار النبوة وإنكار الدار الآخرة .الوسيط.

وَالْكِتَابِ : والمراد به القرآن لأنه المقصود بالدعوة ، ولأنه هو الأمين على الكتب قبله ، فما وافقه منها كان حقًا وما خالفه كان باطلًا. والإِيمان به يستلزم الإِيمان بجميع الكتب المنزلة من عند الله على أنبيائه ، لأنه هو الذي أخبرنا بذلك وأمرنا بذلك وأمرنا بأن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله .الوسيط.

الإيمان بالكتب السابقة فهو إيمان مجمل يتناول أصولها وما فيها من حق دون ما أدخل فيها من تحريف وتبديل؛ لأن الله أمر بالإيمان بها مع ذكره سبحانه أن أهلها قد حرفوها وغيروا فيها، فالإيمان بأصولها وأنها من عند الله دون ما فيها من تحريف وتبديل فهذا مردود على أصحابه، قال تعالى‏:‏ ‏"‏فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً"سورة البقرة‏:‏ آية 79‏‏، وقال تعالى"وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"سورة آل عمران‏:‏ آية. 78.واقتضت حكمة الله أن تكون الكتب السابقة لآجال معينة ولأوقات محدودة.

أما الإيمان بالقرآن؛ فإنه إيمان مفصل؛ يكون بالإقرار به بالقلب واللسان، واتباع ما جاء فيه،وتحكيمه في كل صغيرة وكبيرة ،والإيمان بأنه كلام الله غير مخلوق ، القرآن الكريم محفوظ من الخالق الأعلى، قال سبحانه وتعالى

"إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"الحجر:9. ...

 وَالنَّبِيِّينَ : أي : التصديق بأنهم رجال اصطفاهم الله - تعالى - لتلقي هدايته وكتبه وتبليغها للناس بصدق وأمانة وسلامة بصيرة .

والنبيون الذين يجب الإِيمان بهم : كل من ثبتت نبوته عن طريق القرآن الكريم أو الحديث الصحيح. ولقد قام الدليل القاطع على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين والمرسلين.

قال صلى الله عليه وسلم"  إنَّ مَثَلِي ومَثَلَ الأنْبِياءِ مِن قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فأحْسَنَهُ وأَجْمَلَهُ، إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِن زاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ به، ويَعْجَبُونَ له، ويقولونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هذِه اللَّبِنَةُ؟ قالَ: فأنا اللَّبِنَةُ، وأنا خاتِمُ النَّبيِّينَ."الراوي : أبو هريرة - صحيح البخاري.

وفي هذا الحَديثِ يَضرِبُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المثَلَ له وللنَّبيِّينَ صلَّى اللهُ عليهم وسلَّمَ، وما بَعَثَهمُ اللهُ به مِن الهُدى والعِلمِ، وما يَنفَعُ النَّاسَ؛ كمَثلِ رَجلٍ بَنى بَيتًا، إلَّا أنَّ هذا البِناءَ مع جَمالِه وحُسنِه، كانت هناك لَبِنةٌ واحِدةٌ فيه بَقيَ مَوضِعُها فارِغًا، واللَّبِنةُ هي القِطعةُ مِن الطِّينِ، تُعجَنُ وتُعَدُّ للبِناءِ، ويُقالُ لها -ما لم تُحرَقْ : لَبِنةٌ، فإذا أُحرِقتْ فهي آجُرَّةٌ.فجعَلَ النَّاسُ يَطوفونَ بالبيتِ، ويَعجَبونَ مِن حُسنِه، ويَقولونَ: لو وُضِعَتْ هذه اللَّبِنةُ لَكان غايةً في الحُسنِ والكَمالِ، فكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو اللَّبِنةَ الَّتي بها اكتمَلَ البِناءُ؛ فهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالنِّسبةِ إلى الأنْبياءِ السَّابِقينَ كاللَّبِنةِ المُتَمِّمةِ لذلك البِناءِ؛ لأنَّ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كَمالَ الشَّرائِعِ السَّابِقةِ، وليس مَعنى هذا أنَّ الأدْيانَ السَّابِقةَ كانت ناقِصةً، وإنَّما المُرادُ أنَّه وإنْ كانت كُلُّ شَريعةٍ كامِلةً بالنِّسبةِ إلى عَصرِها، فإنَّ الشَّريعةَ المُحَمَّديَّةَ هي الشَّريعةُ الأكمَلُ والأتَمُّ، وكَونُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خاتَمَ النَّبيِّينَ، أي: لا نَبيَّ بعْدَه.الدرر.

وقد جمعت هذه الأمور الخمسة التي ذكرتها الآية كل ما يلزم أن يُصَدِّق به الإِنسان ،  ليكون ذا عقيدة سليمة ، تصل به إلى الفلاح والسعادة .

".....ما الإيمانُ قالَ أن تؤمِنَ باللَّهِ وملائكتِهِ ورسلِهِ وكتبِهِ واليومِ الآخرِ والقدَرِ خيرِهِ وشرِّهِ ....." الراوي : عمر بن الخطاب - المحدث : الألباني- المصدر : صحيح ابن ماجه.

ثم ذكرت الآية بعد بيان أصول الإِيمان لمحة من الأعمال الصالحة فقالت:

وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ: أي: ومِن الأعمال الدَّاخلةِ في مسمَّى البِرِّ: أنْ يُعطيَ العبدُ المالَ وهو محبٌّ له وراغبٌ فيه.

" جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وتَأْمُلُ الغِنَى، ولَا تُمْهِلُ حتَّى إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا، ولِفُلَانٍ كَذَا وقدْ كانَ لِفُلَانٍ."الراوي : أبو هريرة - المحدث : البخاري - المصدر : صحيح البخاري .

شرح الحديث:أَنْ تَصَدَّقَ وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وتَأْمُلُ الغِنَى :صحيحٌ ليس فيه مرَضٌ أو عِلَّةٌ تقْطَعُ أمَلَه في الحياةِ، وهو وقتٌ يُصادِفُ مَن يكونُ مِن شأنِه الشُّحُّ، وهو البُخلُ مع الحِرصِ، ويَخافُ مِن الوُقوعِ في الفَقرِ، ويَأْمُلُ الغِنَى ويَرجوه ويَطمَعُ فيه لِنفْسِه، وهذا في فَترةِ الحياةِ كلِّها، وخاصَّةً وقْتَ الرَّغدِ والنَّعيمِ، فيَكونُ الإنسانُ أكثَرَ حِرصًا، فإذا تصَدَّق مع كلِّ هذه المَوانعِ والمُغرياتِ الَّتي تَحُثُّه على حِفظِ المالِ فذلك أعظَمُ أجرًا.

ولَا تُمْهِلُ حتَّى إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا، ولِفُلَانٍ كَذَا وقدْ كانَ لِفُلَانٍ: ثمَّ حذَّره النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن آفةٍ تُصيبُ كثيرًا مِن النَّاسِ، وذلك بأنَّ يَنتظِرَ ويَتمهَّلَ ويؤخِّرَ التصَدُّقَ، حتَّى إذَا بَلَغَت رُوحُه الحُلْقُومَ، وشعَرَ بقُربِ المَوتِ، وتأكَّدَ أنَّ المالَ لن يَنفَعَه، وأنَّه سيَترُكُه- أَوْصى لِفُلَانٍ بكذا، ولِفُلانٍ بكذا، وأخبَرَ أنَّه قدْ كان لِفُلانٍ مِن الدُّيونِ أو الحُقوقِ، وقد أصبَح المالُ مِلكًا للورَثةِ، فهذا أقَلُّ أجرًا. فبيَّنَ لنا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ أفضَلَ الصَّدقةِ أن تَتصدَّقَ حالَ حياتِك وصحَّتِك، مع احتياجِك إلى المالِ واختصاصِك به، لا في حالِ سقَمِك وسياقِ مَوتِك؛ لأنَّ المالَ حينَئذٍ خرَج عنك وتعلَّقَ بغيرِك.الدرر السنية.

ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ:

فيدفعه صدقةً لأقاربِه، وللصِّغار اليتامى الَّذين فقدوا آباءهم وهم دون البلوغ ولا كاسبَ لهم، وللمساكين الَّذين لا يجِدون ما يَكفيهم ويُغْنيهم، وللمسافر المجتاز يريد نفقةً تُوصلُه لموطنه، وللطَّالبين حاجةً ممَّا يعرِضُ لهم مِن سوء، ولعِتْق الرِّقاب ونحوها - الأسارى والأرقاء-. أي : آتى المال على حبه في تخليص الأسرى من أيدي العدو بفدائهم ، وتخليص الأرقاء بشرائهم وإعتاقهم ، وهذه الأوصناف الستة التي ذكرت في تلك الآية الكريمة ليس المقصود من ذكرها الاستيعاب والحصر ، ولكنها ذكرت كأمثلة وخصت بالذكر لأنها أحوج من غيرها إلى العون والمساعدة.

عني القرآن عناية كبرى بالفقراء والمساكين وجميع أصناف المحتاجين بالحث على الإِنفاق عليهم ، وبذل العون في مساعدتهم - وأيضًا - هناك عشرات الأحاديث في الحض على مد يد العون إلى ذوي القرابة والمعسرين ، وذلك لأن المجتمعات تحيا وتنهض بالتراحم ، وتذل وتشقى بالتقاطع والتدابر بين أبنائها .

ثم ذكرت الآية ألوانًا أخرى من البر تدل على قوة الإِيمان وحسن الخلق فقالت : وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا  وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ  أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا  وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ:

وَأَقَامَ الصَّلَاةَ :وإقامة الصلاة أداؤها في مواقيتها مستوفية لأركانها وسننها وخشوعها على الوجه الشرعي الذي أمر الله به.

وَآتَى الزَّكَاةَ:أي الزكاة المفروضة على الوجه الذي فصلته السنة المطهرة،  وإيتاؤها : يكون بإعطائها لمستحقيها من الفقراء والمساكين وغيرهم ممن ذكرهم الله في قوله - تعالى " إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين والعاملين عَلَيْهَا والمؤلفة قُلُوبُهُمْ وَفِي الرقاب والغارمين وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل فَرِيضَةً مِّنَ الله والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ "التوبة:60. وفي ذكر الزكاة المفروضة بعد ذكر إيتاء المال على حبه لذوي القربى واليتامى . . إلخ دليل على أن في الأموال حقوقًا لذوي الحاجات سوى الزكاة ، وذلك لأنه من المعروف بين أهل العلم أن الحاجة إذا بلغت بطائفة من أبناء الأمة حد الضرورة ، يجب على الأغنياء منهم أن يسعو في سدها ولو مما زاد على قدر الزكاة .

والأغنياء الذين يكتفون بدفع الزكاة ، ولا يمدون يد المساعدة لسد حاجة المحتاجين ، وتفريج كرب المكروبين ، ودفع ضرورة البائسين ، ليسوا على البر الذي يريده الله من عباده المتقين .

وقلما تجئ الصلاة في القرآن الكريم إلا وهي مقترنة بالزكاة, لكونهما أفضل العبادات, وأكمل القربات, عبادات قلبية, وبدنية, ومالية, وبهما يوزن الإيمان, ويعرف ما مع صاحبه من اليقين.

وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا  الوفاء بالعهد يشمل ما عاهد المؤمنون عليه الله من الإِذعان لكل ما جاء به الدين ،. فدخل في ذلك حقوق الله كلها, لكون الله ألزم بها عباده والتزموها, ودخلوا تحت عهدتها, ووجب عليهم أداؤها. ويشمل ما يعاهد به الناس بعضهم بعضًا مما لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا ، وحقوق العباد, التي أوجبها الله عليهم.

ويشمل الحقوق التي التزمها العبد كالأيمان والنذور, ونحو ذلك

والموفون بعهدهم هم الذين إذا وعدوا أنجزوا ، وإذا حلفوا بروا في أَيمانهم ، وإذا قالوا صدقوا في قولهم ، وإذا ائتمنوا أدوا الأمانة ، وقد وعدهم الله على ذلك بأجزل الثواب ، وأعلى الدرجات .

وفي قوله - تعالى " إِذَا عَاهَدُواْ " إشارة إلى أن إيفاءهم بالعهد لا يتأخر عن وقت حصول العهد .

ثم ختم - سبحانه - خصال البر بقوله : وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ :

البأساء من البؤس ، وهي ما يصيب الناس في الأموال كالفقر والاحتياج .والضراء من الضر ، وهي ما يصيبهم في أنفسهم كالأمراض والأسقام. وحين البأس ، أي : ووقت القتال في سبيل الله لإعلاء كلمته .

وليس الصبر هو الخضوع والاستكانة والاستسلام من غير مقاومة ولا عمل وإنما الصبر جهاد ومحاولة للتغلب على المصاعب ، ومع الاحتفاظ برباطة الجأش والثقة بحسن العاقبة .

وقد خصت الآية ثلاثة حالات بالصبر؛ لأن هذه الحالات هي أبرز الأشياء التي يظهر فيها هلع الهالعين وجزع الجازعين ، كما يتميز فيها أصحاب النفوس القوية المطمئنة من غيرهم .

وخص هذه المواطن الثلاثة مع أن الصبر محمود في جميع الأحوال، لأن من صبر فيها كان في غيرها أصبر فالفقر إذا اشتدت وطأته ضاق به الصدر، وكاد يفضي إلى الكفر، والضرّ إذا برّح بالبدن أضعف الأخلاق والهمم، وفي الحرب التعرض للهلاك بخوض غمرات المنيّة والظفر مقرون بالصبر، وبالصبر يحفظ الحقّ الذي يناضل صاحبه دونه.

  أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا  وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ:

  أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا  : أي صدقوا في دعواهم الإيمان، دون الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم.

وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ : أي وأولئك هم الذين جعلوا بينهم وبين سخط الله وقاية، بالبعد عن المعاصي التي توجب خذلان الله في الدنيا، وعذابه في الآخرة.

وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على خمسة عشر نوعًا من أنواع البر الذي يهدي إلى الحياة السعيدة في الدنيا ، وإلى رضا الله - تعالى - في الآخرة ، وذلك لأنها قد أرشدت إلى أن البر أنواع ثلاثة جامعة لكل خير : بر في العقيدة ، وبر في العمل ، وبر في الخلق .

بر العقيدة: فقد بينته أكمل بيان في قوله  تعالى "مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ "

وبر في العمل: ذُكِرَ في قوله تعالى : وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ:

ولا شك أن إنفاق المال في تلك الوجوه من شأنه أن يسعد الأفراد والجماعات والأمم ، ويكون مظهرًا من أفضل مظاهر العمل الصالح الذي يرضي الله - تعالى - .

وأما بر الخلق: فقد ذُكِرَ بأحكم عبارة في قوله - تعالى :وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا  وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ.

وذلك لأن التمسك بهذه الفضائل . أداء الصلاة وإيتاء الزكاة . والوفاء بالعهود ، والتذرع بالصبر - يدل على صفاء الإِيمان وطهارة الوجدان وحسن الخلق وكمال الاستقامة .

وهكذا تجمع آية واحدة من كتاب الله بين بِرِّ العقيدة و بِرِّ العمل و بِرِّ الخُلُق ، وتربط بين الجميع برباط واحد لا ينفصم ، وتضع على هذا كله عنوانًا واحدًا " البِرّ " وتمدح من استجمع أنواعه بالصدق والتقوى .الوسيط.

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى  الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ  ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ  فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ "178.

بعد أن بيَّن - سبحانه - أنَّ البِرَّ الجامعَ لألوانِ الخيرِ يتجلى في الإِيمان بالله واليوم الآخر .... . وفي بذل المال في وجوه الخير ، وفي المحافظة على فرائضة - سبحانه - وفي غير ذلك من أنواع الطاعات التي ذكرتها الآية السابقة بعد كل  ذلك شرع - سبحانه - في بيان بعض الأحكام العملية الجليلة التي لا يستغني عنها الناس في حياتهم ، وبدأ هذه الأحكام بالحديث عن حفظ الدماء لماله من منزلة ذات شأن في إصلاح العالم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى  :

كُتِبَ عَلَيْكُمُ : أي : فُرِضَ عليكم .

الْقِصَاصُ: العقوبة بالمثل من قتل أو جرح .

وقد وجه - سبحانه - الخطاب إلى المؤمنين كافة مع أن تنفيذ الحدود من حق الحاكم لإشعارهم بأن عليهم جانبًا من التبعة في  تنفيذ هذه العقوبات التي شرعها الله .ولإِشعارهم كذلك بأنهم مطالبون بعمل ما يساعد الحكام على تنفيذ الحدود بالعدل . وذلك بتسليم الجاني إلى المكلفين بحفظ الأمن ، وأداء الشهادة عليه بالحق والعدل ، وغير ذلك من وجوه المساعدة.

والمعنى : يأيها الذين آمنوا فرض عليكم وأوجب القصاص بسبب القتلى . بأن تقتلوا القاتل عقوبة له على جريمته مع مراعاة المساواة التي قررها الشارع الحكيم ، فلا تتعدوا بالقصاص إلى غير القاتل والجاني -كما لو قَتلت الأُنثى أُنثى أُخرى، فإنَّ الأنثى الجانية هي التي تُقتل، ولا يَحِلُّ أن يُقتل بهذه الأنثى المقتولة رجلٌ لم يقتلها، ومثل ذلك: الحرُّ بالحرِّ، والعبدُ بالعبد، والذَّكَرُ بالذَّكَر-، كما لا يجوز لكم أن تسرفوا في القتل بأن تقتلوا القاتل وغيره من أقاربه .وقد بين العلماء أن القصاص يفرض عند القتل الواقع على وجه التعمد والتعدي . وعند مطالبة أولياء القتيل بالقود - أي القصاص - من القاتل . ولفظ " في " في قوله - تعالى : فِي القتلى : للسببية ، أي : فرض عليكم القصاص بسبب القتلى . كما في قوله صلى الله عليه وسلم " دخلت امرأة النار في هرة " أي بسببها ." دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، ولَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِن خَشَاشِ الأرْضِ" .الراوي : عبدالله بن عمر - صحيح البخاري.

وقوله تعالى "  الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى" بيان لمعنى المساواة في القتل المشار إليها بلفظ القصاص فالجملة تتمة لمعنى الجملة السابقة ، ومفادها أنه لا يقتل في مقابل المقتول سوى قاتله ، لأن قتل غير الجاني ليس بقصاص بل هو اعتداء يؤدى إلى فتنة في الأرض وفساد كبير وقد يفهم من مقابلة " الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " أنه لا يقتل صنف بصنف آخر ، وهذا الفهم غير مراد على إطلاقه ، فقد جرى العمل منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتل الرجل بالمرأة .-طالما المرأة قتلت رجل تقتل، ولو قتل رجل امرأة يقتل وهذا تفصيل ما سبق- .

قال القرطبي  " أجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل " .

والخلاف في قتل الحر بالعبد . فبعض العلماء يرى قتل الحر بالعبد ، وبعضهم لا يرى ذلك ، ولكل فريق أدلته التي يمكن الرجوع إليها في كتب الفقه .

والغرض الذي سيقت من أجله الآية الكريمة ، إنما هو وجوب تنفيذ القصاص بالعدل . والمساواة وإبطال ما كان شائعًا في الجاهلية من أن القبيلة القوية كانت إذا قتلت منها القبيلة الضعيفة شخصًا لا ترضى حتى تقتل في مقابلة من الضعيفة أشخاصًا . وإذا قتلت منها عبدًا تقتل في مقابله حرًا أو أحرارًا ، وإذا قتلت منها أنثى قتلت في نظيرها رجلًا أو أكثر . فيترتب على ذلك أن ينتشر القتل ، ويشيع الفساد ، وقد حكى لنا التاريخ كثيرًا مما فعله الجاهليون في هذا الشأن .

ثم أورد - سبحانه - بعد إيجابه للقصاص العادل - حكمًا يفتح باب التراضي ، بين القاتل وأولياء المقتول ، بأن أباح لهم أن يسقطوا عنه القصاص إذا شاؤوا ويأخذوا في مقابل ذلك الدية. فقال سبحانه:

فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ  :

عُفِيَ : من العفو وهو الإِسقاط . والعفو عن المعصية ، ترك العقاب عليها . والذي "عُفِيَ لَهُ" هو القاتل ، و " أَخِيهِ " الذي عفا هو ولي المقتول . والمراد بلفظ " شَيْء " القصاص.

والمعنى : أن القاتل عمدًا إذا أسقط عنه أخوه ولي دم القتيل القصاص ، راضيًا أن يأخذ منه الدِّيَة بدل القصاص ، فمن الواجب على ولي الدم أن يتبع طريق العدل في أخذ الدِّيَة من القاتل بحيث لا يطالبه بأكبر من حقه ، ومن الواجب كذلك على القاتل أن يدفع له الدِّيَة بالإحسان ، بحيث لا يماطله ولا يبخسه حقه .

فقوله - تعالى " فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وصية منه - سبحانه - لولي الدم أن يكون رفيقًا في مطالبته القاتل بدفع الدية .

وقوله " وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ " وصية منه - سبحانه - للقاتل بأن يدفع الدِّيَة لولي الدم بدون تسويف أو مماطلة .

وفي هذه الوصايا تحقيق لصفاء القلوب ، وشفاء لما في الصدور من آلام ، وتقوية لروابط الأخوة الإِنسانية بين البشر . وسمى القرآن الكريم القاتل أخا لولي المقتول ، تذكيرًا بالأخوة الإِنسانية والدينية ، حتى يهز عطف كل واحد منهما إلى الآخر ، فيقع بينهم العفو ، والاتباع بالمعروف ، والأداء بإحسان .

ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ: أي : ذلك الذي شرعناه لكم من تيسير أمر القصاص بأداء الدية إلى ولي القتيل إذا رضي طائعًا مختارًا ، أردنا منه التخفيف عليكم إذ في الدِّيَة تخفيف على القاتل بإبقاء حياته وإنقاذها من القتل قصاصًا ، وفيها كذلك نفع لولي القتيل ، إذ هذا المال الذي أخذه نظير عفوه يستطيع أن ينتفع به في كثير من مطالب حياته .

وبهذا نرى أن الإِسلام قد جمع في تشريعه الحكيم لعقوبة القتل بين العدل والرحمة ..وبالعدالة والرحمة تسعد الأمم وتطمئن في حياتها؛ إذ العدالة هي التي تكسر شره النفوس ، وتغسل غل الصدور ، وتردع الجاني عن التمادي في الاعتداء ، لأنه يعلم علم اليقين أن من وراء الاعتداء قصاصًا عادلًا .

والرحمة هي التي تفتح الطريق أمام القلوب لكي تلتئم بعد التصدع وتتلاقَى بعد التفرق ، وتتوادد بعد التعادي ، وتتسامَى عن الانتقام إلى ما هو أعلى منه وهو العفو . فلله هذا التشريع الحيكم الذي ما أحوج العالم إلى الأخذ به . والتمسك بتوجيهاته .

ثم ختم - سبحانه - الآية بالوعيد الشديد لمن يتعدى حدوده ، ويتجاوز تشريعه الحيكم فقال : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ:

أي : فمن تجاوز حدوده بعد هذا التشريع الحكيم الذي شرعناه بأن قتل القاتل بعد قبول الدية منه ، أو بأن قتل غير من يستحق القتل فله عذاب شديد الألم؛ من الله - تعالى - لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول يدل على نكث العهد ، ورقه الدين ، وانحطاط الخلق .

ثم بين - سبحانه - الحكمة في مشروعية القصاص توطينًا للنفوس على الانقياد له ، وتقوية لعزم الحكام على إقامته فقال - تعالى :

 "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"179. أي : ولكم في مشروعية القصاص حياة عظيمة ، فالتنوين للتعظيم "حَيَاةٌ ".

أي: إنَّ في مشروعيةِ القِصاص حياةً، لِمَن أعمَل عقلَه؛ ليتدبَّرَ ويفهمَ عن الله تعالى مرادَه من هذا الحُكم، فينزجِر ويجتنِب القتل؛ فإنَّ مَن أراد القتل إذا علِم أنَّه يُقتَل قِصاصًا بمن قتَله، كفَّ عن القتل؛ فكان في ذلك حياةٌ له ولِمَن أراد قَتْلَه، وإذا رُئي القاتلُ مقتولًا انزَجر بذلك غيرُه، كما أنَّه كان في أهل الجاهليَّةِ مَن إذا قُتل الرَّجلُ مِن قومهم قتَلوا به أكثرَ مِن واحد من عشيرةِ القاتل؛ فشرَع اللهُ تعالى القِصاص، فلا يُقتَلُ بالمقتولِ غيرُ قاتلِه، وفي ذلك حياةٌ لقومِه .موسوعة التفسير.الدرر السنية.

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ : أي ولما كان في القصاص حياة لكم كتبناه عليكم وشرعناه لكم لعلكم تتقون تتقون القتل و الاعتداء فتسلَمون من القصاص وتكفّون عن سفك الدماء، إذ العاقل يحرص على الحياة، ويحترس من غوائل القصاص.

 وذلك أن من عرف ربه وعرف ما في دينه وشرعه من الأسرار العظيمة والحكم البديعة والآيات الرفيعة, أوجب له ذلك أن ينقاد لأمر الله, ويعظم معاصيه فيتركها, فيستحق بذلك أن يكون من المتقين.

"كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ  حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ"180.

فبعد أن يوصي الحق عباده بأن يضربوا في الحياة ضربًا يوسع رزقهم ليتسع لهم، ويفيض عن حاجتهم، فهذا الفائض هو الخير،فعليه أن يوصي به قبل أن يموت.

أي: فرض الله عليكم, يا معشر المؤمنين " إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ" فسر بحضور أسباب الموت ، وظهور أماراته ، من نحو العلل المخوفة والهرم البالغ, وحضور أسباب المهالك.ولكن نظرًا لأنه لا يعرف أحد متى يموت فعليه أن يوصي وصية عامة لكن أموره ....

عن عبد الله بن عمر أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ" ما حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ له شيءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا ووَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ".

الراوي : عبدالله بن عمر -صحيح البخاري.

في الحديث :حثَّ النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وأكَّدَ على المُبادَرةِ بكِتابةِ الوَصيَّةِ قبْلَ مُباغَتةِ الموتِ، وبيَّنَ أنَّه لَيس لائقًا بالمسلمِ -سَواءٌ كان رجُلًا أو امرأةً- وله شَيءٌ يُوصِي فيه مِن الأموالِ، والبَنينَ الصِّغارِ، والحُقوقِ التي له، وعليه؛ مِن دِيونٍ، وكفَّاراتٍ، وزَكَواتٍ فرَّطَ فيها، أنْ تَمضِيَ عليه لَيلتانِ أو أكثرُ؛ إلَّا ووَصيَّتُه بهذا الشَّيءِ مَكتوبةٌ ومَحفوظةٌ عِندَه.

وفيه: أنَّ الأشياءَ المهمَّةَ يَنْبغي أنْ تُضبَطَ بالكتابةِ؛ لأنَّها أثبَتُ مِن الضَّبطِ بالحِفظِ؛ لأنَّه يَخونُ غالِبًا.

وفيه: النَّدبُ إلى التَّأهُّبِ للموتِ، والاحترازِ قبْلَ الفَوتِ؛ لأنَّ الإنسانَ لا يَدْري مَتى يَفجَؤُه الموتُ.الدرر السنية.

.علينا أن نفهم أن الحق ينبهنا إلى أن يكتب الإنسان ما له وما عليه في أثناء حياته. فيقول ويكتب وصيته التي تنفذ من بعد حياته. يقول المؤمن: إذا حضرني الموت فلوالدي كذا وللأقربين كذا.

أي أن المؤمن مأمور بأن يكتب وصيته وهو صحيح، ولا ينتظر وقت حدوث الموت ليقول هذه الوصية.

إِن تَرَكَ خَيْرًا: وهو المال الكثير عرفًا, فعليه أن يوصي لوالديه وأقرب الناس إليه بالمعروف, على قدر حاله من غير سرف, ولا اقتصار على الأبعد, دون الأقرب، بل يرتبهم على القرب والحاجة, ولهذا أتى فيه بأفعل التفضيل. وقوله" حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ " دل على وجوب ذلك, لأن الحق هو: الثابت، وقد جعله الله من موجبات التقوى. واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وبعضهم يرى أنها في الوالدين والأقربين غير الوارثين, مع أنه لم يدل على التخصيص بذلك دليل، والأحسن في هذا أن يقال: إن هذه الوصية للوالدين والأقربين مجملة, ردها الله تعالى إلى العرف الجاري. ثم إن الله تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من الأقارب الوارثين هذا المعروف في آيات المواريث, بعد أن كان مجملًا، وبقي الحكم فيمن لم يرثوا من الوالدين الممنوعين من الإرث وغيرهما ممن حجب بشخص أو وصف - أو لمانع من الإِرث كالكفر والاسترقاق ، وقد كانوا حديثي عهد بالإِسلام يسلم الرجل ولا يسلم أبواه وقد أوصى الله بالإِحسان إليهما .-, فإن الإنسان مأمور بالوصية لهؤلاء وهم أحق الناس ببره، وهذا القول تتفق عليه الأمة, ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين, لأن كلا من القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظا, واختلف المورد. فبهذا الجمع, يحصل الاتفاق, والجمع بين الآيات, لأنه مهما أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء النسخ, الذي لم يدل عليه دليل صحيح.

وإذا أسلم الكافر وحضرته الوفاة ووالداه كافران فهما لا يرثانه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لَا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ وَلَا الكَافِرُ المُسْلِمَ.

الراوي : أسامة بن زيد - صحيح البخاري.  لكن له أن يوصي لهما بما يؤلّف به قلوبهما. فقد نص أهل العلم على جواز الوصية لغير المسلم ما لم تكن بمصحف، فقد نقل صاحب التاج والإكليل في شرحه لمختصر خليل المالكي عن مالك قوله: ..... إن الوصية للكافر الذمي فيها أجر على كل حال، والكراهة إنما لإيثار الذمي على المسلم لا بنفس الوصيةاتفق الفقهاء المسلمون من الحنفية والحنابلة وأكثر الشافعية على صحة الوصية إذا صدرت من مسلم لذميّ ، أو من ذمي لمسلم ، بشروط الوصية الشّرعية ، واحتجوا لذلك بقوله تعالى " لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ."  سورة الممتحنة /8 ، ولأن الكفر لا ينافي أهلية التملك ، وكما يصح بيع الكافر وهبته فكذلك تصحّ وصيته.

يَحكي سَعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ رَضيَ اللهُ عنه "جاءَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَعُودُنِي وأنا بمَكَّةَ، وهو يَكْرَهُ أنْ يَمُوتَ بالأرْضِ الَّتي هاجَرَ مِنْها، قالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عَفْراءَ، قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أُوصِي بمالِي كُلِّهِ؟ قالَ: لا، قُلتُ: فالشَّطْرُ؟ قالَ: لا، قُلتُ: الثُّلُثُ؟ قالَ: فالثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثِيرٌ؛ إنَّكَ أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِياءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَدَعَهُمْ عالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ في أيْدِيهِمْ، وإنَّكَ مَهْما أنْفَقْتَ مِن نَفَقَةٍ، فإنَّها صَدَقَةٌ، حتَّى اللُّقْمَةُ الَّتي تَرْفَعُها إلى فِي امْرَأَتِكَ، وعَسَى اللَّهُ أنْ يَرْفَعَكَ، فَيَنْتَفِعَ بكَ ناسٌ ويُضَرَّ بكَ آخَرُونَ. ولَمْ يَكُنْ له يَومَئذٍ إلَّا ابْنَةٌ."الراوي : سعد بن أبي وقاص - صحيح البخاري.

"فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ  إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" 181.

ثم توعد - سبحانه - من يبدل الوصية أي يغيرها بعد ما علمها،وتغيير الوصية يتأتى بالزيادة في الموصَى به أو النقص منه أو كتمانه ، أو غير ذلك من وجوه التغيير للموصَى به بعد وفاة الموصِي .

بَعْدَ مَا سَمِعَهُ : أي علمه وتحقق منه ، وكنى بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله . والضمائر البارزة في " بدله وسمعه وإثمه ويبدلونه " عائدة على القول أو على الكلام الذي يقوله الموصِي والذي دل عليه لفظ الوصية أو على الإِيصاء المفهوم من الوصية ، وهو الإِيصاء أو القول الواقع على الوجه الذي شرعه الله .

فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ  إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ : والمعنى : فمن غير الإِيصاء الذي أوصى به المتوفى عن وجهه ، بعدما علمه وتحقق منه ، فإنما إثم ذلك التغيير في الإيصاء يقع على عاتق هذا المُبَدِّل ، لأنه بهذا التبديل قد خان الأمانة ، وخالف شريعة الله ، ولن يلحق الموصي شيئًا من الإِثم لأنه قد أدى ما عليه بفعله للوصية كما يريدها الله - تعالى .

وقد ختمت الآية بقوله - تعالى " إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ " للإِشعار بالوعيد الشديد الذي توعد الله به كل من غير وبدل هذا الحق عن وجهه ، لأن الله - تعالى - لا يخفى عليه شيء من حيل الناس الباطلة ، فهو - سبحانه سميع لوصية الموصي ،وسميع وعليم  بما يقع فيها من تبديل وتحريف.

"فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ  إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"182.

ثم استثنى من إثم التبديل حالة ما إذا كان للإصلاح وإزالة التنازع.

خَافَ : من الخوف ، وهو في الأصل حالة تعتري النفس عند الانقباض من شر يتوقع حصوله على سبيل الظن أو على سبيل العلم .

والجنف : الميل والجور

أَوْ إِثْمًا : والإِثم : الذَّنب الذي يَسْتحقّ فاعله العُقوبة عليه. أثم: تدل على أصل واحد، وهو البطء والتأخر. يقال: ناقة آثمة، أي: متأخرة. و"الإثم" مشتق من ذلك؛ لأن ذا الإثم بطيء عن الخير متأخر عنه.إسلام ويب.

ويرى جمهور العلماء أن هذه الآية الكريمة واردة في الوصي يرى أن الموصِي قد حاد في وصيته عن حدود العدل ، فللوصي حينئذ أن يصلح فيها بحيث يجعلها متفقة مع ما شرعه الله ، وهو في هذه الحالة لا إثم عليه لأنه قد غير الباطل بالحق وعلى هذا الرأي يكون المعنى : أن الوصي إذا رأى في الوصية ميلًا عن الحق خطأ أو عمدًا وأصلح بين الموصَى لهم يردهم إلى الوجه المشروع فلا إثم عليه في التغيير في الوصية .

والضمير في قوله " بَيْنَهُمْ " عائد على الموصى لهم .

وقوله " إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ " تذييل أتى به - سبحانه - للوعد بالثواب للمصلح على إصلاحه ، فإن من يغفر الذنوب ويرحم المذنبين تكون مغفرته ورحمته أقرب إلى من يقصد بعمله الإِصلاح ولو اعتمد على ظن غالب أو أخطأ وجه الصواب فيما أتى من أعمال .

وبهذا تكون الآيات الكريمة قد بينت للناس حكمًا آخر من أحكامها السامية ، يتعلق بالوصية في الأموال ، وفي هذا الحكم دعوة إلى التراحم والتكافل ، وغرس لأواصر المودة والمحبة بين الأبناء والآباء وبين الأقارب بعضهم مع بعض .الوسيط

من آية  183إلى   188.

 

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"183.

لما ذكر سبحانه ما كتب على المكلفين من القصاص والوصية ذكر أيضا عبادة عظيمة من العبادات التي جعلها الله - تعالى - ركنًا من أركان الإِسلام وهي صوم رمضان.

قال صلى الله عليه وسلم "بُنِيَ الإسْلَامُ علَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والحَجِّ، وصَوْمِ رَمَضَانَ."الراوي : عبدالله بن عمر- صحيح البخاري .

الصيام مصدر صام كالقيام مصدر قام ، وهو في اللغة : الإِمساك وترك التنقل من حال إلى حال ، فيقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام ومنه قوله - تعالى - مخبرًا عن مريم " إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْمًا " أي : سكوتًا عن الكلام . وصوم الريح ركودها وإمساكها عن الهبوب وتقول العرب : صام النهار وصامت الشمس عند قيام الظهيرة لأنها كالممسكة عن الحركة .

الصيامُ في شريعةِ الإسلامِ  عِبادةٌ بدنيَّةٌ، تعني: الإمساكَ، بنيَّةِ التعبُّدِ، عن الأكْلِ والشُّربِ وغِشيانِ النِّساءِ، وسائرِ المُفطِّراتِ، مِن طلوعِ الفَجرِ إلى غُروبِ الشَّمسِ.

كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ : أي : أن عبادة الصوم كانت مكتوبة ومفروضة أيضًا على الأمم السابقة ، ولكن بكيفية لا يعلمها إلا الله ، إذ لم يرد نص صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لنا فيه كيف كان صيام الأمم السابقة على الأمة الإسلامية .الوسيط.والدرر السنية.

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: جملة تعليلة  جيء بها لبيان حِكمة مشروعية الصيام فكأنه - سبحانه - يقول لعباده المؤمنين : فرضنا عليكم الصيام كما فرضناه على الذين من قبلكم ، لعلكم بأدائكم لهذه الفريضة تنالون درجة التقوى والخشية من الله ، وبذلك تكونون ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه . ولا شك أن هذه الفريضة ترتفع بصاحبها إلى أعلى عليين متى أداها بآدابها وشروطها ، ويكفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال في شأن الصوم  " الصَّومُ جُنَّةٌ منَ النَّارِ " الراوي : عثمان بن أبي العاص الثقفي - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح النسائي.

والجُنَّةُ الوِقايةُ والسَّترُ مِن النَّارِ وحِصْنٌ حَصينٌ مِنها في الآخِرةِ، ووِقايةٌ مِن الوُقوعِ في المنكَراتِ في الدُّنيا، وإنَّه يَقي صاحِبَه ما يُؤذيه مِن الشَّهواتِ؛ فيَنبَغي للصَّائمِ أن يَصونَ نفْسَه وصيامَه ممَّا يُفسِدُه ويَنقُصُ ثوابَه, مِن كلِّ المنكَراتِ والمعاصي.الدرر.

 جُنَّةٌ :أي : وقاية . إذ في الصوم وقاية من الوقوع في المعاصي ، ووقاية من عذاب الآخرة .

فمما اشتمل عليه الصيام من التقوى: أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها, التي تميل إليها نفسه, متقربًا بذلك إلى الله, راجيًا بتركها, ثوابه، فهذا من التقوى. ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى, فيترك ما تهوى نفسه, مع قدرته عليه, لعلمه باطلاع الله عليه، ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الشيطان, فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم, فبالصيام, يضعف نفوذه, وتقل منه المعاصي، ومنها: أن الصائم في الغالب, تكثر طاعته, والطاعات من خصال التقوى، ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع, أوجب له ذلك, مواساة الفقراء المعدمين, وهذا من خصال التقوى.تفسير السعدي.

"أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ  فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ  وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ  وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ  إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ"184.

أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ  :أي: إنَّ هذا الصِّيامَ مفروضٌ عليكم في أيَّامٍ قليلةٍ، مَحصيَّة ساعاتُها ، وهي أيَّامُ شهرِ رَمضانَ. فالله لم يفرض علينا صوم الدهر كله ولا أكثره تخفيفًا ورحمة بالمكلفين.

فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ  :ثم رخص سبحانة للمريض والمسافر الفطر وذلك للمشقة  في الغالب. ثم القضاء  في أيام أخر إذا زال المرض, وانقضى السفر, وحصلت الراحة.

وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ  وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ: أي: يجبُ على مَن استطاع الصِّيامَ ولم يصُمْ، أنْ يُقدِّمَ عن كلِّ يومٍ أفطَره فدية طعامًا لمسكينٍ. ويعني ذلك أن الإنسان مخير بين الصيام وبين الإفطار ويفدي ولا يصوم، ولكن هذا قد يكون مشكلًا لأننا قررنا أنه لا فطر إلا لعذر، مرض أو سفر، كيف يكون للإنسان المطيق له أن يترك الصوم ويفدي، نقول: نعم، يمحو الله ما يشاء ويثبِت، كان في أول ما فرض الصيام لما كانوا غير معتادين للصيام يخير الإنسان، إن شاء صام، وإن شاء فدى، والدليل على هذا قوله"وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ" فدل ذلك على أن الإنسان يطيق الصوم، فخيره الله بين الفدية وبين الصوم ولكنه قال: إن الصوم خير.

 فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ  : أي: مَن أطعَم أكثرَ مِن مسكين، فذلك أفضلُ من إطعامِ مسكينٍ واحدٍ عن كلِّ يومٍ أفطَره .

ثمَّ نَسَخ اللهُ عزَّ وجلَّ هذا التخييرَ في حقِّ القادِر على الصيام بقوله تعالى في الآية التي تليها : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، فأوجب عليه الصومَ، وبقِي الفطرُ والإِطعامُ للعاجز عنه.

عن سلمة بن الأكوع  قال"كُنَّا في رَمَضَانَ علَى عَهْدِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، مَن شَاءَ صَامَ وَمَن شَاءَ أَفْطَرَ فَافْتَدَى بطَعَامِ مِسْكِينٍ، حتَّى أُنْزِلَتْ هذِه الآيَةُ "فمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ"البقرة:185.الراوي : سلمة بن الأكوع - صحيح مسلم -الصفحة أو الرقم : 1145.

 

" شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ  فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ  وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ  يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"185.

شَهْرُ رَمَضَانَ : أي: الأيَّامُ المعدودات هي شهرُ رمضانَ.

الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ : أي: الصوم المفروض عليكم, هو شهر رمضان, الشهر العظيم, الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم، وهو القرآن الكريم, المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية, وتبيين الحق بأوضح بيان, والفرقان بين الحق والباطل, والهدى والضلال, وأهل السعادة وأهل الشقاوة. فحقيق بشهر, هذا فضله, وهذا إحسان الله عليكم فيه, أن يكون موسمًا للعباد مفروضًا فيه الصيام. تفسير السعدي.

فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ : أي فمن شهد منكم دخول الشهر ، وشهوده برؤية هلاله في البلد التي هو حاضر فيها، فعلى كل من رآه أو ثبتت عنده رؤية غيره أن يصومه، هذا فيه تعيين الصيام  ونَسخ التخيير بين الصيام والفدية للقادر . وبقِي الفطرُ والإِطعامُ للعاجز عنِ الصيام لمرض أو لسفر أو لأي سبب يعجزه عن الصيام  .فلو كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه ، أو يؤذيه أو كان على سفر أي في حال سفر فله أن يفطر ، فإذا أفطر فعليه بعدة ما أفطره في السفر من الأيام أي يقضيها ويصوم عدد أيام ما أفطر عند زوال العذر المفطر.

يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ: أي : إنما رخص لكم في الفطر في حال المرض وفي السفر ، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح ، تيسيرًا عليكم.

وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ : وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم بأن تصوموا أيامة كاملة فتحصلوا خيراته ولا يفوتكم شيء من بركاته. لئلا يتوهم متوهم, أن صيام رمضان, يحصل المقصود منه ببعضه, دفع هذا الوهم بالأمر بتكميل عدته أي تكميل عدد أيام الشهر.

وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ : أي: ويُريد اللهُ عزَّ وجلَّ أنْ تُكبِّرُوه، والمعنى: يُريد اللهُ شرعًا- أي: يُحبُّ- أنْ تُعظِّموه بقول: اللهُ أكبَرُ، وذلك بعد انقضاءِ شهرِ رمضانَ - ويدخل في ذلك التكبير عند رؤية هلال شوال إلى فراغ خطبة العيد.

أي: من أجْل أنْ تكونوا بتكبيرِكم اللهَ عزَّ وجلَّ، وبالقيام بغير ذلك من أنواع شكره كأداء فرائضه وترك محارمه، مِن الشَّاكرين لنِعمة اللهِ تعالى عليكم بتوفيقكم  لصِيام شهرِ رمضانَ، وتيسيرِه أحكامَه عليكم

ويشكر الله تعالى عند إتمامه على توفيقه وتسهيله وتبيينه لعباده, وبالتكبير عند انقضائه.

"وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ  أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ"186.

قال الإِمام البيضاوي في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها من آيات الصيام : واعلم أنه - تعالى - لما أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبة بهذه الآية الدالة على أنه خبير بأحوالهم سميع لأقوالهم ، مجيب لدعائهم ، مجاز على أعمالهم تأكيدًا له وحثًا عليه.

الله تعالى, هو الرقيب الشهيد, المطلع على السر وأخفى, يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور, فهو قريب أيضا من داعيه, بالإجابة،

ولهذا قال سبحانه : أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ: فمن دعا ربه بقلب حاضر, ودعاء مشروع, ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء, كأكل الحرام ونحوه, فإن الله قد وعده بالإجابة.

قال الحافظ ابن كثير : وفي ذكره - تعالى - هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة بل وعند كل فطر.

"قُلْنا: يا رَسولَ اللهِ، إنَّا إذا رَأيْناك رَقَّتْ قُلوبُنا، وكُنَّا مِن أهْلِ الآخِرةِ، وإذا فارَقْناك أَعْجَبَتْنا الدُّنْيا، وشَمَمْنا النِّساءَ والأوْلادَ، قالَ: "لو تَكونونَ -أو قالَ: لو أنَّكم تَكونونَ- على كلِّ حالٍ على الحالِ الَّتي أنتم عليها عنْدي لَصافَحَتْكم المَلائِكةُ بأَكُفِّهم، ولَزارَتْكم في بُيوتِكم، ولو لم تُذْنِبوا لَجاءَ اللهُ بقَوْمٍ يُذنِبونَ كي يَغفِرَ لهم"، قالَ: قُلْنا: يا رَسولَ اللهِ، حَدِّثْنا عن الجَنَّةِ، ما بِناؤُها؟ قالَ"لَبِنةٌ ذَهَبٌ، ولَبِنةٌ فِضَّةٌ، ومِلاطُها المِسْكُ الأَذفَرُ وحَصْباؤُها اللُّؤْلُؤُ والياقوتُ، وتُرابُها الزَّعْفَرانُ، مَن يَدخُلُها يَنعَمُ ولا يَبأَسُ، ويَخلُدُ ولا يَموتُ، لا تَبْلى ثِيابُه، ولا يَفْنى شَبابُه، ثَلاثةٌ لا تُرَدُّ دَعْوتُهم: الإمامُ العادِلُ، والصَّائِمُ حتَّى يُفطِرَ، ودَعْوةُ المَظْلومِ تُحمَلُ على الغَمامِ، وتُفتَحُ لها أبْوابُ السَّماءِ، ويقولُ الرَّبُّ عَزَّ وجَلَّ: وعِزَّتي لَأَنْصُرَنَّك ولو بَعْدَ حينٍ "الراوي : أبو هريرة- المحدث : الوادعي- المصدر : الصحيح المسند -الصفحة أو الرقم : 2/366-خلاصة حكم المحدث : صحيح.

" ومِلاطُها المِسْكُ الأَذفَرُ " والمِلاطُ: هو التُّرابُ الَّذي يُمزَجُ بالماءِ، فيكونُ طِينًا يُستخدَمُ لِربْطِ اللَّبِناتِ بعضِها ببعضٍ؛ حتَّى يَملَأَ ما بيْنها مِن فراغاتٍ، فأخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ هذا المِلاطَ الَّذي يكونُ بيْن لَبِناتِ الجنَّةِ يكونُ مِن "المِسكِ الأَذْفَرِ"، أي: يكونُ مَخلوطًا بالمِسكِ شَديدِ الرَّائحةِ الطَّيِّبةِ، " وحَصْباؤُها اللُّؤْلُؤُ والياقوتُ ، وتُرابُها الزَّعْفَرانُ "، أي: إنَّ حصى الجنَّةِ الصَّغيرَ هو "اللُّؤلؤُ والياقوتُ، وتُربَتُها الزَّعفرانُ"، أي: إنَّ تُربةَ أرْضِها في شَكْلِها تكونُ مِن الزَّعفرانِ الطَّيِّبِ، "، مَن يَدخُلُها يَنعَمُ ولا يَبأَسُ "، أي: يكونُ مُنعَّمًا بما فيها، "ولا يَبأَسُ"، أي: لا يكونُ في شِدَّةٍ ولا يَفتقِرُ، "ويَخلُدُ"، أي: تكونُ حياتُهم حياةً أبديَّةً دائمةً، "ولا يَموتُ"، أي: لا يَفقِدون حياتَهم ولا يَفْنَون، "لا تُبْلى ثِيابُهم"، أي: إنَّ ملابِسَهم لا تكونُ مُتَّسِخةً ولا قديمةً، بلْ تكونُ جديدةً، "ولا يَفْنى شَبابُهم"، أي: إنَّ شبابَهم دائمٌ ومُستمِرٌّ لا يَتغيَّرُ، فلا يُصيبُهم الهرَمُ وكِبَرُ السِّنِّ، "ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "ثلاثٌ"، أي: ثلاثُ أصنافٍ مِن النَّاسِ، "لا تُرَدُّ دَعوتُهم"، أي: إنَّ دُعاءَهم يكونُ مُستَجابًا ومَقبولًا، وهم: "الإمامُ العادلُ"، أي: الحاكمُ الَّذي لا يَظلِمُ النَّاسَ ويَنظُرُ في مصالِحِ رَعيَّتِه، "والصَّائمُ" الَّذي امتنَعَ عن الطَّعامِ والشَّرابِ وترَكَ الشَّهواتِ ابتغاء وجه الله، "حينَ يُفطِرُ" عندَ إفطارِه وقْتَ غُروبِ الشَّمسِ، "ودَعوةُ المظلومِ" وهو مَن اعْتُدِيَ عليهِ بغيرِ حقٍّ؛ فإنَّ دُعاءَه ودَعوتَه على مَن ظلَمَهُ، "يَرفَعُها"، أي: تَصعَدُ دَعوتُه بإذنِ اللهِ، "فوقَ الغَمامِ"، أي: السَّحابِ، "وتُفتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ"، أي: تكونُ مَداخِلُ السَّماءِ لدَعوةِ المظلومِ مَفتوحةً، ويقولُ الرَّبُّ تَباركَ وتَعالى: "وعِزَّتي" يُقسِمُ اللهُ بعِزَّتِه الَّتي هي عظَمتُه وسُلطانُه، "لَأنصُرنَّكَ"، أي: أستَجِيبُ دُعاءَك ولا أُهْدِرُ حقَّكَ، "ولو بعدَ حِينٍ"، أي: ولو مَضى وقْتٌ طويلٌ.الدرر السنية.

فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ. أي: فلينقادوا لي، ممتثِلين أوامري، ومجتَنِبين نواهيَّ، وليؤمنوا بأنِّي أُثيبهم على انقيادِهم لي، وأُجِيب دعاءَهم وتضرُّعَهم لي، من أجل إصابةَ الحقِّ بذلك، والتَّوفيقَ للعِلم النَّافع والعملِ الصالح .والمعنى : لقد وعدتكم يا عبادي بأن أجيب دعاءكم إذا دعوتموني ، وعليكم أنتم أن تستجيبوا لأمري ، وأن تقفوا عند حدودي ، وأن تثبتوا على إيمانكم بي ، لعلكم بذلك تصلون إلى ما فيه رشدكم وسعادتكم في الحياتين العاجلة والآجلة . وأمرهم - سبحانه - بالإِيمان بعد الأمر بالاستجابة ، لأنه أول مراتب الدعوة ، وأولى الطاعات بالاستجابة .

لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ: أي: يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة, ويزول عنهم الغي المنافي للإيمان والأعمال الصالحة.

"أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ  هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ  فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ  وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ  ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ  وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ  تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا  كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ"187.

كان في أول فرض الصيام، يحرم على المسلمين في الليل بعد النوم الأكل والشرب والجماع، فحصلت المشقة لبعضهم، فخفف الله تعالى عنهم ذلك، وأباح في ليالي الصيام كلها الأكل والشرب والجماع، سواء نام أو لم ينم، لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أمروا به.

عن البراء بن عازب  رضي الله عنه قال"كانَ أصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا كانَ الرَّجُلُ صَائِمًا، فَحَضَرَ الإفْطَارُ، فَنَامَ قَبْلَ أنْ يُفْطِرَ؛ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ ولَا يَومَهُ حتَّى يُمْسِيَ، وإنَّ قَيْسَ بنَ صِرْمَةَ الأنْصَارِيَّ كانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الإفْطَارُ أتَى امْرَأَتَهُ، فَقالَ لَهَا: أعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قالَتْ: لا، ولَكِنْ أنْطَلِقُ فأطْلُبُ لَكَ، وكانَ يَومَهُ يَعْمَلُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قالَتْ: خَيْبَةً لَكَ! فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عليه، فَذُكِرَ ذلكَ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَنَزَلَتْ هذِه الآيَةُ"أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ"البقرة: 187، فَفَرِحُوا بهَا فَرَحًا شَدِيدًا، ونَزَلَتْ"وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ"البقرة: 187.الراوي : البراء بن عازب -  صحيح البخاري.

عنِ ابنِ عبَّاسٍ ، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ" ، فَكانَ النَّاسُ على عَهْدِ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ إذا صلَّوا العتَمةَ حرُمَ علَيهِمُ الطَّعامُ والشَّرابُ والنِّساءُ ، وصاموا إلى القابِلةِ ، فاختانَ رجُلٌ نفسَهُ ، فجامعَ امرأتَهُ ، وقد صلَّى العشاءَ ، ولم يُفطِرْ ، فأرادَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أن يجعَلَ ذلِكَ يسرًا لمن بقيَ ورخصةً ومَنفعةً ، فقالَ سبحانَهُ " عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ" الآيةَ ، وَكانَ هذا مِمَّا نفعَ اللَّهُ بِهِ النَّاسَ ورخَّصَ لَهُم ويسَّرَ" الراوي : عبدالله بن عباس - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح أبي داود - الصفحة أو الرقم : 2313 - خلاصة حكم المحدث : حسن صحيح.

لَمَّا فُرِضَ الصِّيامُ على المسلِمينَ في أَوَّلِ الأمرِ كان الوقتُ المسموحُ به للطَّعامِ والشَّرابِ والنساء هو بَعْدَ أذانِ المَغْرِبِ إلى أذانِ العِشاءِ فَقَط، وكان في ذلك مَشقَّةٌ كبيرةٌ على المسلِمينَ ، فيسَّرَ اللهُ عزَّ وجلَّ على المسلمينَ، وفَسَحَ لهم ذلك الوقتَ إلى طُلوعِ الفَجْرِ، كما جاء في هذا الحَديثِ."فاخْتانَ رَجُلٌ نَفْسَه"، أي: خان رَجُلٌ نَفْسَه، والْمُرادُ: ظَلَم نَفْسَهُ وأَقْدَم على شيءٍ قد مُنِعَ مِنْهُ، "فجامَعَ امرأتَه"، أي: وَقَعَ عليها في الوقتِ المَنهيِّ عنه، "وقد صلَّى العِشاءَ"، أي: بَعْدَ صلاةِ العِشاءِ، "ولَمْ يُفْطِرْ"، أي: ولم يَأكُلْ ولم يَشْرَبْ، وهذا إشارةٌ إلى أنَّه أتَى زوجتَه فقط، ولم يَسْتبِحْ لنَفْسِه باقيَ ما نُهي عنه."فأراد اللهُ عزَّ وجلَّ أنْ يجعَلَ ذلك يُسرًا"، أي: أرادَ اللهُ عزَّ وجلَّ أنْ يَجْعَلَ ما فَعَله الرَّجُلُ سببًا للتَّيسيرِ، "لِمَنْ بَقي"، أي: للمُسلِمينَ جَميعًا، "ورُخْصَةً"، أي: وتخفيفًا، "ومنفَعةً"، أي: نْفعًا وإفادةً، فأَنْزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ قولَه"أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" البقرة: 187، أي: فمَدَّ اللهُ عزَّ وجلَّ الأكلَ والشُّربَ وقُرْبَ النِّساءِ إلى طُلوعِ الفَجْرِ، وليس إلى أذانِ العِشاءِ.الدرر السنية.

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ  هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ: والمعنى : أحل الله لكم في ليالي صومكم الرفث وهوكناية عن الجماع في هذا الموضع والإِفضاء إلى نسائكم ومباشرتهن . وفي معجم اللغة معنى رفث حسب السياق: رَفَثَ في كلامه : صرَّح بكلامٍ قبيحٍ / رفَث الرَّجلُ بزوجته: جامعها، أفضى إليها. وقوله: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ: جعل كل واحد منهما لصاحبه لباسا لأنه سكن له , كما قال جل ثناؤه "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا " الفرقان: 47 .يعني بذلك سكنًا تسكنون فيه . وكذلك زوجة الرجل سكنه يسكن إليها.

عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ:

تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ : والخيانة هي انتقاص الحق على جهة المساترة . إذ تعتقدون شيئا ثم لا تلتزمون العمل به ، كانت خيانتهم أنفسهم التي ذكرها الله في شيئين : أحدهما جماع النساء , والآخر : المطعم والمشرب في الوقت الذي كان حرامًا ذلك عليهم.

فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ : تاب عليكم بأنْ أحلَّ لكم هذا الَّذي حرَّم عليكم من قبلُ،  وعفا عنكم بأن محا ذنوبكم و تجاوَز عن ما سلَف من التخوُّنِ.

فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ: بَاشِرُوهُنَّ : من المباشرة وأصلها اتصال البشرة بالبشرة ، وكنى بها القرآن عن الجماع الذي يستلزمها .

وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ  : أي: انووا في مباشرتكم لزوجاتكم التقرب إلى الله تعالى والمقصود الأعظم من الوطء، وهو حصول الذرية وإعفاف فرجه وفرج زوجته، وحصول مقاصد النكاح. فالآن باشروهن واطلبوا من وراء هذه المباشرة ما كتبه لكم الله من الذرية الصالحة ومن التعفف عن إتيان الحرام .

وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ  ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ  : والمقصود من الخيط الأبيض : أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره .

والمقصود من الخيط الأسود : ما يمتد مع بياض الفجر من ظلمة الليل

والمعنى : لقد أبحنا لكم مباشرة النساء في ليالي الصوم ، وأبحنا لكم كذلك أن تأكلوا وأن تشربوا في هذه الليالي حتى يتبين لكم بياض الفجر من سواد الليل . قال الإِمام الرازي " الْفَجْرِ " مصدر قولك : فجرت الماء أفجره فجرًا ، وفجرته تفجيرًا قال الأزهري : الفجر أصله الشق ، فعلى هذا الفجر في آخر الليل هو انشقاق ظلمة الليل بنور الصبح .ا.هـ.

وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ  :

  والاعتكاف في اللغة : الملازمة ، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه . أي ولا تباشروا النساء حال عكوفكم في المساجد للعبادة، فإن المباشرة  تبطل الاعتكاف ولو ليلا كما تبطل الصيام نهار.

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا : تلك  المذكورات والأحكام التي سبق تقريرها من إيجاب وتحريم وإباحة .

والحدود جمع حد ، وهو في اللغة الحاجز بين الشيئين المتقابلين ليمنع من دخول أحدهما في الآخر . ومنه سمي الحديد حديدًا لأنه يمنع وصول السلاح إلى البدن .و سميت الأحكام التي شرعها الله حدودًا لأنها تحجز بين الحق والباطل.

أي : تلك الأحكام التي شرعناها لكم من إيجاب الصوم ، وتحريم الأكل والشرب والجماع ونحوه من المفطرات في الصيام، وتحريم الفطر على غير المعذور، وتحريم الوطء على المعتكف، ونحو ذلك من المحرمات ، هي حدود الله التي حدها لعباده، ونهاهم عنها ولا يحل الاقتراب منها ومجاوزتها . وعبر - سبحانه - عن النهي عن مخالفة تلك الأحكام بقوله :فَلاَ تَقْرَبُوهَا - مبالغة في التحذير من مخالفتها ، لأن النهي عن القرب من الشيء يشمل النهي عن فعل المحرم بالأولى ، والنهي عن وسائله الموصلة ، والآية ترشد بقولها " فَلاَ تَقْرَبُوهَا " إلى اجتناب ما فيه شُبْهَة كما ترشد إلى ترك الأشياء التي تفضي في غالب أمرها إلى الوقوع في حرام .

والعبد مأمور بترك المحرمات، والبعد عنها غاية ما يمكنه، وترك كل سبب يدعو إليها. وأما الأوامر فيقول الله فيها: تلك حدود الله فلا تعتدوها – فلا تتعدوها وتتركوها بل الزموها ولا تتجاوزوها -  فينهى عن مجاوزتها.

قال صلى الله عليه وسلم " الحَلَالُ بَيِّنٌ، والحَرَامُ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أنْ يُوَاقِعَهُ، ألَا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألَا إنَّ حِمَى اللَّهِ في أرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهي القَلْبُ."الراوي : النعمان بن بشير - صحيح البخاري.

 كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ: أي : مثل ذلك البيان الجامع الذي بين الله به حدوده التي أمركم بالتزامها ونهاكم عن مخالفتها ، يبين لكم آياته ، أي : أدلته وحججه لكي تصونوا أنفسكم عما يؤدي بكم إلى العقوبة ، وتكونوا ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه . فإنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه، وإذا تبين لهم الباطل اجتنبوه، فإن الإنسان قد يفعل المحرم على وجه الجهل بأنه محرم، ولو علم تحريمه لم يفعله، فإذا بين الله للناس آياته، لم يبق لهم عذر ولا حجة، فكان ذلك سببًا للتقوى.

وبذلك تكون الآية الكريمة قد ختمت الحديث عن الصوم ، ببيان مظاهر رفق الله بعباده ، ورعايته لمصالحهم ومنافعهم بأسلوب بليغ جمع بين الترغيب والترهيب ، والإِباحة والتحريم ، وغير ذلك من أنواع الهداية والإِرشاد إلى ما يسعد الناس في دينهم ودنياهم .

وبعد أن أنهى القرآن حديثه عن الصيام ، وما يتعلق به من أحكام ، أردف ذلك بالنهي عن أكل الحرام ، لأنه يؤدي إلى عدم قبول العبادات من صيام واعتكاف ودعاء وغير ذلك فقال – تعالى:

"وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ"188.

لما كان الكلام في الآية السالفة في الصيام وأحكامه، وفيه حلّ أكل الإنسان مال نفسه في وقت دون وقت، ناسب أن يذكر هنا حكم أكل الإنسان مال غيره.

 

الخطاب في الآية الكريمة موجه إلى المؤمنين كافة في كل زمان ومكان. المراد بالأكل هنا الأخذ والاستيلاء بالباطل أي بغير حق

والباطل نقيض الحق.والمراد بالباطل هنا: الحرام الذي لا يجوز فعله.

وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ :والإِدلاء في الأصل : إرسال الدلو في البئر لإخراج الماء . ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء؛ ومنه أدلى فلان بحجته ، أي : أرسلها ليصل إلى مراده .

والمراد بالإِدلاء هنا : الدفع والإِلقاء بالأموال إلى الغير من أجل الوصول إلى أمر معين .

والحكام : جمع حاكم ، وهو الذي يتصدى للفصل بين الناس في خصوماتهم وقضاياهم .

وردَ قوله تعالى: وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ بعد قوله سبحانه: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ من باب ذِكر الخاصِّ بعد العامِّ، وفائدته: بيان شدَّة شَناعة هذه الصورة، ولأنها جامعةٌ لمحرماتٍ كثيرة.

أي: ولا تأخذوا أموالكم أي: أموال غيركم، أضافها إليهم, والأموال مضافة للجميع، فالمال ساعة يكون ملكا لك، فهو في الوقت نفسه يكون مالًا ينتفع به الغير.

إذن فهو أمر شائع عند الجميع، لكن ما الذي يحكم حركة تداوله؟ إن الذي يحكم حركة تداوله هو الحق الثابت الذي لا يتغير، ولا يحكمه الباطل.

فينبغي للمسلم أن يحترم مال الغير كما يحترم ماله الذي يخصه؛ ولأن أكله لمال غيره يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة. والمراد بالأكل مطلق الأخذ بغير وجه حق.

لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ :أي ولا تلقوا بأموالكم إلى الحكام رشوة لهم فتكونون بذلك آكِلينَ طائفةً مِن أموال النَّاس بالحرامِ ، وأنتم تعلَمون أنَّكم واقِعونَ في الحرام.

*ويدخل في ذلك أكلها على وجه الغصب والسرقة والخيانة في وديعة أو عارية, أو نحو ذلك، ويدخل فيه أيضًا, أخذها على وجه المعاوضة, بمعاوضة محرمة, كعقود الربا, والقمار؛ كلها من أكل المال بالباطل, لأنه ليس في مقابلة عوض مباح، ويدخل في ذلك أخذها بسبب غش في البيع والشراء والإجارة, ونحوها، ويدخل في ذلك استعمال الأُجراء وأكل أجرتهم، وكذلك أخذهم أجرة على عمل لم يقوموا بواجبه ، ويدخل في ذلك الأخذ من الزكوات والصدقات, والأوقاف، والوصايا, لمن ليس له حق منها, أو فوق حقه. فكل هذا ونحوه, من أكل المال بالباطل, فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه، حتى ولو حصل فيه النزاع وحصل الارتفاع إلى حاكم الشرع, وأدلى من يريد أكلها بالباطل بحجة, غلبت حجة المحق, وحكم له الحاكم بذلك، فإن حكم الحاكم, لا يبيح محرمًا, ولا يحلل حرامًا, إنما يحكم على نحو مما يسمع, وإلا فحقائق الأمور باقية، فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة, ولا شبهة, ولا استراحة. فمن أدلى إلى الحاكم بحجة باطلة, وحكم له بذلك, فإنه لا يحل له, ويكون آكلا لمال غيره, بالباطل والإثم, وهو عالم بذلك. فيكون أبلغ في عقوبته, وأشد في نكاله. وعلى هذا فالوكيل إذا علم أن موكله مبطل في دعواه, لم يحل له أن يخاصم عن الخائن كما قال تعالى" وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا "تفسير السعدي.

  "سَمِعَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَلَبَةَ خِصَامٍ عِنْدَ بَابِهِ، فَخَرَجَ عليهم فَقالَ: إنَّما أنَا بَشَرٌ، وإنَّه يَأْتِينِي الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضًا أنْ يَكونَ أبْلَغَ مِن بَعْضٍ، أقْضِي له بذلكَ وأَحْسِبُ أنَّه صَادِقٌ، فمَن قَضَيْتُ له بحَقِّ مُسْلِمٍ فإنَّما هي قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أوْ لِيَدَعْهَا."الراوي : أم سلمة أم المؤمنين -صحيح البخاري-الصفحة أو الرقم : 7185.

وفي رواية أخرى في صحيح البخاري"إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ."صحيح البخاري.

وفي هذا الحديثِ تروي أُمُّ سَلَمَةَ هِنْدُ بنتُ أبي أُمَيَّةَ رضِيَ اللهُ عنها، زَوْجُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتَقولُ"سَمِعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَلَبَةَ خِصَامٍ" والجَلَبَةُ: اختِلاطُ الأصواتِ "عندَ بابِه"، وكان في مَنزلِ أُمِّ سَلَمَةَ رضِيَ اللهُ عنها وحُجْرَتِها، وكأنَّهم أتَوا إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليَحكُمَ بينهم، فخَرَج إليهم ليتعَرَّفَ على الخُصومةِ التي بينهما، ويقضي فيها، فقال محذِّرًا لكُلِّ واحدٍ منهما من المخاصَمةِ في الباطِلِ"إنَّما أنا بَشَرٌ"، أي: أنَّه لا يعلَمُ الغَيبَ وبواطِنَ الأمورِ إلَّا ما أطلعه اللهُ تعالى عليه، فيَجْري عليه أحكامُ البشَرِ من الخطأِ والسَّهْوِ والنِّسيانِ بطبيعتِه البشريَّةِ، ومن ذلك أنَّه قد يأتيه المتخاصِمون المدَّعِي والمدَّعَى عليه؛ ليحكُمَ بينهم، فربَّما كان أحَدُ المتخاصِمَينِ عند القاضي أحسَنَ إيرادًا للكَلامِ، وأَقْدَرَ على الحُجَّةِ والبَيِّنةِ، وأدفَعَ لِدَعوى خَصْمِه، فأظُنُّ لفصاحتِه ببيانِ حُجَّتِه أنَّه صادِقٌ، فأَقْضِي له بما زعَمَه من الحُجَجِ،"فمَن قَضَيْتُ له بحقٍّ" الذي هو في الحقيقةِ حَقُّ أخيه المسلِمِ، وسلَّمْتُه له، فلا يَستَحِلَّه؛ فإنَّه إذا أخذ ذلك الحَقَّ وهو يعلَمُ أنَّه باطِلٌ وظُلْمٌ لغيرِه، فإنه يأخُذُ شيئًا يؤدِّي به إلى النَّارِ في الآخِرةِ، فليتجَرَّأْ عليها وليأخُذْها، أو ليترُكْها لصاحِبِها؛ خشيةً لله عزَّ وجَلَّ وخوْفًا من وعيدِ النَّارِ في الآخِرةِ.الدرر السنية.

من آية  189إلى   195.

"يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ  قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ  وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا  وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"189.

كان الكلام في الآيات السابقة في بيان حكم الصيام وذكر شهر رمضان، فناسب ذلك ذكر الأهِلَّة، لأن الصوم والإفطار مقرونان برؤية الهلال كما جاء في الحديث "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فإنْ غُمِّيَ علَيْكُم فأكْمِلُوا العَدَدَ."الراوي : أبو هريرة- صحيح مسلم .

"جعل اللهُ الأهلَّةَ مواقيتَ للناسِ ، فصوموا لرؤيتِه ، وأَفطِروا لرؤيتِه ، فإن غُمَّ عليكم فعُدُّوا ثلاثين يومًا"الراوي : عبدالله بن عمر وطلق بن علي - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح الجامع- الصفحة أو الرقم : 3093 - خلاصة حكم المحدث : صحيح.

"يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ " والسؤال الذي نحن بصدده يعالج قضية كونية. وعندما يسأل المسلمون عن قضية كونية فذلك دليل على أنهم التفتوا إلى كون الله التفاتًا شرعيًا آخر، لقد وجدوا الشمس تشرق كل يوم ولا تتغير، أما القمر الذي يظهر في الليل فهو الذي يتغير، إنه يبدأ في أول الشهر هلالًا صغيرًا ثم يكبر حتى يصبح بدرًا، وبعد ذلك يبدأ في التناقص حتى يعود إلى ما كان عليه، لقد لفت نظرهم ما يحدث للقمر ولا يحدث من الشمس، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم.

قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ  : أي قل لهم يا محمد – صلى الله عليه وسلم - إن الله - تعالى - قد خلقها ليضبط بها  النَّاسُ شوؤنَهم المؤقَّتة بأوقاتٍ كصومهم ، وزكاتهم ، وحجهم ، وعدة نسائهم ، ومدد حملهن ، ومدة الرضاع ، وغير ذلك مما يتعلق بأمور معاشهم . والتوقيت بالأهلة يسهل على العالِم بالحساب والجاهل به، وعلى أهل البدو والحضر.

وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا  وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ:

"سَمِعْتُ البَرَاءَ رَضيَ اللهُ عنه يقولُ: نَزَلَتْ هذِه الآيَةُ فِينَا؛ كَانَتِ الأنْصَارُ إذَا حَجُّوا فَجَاؤُوا، لَمْ يَدْخُلُوا مِن قِبَلِ أبْوَابِ بُيُوتِهِمْ، ولَكِنْ مِن ظُهُورِهَا، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَدَخَلَ مِن قِبَلِ بَابِهِ، فَكَأنَّهُ عُيِّرَ بذلكَ، فَنَزَلَتْ"وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا"البقرة: 189.الراوي : البراء بن عازب - صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم : 1803.

الشرح: مِن حِكمةِ اللهِ تعالَى أنَّه لم يُنزِلِ القُرآنَ الكريمَ جُملةً واحدةً، بلْ أنْزَلَه مُفرَّقًا وَفْقَ التَّدرُّجِ الذي أرادهُ اللهُ في بِناءِ وتَربيةِ المجتمَعِ المُسلِمِ الوليدِ، ونزَلَ مُعالِجًا للعاداتِ الخاطئةِ، وما يَطرَأُ مِن مُشكِلاتٍ، وما يَستجِدُّ مِن أحداثٍ.

وفي هذا الحديثِ يَرْوي البَراءُ بنُ عازبٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ الأنصارَ كانوا قبْلَ الإسلامِ إذا رَجَعوا مِنَ الحجِّ أو العُمرةِ لا يَدخُلونَ بُيوتَهم مِن أبوابِها، بلْ يَدخُلونَ مِن ظُهورِها -وكذلك كان يَفعَلُ كَثيرٌ مِن العرَبِ- فكانوا يَتسلَّقون جُدرانَ بُيوتِهم منَ الخَلْفِ، أو يَفتحونَ فَتحةً في الجِدارِ ويَدخُلونَ منها، وكانوا يَرَوْنَ مُخالَفَةَ ذلك عَيبًا كَبيرًا، ويَرْوَن فِعلَ ذلك هو البِرَّ والتَّقوى، فلمَّا جاء الإسلامُ دَخَلَ رجُلٌ منَ الأنصارِ مِن بابِ بَيتِه، فعَيَّروه بذلك، فأنْزَلَ اللهُ تعالَى قَولَه"وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا"البقرة: 189، فأخْبَرَهم اللهُ تعالَى أنَّ هذا العَملَ مع اعتِقادِه قُربةً، ليس مِن الخيرِ في شَيءٍ، بلْ إنَّ البِرَّ الحقيقيَّ هو أنَّ يَتَّقيَ العبدُ ربَّه عزَّ وجلَّ؛ بامتثالِ أوامرِه، واجتنابِ نَواهِيه، لا التعبُّدُ بما لم يَشْرَعْه اللهُ جلَّ وعلا؛ ولذا أمَرَ بإتيانِ البيوتِ مِن أبوابِها، كما هو الأصلُ الَّذي جَرَتْ به العادةُ؛ إذ لا دَليلَ يَمنَعُ مِن ذلك وقْتَ الإحرامِ، فتَرَكَ النَّاسُ هذه العادةَ وصاروا يَدخلونَ بُيُوتَهم مِن أبوابِها.

وفي الحديثِ: أنَّ العاداتِ لا تَجعَلُ غيرَ المَشروعِ مَشروعًا.

وفيه: أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالَى إذا نَهَى عن شَيءٍ فتَح لعِبادِه مِن المأذونِ ما يَقومُ مقامَه؛ فإنَّه لَمَّا نَفى أنْ يكونَ إتيانُ البُيوتِ مِن ظُهورِها مِن البِرِّ، بيَّن ما يَقومُ مَقامَه.الدرر السنية.

وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ: أمرهم سبحانه أن يلتزموا بالتَّقوى؛ بفعلهم المأمورَ، وتركِهم المنهيَّ عنه، رجاء أنْ يصِلوا بتقواهم تلك إلى الظَّفَر بما يطلُبون – الجنة: رزقنا الله وإياكم الفلاح ودخول الجنة -، والنَّجاةِ ممَّا يحذَرون- النار :أعاذنا الله وإياكم منها-.

"وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا  إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ"190.

بعد أن ذكر في الآية السابقة أن الأهلة مواقيت للناس في عبادتهم ومعاملاتهم ولا سيما الحج، فهو يكون في أشهر هلالية خاصة كان القتال فيها محرمًا في الجاهلية ،بَيَّنَ هنا أنه لا حرج عليكم في القتال في هذه الأشهر دفاعًا عن دينكم ولإعلاء كلمة الحق ، وتربية لمن يفتنكم عن دينكم، وينكث العهد ،لا لحظوظ النفس وشهواتها وحبّ سفك الدماء.

وَلَا تَعْتَدُوا  إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ: أي ولا تعتدوا بالقتال فتبدءوهم به، ولا في القتال فتقتلوا من لا يقاتل من النساء والصبيان والشيوخ والمرضى، ولا من ألقى إليكم السلم وكفّ عن حربكم، ولا بغير ذلك من أنواع الاعتداء كالتخريب وقطع الأشجار، فإنّ الاعتداء من السيئات التي يكرهها الله تعالى، ولا سيما حين الإحرام وفي أرض الحرم وفي الأشهر الحرم.تفسير المراغي.

ومن الاعتداء, مقاتلة من تقبل منهم الجزية إذا بذلوها, فإن ذلك لا يجوز.تفسير السعدي.

"وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ  وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ  وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ  كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ"191.

والمعنى: عليكم أيها المسلمون أن تقتلوا هؤلاء الذين أذنا لكم بقتالهم حيث وجدتموهم وظفرتم بهم، فإنهم قد بادءوكم بالعدوان، وتمنوا لكم كل شر وسوء.فهذا أمر بقتالهم، أينما وجدوا في كل وقت، وفي كل زمان قتال مدافعة، وقتال مهاجمة .

ولما كان القتال عند المسجد الحرام، يتوهم أنه مفسدة في هذا البلد الحرام، أخبر تعالى أن المفسدة بالفتنة عنده بالشرك، والصد عن دينه، أشد من مفسدة القتل، فليس عليكم - أيها المسلمون - حرج في قتالهم. ويستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة، وهي: أنه يرتكب أخف المفسدتين، لدفع أعلاهما.

ثم استثنى من هذا العموم قتالهم في المسجد الحرام قتال مهاجمة.فقال سبحانه " وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ"أي إن من دخل منهم المسجد الحرام يكون آمنا إلا أن يقاتِل هو فيه وينتهك حرمته، فلا أمان له حينئذ. وأنه لا يجوز قتالهم في المسجد الحرام  إلا أن يبدأوا بالقتال، فالبادئ هو الظالم، والمدافع غير آثم.فإنهم يُقاتلون جزاء لهم على اعتدائهم، وهذا مستمر في كل وقت، حتى ينتهوا عن كفرهم فيسلموا، فإن الله يتوب عليهم، ولو حصل منهم ما حصل من الكفر بالله، والشرك في المسجد الحرام، وصد الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عنه وهذا من رحمته وكرمه بعباده.

ولم يقل- سبحانه- فإن قاتلوكم فقاتلوهم، وإنما قال فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ تبشيرًا للمؤمنين بالغلبة عليهم، وإشعارًا بأن هؤلاء المشركين من الخذلان والضعف بحالة أمر الله المؤمنين معها بقتلهم لا بقتالهم فهم لضعفهم لا يحتاجون من المؤمنين إلا إلى القتل.

 كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ : تذييل لما قبله. واسم الإشارة ذلك يعود إلى قتل المقاتلين أينما وجدوا.   

والجزاء: ما يقع في مقابلة الإحسان أو الإساءة، فيطلق على ما يثاب به المحسن، وعلى ما يعاقب به المسيء. والمراد به في الآية العقاب.

أى: مثل هذا الجزاء العادل من القتل والردع يجازي الله الكافرين الذين قاتلوا المؤمنين وأخرجوهم من ديارهم.الوسيط.

"فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ "192.

أي: فإن انتهوا عن الكفر وعن مقاتلتكم فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم فإن الله غفور رحيم. وكل من تاب من كفر أو معصية فشأن الله معه أن يغفر له ويرحمه. ونظير هذه الآية قوله- تعالى"قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ"الأنفال:38.

"وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ  فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ "193.

ثم ذكر تعالى المقصود من القتال في سبيله، وأنه ليس المقصود به، سفك دماء الكفار، وأخذ أموالهم، ولكن المقصود به أن " ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ " فيظهر دين الله تعالى، على سائر الأديان، ويدفع كل ما يعارضه، من الشرك وغيره، وهو المراد بالفتنة، فإذا حصل هذا المقصود، فلا قتل ولا قتال. والدين في اللغة: العادة والطاعة ثم استعمل فيما يتعبد به الله- تعالى- سواء أكان ما تعبد به صحيحا أم باطلا.

والمراد هنا: الدين الصحيح الذي شرعه الله لعباده على لسان نبيهم محمد صلّى الله عليه وسلّم ليتوصلوا به إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل. وقد تحقق ذلك – أي تحقق ظهور دين الله - بالقتال الذي دار بين المسلمين والمشركين في أكثر من عشرين غزوة قادها النبي صلّى الله عليه وسلّم بنفسه، وفي أكثر من أربعين سرية بعث فيها أصحابه، وكانت ثمار هذه المعارك أن انتصر الحق وزهق الباطل. وقبل أن يلتحق النبي صلّى الله عليه وسلّم بالرفيق الأعلى كان الدين الظاهر في جزيرة العرب هو دين الإسلام الذي جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم.

  فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ :أي: فلا قتل إلا على الذين لا ينتهون عن الكفر، فإنهم بإصرارهم على كفرهم ظالمون لأنفسهم. فمن ظلم منهم، فإنه يستحق المعاقبة، بقدر ظلمه.لأن العقوبة والعدوان إنما تكون على الظالمين تأديبا لهم، ليرجعوا عن ظلمهم وغيهم.

"الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ  فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ  وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ"194.

الآية فيها بيان للحكمة في إباحة القتال في الأشهر الحرم، وإيذان بأن مراعاة حرمة الشهر الحرام إنما هي واجبة في حق من يصون حرمته، أما من هتكها فقد صار بسبب انتهاكه لحرمة الشهر الحرام محلا للقصاص والمعاقبة في الشهر وفي غيره.

وسمي الشهر الحرام لأنه يحرم فيه ما يحل في غيره من القتال ونحوه. والأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب.قال- تعالى"إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ  فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ  وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً  وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ".التوبة :36.

قال صلى الله عليه وسلم "الزَّمانُ قَدِ اسْتَدارَ كَهَيْئَةِ يَومَ خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ؛ السَّنَةُ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثَةٌ مُتَوالِياتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وذُو الحِجَّةِ، والمُحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الذي بيْنَ جُمادَى وشَعْبانَ، ..." الراوي : أبو بكرة نفيع بن الحارث -صحيح البخاري.

وقوله: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ متضمن لإقامة الحجة على الحكم السابق والحرمات: جمع حرمة، وهي ما يحفظ ويرعى ولا ينتهك.

والقصاص: المساواة. أي، وكل حرمة يجري فيها القصاص. فمن هتك أية حرمة اقتص منه بأن تهتك له حرمة.

والمراد: أن المشركين إذا أقدموا على مقاتلتكم- أيها المؤمنون- في الحرم أو في الشهر الحرام، فقاتلوهم أنتم أيضًا على سبيل القصاص والمجازاة بالمثل، حتى لا يتخذوا الأشهر الحرم ذريعة للغدر والإضرار بكم.

ثم أكد- سبحانه- هذا المعنى بقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ.

أي: فمن اعتدى عليكم وظلمكم فجازوه باعتدائه وقابلوه بمثل ما اعتدى عليكم دون حيف أو تجاوز للحد الذي أباحه الله لكم. إن الاعتداء المحظور ما كان ابتداء، أما ما كان على سبيل القصاص فهو اعتداء مأذون فيه.وسمي جزاء الاعتداء اعتداء على سبيل المشاكلة. وفي الآية إيماء إلى أن قتال الأعداء كقتال المجرمين بلا هوادة ولا تقصير، فمن يقاتل بالقذائف النارية أو بالمدافع أو بالغازات السامة يقاتل بمثلها حتى يمتنع عن الظلم والعدوان، والفتنة والاضطهاد، ويوجد الأمان والاطمئنان بين الناس.تفسير المراغي.

قال الآلوسى: واستدل الشافعي بالآية على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد أو خنق أو حرق أو تجويع أو تغريق. حتى لو ألقاه في ماء عذب لم يلق في ماء مالح. واستدل بها أيضًا على أن من غصب شيئًا وأتلفه لزمه رد مثله، ثم إن المثل قد يكون من طريق الصورة- كما في ذوات الأمثال- وقد يكون من طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له .

ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بالأمر بالتقوى والخشية منه فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.أي: اتقوا الله وراقبوه في الانتصار لأنفسكم، وترك الاعتداء فيما لم يرخص لكم فيه، واعلموا أن الله مع المتقين الذين يمتثلون أمره ويجتنبون نهيه بالمعونة والتأييد، والنصر والتمكين، والغلبة لهم على أعدائهم تأييدًا لدينه وإعلاء لكلمته

.الوسيط. والمراغي.

 "وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا  إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" 195.

أي أنفقوا في الجهاد ، وابذلوا المال في وسائل الدفاع عن بيضة الدين ، فاشتروا السلاح والكراع وعُدد الحرب التي لعدوكم مثلها إن لم تزيدوا عليه حتى لا يكون له الغلبة عليكم ، فالجهاد في سبيل الله لا يقوم إلا على ساق النفقة، فالنفقة له كالروح، لا يمكن وجوده بدونها، وفي ترك الإنفاق في سبيل الله، إبطال للجهاد، وتسليط للأعداء، وشدة تكالبهم. وإلى هذا أشار بقوله تعالى:

وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ: أي إنكم إن لم تبذلوا في سبيل الله وتأييد دينه كل ما تستطيعون من مال وإعداد للعدّة فقد أهلكتم أنفسكم. وكلمة " ألقى " تفيد أن هناك شيئا عاليًا وشيئًا أسفل منه، فكأن الله يقول: لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، وهل سيلقي الواحد منا نفسه إلى التهلكة، أو أن يلقي نفسه في التهلكة بين عدوه؟ لا، إن اليد المغلولة عن الإنفاق في سبيل الله هي التي تُلقي بصاحبها إلى التهلكة؛ لأنه إن امتنع عن ذلك اجترأ العدو عليه، وما دام العدو قد اجترأ على المؤمنين فسوف يفتنهم في دينهم، وإذا فتنهم في دينهم فقد هلكوا. إذن فالاستعداد للحرب أنفى للحرب، وعندما يراك العدو قويًا فهو يهابك ويتراجع عن قتالك.    

وَأَحْسِنُوا  إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ: والإحسان كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن تعبد الله ـ أي تطيع أوامره ـ كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك لحديث جبريل الطويل " .... قالَ: ما الإحْسَانُ؟ قالَ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ،.....".صحيح البخاري.

فنهايةُ مَقامِ الإحسانِ: أنْ يَعبُدَ المؤمِنُ ربَّه كأنَّه يَراه بقلْبِه، فيكونَ مُستحضِرًا ببَصيرتِه وفِكرتِه لهذا المَقامِ، فإنْ عجَزَ عنه وشقَّ عليه انتقَلَ إلى مَقامٍ آخَرَ؛ وهو أنْ يَعبُدَ اللهَ على أنَّ اللهَ يَراهُ ويطَّلِعُ على سِرِّه وعَلانيتِه، ولا يَخفى عليه شَيءٌ مِن أمرِه. الدرر السنية.

- فالمسلم حال إنفاقه في سبيل الله يحرص أن يبلغ مقام الإحسان هذا . ودائرة الإحسان لا تقتصر على القتال فقط، للقاعدة الأصولية : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .فالأمر هنا عام، وهذا تحفيز للإحسان في كل شيء.فكل زاوية من زوايا الدين جاءت لتخدم كل جزئيات الحياة، فالإحسان إذا كان بالمال فهذا يقتضي أن يحسن الإنسان الحركة في الأرض، ويعمل عملاً يكفيه ويكفي من يعول، ثم يفيض لديه ما يحسن به.إذا لم يتوافر المال، فعليك أن تُحسن بجاهك وتشفع لغيرك، والجاه قد قومه الإسلام أي جعل له قيمة، فعلى صاحب الجاه أن يشفع بجاهه ليساعد أصحاب الحقوق في الحصول على حقوقهم، وعلى الوجيه أيضًا أن يأخذ الضعيف في جواره ويحميه من عسف وظلم القوي، وعليه بجاهه أن يقيم العدل في البيئة التي يعيش فيها. ولم يشهد التاريخ أمة قوية رحيمة بالضعفاء في فتوحها كالأمة الإسلامية.

إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ :تذييلٌ للترغيب في الإحسان؛ لأنَّ محبة الله عبدَه غايةُ ما يطلبه الناس؛ إذ محبَّة اللهِ العبدَ سببُ الصلاحِ والخيرِ دُنيا وآخِرة، واللام للاستغراق العُرفي، والمراد المحسنون من المؤمنين.موسوعة التفسير،بالدرر السنية.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق