إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
فقـد مــرت علينـا خيـر أيـام الدهـر ( العشـر مـن ذي الحجـة ) ، وهـا نحـن نقتـرب مـن شــهر الله المحـرم .
لله دَرَّ هـذا الشـهر العظيـم الـذي يحـوي يومًـا عظيمًـا ؛ كـم فيـه مـن الـدروس والعبـر تسـتحق أن يكـون لكـل مسـلم معهـا وقفـات وعظـات !
نسأل الله أن يهله علينا باليمن أي بالبركـة والإيمان والسلامة والعافية
الاســـتقامةسـبق التنبيـه علـى حرمـة شـهر الله المحـرم وتحريـم الظلـم فيـه وفـي ســائر الأشـهر الحـرم وتحريـم الظلـم يسـتلزم الاسـتقامة فمـن ظلـم النفـس معصيـة الله
قـال سـبحانه وتعالـى :{ إِنَّ الَّذِيـنَ قَالُـوا رَبُّنَـا اللهُ ثُـمَّ اسْـتَقَامُوا فَـلا خَـوْفٌ عَلَيْهِـمْ وَلاَ هُـمْ يَحْزَنُـونَ * أُوْلَئِـكَ أَصْحَـابُ الْجَنَّـةِ خَالِدِيـنَ فِيهَـا جَـزَاء بِمَـا كَانُـوا يَعْمَلُـونَ } . سورة الأحقاف / آية : 13 ، 14 .
قـال الشـيخ / عبـد الرحمـن السـعدي فـي تفسـيره أي : إن الذيـن أقـروا بربهـم وشـهدوا لـه بالوحدانيـة والتزمـوا طاعتـه وداومـوا علـى ذلـك ، و " اسْـتَقَامُوا " مـدة حياتهـم " فَـلا خَـوْفٌ عَلَيْهِـمْ " مـن كـل شـر أمامهـم ، " وَلاَ هُـمْ يَحْزَنُـونَ " علـى مـا خلفـوا وراءهـم ." أُوْلَئِـكَ أَصْحَـابُ الْجَنَّـةِ " أي : أهلهـا الملازمـون لها الذيـن لا يبغـون عنهـا حـولاً ولا يريـدون بهـا بـدلاً " خَالِدِيـنَ فِيهَـا جَـزَاء بِمَـا كَانُـوا يَعْمَلُـونَ " مـن الإيمـان بالله المقتضـي للأعمـال الصالحـة التـي اسـتقاموا عليهـا . ا . هـ .
وقـال ابـن القيـم ـ رحمه الله ـ فـي مـدارج السـالكين :الاسـتقامة : " كلمـة جامعـة آخـذة بمجامـع الديـن وهـي القيـام بيـن يـدي الله علـى حقيقـة الصـدق والوفـاء بالعهـد .. وهـي تتعلـق بالأقـوال والأفعـال والأحـوال والنيـات " . ا . هـ
لمــاذا ســمي المحـــرم بهــذا الاســم ؟
** موقـع شـهر الله بيـن الشـهور العربيـة ! المُحَـرِّم أو شـهر الله المحـرم ، هـو الشـهر الأول مـن السـنة القمريـة أو التقويـم الهجـري فأشـهر السـنة الهجريـة هـي :
المحــرم / صفــر / ربيــع أول / ربيــع ثــان / جمــادى الأولــى / جمــادى الثانيــة /
رجــب / شـعبان / رمضــان / شــوال / ذو القعــدة / ذو الحجـــة .
منهـا أربعـة حـرم :
" المحــرم / رجــب / ذو القعــدة / ذو الحجـــة " .
هــل شــهر الله المحــرم هـو تاريــخ الهجــرة الفعلــي ؟
التقويــم الهجــري بـدأ فـي عهـد عمـر بـن الخطـاب ـ رضي الله عنه ـ وليـس فـي عهـد الرسـول ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وكـان ذلـك سـنة سـبع عشـرة ـ وقيـل : سـنة سـت عشـرة ـ هجريـة .
والسـنة كانـت معروفـة عنـد النـاس يعنـي يقولـون ، ولـد رسـول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عـام الفيـل ، ولـم يكـن للسـنة رقـم . وكذلـك كانـت الشـهور معروفـة .
لمـا اتسـعت رقعـة الدولـة الإسـلامية احتيـج لتقويـم لمعرفـة تواريـخ الأوامـر والقـرارات والأسـبق منهـا وَذَكَـرُوا فـي سَـبب عَمَـل عمـر التاريـخ أشـياء .
رُفِـعَ لعمـر صَـكَّ مَحِلّـه شـعبان فقـال :
أيّ شـعبان ؛ الماضـي أو الـذي نحـن فيـه ، أوالآتـي ؟ ضعـوا للنـاس شـيئًا يعرفونـه ،
وأن أبـا موسـى كتـب إلـى عمـر : إنـه يأتينـا منـك كُتُـب ليـس لهـا تاريـخ ... فشـاور عمـر أصحابـه واسـتقرت المشـورة علـى أن يبـدأ التقويـم مـن السـنة التـي هاجـر فيهـا الرسـول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فجعلوهـا سـنة ( 1 ) ، واختـاروا سـنة الهجـرة لتكـون بدايـة للتقويـم فقـط فالتقويـم الهجـري أمـر إداري بحـت لتنظيـم الرسـائل وأمـور الدولـة الإسـلامية .
حكـم الاحتفــال بـرأس الســنة الهجريـة
مـن محدثـات المتأخريـن ؛ وأنـه لـم يُؤْثَـر عـن النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا عـن أحـدٍ مـن أصحابـه ـ رضوان الله عليهم ـ ولا عـن السَّـلف الصَّالـح مـن التابعيـن وتابعيهـم وأعـلام الأمـة وعلمائِهـا من الأئمـةِ الأربعـةِ وغيرهـم ـ رحمة الله عليهم ـ ، لم يُؤْثَـر عنهـم قـط أنهم احتفلـوا به.
حكـــم التهنئــة بالعــام الهجــريالجديــد
التهنئـة بالعـام الهجـري الجديـد لا معنـى لهـا أصـلاً إذ الأصـل فـي معنـى التهنئـة تجـدد نعمـة أو دفـع نقمـة ، فـأي نعمـة حصلـت بانتهـاء عـام هجـري ؟ والأولـى هـو الاعتبـار بذهـاب الأعمـار ونقـص الآجـال ، ومـن العجـب أن يهنـئ المسـلمون بعضهـم بعضًـا بالعـام المنصـرم وقـد احتـل العـدو فيـه أراضيهـم وقتـل إخوانهـم ونهـب ثرواتهـم فبـأي شـيء يهنئـون أنفسـهم ؟ !
وعليـه فالقـول بالمنـع أولـى وأحـرى ،
أهميـــة التقويــم الهجــري فـي حيــاة المســلم
أيهـا المسـلمون، إن التأريـخ وإن التقويـم شـعارُ الأمـة ، فـإذا تناسـت الأمـة هـذا الشـعار فهـو تنـاسٍ لشـخصيتها ومقوّماتهـا التاريخيـة .العثيمين
جعل الله هذه الشهور الهلالية مواقيت للناس، لأنها علامات محسوسة يعرف كل أحد بدايتها ونهايتها، ومما يؤسف عليه أن كثيراً من المسلمين تركوا التاريخ الهجري، وأخذوا بتاريخ النصارى الميلادي، المبني على أشهر وهمية غير مبنية على مشروع ولا معقول ولا محسوس. وهذا دليل الضعف والانهزامية والتبعية لغير المسلمين، ومن مفاسده: ربط المسلمين وناشئتهم بتاريخ النصارى، وإبعادهم عن تاريخهم الهجري الذي ارتبط برسولهم -صلى الله عليه وسلم- وبشعائر دينهم وعبادتهم. فالله المستعان.
شبكة السنة النبوية وعلومها
مـا يُســن فـي شــهر الله المحــرم
يُسـن فـي هـذا الشـهر الإكثـار مـن الصيـام وخاصـة يـوم عاشـوراء .
قـال الإمـام مسـلم فـي صحيحـه :
حدثنـي
قتيبـة بـن سـعيد ٍ ، قـال : حدثنـا أبـو عَوَانَـة ، عـن أبـي بِشْـرٍ
، عـن حُميـد بـن عبـد الرحمـن الحِمْيَـريِّ ، عـن أبـي هريـرة ـ رضي الله عنه ـ قـال : قـال رسُـولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
"أفضـلُ الصيـام بعـدَ رمضـانَ شَـهرُ اللهِ المحَـرَّمُ وأفضَـلُ الصـلاةِ بعـدَ الفريضـةِ صـلاةُ الليـلِ " .
صحيح مسلم / ( 13 ) ـ كتاب : الصيام / ( 38 ) ـ باب : فضل صوم المحرم / حديث رقم : 202 ـ ( 1163 ) / ص : 280 .
قولـه صلـى الله عليـه وسـلم :
" أفضـلُ الصيـام بعـدَ رمضـانَ شَـهرُ اللهِ المحَـرَّمُ " تصريـح بأنـهُ أفضـل الشُّـهور للصـومِ ، وقـد سـبق الجـواب عـن إكثـار النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مِـن صـوم شـعبان دون المحـرم ، وذكرنـا فيـه جوابيـن :
أحدهمـا : لعلَّـهُ علـمَ فضلـهُ فـي آخـر حياتـه ، والثانـي : لعلـهُ كـان يَعـرض فيـه أعـذار ، مَـن سَـفرٍ أو مـرضٍ أو غيرهمـا .
قولـه صلـى الله عليـه وسـلم :
" وأفضَـلُ الصـلاةِ بعـدَ الفريضـةِ صـلاةُ الليـلِ "
فيـه دليـل لِمـا اِتَّفـقَ العُلمـاء عليـه أن تَطـوُّع الليـل أفضـل
مِـن تطـوع النهـار ، وفيـه حُجَّـةٌ لأبـي إسـحاق المَـرْوَزيِّ مِـن
أصحابنـَا ومَـن وافقـهُ أن صـلاة الليـل أفضـل مـن السُّـنن الرَّاتِبـة
، وقـال أكثـر أصحابنـا : الرَّواتِـب أفضـل ، لأنهـا تُشْـبه
الفرائِـض ،
والأوَّل أقـوى وأوفـقُ للحديـث . والله أعلـم .
شرح النووي للحديث بصحيح مسلم .
وللصـوم فضائـل لـو اجتمعـت مـع فضيلـة الزمـان لرجونـا فـوزًا عظيمًـا ، فالصيـام مـن أفضـل الأعمـال .
وقـد اصطفـاه الله تعالـى لنفسـه كمـا فـي الحديـث القدسـي :
* عـن أبـي هريـرة ـ رضي الله عنه ـ قـال : قـال رسـول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " كـل عمـل ابـن آدم يضاعـف الحسـنة عشـر أمثالهـا ؛ إلـى سـبعمائة ضعـف ، قـال الله عـز وجـل : إلا الصـوم فإنـه لـي وأنـا أجـزي بـه ،
يـدَعُ شـهوته وطعامـه مـن أجلـي ، للصائـم فرحتـان ؛ فرحـة عنـد فطـره
، وفرحـة عنـد لقـاء ربـه ، ولخلـوف فيـه أطيـب عنـد الله مـن ريـح
المسـك " .
صحيح مسلم " متون " / ( 13 ) ـ كتاب : الصيام / ( 30 ) ـ باب : فضل الصيام / حديث رقم : 164 ـ ( 1151 ) / ص : 275 .
ألا مــن مشــمر ؟
نسـير
إلـى الآجـال فـي كـل لحظـة وأيامنـا تطـوى وهـنّ مراحـل ترحــل
مـن الدنيــا بــزاد منهـا فعمـرك أيــام وهـنّ قلائــل.
درة مكنونــــة
اقتضـت
حكمـة الله سـبحانه أن يكـون بنـو آدم خطائيـن ، واقتضـت رحمتـه أن
يتيـح لهـم مكفـرات شـتى تغطـي الخطيئـة وتمحـو أثرهـا ، مـن صلـوات
وصدقـات وحـج وعمـرة وغيرهـا مـن الحسـنات :
{ ... إِنَّ الْحَسَـنَاتِ يُذْهِبْـنَ السَّـيِّئَاتِ ... } قـال تعالـى : قـال الترمـذي فـي سـننه :
حدثنـا محمـد بـن بشـار ، قـال : حدثنـا عبـد الرحمـن بـن مهـدي ، قـال : حدثنـا سـفيان ، عـن حبيـب بـن أبـي ثابـت ، عـن ميمـون بـن أبـي شـبيب ، عـن أبـي ذر قـال : قـال لـي رسـول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " اتـق الله حيثمـا كنـت وأتبـع السـيئة الحسـنة تمحهـا وخالـق النـاس بخلـق حسـن " . سنن الترمذي / تحقيق الشيخ الألباني / ( 25 ) ـ كتاب : البر والصلة / ( 55 ) ـ باب :ما جاء في معاشرة الناس / حديث رقم : 1987 / ص : 451 / التحقيق حسن .
والصيـام مـن أعظـم المكفـرات للذنـوب لمـا فيـه مـن تـرك الشـهوات ، ومجاهـدة النفـس وتضييـق مجـاري الشـيطان الـذي يجـري مـن ابـن آدم مجـرى الـدم .
حقيقـــة هــذه النفحـــة
ممـا
يحسـن الإشـارة إليـه أنـه وردت جملـة مـن الأحاديـث الصحيحـة التـي
تُؤكـد اسـتحباب صيـام هـذا اليـوم وأنـه مـر بمراحـل تشـريعية نتعـرف
عليهـا مـن خـلال السـنة النبويـة الصحيحـة .
* قـال البخـاري فـي صحيحـه :
حدثنـا أبـو مَعْمَــرٍ ، قـال : حدثنـا عبـد الـوَارثِ ، قـال : حدثنـا أيُّـوبُ ، قـال : حدثنـا عبـدُ اللهِ بـنُ سـعيدِ بـن جُبَيْـرِ ، عـن أبيـهِ عـن ، ابـن عبـاسِ ـ رضي الله عنهما ـ قـال : قـدِمَ النبـيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينـة فـرأى اليهــودَ تَصُـومُ يـوم عاشـوراءَ فقـال : " مـا هـذا ؟ " قالـوا : هـذا يـومٌ صالــحٌ هـذا يــومٌ نَجَّـى اللهُ بنـي إسـرائِيلَ مـن عدُوِّهِـم فصامـهُ موسـى ، قـال : " فأنـا أَحَـقُّ بموسـى مِنْكُـمْ " فصامـهُ وأمـرَ بصيامـهِ .
حدثنـا أبـو مَعْمَــرٍ ، قـال : حدثنـا عبـد الـوَارثِ ، قـال : حدثنـا أيُّـوبُ ، قـال : حدثنـا عبـدُ اللهِ بـنُ سـعيدِ بـن جُبَيْـرِ ، عـن أبيـهِ عـن ، ابـن عبـاسِ ـ رضي الله عنهما ـ قـال : قـدِمَ النبـيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينـة فـرأى اليهــودَ تَصُـومُ يـوم عاشـوراءَ فقـال : " مـا هـذا ؟ " قالـوا : هـذا يـومٌ صالــحٌ هـذا يــومٌ نَجَّـى اللهُ بنـي إسـرائِيلَ مـن عدُوِّهِـم فصامـهُ موسـى ، قـال : " فأنـا أَحَـقُّ بموسـى مِنْكُـمْ " فصامـهُ وأمـرَ بصيامـهِ .
صحيح البخاري / ( 30 ) ـ كتاب : الصوم / ( 69 ) ـ باب : صيام يوم عاشوراء / حديث رقم : 2 / ص : 225 .
*
عـن أبـي موسـى ـ رضي الله عنه ـ قـال : كـان أهـلُ خَيْبَـرَ
يصُومُـونَ يـومَ عاشُـوراءَ يتَّخِذُونَـهُ عِيـدًا ويُلبِسُـونَ
نِسَـاءَهُم فيـه حُلِيَّهُـم وشـارَتَهُم .
فقـال رسـولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " فصُومُـوهُ أنْتُـمْ " .
صحيح مسلم / ( 13 ) ـ كتاب : الصيام / ( 19 ) ـ باب : صوم يوم عاشوراء / حديث رقم : 130 / ( 1131 ) / ص : 271 .
* وعـن أبـي موسـى ـ رضي الله عنه ـ ، قـال : كـان يـومُ عاشـوراءَ تَعُـدُّهُ اليهُـودُ عِيـدًا . قـال النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " فصُومُـوهُ أنتـم " .
صحيح البخاري / ( 30 ) ـ كتاب : الصوم / ( 69 ) ـ باب : صيام يوم عاشوراء / حديث رقم : 2005 / ص : 225 .
وظاهـر هـذا أن الباعـث علـى الأمـر بصومـه محبـة مخالفـة اليهـود حتـى يصـام مـا يفطـرون فيـه ، لأن يـوم العيـد لا يُصَـام .
فتح الباري : ( 4 / 292 ) .
وهـذا يـدل علـى النهـي عـن اتخـاذه عيـدًا .
لطائف المعرف : ( 124 ) .
مســـتخلص عقـــدي :
كيـف تفاعـل موسـى ـ عليه السلام ـ مـع يـوم نجاتـه .. هـل جعلـه عيـدًا مخترعًـا ولمـاذا صامـه موسـىـ عليه السلام ـ ؟
لتعظيـم اليـوم والذكـرى فـي قلبـه ؟ لا ، لا ، لا
صامـه شـكرًا لله لنجاتـه التـي تقتضـي إعـلاء كلمـة الحـق .
بـل
كـان أهـل الكتـاب يصومونـه ، بـل حتـى قريـش كانـت تصومـه فـي
الجاهليـة ، اليهـود تفاعلـوا مـع هـذه المناسـبة ( نجـاة نبيهـم موسـى
ومـن معـه بجعلـه عيـدًا مخترعًـا ) بالباطـل . ثـم هنـاك مـن يعظـم هـذا
اليـوم لاعتقـادات باطلـة
وعقيـدةُ
أهـل السُّـنَّة والجماعـة وسَـطٌ بيـن الإفـراطِ والتَّفريـط ،
والغلُـوِّ والجَفـاء فـي جميـعِ مسـائل الاعتقـاد ، ولا يثبتـون إلا مـا
ثبـت فـي كتـاب الله أو سـنة رسـول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالسـند
الصحيـح ، ولـم يثبـت شـيء فـي يـوم عاشـوراء فيمـا سـنه رسـول الله ـ
صلى الله عليه وسلم ـ غيـر الصيـام ، شـكرًا لله لأنـه يـوم نجَّـى الله
فيـه نبيـه موسـى ـ عليه السلام ـ والمؤمنيـن معـه ، أغـرق فيـه فرعـون
وحزبـه ؛ وأن صيامـه سُـنة .
*قـال البخـاري فـي صحيحـه :
حدثنـا عَلِـيُّ بـن عبـدِ اللهِ ، قـال : حدثنـا سُـفيانُ ، قـال : حدثنـا أيُّـوبُ السَّـخْتِيَانِيُّ ، عـن ابـن سـعيد بـن جُبيـرِ ، عـن أبيـهِ ، عـن ابـن عبـاسِ ـ رضي الله عنهما ـ أن النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمـا قَـدِمَ المدينـة وجدهُـم يصومـون يومًـا يعنـي عاشـوراء فقالـوا هـذا يـومٌ عظيـم وهـو يـومُ نَجَّـى اللهُ فيـهِ موسـى وأغـرق آل فِرعـونَ فصـام موسـى شُـكرًا للهِ ، فقـال : " أنـا أولـى بموسـى منهُـم فصامَـهُ وأمَـرَ بصيامِـهِ " .
حدثنـا عَلِـيُّ بـن عبـدِ اللهِ ، قـال : حدثنـا سُـفيانُ ، قـال : حدثنـا أيُّـوبُ السَّـخْتِيَانِيُّ ، عـن ابـن سـعيد بـن جُبيـرِ ، عـن أبيـهِ ، عـن ابـن عبـاسِ ـ رضي الله عنهما ـ أن النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمـا قَـدِمَ المدينـة وجدهُـم يصومـون يومًـا يعنـي عاشـوراء فقالـوا هـذا يـومٌ عظيـم وهـو يـومُ نَجَّـى اللهُ فيـهِ موسـى وأغـرق آل فِرعـونَ فصـام موسـى شُـكرًا للهِ ، فقـال : " أنـا أولـى بموسـى منهُـم فصامَـهُ وأمَـرَ بصيامِـهِ " .
صحيح البخاري / ( 60 ) ـ كتاب : أحاديث الأنبياء / ( 23 ) ـ باب : قول الله تعالى " وهل أتاك حديث موسى " " وكلم الله موسى تكليمًا / حديث رقم : 3397 / ص : 401 .
*قـال الإمـام مسـلم في صحيحـه :
وحدثنـا يَحْيَـى بـنُ يَحْيَـى التَّمِيمِـيُّ وقتَيْبَـة بـنُ سَـعيدٍ جَمِيعًـا ، عـن حَمَّــادٍ ، قـال : قـال يَحْيَـى ؛ أخبَرَنـا حَمَّـادُ بـنُ زَيْـدٍ ، عـن غَيْـلاَنَ عـن ، عبـدِ اللهِ بـن مَعْبَـدٍ الزِّمَّانِـيِّ ، عـن أبـي قتـادة رَجُـلٌ أتـى النبـيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقـال كيـف تصـومُ .......
"صيـامُ يـومِ عَرَفـةُ أحْتَسِـبُ علـى اللهِ أن يُكَفِّـرَ السَّـنَة التـي قبلـهُ والسَّـنة التـي بعـدهُ وصيـامُ يـومِ عاشُـوراءَ أحْتَسِـبُ علـى اللهِ أن يُكَفِّـرَ السَّـنة التـي قبلـهُ" .
صحيح مسلم / ( 13 ) ـ كتاب : الصيام / ( 36 ) ـ باب : استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهروصوم يوم عرفة وعاشوراء والإثنين والخميس / حديث رقم : 196 ـ ( 1163 ) / ص : 279 .
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله،
ونشكره ولا نَكْفُره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قاهر
الطغاة والمتجبرين، وناصر أوليائِه، لا حول ولا قوة إلا به، ولا غالب
إلا الله، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم
وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد:
قبـل أن يفـرض صيـام رمضـان قـد كـان الأمـر بصيـام يـوم عاشـوراء علـى الوجـوب والفرضيـة كمـا جـاء فـي صحيـح البخـاري .
إنَّ من القصص العجيب الذي أعاده الله في القرآن وثنَّاه قصة موسى عليه السلام مع فرعون ، لكونها مشتملة على حكم عظيمة وعبر بالغة وعظات مؤثرة ، وفيها نبؤُه سبحانه مع المؤمنين والظالمين بإعزاز المؤمنين ونصرهم وإذلال الكافرين وخذلانهم { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:2-4] .
-قصة موسى عليه السلام تبدأ كما بدأت قصة يوسف عليه الصلاة والسلام .. طفل يولد ويرمى في النهر، ذاك يرمى في البئر وهذا يرمى في النهر-
هـذا يـوم نجـى الله فيـه التوحيـد والطاعـة علـى الاسـتكبار والاسـتعلاء والتجبـر . نجـاة مـن غيـر عُـدة ولا عِـداد ولكـن بتوحيـد رب الأربـاب .
ففـي قصـة موسـى ـ عليه السلام ـ لأبلـغ عبـرة لمـن أراد النجـاة فـي الدنيـا والآخـرة . -
فلما أراد الله جل وعلا إنقاذ هذا الشعب من ظلم فرعون وطغيانه وتكبره وعدوانه أجرى من الأسباب العظيمة ما لم يشعر به فرعون ولا أولياؤه ولا أعداؤه ، حيث أمر سبحانه أمَّ موسى عليه السلام أن تضع وليدها موسى في تابوت مغلق ثم تلقيه في اليم ، ووعدها تبارك وتعالى بحفظه وبشَّرها بأنه سيردُّه إليها وأنه سيكْبرُ ويسْلم من كيدهم ، وأنه سبحانه سيجعله من المرسلين { وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] . ففعلت ما أُمرت به ، وساق الله هذا التابوت وبداخله موسى عليه السلام يتقاذفه الموج إلى أن وصل مكان قريب من فرعون وآله { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}[القصص:8]وفي هذا أن الحذر لا ينفع من القدر ، فإن الذي خاف منه فرعون وقتَّل أبناء بني إسرائيل لأجله قيَّض الله أن ينشأ في بيت فرعون ويتربى تحت يده وعلى نظره وفي كفالته . ومن لطف الله بموسى وأمه أن منعه من قبول الرضاعة من ثدي أي امرأة ، فأخرجوه إلى السوق لعلهم يجدون من يقبل منها الرضاع ، فجاءت أخته وهو بتلك الحال {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12]فاشتملت مقالتها هذه على الترغيب في أهل هذا البيت وبيان ما هم عليه من تمام الحفظ وحسن الكفالة { فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص:13] .ولما بلغ عليه السلام أشده واستوى آتاه الله حُكماً وعلْما ؛ حُكماً يعرف به الأحكام الشرعية والفصل بين الناس، وعلماً كثيرا . ثم جرت أحداث منها قتل موسى عليه السلام للقبطي ، وتشاور ملأ فرعون مع فرعون على قتله واجتمع رأيهم على ذلك ، ويبلغ موسى الخبر فيخرج من مصر { خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21] ودعا الله {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [القصص:21] .وأكرمه الله جل وعلا في رحلته تلك بالتزوج من امرأة صالحة ، ثمَّ إنه سبحانه أكرمه بأعظم كرامة وحباه بأعظم نعمة فجعله من المرسلين { قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144].وأيَّده تبارك وتعالى بالحجج الباهرة والبراهين الظاهرة { اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص:32] . ويأمره تبارك وتعالى بالتوجُّه إلى فرعون لدعوته ، وأمَره أن يقول له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى . ويطلب موسى من الله أن يعينه على ما حمله وأن يسدِّده فيما وكل إليه { قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص:33-34] . فأجابه الله فيما سأل { قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص:35] .ويأتي الأمر الإلهي إلى موسى وأخيه عليهما السلام لإنفاذ هذه المهمة وأداء هذا المطلب العظيم { اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:42-48] . ويتوجَّه موسى وأخوه هارون عليهما السلام بكل شجاعة وقوة وثبات لتبليغ رسالة الله وتنفيذ أمره سبحانه .لقد أرسل الله موسى عليه السلام بالآيات والسلطان المبين إلى فرعون الذي تكبر على الملأ وقال أنا ربكم الأعلى، فجاءه موسى بالآيات البينات ودعاه إلى توحيد رب الأرض والسماوات ، فقال فرعون منكراً وجاحداً : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]فأنكر الرب العظيم الذي قامت بأمره الأرض والسماوات وكان له آية في كل شيء من المخلوقات ،
فأجابه موسى { قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24] . ففي السماوات والأرض وما بينهما من الآيات ما يوجب الإيقان للموقنين
فقال فرعون لمن حوله ساخراً ومستهزئاً بموسى : { أَلَا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25] ، فذكَّره موسى بأصله وأنه مخلوق من العدم وصائر إلى العدم كما عُدم آباؤه الأولون فقال موسى {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء:26] ، وحينئذ بهت فرعون فادَّعى دعوى المكابر المغبون فقال : {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27] ، فطعن بالرسول والمرسِل ، فردَّ عليه موسى ذلك وبيَّن له أن الجنون إنما هو إنكار الخالق العظيم فقال : { قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } [الشعراء:28] . فلما عجز فرعون عن ردِّ الحق لجأ إلى التهديد والتوعد بالسجن فقال : {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29]. وما زال موسى يأتي بالآيات كالشمس وفرعونُ يحاول بكل جهده ودعاياته أن يقضي عليها بالرد والطمس حتى قال لقومه : { يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ}
*
الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
هنا
فلما تمادى قبط مصر على كفرهم وعتوهم وعنادهم متابعة ِلمَلِكِهم الطاغية فرعون ؛ ومخالفة لنبي الله ورسوله وكليمِه موسى بن عمران عليه السلام وأقام الله على أهل مصر الحجج العظيمة القاهرة وأراهم من خوارق العادات ما بهر الأبصار وحير العقول وهم مع ذلك لا يرعوون ولا ينتهون ولا ينزعون ولا يرجعون .
لقد تمادى فرعون في سطوته وجبروته وكفره وطغيانه يفتن قومه عن الدين الحق قال الله تعالى مخبرا عن فرعون وكفى بالله شهيداً "وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ }يونس83 أي جبار عنيد مستعل بغير الحق "وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ" أي في جميع أموره وشئونه وأحواله .
ولما بلغ به الأمر مبلغه حتى اعتبر نفسه إلهاً معبوداً ، وهنا لما يبلغ الكفر مبلغه والطغيان منتهاه ويظن الرسل يأتيهم نصر الله ، ولقد كانت أول معالم ذلك النصر اجتماع موسى عليه السلام بأتباعه يوصيهم ويثبتهم ويرشدهم ،ويربطهم بفاطر الأرض والسماء "وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ" يونس84 ويأتي الجواب مطمئنا ً لموسى عليه السلام ممن تربوا في هذه المدرسة النبوية فقالوا "فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ "يونس85 أمرهم بالتوكل على الله والاستعانة به والالتجاء إليه فأتمَرُوا بذلك ؛فجعل الله لهم مما كانوا فيه فرجا ومخرجا .
ويأتي الثاني من معالم النصر بشرى الله لهم "وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ "يونس87
فقد أوحى الله تعالى إلى نبيه موسى وأخيه هارون عليهما السلام أن يتخذوا لقومهما بيوتاً متميزة فيما بينهم عن بيوت القبط ليكونوا على أهبة في الرحيل إذا أمروا به ليعرف بعضهم بيوت بعض ، وفي هذا العمل تأكيد على مبدأ فعل الأسباب وأنه ينبغي أن يقرن بالتوكل على الله تعالى .
ثم إن الله قد أمرهم "وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً" قيل مساجد وقيل معناه كثرة الصلاة فيها قاله مجاهد وغيره ومعناه على هذا الاستعانة على ما هم فيه من الضر والشدة والضيق بكثرة الصلاة كما قال تعالى "وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ... }البقرة45 وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع للصلاة فالصلاة لها من الآثار الدنيوية والأخروية الشيء الكثير .
وتتالى الأيام وموسى عليه السلام ومن معه يكسوهم الصبر ويحليهم الإيمان بالله والتوكل عليه ويزينهم الصلة بالله والاستعانة بالصلاة ، وهناك في الطرف الآخر فرعون ومن معه في غيهم يعمهون وعن الحق معرضين يعاندون ويتمردون .
وتقرب لحظات النصر ، "وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ "يونس88 إنه دعاء من قلب صادق متوكل على الله ، دعاء لنصرة الحق ودحر الباطل إنها دعوة عظيمة دعا بها كليم الله موسى على عدو الله فرعون غضباً لله عليه لتكبره عن اتباع الحق وصده عن سبيل الله ومعاندته وعتوه وتمرده واستمراره على الباطل ومكابرته الحق الواضح الجلي الحسي والمعنوي والبرهان القطعي وتأتي الإجابة من القريب المجيب سبحانه وتعالى "قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }يونس89 ) [ والتثنية هنا كما قرر أهل العلم لأن هارون عليه السلام كان يؤمِّن على دعاء أخيه فأصبح المؤمِّن بمنزلة الداعي ]
"فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ" ويأتي الإذن من الله لموسى عليه السلام ليسير ومن اتبعه إلى الشام خارجين من مصر ، فلما علم بذهابهم فرعون حنق عليهم كل الحنق واشتد غضبه عليهم وشرع في استحثاث جيشه وجمع جنوده ليلحقوا بموسى عليه السلام ومن معه ، وماأجمل القرآن الكريم وهو يصور لنا هذه الأحداث في منظر بديع وتصوير أخاذ قال الله ومن أصدق من الله قيلاً :وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ{52} فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ{53} إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ{54} وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ{55} وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ{56} فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ{57} وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ{58} كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ{59} فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ{60} الشعراء
قال علماء التفسير : لما ركب فرعون في جنوده طالباً بني إسرائيل كان في جيش كثيف عرمرم حتى قيل كان في خيوله مائة ألف فحل أدهم وكانت عدة جنوده تزيد على ألف ألف وستمائة ألف فالله أعلم .
والمقصود أن فرعون لحقهم بالجنود فادركهم عند شروق الشمس وتراءى الجمعان ولم يبق ثم ريب ولا لبس ، وعاين كل من الفريقين صاحبه وتحققه ورآه ولم يبق إلا المقاتلة والمجادلة والمحاماة فعندها قال أصحاب موسى وهم خائفون "فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ{61}وذلك لأنهم اضطروا في طريقهم إلى البحر فليس لهم طريق ولا محيد إلا سلوكه وخوضه وهذا ما لا يستطيعه أحد ولا يقدر عليه والجبال عن يسرتهم وعن أيمانهم وهي شاهقة منيفة وفرعون قد غالقهم وواجههم وعاينوه في جنوده وجيوشه وعدده وهم منه في غاية الخوف والذعر لمِا قاسوا في سلطانه من الإهانة والمنكر فشكوا إلى نبي الله ما هم فيه مما قد شاهدوه وعاينوه فقال لهم الرسول الصادق المصدوق" قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ{62} ( كَلَّا ) .. يالها من كلمة قوية مدوية ، ثبات وثقة بوعد الله وموعوده ، حتى في أحلك الظروف ولك أن تتخيل الموقف أكثر ، موسى عليه السلام ومن معه محاصرون البحر أمامهم والعدو الحاقد خلفهم ، والوقت يمضي والعدو يقرب من مناله .
فلما تفاقم الأمر وضاق الحال واشتد الأمر واقترب فرعون وجنوده في جدهم وحدهم وحديدهم وغضبهم هناك تنزل الوحي على موسى عليه السلام "فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ{63} نعم لقد تحول البحر إلى يابس حَوَّله منْ يقول للشيء كن فيكون .
فلما آل أمر البحر إلى هذه الحال بإذن الرب العظيم الشديد المحال؛ أمر موسى عليه السلام أن يجوزه ببني إسرائيل فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين مبادرين وقد شاهدوا من الأمر العظيم ما يحير الناظرين ويهدي قلوب المؤمنين فلما جاوزوه وجاوزه وخرج آخرهم منه وانفصلوا عنه كان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه ووفودهم عليه فأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان عليه لئلا يكون لفرعون وجنوده وصول إليه ولا سبيل عليه فأمره القدير ذو الجلال أن يترك البحر على هذه الحال "وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ }الدخان24 أي ساكناً على هيئته لا تغيره عن هذه الصفة ، فلما تركه على هيئته وحالته وانتهى فرعون فرأى ما رأى وعاين ما عاين هاله هذا المنظر العظيم وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك من أن هذا من فعل رب العرش الكريم فأحجم ولم يتقدم وندم في نفسه على خروجه في طلبهم والحالة هذه حيث لا ينفعه الندم لكنه أظهر لجنوده تجلداً وعاملهم معاملة العدا وحملته النفس الكافرة والسجية الفاجرة على أن قال لمن استخفهم فأطاعوه وعلى باطله تابعوه : أنظروا كيف انحسر البحر لي لأدرك عبيدي الآبقين من يدي الخارجين عن طاعتي وجعل يوري في نفسه أن يذهب خلفهم ويرجو أن ينجو وهيهات ويقدم تارة ويحجم فلما رأته الجنود قد سلك البحر اقتحموا وراءه مسرعين فحصلوا في البحر أجمعين حتى هم أولهم بالخروج منه عند ذلك ؛ارتد عليهم البحر كما كان فلم ينج منهم إنسان قال الله تعالى "وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ{65} ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ{66} إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ{67} وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ{68 الشعراء
إن في إنجاء الله لأولياءه فلم يغرق منهم أحد وإغراقه لأعداءه فلم يخلص منهم أحد آية عظيمة وبرهان قاطع على قدرته تعالى العظيمة وصدق رسوله عليه السلام فيما جاء به عن ربه من الشريعة الكريمة والمناهج المستقيمة
ولما رأى فرعون الحقيقة وأدركه الغرق "وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ }يونس90 وهيهات "آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }يونس91 ويأتي الحكم من الله "فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ }يونس92.
وانتهت أحداث ذلك اليوم العظيم – كما سماه رسولنا صلى الله عليه وسلم .
شبكة السنة النبوية وعلومها
حدثنـا عبـد الله بـن محمـد ، قـال : حدثنـا حَبَّـانُ ، قـال حدنـا همـامٌ ، قـال : حدثنـا ثابـتٌ ، قـال : حدثنـا أنـس ، قـال : حدثنـي أبـو بكـرٍ ـ رضي الله عنه ـ قـال كنـتُ مـع النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فـي الغـار ، فرأيـتُ آثـار المشـركين ، قلـتُ : يـا رسـول اللهِ لـو أن أحدهـم رفـع قدمَـهُ رآنـا قـال : " مـا ظنُّـك باثنيـن الله ثالثهـم " .
صحيح البخاري / ( 65 ) ـ كتاب : تفسير القرآن / ( 9 ) ـ باب : قوله :
( ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه ) / حديث رقم : 4663 / ص : 550 .
ومسلم ، كتاب : فضائل الصحابة ، باب : من فضائل أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ ، رقم : ( 2381 ) .
الشــــرح :
قولـه : " مـا ظنُّـك يـا أبـا بكـر باثنيـن الله ثالثهمـا " أي : مـا ظنُّـك ، هـل أحـد يقـدر عليهمـا أو ينالهمـا بسـوء ؟ وهـذه القصـة كانـت حينمـا هاجـر النبــي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مـن مكـة إلـى المدينـة ، وذلـك إن رسـول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمـا جهـر بالدعـوة ، ودعـا النـاس ، وتبعـوه ، وخـاف المشـركون ، وقامـوا ضـد دعوتـه ، وضايقـوه ، أذوه بالقـول وبالفعـل ، فـأذن الله لـه بالهجـرة مـن مكـة إلـى المدينـة ولـم يصحبـه إلا أبـو بكـر ـ رضي الله عنه ـ ، والدليـل ، والخـادم ، فهاجـر بأمـر الله ، وصحبـه أبـو بكـر ـ رضي الله عنه ـ . ولمـا سـمع المشـركون بخروجـه مـن مكـة ، جعلـوا لمـن جـاء بـه مائتـي بعيـر ، ولمـن جـاء بأبـي بكـر مائـة بعيـر ، وصـار النـاس يطلبـون الرجليـن فـي الجبـال ، وفـي الأوديـة وفـي المغـارات ، وفـي كـل مكـان ، حتـى وقفـوا علـى الغـار الـذي فيـه النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبـو بكـر ، وهـو غـار ثـور الـذي اختفيـا فيـه ثـلاث ليـال ، حتـى يبـرد عنهمـا الطلـب ، فقـال أبـو بكـر ـ رضي الله عنه ـ : يـا رسـول الله لـو نظـر أحدهـم إلـى قدميـه لأبصرنـا ، لأننـا فـي الغـار تحتـه ، فقـال : " مـا ظنـك باثنيـن الله ثالثهمـا " وفـي كتـاب الله أنـه قـال :
{ ... لاَ تَحْـزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَـا ... } سورة التوبة / آية 40 ، فيكـون قـال كـلا الأمريـن ، أي : قـال : " مـا ظنـك باثنيـن الله ثالثهمـا " وقـال : { ... لاَ تَحْـزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَـا ... } .
فقولـه : " مـا ظنـك باثنيـن الله ثالثهمـا " يعنـي : هـل أحـد يقـدر عليهمـا بأذيـة أو غيـر ذلـك ؟
والجــواب :
لا أحـد يقـدر ، لأنـه لا مانـع لمـا أعطـى الله ولا معطـي لمـا منـع ، ولا مـذل لمـن أعــز ولا معـز لمـن أذل :
{ قُـلِ اللَّهُـمَّ مَالِـكَ الْمُلْـكِ تُؤْتِـي الْمُلْـكَ مَـن تَشَـاء وَتَنـزِعُ الْمُلْـكَ مِمَّـن تَشَـاء وَتُعِـزُّ مَـن تَشَـاء وَتُـذِلُّ مَـن تَشَـاء بِيَـدِكَ الْخَيْـرُ إِنَّـكَ عَلَـىَ كُـلِّ شَـيْءٍ قَدِيـرٌ } سورة آل عمران / آية : 26 .
وفـي هـذه القصـة : دليـل علـى كمـال توكـل النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علـى ربـه ، وأنـه معتمـد عليـه ، ومفـوض إليـه أمـره ، وهـذا هـو الشـاهد مـن وضـع هـذا الحديـث فـي بـاب اليقيـن والتوكـل ـ فـي ريـاض الصالحيـن ـ . وفيـه دليـل علـى أن قصـة نسـج العنكبـوت غيـر صحيحـة ، فمـا يوجـد فـي بعـض التواريـخ ، أن العنكبـوت نسـجت علـى بـاب الغـار ، وأنـه نبـت فيـه شـجرة ، وأنـه كـان علـى غصنهـا حمامـة ، وأن المشـركين لمـا جـاءوا إلـى الغـار قالـوا هـذا ليـس فيـه أحـد ، فهـذه الحمامـة علـى غصـن شـجرة علـى بابـه ، وهـذه العنكبـوت قـد عشـشـت علـى بابـه ، كـل هـذا لا صحـة لـه ، لأن الـذي منـع المشـركين مـن رؤيـة النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبـه أبـو بكـر ليسـت أمـورًا حسـية ـ تكـون لهـا ولغيرهـا ـ بـل هـي أمـور معنويـة ، وآيـة مـن آيـات الله عـز وجـل ، حجـب الله أبصـار المشـركين عـن رؤيـة الرسـول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وصاحبـه أبـي بكـر ـ رضي الله عنه ـ ، أمـا لـو كـان أمـور حسـية ، مثـل العنكبـوت التـي نسـجت ، والحمامـة ، والشـجرة ، فكلهـا أمــور حسـية ، كـل يختفـي بهـا عـن غيـره ، لكـن الأمـر آيـة مـن آيـات الله عـز وجـل ، فالحاصـل أن مـا يذكـر فـي كتـب التاريـخ فـي هـذا لا صحـة لـه ، بـل الحـق الـذي لا شـك فيـه ، أن الله تعالـى أعمـى أعيـن المشـركين عـن رؤيـة النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبـه ـ رضي الله عنه ـ فـي الغـار . والله الموفـق .
رياض الصالحين / شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين / المجلد الأول / ( 7 ) ـ باب : اليقين والتوكل .
قـال الشـيخ الألبانـي ـ رحمه الله ـ فـي المجلـد الثالـث مـن السـلسـلة الضعيفـة / حديـث رقـم : 1128 :
ليلـة الغـار أمـر الله عـز وجـل شـجرة فخرجـت فـي وجـه النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسـتره وإن الله عـز وجـل لبعـث العنكبـوت فنسـجت مـا بينهمـا فسـترت وجـه النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمـر الله حمامتيـن وحشـيتين فأقبلتـا تدفـان
( وفـي نسـخة : ترفـان ) حتـى وقعتـا بيـن العنكبـوت وبيـن الشـجرة فأقبـل فِتْيَـان قريـش مـن كـل بطـن رجـل معهـم عصيهـم وقسـيهم وهراواتهـم حتـى إذا كانـوا مـن النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علـى قـدر مائتـي ذراع قـال الدليـل : " سـراقة بـن مالـك المدلـج انظـروا هـذا الحجـر ثـم لا أدري أيـن وضـع رجلـه رسـول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقـال الفتيـان إنـك لـم تخطـر منـذ الليلـة أثـره حتـى إذا أصبحنـا قـال انظـروا فـي الغــار فاسـتقدم القــوم حتـى إذا كانـوا علـى خمسـين ذراعًـا نظــر
أولهـم فـإذا الحمامـات فرجـع قالـوا مـا ردك أن تنظـر فـي الغـار قـال رأيـت حمامتيـن وحشـيتين بفـم الغـار فعرفـت أن ليـس فيـه أحـد فسـمعها النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعـرف أن الله عـز وجـل قـد درأ عنهمـا بهمـا فسـمت عليهمـا فأحرزهمـا الله تعالـى بالحـرم فأفرجـا كـل مـا تـرون . ( منكر ) ا . هـ .
قـال الشـيخ الألبانـي : انطلـق النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبـو بكـر إلـى الغـار فدخـلا فيـه فجـاءت العنكبـوت فنسـجت علـى بـاب الغـار ، وجـاءت قريـش يطلبـون النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكانـوا إذا رأوا علـى بـاب الغـار نسـج العنكبـوت قالـوا : لـم يدخلـه أحـد ، وكـان النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائمًـا يصلـي وأبـو بكـر يرتقـب فقـال أبـو بكـر ـ رضي الله عنه ـ للنبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فـداك أبـي وأمـي هـؤلاء قومـك يطلبونـك أمـا والله مـا علـى نفسـي أبكـي ولكـن مخافـة أن أرى فيـك مـا أكـره فقـال النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا تحـزن إن الله معنـا ) ... إسـناده ضعيـف السـلسـلة الضعيفـة / ج : 3 / 1129 ... وأمـر الله حمامتيـن وحشـيتين فأقبلتـا تدفـان ( وفـي نسـخة : ترفـان ) حتـى وقعـا بيـن العنكبـوت وبيـن الشـجرة ... إلخ القصـة .
قال البخاري على راويها : منكر مجهول ، قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية ( 3 / 182 )
هذا حديث غريب جدًا . السلسلة الضعيفة ( 3 / ( 1128 ) .
سُـئل الشـيخ العثيميـن ـ رحمه الله ـ فـي لقـاء البـاب المفتـوح عـدد / 229 :
الســـؤال :
هـل عـش العنكبـوت والحمامتيـن وارد يـوم اختفـى الرسـول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فـي غـار ثـور ؟
الجـــواب :
لا ، يذكـر المؤرخـون : أن النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيـن اختفـى في غـار ثـور عشـشـت عليـه العنكبـوت ووقعـت الحمامـة علـى غصـن شـجرة ، وهـذا كـذب لا صحـة لـه ، ولا فيـه آيـة للرسـول عليـه الصـلاة والسـلام ينقـل ، أي إنسـان تعشـش العنكبـوت وتكـون حولـه حمامـة إذا رآه مـن يـراه يقـول : مـا فـي أحـد ، لكـن الرسـول عليـه الصـلاة والسـلام أعمـى الله أبصارهـم عنـه ولهـذا قـال أبـو بكـر : [ يـا رسـول الله ! لـو نظـر أحدهـم إلـى قدمـه لأبصرنـا ] لأنـه لا يوجـد مانـع ، فالعنكبـوت والحمامـة لا صحـة لذكرهمـا عنـد اختفـاء النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فـي غـار ثـور ، ولهـذا يحتـرم كثيـر مـن النـاس العنكبـوت ، يقـول : لا تقتلهـا ؛ لأنهـا عشـشـت علـى النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فـإذا كـان الـوزعْ يُقتـل ؛ لأنـه كـان ينفـخ فـي النـار علـى إبراهيـم فهـذه تكـرم . فنقـول : لا ، العنكبـوت تقتــل إذا آذت مثـل غيرهـا ، وهـي تـؤذي بعـض الأحيـان تعشـش علـى الكتـب وعلـى الجـدار فَتُقْتَـل ، بـل يوجـد حديـث لكنـه ضعيـف ، فـي الأمـر بقتـل العنكبـوت .
وقـال الشـيخ ابـن عثيميـن ـ رحمه الله ـ أيضًـا :
أود أن أنبـه علـى أنـه يوجـد فـي بعـض الكتـب أن العنكبـوت ضربـت علـى بـاب الغـار نسـيجًا مـن العـش ، وهـذا لا صحـة لـه ، ليـس هنـاك نسـيج مـن العنكبـوت وليـس هنـاك حمامـة علـى شـجرة علـى بـاب الغـار ، إنمـا هـي حمايـة الله ولهـذا قـال أبـو بكـر ـ رضي الله عنه ـ : [ لـو نظـر أحدهـم إلـى قدمـه لأبصرنـا ] ... ولكـن الله أعمـى أبصارهـم فلـم يـروا أحـدًا فـي هـذا الغـار وانصرفـوا عنـه .
اللقاء المفتوح للشيخ العثيمين / ج : 1 / ص : 457 .
وقـال : لهـذا لاشـك أن السـيرة تحتـاج إلـى تحقيـق وتحريـر ليتبيـن الضعيـف منهـا مـن القـوي ... لكـن فـي السـيرة مـا هـو ثابـت فـي البخـاري وهـذا يعتمـد .
اللقاء المفتوح للشيخ العثيمين / ج : 1 / ص : 463 .
أما بعد:
الأمـــر بوجــوب صيــام يــوم عاشــوراء
قبـل أن يفـرض صيـام رمضـان قـد كـان الأمـر بصيـام يـوم عاشـوراء علـى الوجـوب والفرضيـة كمـا جـاء فـي صحيـح البخـاري .
*قـال البخـاري فـي صحيحـه : حدثنـا المَكِّـيُّ ابـنُ إبراهيـمَ ، قـال : حدثنـا يَزيـدُ بـنُ أبـي عُبيـدٍ ، عـن سـلمة بـن الأكْـوعِ ـ رضي الله عنه ـ قـال : أمـرَ النبـيُّ ـ صلى الله عليه وسلم
ـ رجُـلاً مِـن أسـلمَ " أن أذّن فـي النـاس أنَّ مَـن كـان أكـلَ
فليصُـم بقِيَّـة يومـهِ وَمَـن لم يكـن أكـل فليصُـم فإنَّ اليَـومَ
يـومُ عاشـوراءَ " .
صحيح البخاري / ( 30 ) ـ كتاب : الصوم / ( 69 ) ـ باب : صيام يوم عاشوراء / شرح حديث رقم : 2007 / ص : 225 .
واسـتُدِل بهـذا الحديـث علـى أن صيـام عاشـوراء كـان مفترضًـا قبـل أن ينـزل فـرض رمضـان ثـم نسـخ .
قـال ابـن حجـر :
ويؤخـذ
مـن مجمـوع الأحاديـث أنـه كـان واجبًـا لثبـوت الأمـر بصومـه ، ثـم
تأكـد الأمـر بذلـك ثـم زيـادة التأكيـد بالنـداء العـام ثـم زيادتـه
بأمـر مـن أكـل بالإمسـاك . ا . هـ .
فتح الباري بشرح صحيح البخاري / ( 30 ) ـ كتاب : الصوم / ( 69 ) ـ باب : صيام يوم عاشوراء / شرح حديث رقم : 2003 .
*قـال مسـلم فـي صحيحـه
: وحدثنـي محمـد بـنُ حاتِـمِ ، قـال : حدثنـا إسـحقُ بـنُ منصـورِ ،
قـال : حدثنـا إسـرائيلُ عـن منصـور ، عـن إبراهيـمَ ، عـن عَلْقَمَـةَ
قـال : دخـلَ الأشْـعَثُ بـنُ قيـسٍ علـى ابـن مسـعودٍ وهـو يأكـلُ يـومَ عاشـوراءَ فقـال : يـا أبـا عبـدِ الرحمـنِ إنَّ اليـومَ يـومُ عاشـوراءَ . فقـال : قـد كـان يُصـامُ قبـلَ أن يَنْـزِلَ رمضـانُ ، فلمـا نـزل رمضـانُ تُـركَ فـإن كنـتَ مُفْطِـرًا فاطْعَـمْ.
صحيح مسلم / ( 13 ) ـ كتاب : الصيام / ( 19 ) ـ باب : صوم يوم عاشوراء / حديث رقم : 123 ـ ( 1182 ) / ص : 271 .
* * * * *
تحذيـــــر
ــــــــ
علـى
المسـلم أن لا يتكـل علـى صيـام هـذا اليـوم علـى أنـه يُكَفِّـرَ
السَّـنة الَّتـي قبْلَـهُ مـع مقارفتـه للكبائـر إذ الواجـب التوبـة مـن
جميـع الذنـوب كبيرهـا وصغيرهـا ثـم يرجـو أن يُكَفِّـرَ صـوم هـذا
اليـوم السَّـنَة الَّتـي قبلـهُ .
قـال ابـن القيـم ـ رحمه الله تعالى ـ :
" وكاغتـرار
بعضهـم علـى صـوم يـوم عاشـوراء أو يـوم عرفـة حتـى يقـول بعضهـم :
يـوم عاشـوراء يكفـر ذنـوب العـام كلهـا ويبقـى صـوم عرفــة زيـادة فـي
الأجــر ولـم يـدر هـذا المغتـر أن صــوم رمضـان والصلـوات الخمـس
أعظـم وأجـل مـن صيـام يـوم عرفـة ويـوم عاشـوراء وهـي إنمـا تكفــر
مـا بينهمـا إذا اجتنبـت الكبائـر فرمضـان والجمعـة إلـى الجمعـة لا
يقويـا علـى تكفيـر الصغائــر إلا مـع انضمــام تـرك الكبائــر إليهـا
فيقـوى مجمــوع الأمريـن علـى تكفيــر الصغائـر ، فكيـف يكفــر صــوم
تطــوع كـل كبيـرة عملهـا العبــد وهـو مُصــر عليهـا غيــر تائـب
منهـا ، هـذا محـال علـى أنـه لا يمتنـع أن يكـون صـوم يـوم عرفـة
ويـوم عاشـوراء يكفـر لجميـع ذنـوب العـام علـى عمومـه ويكـون مـن
نصـوص الوعــد التـي لهـا شـروط وموانـع ويكـون إصـراره علـى الكبائـر
مانعًـا مـن التكفيــر ، فـإذا لـم يصـر علـى الكبائـر يسـاعد الصـوم
وعـدم الإصـرار وتعاونًـا علـى عمـوم التكفيـر كمـا كـان رمضـان
والصلـوات الخمـس مـع اجتنـاب الكبائـر متسـاعدَين متعاونيـن علـى
تكفيــر الصغائــر ، مـع أنـه سـبحانه قـد قـال { إِن تَجْتَنِبُـواْ كَبَآئِـرَ مَـا تُنْهَـوْنَ عَنْـهُ نُكَفِّـرْ عَنكُـمْ سَـيِّئَاتِكُمْ ... }
فاعلــم أن جعـل الشــيء سـببًا للتكفيــر لا يمنـع أن يتسـاعد هـو
وسـبب آخـر علـى التكفيــر ويكـون التكفيــر مـع اجتمــاع السـببين
أقــوى وأتـم منـه مـع انفــراد أحدهمـا وكلمـا قويـت أسـباب التكفيــر
كـان أقـوى وأتــم وأشـمل "
. ا . هـ . الجواب الكافي / 13 .
. ا . هـ . الجواب الكافي / 13 .
فمـن فضـل الله علينـا أن أعطانـا بصيـام يـوم واحـد تكفيـر ذنـوب سـنة كاملـة ، فهـو سـبحانه ذو الفضـل العظيـم .
فالمعاصـي والذنـوب سـبب مـن أسـباب الـذل والمهانـة ، فكـم تأتـي المعاصـي بتسـلط الأعـداء والـذل والصغـار .
اللهـم انقلنـا مـن ذل المعصيـة إلـى عـز الطاعـة ، برحمتـك يـا أرحـم الراحميـن .
فلكـي
ننتفـع بهـذه النفحـات سـواء فـي عاشـوراء أو أي فضـل لله لابـد مـن
التخليـة قبـل التحليـة أي نخلـي بيننـا وبيـن المعاصـي ونحـن فـي حـال
رجـاء رحمـة الله وعفـوه وفضلـه .
اللهـم
ارزقنـا يقظـة مـن رقـدات الغفلـة ، وارزقنـا الاسـتعداد قبـل النقلـة
، وألهمنـا اغتنـام الزمـان وقـت المهلـة ، ووفقنـا لفعـل الخيـرات ،
وتـرك المنكـرات والفـوز بالرحمـات .
**الآثار النفسية للصوم تتمثل في كونه مدرسة إيمانية عملية تزكي النفس وتمدها بطاقة نفسية كبيرة تقوي صلة الصائم بربه، وتصفي روحه بشكل يجعله طَيِّعاً للخيرـ مُبتعدا عن الشر؛ ذلك أن الإنسان عندما ينوي الصوم يعرف أنه يُقبل على الله بهذه الطاعة التي هي سر خفي بينه وبين مولاه، فيظل نهاره خاشعا موصول القلب بالله سبحانه وتعالى.. ويُقبل بنفس واعية على تلمس أسباب الخير المفضية إلى رضاه وثوابه الجزيل سبحانه. أنه يلتزم العفة في كل شيء لأن صومه يُذكّره دائما برقابة الله عليه، ويدفعه للإقبال علىتنفيذ أوامره والابتعاد عما نهى عنه.
فقد "فرض الله الصيام ليتحرر الإنسان من سلطان غرائزه، وينطلق من سجن جسده، ويتغلب على نزعات شهوته، ويتحكم في مظاهر حيوانيته،"
والصوم هو العبادة التي يتحقق فيها الإخلاص المجرد لله، يستحضر فيه الإنسان الصائم رقابة الله عليه لأنه أمانة بين المخلوق وربه، لا يطلع عليه إلا هو سبحانه. لهذا كان الصوم ثوابُه عظيم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي حكاية عن ربه: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"
عـن أبـي هريـرة ـ رضي الله عنه ـ قـال : قـال رسـول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " كـل عمـل ابـن آدم يضاعـف الحسـنة عشـر أمثالهـا ؛ إلـى سـبعمائة ضعـف ، قـال الله عـز وجـل : إلا الصـوم فإنـه لـي وأنـا أجـزي بـه ، يـدَعُ شـهوته وطعامـه مـن أجلـي ، للصائـم فرحتـان ؛ فرحـة عنـد فطـره ، وفرحـة عنـد لقـاء ربـه ، ولخلـوف فيـه أطيـب عنـد الله مـن ريـح المسـك " . صحيح مسلم " متون " / ( 13 ) ـ كتاب : الصيام / ( 30 ) ـ باب : فضل الصيام / حديث رقم : 164 ـ ( 1151 ) / ص : 275 .
والصوم في الإسلام ليس المقصود منه الجوع والعطش لذاتهما، بل ما يتبع ذلك من كسر للشهوة، وإطفاء لثائرة الغضب والطيش .. إنه وسيلة لغاية أسمى وأكبر هي تقوى الله كما قال سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة183 .
فحقيقة الصيام إذن أنه مدرسة سلوكية تُربي النفوسَ على التقوى وعلى طاعة الله سبحانه، فإذا لم يحصل للصائم شيء من ذلك للن ينفعه صومه .. وإذا وجدتَ صائما لم يرتفع به الصوم عما يُشينه، ولم ينهه عن الابتعاد عن إيذاء الناس بالقول أو بالعمل، فاعلم أنه غير صائم على الحقيقة وأن ليس له من صومه إلا الجوع والعطش، لأن الصوم لم تتشرَّبه نفسُه بعد.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"مَن لَم يدَع قَولَ الزُّورِ والعمَلَ بِه والجَهلَ ، فليسَ للَّهِ حاجَةٌ أن يدَعَ طعامَه وشرابَهُ"الراوي : أبو هريرة - المحدث : البخاري - المصدر : صحيح البخاري-الصفحة أو الرقم: 6057- خلاصة حكم المحدث : [صحيح]- انظر شرح الحديث رقم 15887- الدرر السنية.
معناه: سُقوطُ الأجرِ، وليس مَعناه أن يُؤمَرَ بأن يَدَعَ صِيامَه، وإنَّما مَعناه التَّحذيرُ من قَولِ الزُّورِ أو العَمَلِ به؛ حيثُ إنَّه يكونُ سببًا في نُقصانِ أَجرِ عِبادَةٍ من أفضَلِ العِباداتِ، يَدَعُ الرَّجلُ طعامَه وشرابَه وشَهوتَه؛ ويَنقُصُ ثَوابَه قَولُ الزُّورِ والعَملُ به.
قال الإمام الغزالي عن صوم الصالحين الذي تتحقق فيه ثمرة الصوم المرجوة "إنه كف الجوارح عن الآثام وتمامُه بستة أمور: الأول غض البصر وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يُذم ويُكره .. والثاني: حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفُحش والجفاء والخصومة والمِراء. الثالث: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه لأن كل ما حَرُم قوله حرُم الإصغاء إليه، الرابع: كف بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل عن المكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار .. الخامس: أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ جوفه ... السادس: أن يكون قلبُه بعد الإفطار معلقا مضطربا بين الخوف والرجاء، إذ ليس يدري أيُقبل صومُه فهو من المقربين أو يُرد عليه فهو من الممقوتين" "الصيام فقرٌ إجباري تتساوى فيه جميع طبقات الشعب، ومظهر عملي لوحدة المجتمع الإسلامي يجوع فيه الناس جوعا واحدا ويتألمون ألما واحدا، ومن الآلام المشتركة تنشأ الرحمة، ومن الرحمة تحصل العدالة، مما يُذكر الصائم الغني [بما عليه] من واجبات نحو أخيه الفقير"
منقول بتصرف
**الآثار النفسية للصوم تتمثل في كونه مدرسة إيمانية عملية تزكي النفس وتمدها بطاقة نفسية كبيرة تقوي صلة الصائم بربه، وتصفي روحه بشكل يجعله طَيِّعاً للخيرـ مُبتعدا عن الشر؛ ذلك أن الإنسان عندما ينوي الصوم يعرف أنه يُقبل على الله بهذه الطاعة التي هي سر خفي بينه وبين مولاه، فيظل نهاره خاشعا موصول القلب بالله سبحانه وتعالى.. ويُقبل بنفس واعية على تلمس أسباب الخير المفضية إلى رضاه وثوابه الجزيل سبحانه. أنه يلتزم العفة في كل شيء لأن صومه يُذكّره دائما برقابة الله عليه، ويدفعه للإقبال علىتنفيذ أوامره والابتعاد عما نهى عنه.
فقد "فرض الله الصيام ليتحرر الإنسان من سلطان غرائزه، وينطلق من سجن جسده، ويتغلب على نزعات شهوته، ويتحكم في مظاهر حيوانيته،"
والصوم هو العبادة التي يتحقق فيها الإخلاص المجرد لله، يستحضر فيه الإنسان الصائم رقابة الله عليه لأنه أمانة بين المخلوق وربه، لا يطلع عليه إلا هو سبحانه. لهذا كان الصوم ثوابُه عظيم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي حكاية عن ربه: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"
عـن أبـي هريـرة ـ رضي الله عنه ـ قـال : قـال رسـول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " كـل عمـل ابـن آدم يضاعـف الحسـنة عشـر أمثالهـا ؛ إلـى سـبعمائة ضعـف ، قـال الله عـز وجـل : إلا الصـوم فإنـه لـي وأنـا أجـزي بـه ، يـدَعُ شـهوته وطعامـه مـن أجلـي ، للصائـم فرحتـان ؛ فرحـة عنـد فطـره ، وفرحـة عنـد لقـاء ربـه ، ولخلـوف فيـه أطيـب عنـد الله مـن ريـح المسـك " . صحيح مسلم " متون " / ( 13 ) ـ كتاب : الصيام / ( 30 ) ـ باب : فضل الصيام / حديث رقم : 164 ـ ( 1151 ) / ص : 275 .
والصوم في الإسلام ليس المقصود منه الجوع والعطش لذاتهما، بل ما يتبع ذلك من كسر للشهوة، وإطفاء لثائرة الغضب والطيش .. إنه وسيلة لغاية أسمى وأكبر هي تقوى الله كما قال سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة183 .
فحقيقة الصيام إذن أنه مدرسة سلوكية تُربي النفوسَ على التقوى وعلى طاعة الله سبحانه، فإذا لم يحصل للصائم شيء من ذلك للن ينفعه صومه .. وإذا وجدتَ صائما لم يرتفع به الصوم عما يُشينه، ولم ينهه عن الابتعاد عن إيذاء الناس بالقول أو بالعمل، فاعلم أنه غير صائم على الحقيقة وأن ليس له من صومه إلا الجوع والعطش، لأن الصوم لم تتشرَّبه نفسُه بعد.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"مَن لَم يدَع قَولَ الزُّورِ والعمَلَ بِه والجَهلَ ، فليسَ للَّهِ حاجَةٌ أن يدَعَ طعامَه وشرابَهُ"الراوي : أبو هريرة - المحدث : البخاري - المصدر : صحيح البخاري-الصفحة أو الرقم: 6057- خلاصة حكم المحدث : [صحيح]- انظر شرح الحديث رقم 15887- الدرر السنية.
معناه: سُقوطُ الأجرِ، وليس مَعناه أن يُؤمَرَ بأن يَدَعَ صِيامَه، وإنَّما مَعناه التَّحذيرُ من قَولِ الزُّورِ أو العَمَلِ به؛ حيثُ إنَّه يكونُ سببًا في نُقصانِ أَجرِ عِبادَةٍ من أفضَلِ العِباداتِ، يَدَعُ الرَّجلُ طعامَه وشرابَه وشَهوتَه؛ ويَنقُصُ ثَوابَه قَولُ الزُّورِ والعَملُ به.
قال الإمام الغزالي عن صوم الصالحين الذي تتحقق فيه ثمرة الصوم المرجوة "إنه كف الجوارح عن الآثام وتمامُه بستة أمور: الأول غض البصر وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يُذم ويُكره .. والثاني: حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفُحش والجفاء والخصومة والمِراء. الثالث: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه لأن كل ما حَرُم قوله حرُم الإصغاء إليه، الرابع: كف بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل عن المكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار .. الخامس: أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ جوفه ... السادس: أن يكون قلبُه بعد الإفطار معلقا مضطربا بين الخوف والرجاء، إذ ليس يدري أيُقبل صومُه فهو من المقربين أو يُرد عليه فهو من الممقوتين" "الصيام فقرٌ إجباري تتساوى فيه جميع طبقات الشعب، ومظهر عملي لوحدة المجتمع الإسلامي يجوع فيه الناس جوعا واحدا ويتألمون ألما واحدا، ومن الآلام المشتركة تنشأ الرحمة، ومن الرحمة تحصل العدالة، مما يُذكر الصائم الغني [بما عليه] من واجبات نحو أخيه الفقير"
منقول بتصرف
قصة موسى مع فرعون
إنَّ من القصص العجيب الذي أعاده الله في القرآن وثنَّاه قصة موسى عليه السلام مع فرعون ، لكونها مشتملة على حكم عظيمة وعبر بالغة وعظات مؤثرة ، وفيها نبؤُه سبحانه مع المؤمنين والظالمين بإعزاز المؤمنين ونصرهم وإذلال الكافرين وخذلانهم { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:2-4] .
-قصة موسى عليه السلام تبدأ كما بدأت قصة يوسف عليه الصلاة والسلام .. طفل يولد ويرمى في النهر، ذاك يرمى في البئر وهذا يرمى في النهر-
هـذا يـوم نجـى الله فيـه التوحيـد والطاعـة علـى الاسـتكبار والاسـتعلاء والتجبـر . نجـاة مـن غيـر عُـدة ولا عِـداد ولكـن بتوحيـد رب الأربـاب .
ففـي قصـة موسـى ـ عليه السلام ـ لأبلـغ عبـرة لمـن أراد النجـاة فـي الدنيـا والآخـرة . -
فلما أراد الله جل وعلا إنقاذ هذا الشعب من ظلم فرعون وطغيانه وتكبره وعدوانه أجرى من الأسباب العظيمة ما لم يشعر به فرعون ولا أولياؤه ولا أعداؤه ، حيث أمر سبحانه أمَّ موسى عليه السلام أن تضع وليدها موسى في تابوت مغلق ثم تلقيه في اليم ، ووعدها تبارك وتعالى بحفظه وبشَّرها بأنه سيردُّه إليها وأنه سيكْبرُ ويسْلم من كيدهم ، وأنه سبحانه سيجعله من المرسلين { وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] . ففعلت ما أُمرت به ، وساق الله هذا التابوت وبداخله موسى عليه السلام يتقاذفه الموج إلى أن وصل مكان قريب من فرعون وآله { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}[القصص:8]وفي هذا أن الحذر لا ينفع من القدر ، فإن الذي خاف منه فرعون وقتَّل أبناء بني إسرائيل لأجله قيَّض الله أن ينشأ في بيت فرعون ويتربى تحت يده وعلى نظره وفي كفالته . ومن لطف الله بموسى وأمه أن منعه من قبول الرضاعة من ثدي أي امرأة ، فأخرجوه إلى السوق لعلهم يجدون من يقبل منها الرضاع ، فجاءت أخته وهو بتلك الحال {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12]فاشتملت مقالتها هذه على الترغيب في أهل هذا البيت وبيان ما هم عليه من تمام الحفظ وحسن الكفالة { فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص:13] .ولما بلغ عليه السلام أشده واستوى آتاه الله حُكماً وعلْما ؛ حُكماً يعرف به الأحكام الشرعية والفصل بين الناس، وعلماً كثيرا . ثم جرت أحداث منها قتل موسى عليه السلام للقبطي ، وتشاور ملأ فرعون مع فرعون على قتله واجتمع رأيهم على ذلك ، ويبلغ موسى الخبر فيخرج من مصر { خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21] ودعا الله {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [القصص:21] .وأكرمه الله جل وعلا في رحلته تلك بالتزوج من امرأة صالحة ، ثمَّ إنه سبحانه أكرمه بأعظم كرامة وحباه بأعظم نعمة فجعله من المرسلين { قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144].وأيَّده تبارك وتعالى بالحجج الباهرة والبراهين الظاهرة { اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص:32] . ويأمره تبارك وتعالى بالتوجُّه إلى فرعون لدعوته ، وأمَره أن يقول له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى . ويطلب موسى من الله أن يعينه على ما حمله وأن يسدِّده فيما وكل إليه { قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص:33-34] . فأجابه الله فيما سأل { قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص:35] .ويأتي الأمر الإلهي إلى موسى وأخيه عليهما السلام لإنفاذ هذه المهمة وأداء هذا المطلب العظيم { اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:42-48] . ويتوجَّه موسى وأخوه هارون عليهما السلام بكل شجاعة وقوة وثبات لتبليغ رسالة الله وتنفيذ أمره سبحانه .لقد أرسل الله موسى عليه السلام بالآيات والسلطان المبين إلى فرعون الذي تكبر على الملأ وقال أنا ربكم الأعلى، فجاءه موسى بالآيات البينات ودعاه إلى توحيد رب الأرض والسماوات ، فقال فرعون منكراً وجاحداً : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]فأنكر الرب العظيم الذي قامت بأمره الأرض والسماوات وكان له آية في كل شيء من المخلوقات ،
فأجابه موسى { قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24] . ففي السماوات والأرض وما بينهما من الآيات ما يوجب الإيقان للموقنين
فقال فرعون لمن حوله ساخراً ومستهزئاً بموسى : { أَلَا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25] ، فذكَّره موسى بأصله وأنه مخلوق من العدم وصائر إلى العدم كما عُدم آباؤه الأولون فقال موسى {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء:26] ، وحينئذ بهت فرعون فادَّعى دعوى المكابر المغبون فقال : {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27] ، فطعن بالرسول والمرسِل ، فردَّ عليه موسى ذلك وبيَّن له أن الجنون إنما هو إنكار الخالق العظيم فقال : { قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } [الشعراء:28] . فلما عجز فرعون عن ردِّ الحق لجأ إلى التهديد والتوعد بالسجن فقال : {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29]. وما زال موسى يأتي بالآيات كالشمس وفرعونُ يحاول بكل جهده ودعاياته أن يقضي عليها بالرد والطمس حتى قال لقومه : { يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ}
*
الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
هنا
فلما تمادى قبط مصر على كفرهم وعتوهم وعنادهم متابعة ِلمَلِكِهم الطاغية فرعون ؛ ومخالفة لنبي الله ورسوله وكليمِه موسى بن عمران عليه السلام وأقام الله على أهل مصر الحجج العظيمة القاهرة وأراهم من خوارق العادات ما بهر الأبصار وحير العقول وهم مع ذلك لا يرعوون ولا ينتهون ولا ينزعون ولا يرجعون .
لقد تمادى فرعون في سطوته وجبروته وكفره وطغيانه يفتن قومه عن الدين الحق قال الله تعالى مخبرا عن فرعون وكفى بالله شهيداً "وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ }يونس83 أي جبار عنيد مستعل بغير الحق "وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ" أي في جميع أموره وشئونه وأحواله .
ولما بلغ به الأمر مبلغه حتى اعتبر نفسه إلهاً معبوداً ، وهنا لما يبلغ الكفر مبلغه والطغيان منتهاه ويظن الرسل يأتيهم نصر الله ، ولقد كانت أول معالم ذلك النصر اجتماع موسى عليه السلام بأتباعه يوصيهم ويثبتهم ويرشدهم ،ويربطهم بفاطر الأرض والسماء "وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ" يونس84 ويأتي الجواب مطمئنا ً لموسى عليه السلام ممن تربوا في هذه المدرسة النبوية فقالوا "فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ "يونس85 أمرهم بالتوكل على الله والاستعانة به والالتجاء إليه فأتمَرُوا بذلك ؛فجعل الله لهم مما كانوا فيه فرجا ومخرجا .
ويأتي الثاني من معالم النصر بشرى الله لهم "وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ "يونس87
فقد أوحى الله تعالى إلى نبيه موسى وأخيه هارون عليهما السلام أن يتخذوا لقومهما بيوتاً متميزة فيما بينهم عن بيوت القبط ليكونوا على أهبة في الرحيل إذا أمروا به ليعرف بعضهم بيوت بعض ، وفي هذا العمل تأكيد على مبدأ فعل الأسباب وأنه ينبغي أن يقرن بالتوكل على الله تعالى .
ثم إن الله قد أمرهم "وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً" قيل مساجد وقيل معناه كثرة الصلاة فيها قاله مجاهد وغيره ومعناه على هذا الاستعانة على ما هم فيه من الضر والشدة والضيق بكثرة الصلاة كما قال تعالى "وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ... }البقرة45 وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع للصلاة فالصلاة لها من الآثار الدنيوية والأخروية الشيء الكثير .
وتتالى الأيام وموسى عليه السلام ومن معه يكسوهم الصبر ويحليهم الإيمان بالله والتوكل عليه ويزينهم الصلة بالله والاستعانة بالصلاة ، وهناك في الطرف الآخر فرعون ومن معه في غيهم يعمهون وعن الحق معرضين يعاندون ويتمردون .
وتقرب لحظات النصر ، "وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ "يونس88 إنه دعاء من قلب صادق متوكل على الله ، دعاء لنصرة الحق ودحر الباطل إنها دعوة عظيمة دعا بها كليم الله موسى على عدو الله فرعون غضباً لله عليه لتكبره عن اتباع الحق وصده عن سبيل الله ومعاندته وعتوه وتمرده واستمراره على الباطل ومكابرته الحق الواضح الجلي الحسي والمعنوي والبرهان القطعي وتأتي الإجابة من القريب المجيب سبحانه وتعالى "قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }يونس89 ) [ والتثنية هنا كما قرر أهل العلم لأن هارون عليه السلام كان يؤمِّن على دعاء أخيه فأصبح المؤمِّن بمنزلة الداعي ]
"فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ" ويأتي الإذن من الله لموسى عليه السلام ليسير ومن اتبعه إلى الشام خارجين من مصر ، فلما علم بذهابهم فرعون حنق عليهم كل الحنق واشتد غضبه عليهم وشرع في استحثاث جيشه وجمع جنوده ليلحقوا بموسى عليه السلام ومن معه ، وماأجمل القرآن الكريم وهو يصور لنا هذه الأحداث في منظر بديع وتصوير أخاذ قال الله ومن أصدق من الله قيلاً :وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ{52} فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ{53} إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ{54} وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ{55} وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ{56} فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ{57} وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ{58} كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ{59} فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ{60} الشعراء
قال علماء التفسير : لما ركب فرعون في جنوده طالباً بني إسرائيل كان في جيش كثيف عرمرم حتى قيل كان في خيوله مائة ألف فحل أدهم وكانت عدة جنوده تزيد على ألف ألف وستمائة ألف فالله أعلم .
والمقصود أن فرعون لحقهم بالجنود فادركهم عند شروق الشمس وتراءى الجمعان ولم يبق ثم ريب ولا لبس ، وعاين كل من الفريقين صاحبه وتحققه ورآه ولم يبق إلا المقاتلة والمجادلة والمحاماة فعندها قال أصحاب موسى وهم خائفون "فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ{61}وذلك لأنهم اضطروا في طريقهم إلى البحر فليس لهم طريق ولا محيد إلا سلوكه وخوضه وهذا ما لا يستطيعه أحد ولا يقدر عليه والجبال عن يسرتهم وعن أيمانهم وهي شاهقة منيفة وفرعون قد غالقهم وواجههم وعاينوه في جنوده وجيوشه وعدده وهم منه في غاية الخوف والذعر لمِا قاسوا في سلطانه من الإهانة والمنكر فشكوا إلى نبي الله ما هم فيه مما قد شاهدوه وعاينوه فقال لهم الرسول الصادق المصدوق" قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ{62} ( كَلَّا ) .. يالها من كلمة قوية مدوية ، ثبات وثقة بوعد الله وموعوده ، حتى في أحلك الظروف ولك أن تتخيل الموقف أكثر ، موسى عليه السلام ومن معه محاصرون البحر أمامهم والعدو الحاقد خلفهم ، والوقت يمضي والعدو يقرب من مناله .
فلما تفاقم الأمر وضاق الحال واشتد الأمر واقترب فرعون وجنوده في جدهم وحدهم وحديدهم وغضبهم هناك تنزل الوحي على موسى عليه السلام "فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ{63} نعم لقد تحول البحر إلى يابس حَوَّله منْ يقول للشيء كن فيكون .
فلما آل أمر البحر إلى هذه الحال بإذن الرب العظيم الشديد المحال؛ أمر موسى عليه السلام أن يجوزه ببني إسرائيل فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين مبادرين وقد شاهدوا من الأمر العظيم ما يحير الناظرين ويهدي قلوب المؤمنين فلما جاوزوه وجاوزه وخرج آخرهم منه وانفصلوا عنه كان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه ووفودهم عليه فأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان عليه لئلا يكون لفرعون وجنوده وصول إليه ولا سبيل عليه فأمره القدير ذو الجلال أن يترك البحر على هذه الحال "وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ }الدخان24 أي ساكناً على هيئته لا تغيره عن هذه الصفة ، فلما تركه على هيئته وحالته وانتهى فرعون فرأى ما رأى وعاين ما عاين هاله هذا المنظر العظيم وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك من أن هذا من فعل رب العرش الكريم فأحجم ولم يتقدم وندم في نفسه على خروجه في طلبهم والحالة هذه حيث لا ينفعه الندم لكنه أظهر لجنوده تجلداً وعاملهم معاملة العدا وحملته النفس الكافرة والسجية الفاجرة على أن قال لمن استخفهم فأطاعوه وعلى باطله تابعوه : أنظروا كيف انحسر البحر لي لأدرك عبيدي الآبقين من يدي الخارجين عن طاعتي وجعل يوري في نفسه أن يذهب خلفهم ويرجو أن ينجو وهيهات ويقدم تارة ويحجم فلما رأته الجنود قد سلك البحر اقتحموا وراءه مسرعين فحصلوا في البحر أجمعين حتى هم أولهم بالخروج منه عند ذلك ؛ارتد عليهم البحر كما كان فلم ينج منهم إنسان قال الله تعالى "وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ{65} ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ{66} إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ{67} وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ{68 الشعراء
إن في إنجاء الله لأولياءه فلم يغرق منهم أحد وإغراقه لأعداءه فلم يخلص منهم أحد آية عظيمة وبرهان قاطع على قدرته تعالى العظيمة وصدق رسوله عليه السلام فيما جاء به عن ربه من الشريعة الكريمة والمناهج المستقيمة
ولما رأى فرعون الحقيقة وأدركه الغرق "وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ }يونس90 وهيهات "آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }يونس91 ويأتي الحكم من الله "فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ }يونس92.
وانتهت أحداث ذلك اليوم العظيم – كما سماه رسولنا صلى الله عليه وسلم .
*قـال البخـاري فـي صحيحـه :
حدثنـا عَلِـيُّ بـن عبـدِ اللهِ ، قـال : حدثنـا سُـفيانُ ، قـال : حدثنـا أيُّـوبُ السَّـخْتِيَانِيُّ ، عـن ابـن سـعيد بـن جُبيـرِ ، عـن أبيـهِ ، عـن ابـن عبـاسِ ـ رضي الله عنهما ـ أن النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمـا قَـدِمَ المدينـة وجدهُـم يصومـون يومًـا يعنـي عاشـوراء فقالـوا هـذا يـومٌ عظيـم وهـو يـومُ نَجَّـى اللهُ فيـهِ موسـى وأغـرق آل فِرعـونَ فصـام موسـى شُـكرًا للهِ ، فقـال : " أنـا أولـى بموسـى منهُـم فصامَـهُ وأمَـرَ بصيامِـهِ " .
حدثنـا عَلِـيُّ بـن عبـدِ اللهِ ، قـال : حدثنـا سُـفيانُ ، قـال : حدثنـا أيُّـوبُ السَّـخْتِيَانِيُّ ، عـن ابـن سـعيد بـن جُبيـرِ ، عـن أبيـهِ ، عـن ابـن عبـاسِ ـ رضي الله عنهما ـ أن النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمـا قَـدِمَ المدينـة وجدهُـم يصومـون يومًـا يعنـي عاشـوراء فقالـوا هـذا يـومٌ عظيـم وهـو يـومُ نَجَّـى اللهُ فيـهِ موسـى وأغـرق آل فِرعـونَ فصـام موسـى شُـكرًا للهِ ، فقـال : " أنـا أولـى بموسـى منهُـم فصامَـهُ وأمَـرَ بصيامِـهِ " .
صحيح البخاري / ( 60 ) ـ كتاب : أحاديث الأنبياء / ( 23 ) ـ باب : قول الله تعالى " وهل أتاك حديث موسى " " وكلم الله موسى تكليمًا / حديث رقم : 3397 / ص : 401 .
شبكة السنة النبوية وعلومها
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونتوب
إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نَكْفُره، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، قاهر الطغاة والمتجبرين، وناصر أوليائه، لا حول
ولا قوة إلا به، ولا غالب إلا الله، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله،
صلى الله عليه وسلم وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى
يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى واذكروا أيام الله لعلكم تتذكرون، واذكروا أيام الله بنصر أوليائه لعلكم تشكرون، واذكروا أيام الله بخذلان أعدائه لعلكم تتقون، واذكروا أيام الله إذا نزل للقضاء بين عباده فقضى بينهم بفضله وعدله لعلكم توقنون، إن نصر الله لأوليائه في كل زمان ومكان وأمة هو نصر للحق وذلة للباطل وأخذ للمتكبر ونعمة على المؤمنين إلى قيام الساعة.
قصة موسى عليه السلام تبدأ كما بدأت قصة يوسف عليه الصلاة والسلام .. طفل يولد ويرمى في النهر، ذاك يرمى في البئر وهذا يرمى في النهر،
فلما عجز فرعون عن رد الحق لجأ إلى ما لجأ إليه العاجزون المتكبرون من الإرهاب فتوعد موسى بالاعتقال والسجن وخاب فقال: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29]، ولم يقل لأسجننك ليزيد في إرهاب موسى، وإن لدى فرعون من القوة والسلطان والنفوذ ما مكنه من سجن الناس الذين سيكون موسى من جملتهم على حد تهديده وإرهابه، وما زال موسى يأتي بالآيات كالشمس، وفرعون يحاول بكل مجهوداته ودعاياته أن يقضي عليها بالرد والطمس حتى قال لقومه: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ . أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ . فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ . فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ . فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ . فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمثلاً لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 52- 56].
وكان من قصة إغراقهم أن الله أوحى إلى موسى أن يسري بقومه ليلاً من مصر فاهتم لذلك فرعون اهتماماً عظيماً فأرسل في جميع مدائن مصر أن يحشر الناس للوصول إليه لأمر يريده الله، فجمع فرعون قومه وخرج في إثر موسى متجهين إلى جهة البحر الأحمر: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]؛ البحر من أمامنا فإن خضناه غرقنا، وفرعون وقومه خلفنا فإن وقفنا أدركنا فقال موسى: {كَلاَ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].
فلما بلغ البحر أمره الله أن يضربه بعصاه فضربه فانفلق البحر اثني عشر طريقاً وصار الماء السيال بين هذه الطرق كأطواد الجبال، فلما تكامل موسى وقومه خارجين وتكامل فرعون بجنوده داخلين أمر الله البحر أن يعود إلى حاله فانطبق على فرعون وجنوده فكانوا من المغرقين.
فانظروا رحمكم الله إلى ما في هذه القصة من العبر والآيات كيف كان فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل خوفاً من موسى فتربى موسى في بيته تحت حجر امرأته، وكيف قابل موسى هذا الجبار العنيد مصرحاً معلناً بالحق هاتفاً به ألا إن ربكم هو الله رب العالمين، فأنجاه الله منه، وكيف كان الماء السيال شيئاً جامداً كالجبال بقدرة الله، وكان الطريق يبساً لا وحل فيه في الحال، وكيف أهلك الله هذا الجبار العنيد بمثل ما كان يفتخر به، فقد كان يفتخر بالأنهار التي تجري من تحته فأُهلِك بالماء.
ولا شك أن ظهور آيات الله في مخلوقاته نعمة كبرى يستحق عليها الحمد والشكر، خصوصاً إذا كانت في نصر أولياء الله وحزبه ودحر أعداء الله وحزبه، ولذلك لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون اليوم العاشر من شهر المحرم، ويقولون إنه يوم نجى الله فيه موسى وقومه وأهلك فرعون وقومه فصامه موسى شكراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فنحن أحق بموسى منكم فصامه وأمر الناس بصيامه» (ابن ماجه: 1419، وصححه الألباني).
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيامه فقال: «أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله» (مسلم: 1162). فينبغي للمسلم أن يصوم يوم عاشوراء وكذلك اليوم التاسع لتحصل بذلك مخالفة اليهود التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى واذكروا أيام الله لعلكم تتذكرون، واذكروا أيام الله بنصر أوليائه لعلكم تشكرون، واذكروا أيام الله بخذلان أعدائه لعلكم تتقون، واذكروا أيام الله إذا نزل للقضاء بين عباده فقضى بينهم بفضله وعدله لعلكم توقنون، إن نصر الله لأوليائه في كل زمان ومكان وأمة هو نصر للحق وذلة للباطل وأخذ للمتكبر ونعمة على المؤمنين إلى قيام الساعة.
قصة موسى عليه السلام تبدأ كما بدأت قصة يوسف عليه الصلاة والسلام .. طفل يولد ويرمى في النهر، ذاك يرمى في البئر وهذا يرمى في النهر،
لقد
أرسل الله موسى صلى الله وسلم عليه وعلى نبينا وإخوانهما من النبيين
والمرسلين، أرسله إلى فرعون بالآيات البينات ودعاه إلى توحيد رب الأرض
والسماوات، فقال فرعون منكراً وجاحدا: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] فأنكر الرب العظيم الذي قامت بأمره الأرض والسماوات وكان له آية في كل شيء من المخلوقات فأجابه موسى هو: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}
[الشعراء: 24]، ففي السماوات والأرض وما بينهما من الآيات ما يوجب
الإيقان للموقنين، فقال فرعون لمن حوله ساخراً ومستهزئاً بموسى: {أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 25].
فذكَّرَه موسى بأصله وأنه مخلوق من العدم وصائر إلى العدم كما عدم آباؤه الأولون فقال موسى هو {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 26]، وحينئذ بُهِت فرعون فادعى دعوى المكابر المغبون فقال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] فطعن بالرسول والمرسِل فرد عليه موسى ذلك وبين له أن الجنون إنما هو إنكار الخالق العظيم فقال: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28].فلما عجز فرعون عن رد الحق لجأ إلى ما لجأ إليه العاجزون المتكبرون من الإرهاب فتوعد موسى بالاعتقال والسجن وخاب فقال: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29]، ولم يقل لأسجننك ليزيد في إرهاب موسى، وإن لدى فرعون من القوة والسلطان والنفوذ ما مكنه من سجن الناس الذين سيكون موسى من جملتهم على حد تهديده وإرهابه، وما زال موسى يأتي بالآيات كالشمس، وفرعون يحاول بكل مجهوداته ودعاياته أن يقضي عليها بالرد والطمس حتى قال لقومه: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ . أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ . فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ . فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ . فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ . فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمثلاً لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 52- 56].
وكان من قصة إغراقهم أن الله أوحى إلى موسى أن يسري بقومه ليلاً من مصر فاهتم لذلك فرعون اهتماماً عظيماً فأرسل في جميع مدائن مصر أن يحشر الناس للوصول إليه لأمر يريده الله، فجمع فرعون قومه وخرج في إثر موسى متجهين إلى جهة البحر الأحمر: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]؛ البحر من أمامنا فإن خضناه غرقنا، وفرعون وقومه خلفنا فإن وقفنا أدركنا فقال موسى: {كَلاَ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].
فلما بلغ البحر أمره الله أن يضربه بعصاه فضربه فانفلق البحر اثني عشر طريقاً وصار الماء السيال بين هذه الطرق كأطواد الجبال، فلما تكامل موسى وقومه خارجين وتكامل فرعون بجنوده داخلين أمر الله البحر أن يعود إلى حاله فانطبق على فرعون وجنوده فكانوا من المغرقين.
فانظروا رحمكم الله إلى ما في هذه القصة من العبر والآيات كيف كان فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل خوفاً من موسى فتربى موسى في بيته تحت حجر امرأته، وكيف قابل موسى هذا الجبار العنيد مصرحاً معلناً بالحق هاتفاً به ألا إن ربكم هو الله رب العالمين، فأنجاه الله منه، وكيف كان الماء السيال شيئاً جامداً كالجبال بقدرة الله، وكان الطريق يبساً لا وحل فيه في الحال، وكيف أهلك الله هذا الجبار العنيد بمثل ما كان يفتخر به، فقد كان يفتخر بالأنهار التي تجري من تحته فأُهلِك بالماء.
ولا شك أن ظهور آيات الله في مخلوقاته نعمة كبرى يستحق عليها الحمد والشكر، خصوصاً إذا كانت في نصر أولياء الله وحزبه ودحر أعداء الله وحزبه، ولذلك لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون اليوم العاشر من شهر المحرم، ويقولون إنه يوم نجى الله فيه موسى وقومه وأهلك فرعون وقومه فصامه موسى شكراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فنحن أحق بموسى منكم فصامه وأمر الناس بصيامه» (ابن ماجه: 1419، وصححه الألباني).
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيامه فقال: «أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله» (مسلم: 1162). فينبغي للمسلم أن يصوم يوم عاشوراء وكذلك اليوم التاسع لتحصل بذلك مخالفة اليهود التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
بطـــلان قصــة الحمامتيـن والعنكبــوت
علـــى الغـــار
* قـال البخـاري فـي صحيحـه :علـــى الغـــار
حدثنـا عبـد الله بـن محمـد ، قـال : حدثنـا حَبَّـانُ ، قـال حدنـا همـامٌ ، قـال : حدثنـا ثابـتٌ ، قـال : حدثنـا أنـس ، قـال : حدثنـي أبـو بكـرٍ ـ رضي الله عنه ـ قـال كنـتُ مـع النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فـي الغـار ، فرأيـتُ آثـار المشـركين ، قلـتُ : يـا رسـول اللهِ لـو أن أحدهـم رفـع قدمَـهُ رآنـا قـال : " مـا ظنُّـك باثنيـن الله ثالثهـم " .
صحيح البخاري / ( 65 ) ـ كتاب : تفسير القرآن / ( 9 ) ـ باب : قوله :
( ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه ) / حديث رقم : 4663 / ص : 550 .
ومسلم ، كتاب : فضائل الصحابة ، باب : من فضائل أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ ، رقم : ( 2381 ) .
الشــــرح :
قولـه : " مـا ظنُّـك يـا أبـا بكـر باثنيـن الله ثالثهمـا " أي : مـا ظنُّـك ، هـل أحـد يقـدر عليهمـا أو ينالهمـا بسـوء ؟ وهـذه القصـة كانـت حينمـا هاجـر النبــي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مـن مكـة إلـى المدينـة ، وذلـك إن رسـول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمـا جهـر بالدعـوة ، ودعـا النـاس ، وتبعـوه ، وخـاف المشـركون ، وقامـوا ضـد دعوتـه ، وضايقـوه ، أذوه بالقـول وبالفعـل ، فـأذن الله لـه بالهجـرة مـن مكـة إلـى المدينـة ولـم يصحبـه إلا أبـو بكـر ـ رضي الله عنه ـ ، والدليـل ، والخـادم ، فهاجـر بأمـر الله ، وصحبـه أبـو بكـر ـ رضي الله عنه ـ . ولمـا سـمع المشـركون بخروجـه مـن مكـة ، جعلـوا لمـن جـاء بـه مائتـي بعيـر ، ولمـن جـاء بأبـي بكـر مائـة بعيـر ، وصـار النـاس يطلبـون الرجليـن فـي الجبـال ، وفـي الأوديـة وفـي المغـارات ، وفـي كـل مكـان ، حتـى وقفـوا علـى الغـار الـذي فيـه النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبـو بكـر ، وهـو غـار ثـور الـذي اختفيـا فيـه ثـلاث ليـال ، حتـى يبـرد عنهمـا الطلـب ، فقـال أبـو بكـر ـ رضي الله عنه ـ : يـا رسـول الله لـو نظـر أحدهـم إلـى قدميـه لأبصرنـا ، لأننـا فـي الغـار تحتـه ، فقـال : " مـا ظنـك باثنيـن الله ثالثهمـا " وفـي كتـاب الله أنـه قـال :
{ ... لاَ تَحْـزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَـا ... } سورة التوبة / آية 40 ، فيكـون قـال كـلا الأمريـن ، أي : قـال : " مـا ظنـك باثنيـن الله ثالثهمـا " وقـال : { ... لاَ تَحْـزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَـا ... } .
فقولـه : " مـا ظنـك باثنيـن الله ثالثهمـا " يعنـي : هـل أحـد يقـدر عليهمـا بأذيـة أو غيـر ذلـك ؟
والجــواب :
لا أحـد يقـدر ، لأنـه لا مانـع لمـا أعطـى الله ولا معطـي لمـا منـع ، ولا مـذل لمـن أعــز ولا معـز لمـن أذل :
{ قُـلِ اللَّهُـمَّ مَالِـكَ الْمُلْـكِ تُؤْتِـي الْمُلْـكَ مَـن تَشَـاء وَتَنـزِعُ الْمُلْـكَ مِمَّـن تَشَـاء وَتُعِـزُّ مَـن تَشَـاء وَتُـذِلُّ مَـن تَشَـاء بِيَـدِكَ الْخَيْـرُ إِنَّـكَ عَلَـىَ كُـلِّ شَـيْءٍ قَدِيـرٌ } سورة آل عمران / آية : 26 .
وفـي هـذه القصـة : دليـل علـى كمـال توكـل النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علـى ربـه ، وأنـه معتمـد عليـه ، ومفـوض إليـه أمـره ، وهـذا هـو الشـاهد مـن وضـع هـذا الحديـث فـي بـاب اليقيـن والتوكـل ـ فـي ريـاض الصالحيـن ـ . وفيـه دليـل علـى أن قصـة نسـج العنكبـوت غيـر صحيحـة ، فمـا يوجـد فـي بعـض التواريـخ ، أن العنكبـوت نسـجت علـى بـاب الغـار ، وأنـه نبـت فيـه شـجرة ، وأنـه كـان علـى غصنهـا حمامـة ، وأن المشـركين لمـا جـاءوا إلـى الغـار قالـوا هـذا ليـس فيـه أحـد ، فهـذه الحمامـة علـى غصـن شـجرة علـى بابـه ، وهـذه العنكبـوت قـد عشـشـت علـى بابـه ، كـل هـذا لا صحـة لـه ، لأن الـذي منـع المشـركين مـن رؤيـة النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبـه أبـو بكـر ليسـت أمـورًا حسـية ـ تكـون لهـا ولغيرهـا ـ بـل هـي أمـور معنويـة ، وآيـة مـن آيـات الله عـز وجـل ، حجـب الله أبصـار المشـركين عـن رؤيـة الرسـول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وصاحبـه أبـي بكـر ـ رضي الله عنه ـ ، أمـا لـو كـان أمـور حسـية ، مثـل العنكبـوت التـي نسـجت ، والحمامـة ، والشـجرة ، فكلهـا أمــور حسـية ، كـل يختفـي بهـا عـن غيـره ، لكـن الأمـر آيـة مـن آيـات الله عـز وجـل ، فالحاصـل أن مـا يذكـر فـي كتـب التاريـخ فـي هـذا لا صحـة لـه ، بـل الحـق الـذي لا شـك فيـه ، أن الله تعالـى أعمـى أعيـن المشـركين عـن رؤيـة النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبـه ـ رضي الله عنه ـ فـي الغـار . والله الموفـق .
رياض الصالحين / شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين / المجلد الأول / ( 7 ) ـ باب : اليقين والتوكل .
قـال الشـيخ الألبانـي ـ رحمه الله ـ فـي المجلـد الثالـث مـن السـلسـلة الضعيفـة / حديـث رقـم : 1128 :
ليلـة الغـار أمـر الله عـز وجـل شـجرة فخرجـت فـي وجـه النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسـتره وإن الله عـز وجـل لبعـث العنكبـوت فنسـجت مـا بينهمـا فسـترت وجـه النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمـر الله حمامتيـن وحشـيتين فأقبلتـا تدفـان
( وفـي نسـخة : ترفـان ) حتـى وقعتـا بيـن العنكبـوت وبيـن الشـجرة فأقبـل فِتْيَـان قريـش مـن كـل بطـن رجـل معهـم عصيهـم وقسـيهم وهراواتهـم حتـى إذا كانـوا مـن النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علـى قـدر مائتـي ذراع قـال الدليـل : " سـراقة بـن مالـك المدلـج انظـروا هـذا الحجـر ثـم لا أدري أيـن وضـع رجلـه رسـول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقـال الفتيـان إنـك لـم تخطـر منـذ الليلـة أثـره حتـى إذا أصبحنـا قـال انظـروا فـي الغــار فاسـتقدم القــوم حتـى إذا كانـوا علـى خمسـين ذراعًـا نظــر
أولهـم فـإذا الحمامـات فرجـع قالـوا مـا ردك أن تنظـر فـي الغـار قـال رأيـت حمامتيـن وحشـيتين بفـم الغـار فعرفـت أن ليـس فيـه أحـد فسـمعها النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعـرف أن الله عـز وجـل قـد درأ عنهمـا بهمـا فسـمت عليهمـا فأحرزهمـا الله تعالـى بالحـرم فأفرجـا كـل مـا تـرون . ( منكر ) ا . هـ .
عـدم ثبـوت قصـة نسـج العنكبـوت والحمامتيـن حديثيًّـا :
قـال الشـيخ الألبانـي : انطلـق النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبـو بكـر إلـى الغـار فدخـلا فيـه فجـاءت العنكبـوت فنسـجت علـى بـاب الغـار ، وجـاءت قريـش يطلبـون النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكانـوا إذا رأوا علـى بـاب الغـار نسـج العنكبـوت قالـوا : لـم يدخلـه أحـد ، وكـان النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائمًـا يصلـي وأبـو بكـر يرتقـب فقـال أبـو بكـر ـ رضي الله عنه ـ للنبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فـداك أبـي وأمـي هـؤلاء قومـك يطلبونـك أمـا والله مـا علـى نفسـي أبكـي ولكـن مخافـة أن أرى فيـك مـا أكـره فقـال النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا تحـزن إن الله معنـا ) ... إسـناده ضعيـف السـلسـلة الضعيفـة / ج : 3 / 1129 ... وأمـر الله حمامتيـن وحشـيتين فأقبلتـا تدفـان ( وفـي نسـخة : ترفـان ) حتـى وقعـا بيـن العنكبـوت وبيـن الشـجرة ... إلخ القصـة .
قال البخاري على راويها : منكر مجهول ، قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية ( 3 / 182 )
هذا حديث غريب جدًا . السلسلة الضعيفة ( 3 / ( 1128 ) .
سُـئل الشـيخ العثيميـن ـ رحمه الله ـ فـي لقـاء البـاب المفتـوح عـدد / 229 :
الســـؤال :
هـل عـش العنكبـوت والحمامتيـن وارد يـوم اختفـى الرسـول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فـي غـار ثـور ؟
الجـــواب :
لا ، يذكـر المؤرخـون : أن النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيـن اختفـى في غـار ثـور عشـشـت عليـه العنكبـوت ووقعـت الحمامـة علـى غصـن شـجرة ، وهـذا كـذب لا صحـة لـه ، ولا فيـه آيـة للرسـول عليـه الصـلاة والسـلام ينقـل ، أي إنسـان تعشـش العنكبـوت وتكـون حولـه حمامـة إذا رآه مـن يـراه يقـول : مـا فـي أحـد ، لكـن الرسـول عليـه الصـلاة والسـلام أعمـى الله أبصارهـم عنـه ولهـذا قـال أبـو بكـر : [ يـا رسـول الله ! لـو نظـر أحدهـم إلـى قدمـه لأبصرنـا ] لأنـه لا يوجـد مانـع ، فالعنكبـوت والحمامـة لا صحـة لذكرهمـا عنـد اختفـاء النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فـي غـار ثـور ، ولهـذا يحتـرم كثيـر مـن النـاس العنكبـوت ، يقـول : لا تقتلهـا ؛ لأنهـا عشـشـت علـى النبـي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فـإذا كـان الـوزعْ يُقتـل ؛ لأنـه كـان ينفـخ فـي النـار علـى إبراهيـم فهـذه تكـرم . فنقـول : لا ، العنكبـوت تقتــل إذا آذت مثـل غيرهـا ، وهـي تـؤذي بعـض الأحيـان تعشـش علـى الكتـب وعلـى الجـدار فَتُقْتَـل ، بـل يوجـد حديـث لكنـه ضعيـف ، فـي الأمـر بقتـل العنكبـوت .
وقـال الشـيخ ابـن عثيميـن ـ رحمه الله ـ أيضًـا :
أود أن أنبـه علـى أنـه يوجـد فـي بعـض الكتـب أن العنكبـوت ضربـت علـى بـاب الغـار نسـيجًا مـن العـش ، وهـذا لا صحـة لـه ، ليـس هنـاك نسـيج مـن العنكبـوت وليـس هنـاك حمامـة علـى شـجرة علـى بـاب الغـار ، إنمـا هـي حمايـة الله ولهـذا قـال أبـو بكـر ـ رضي الله عنه ـ : [ لـو نظـر أحدهـم إلـى قدمـه لأبصرنـا ] ... ولكـن الله أعمـى أبصارهـم فلـم يـروا أحـدًا فـي هـذا الغـار وانصرفـوا عنـه .
اللقاء المفتوح للشيخ العثيمين / ج : 1 / ص : 457 .
وقـال : لهـذا لاشـك أن السـيرة تحتـاج إلـى تحقيـق وتحريـر ليتبيـن الضعيـف منهـا مـن القـوي ... لكـن فـي السـيرة مـا هـو ثابـت فـي البخـاري وهـذا يعتمـد .
اللقاء المفتوح للشيخ العثيمين / ج : 1 / ص : 463 .
*مقتل الحسين لاعلاقة له بعاشوراء وسنة صيامه إنما هو قدر الله*
ثم إنَّ الله عز وجل - وله الحكمة البالغة - ابتلى
في يوم عاشوراء وتحديداً سنة واحد وستين بعد الهجرة عبداً من عباده
ووليًّا من أوليائه ورجلاً عظيماً شهد له النبي عليه الصلاة والسلام
بالجنة ابتلاءً عظيمًا بأن قُتل في هذا اليوم مظلوماً شهيداً في سبيل الله
، وهذه الشهادة رفعة له عند الله تبارك وتعالى وعلواً في منزلته
ومقامه؛ إنه الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله عنهما ،
وكان قتله ظلماً وعدواناً وتعدِّيا ، وكان رضي الله عنه شهيداً في سبيل
الله، والذي ندِين الله عز وجل به ونعتقده أنه قُتل شهيداً وأنه قُتل
ظلما وأنَّ له المكانة العلية والمنزلة الرفيعة في جنات النعيم ، وقد قال
نبينا عليه الصلاة والسلام عنه وعن أخيه الحسن : "سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ "
"الحسنُ والحُسَينُ سيِّدا شبابِ أهْلِ الجنَّةِ وأبوهما خيرٌ منهُما"الراوي : عبدالله بن عمر - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح ابن ماجه -الصفحة أو الرقم: 96 - خلاصة حكم المحدث : صحيح-الدرر السنية
- وقابل هؤلاء القوم الغلاة أقوامُ آخرين عاملوا أهل البيت بالجفاء والتنقُّص والاحتقار وعدم معرفة أقدارهم ؛ ألا وهم الناصبة الذين ناصبوا آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام العداء ، فجعلوا ذلك اليوم يوم فرح يوسِّعون فيه على أنفسهم باللباس وبالأطعمة وبالحلوى وبالزينة ونحو ذلك . وهذه طريقةٌ مقابلة للطريقة الأولى مضادة لها ؛ فالأولون غلاة ، وهؤلاء جفاة، ولا أعلم لأهل هذه الطريقة وجودا في هذا الزمان.
- وخير الأمور أوساطها لا تفريطها ولا إفراطها وهو الطريق الذي عليه أهل السنة والجماعة والحق والاستقامة بأن مضوا على سنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم يصومونه شكراً لله جل وعلا ، وأما ما حدث للحسين في ذلك اليوم فإنه معدود عند أهل السنة جريمة عظيمة وظلم وعدوان ، والحسين رضي الله عنه قُتل في ذلك اليوم شهيداً في سبيل الله لكننا لم نُؤمر عند قتل الشهداء لا الحسين ولا غيره أن نتخذ ذلك اليوم مأتماً أو يوم مناحةً أو نحو ذلك ؛ فهذه كلها من أعمال الجاهلية وليست من دين الله تبارك وتعالى في شيء .
فلنحمد الله جل علا أن هدانا وأن شرح صدورنا للحق وأن جنَّبنا طرائق الغلاة والجفاة وأن جعلنا أهل وسطية واعتدال ، ولنتقرب إلى الله بحبِّ آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولنعرف لهم قدرهم ولنرعى لهم حقهم بلا غلو ولا جفاء ولا إفراط ولا تفريط .
وبمناسبة الإشارة إلى قصة قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما ظلماً والإشارة إلى مكانة آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام الذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نعرف لهم حقهم وأن نرعى لهم مكانتهم ، بهذه المناسبة إحقاقاً للحق وبياناً للصواب أشير هنا إلى إمام من الأئمة وعلَمٍ من الأعلام ومجدِّدٍ من المجددين أصلح الله عز وجل به الدين وهدى به العباد وجدَّد به الملة إنه الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى؛ فهذا الإمام معروفٌ بمواقفه النبيلة وجهوده العظيمة ونصرته لدين الله تبارك وتعالى . ولقد ادَّعى أقوام لا خلاق لهم أن هذا الإمام -وحاشاه - يبغض آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام ، وادَّعوا ظلما وكذبا وزورا أنه يسب آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام وأنه لا يعرف لهم مكانة ولا يرعى لهم قدرا {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } [الكهف:5] ، وحاشا هذا الإمام وغيره من أئمة المسلمين وعلماء الدين أن يكونوا بهذه الصفة أو بهذه المثابة التي لا يكون عليها سفهاء الناس فضلاً عن أئمة الفضل أهل الرفعة والمكانة والنبل .
ومن يقرأ تاريخ هذا الإمام وحياته الكريمة ويطَّلع على مؤلفاته المباركة يجد بجلاءٍ ووضوح المكانة العظيمة والقدر الرفيع الذي يتبوأه آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام في قلب هذا الإمام رحمه الله ؛ ولهذا جاء في مواضع كثيرة من كتبه الثناء العاطر على آل البيت وبيان مكانتهم العظيمة ومنزلتهم الرفيعة وبيان حقوقهم والواجب نحوهم، بل إنه -رحمه الله- من شدة حبه لآل بيت النبي عليه الصلاة والسلام وعظيم معرفته بمكانتهم سمى عامة أولاده بأسماء آل البيت ؛ فأولاده -رحمه الله- هم : علي والحسن والحسين وفاطمة وإبراهيم وعبد الله ، وجميع هذه الأسماء من أسماء آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام وسمى إضافةً لهؤلاء عبد العزيز ، وهذا من الشواهد والدلائل البينات على عظيم ما قام في قلب هذا الإمام من مكانة لآل بيت النبي عليه الصلاة والسلام ومع ذلك يدَّعي الأفّاكون أنه يبغض آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم!! { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } [الشعراء:227] . هنا
oلم يرد فيما يفعله الناس في يوم عاشوراء من الكحل، والاغتسال، والحنّاء، والمصافحة، وطبخ الحبوب، وإظهار السرور، وغير ذلك – لم يرد في شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، ولا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئا، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعين، لا صحيحا ولا ضعيفا، لا في كتب الصحيح ولا في السنن ولا المسانيد، ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة. ( مجموع الفتاوى: (25/160-161) ).
o وحديث التوسعة على الأهل: " من وسع على عياله وأهله يوم عاشوراء، أوسع الله عليه سائر سنته "، قال فيه الألباني: طرقه كلها واهية، وبعضها أشد ضعفا من بعض. ( ضعيف الترغيب والترهيب: (1/313) ).
o وأما ما يفعلونه اليوم من أن عاشوراء يختص بذبح الدجاج وغيرها، ومن لم يفعل ذلك عندهم فكأنه ما قام بحق ذلك اليوم، وكذلك طبخهم فيه الحبوب، وغير ذلك، ولم يكن السلف رضوان الله عليهم يتعرضون في هذه المواسم ولا يعرفون تعظيمها إلا بكثرة العبادة والصدقة والخير واغتنام فضيلتها، لا بالمأكول، بل كانوا يبادرون إلى زيادة الصدقة وفعل المعروف.( المدخل: (1/280) ).هنا
- "من أحبَّهما فقد أحبَّني ، و من أبغضَهما فقد أبغضَني "يعني الحسَنَ و الحُسَينَ.الراوي : أبو هريرة - المحدث : الألباني - المصدر : السلسلة الصحيحة-الصفحة أو الرقم: 2895 - خلاصة حكم المحدث : صحيح- الدرر السنية
****************
هل يجوز لنا القول بأن الحسين مات شهيدا ؟
الحمد لله
نعم ؛ قُتِلَ الحُسين رضي الله عنه شهيداً .
وذلك أن أهل العراق (الكوفة) كتبوا إليه ليخرج إليهم ليبايعوه على الإمارة ، وذلك بعد موت معاوية رضي الله عنه ، وتولية ابنه يزيد .
ثم تغير أهل الكوفة على الحسين بعد ما تولاها عبيد الله بن زياد من قِبَل يزيد بن معاوية ، وقَتَلَ مسلمَ بنَ عقيل رسولَ الحسين إليهم ، فكانت قلوب أهل العراق مع الحسين ، غير أن سيوفهم مع عبيد الله بن زياد .
فخرج إليهم الحسين وهو لا يعلم بمقتل مسلم بن عقيل ، ولا بتغيرهم نحوه .
وقد أشار عليه ذوو الرأي والمحبة له بعدم الخروج إلى العراق ، ولكنه أصَرَّ على الخروج إليهم.
فممن أشار عليه بهذا : عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وأبو سعيد الخدري ، وجابر بن عبد الله ، والمسور بن مخرمة ، وعبد الله بن الزبير ، رضي الله عنهم أجمعين .
فسار الحسين إلى العراق ، ونزل بكربلاء ، وعلم أن أهل العراق تنكروا له ، فطلب الحسين من الجيش الذي جاء لمقاتلته إحدى ثلاث خصال : إما أن يتركوه يرجع إلى مكة ، وإما أن يسير إلى يزيد بن معاوية ، وإما أن يذهب للثغور للجهاد في سبيل الله .
فأبوا إلا أن يستسلم لهم ، فأبى الحسين ، فقاتلوه ، فقتل مظلوماً شهيداً رضي الله عنه .
"البداية والنهاية" (11/473-520) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"فإن يزيد بن معاوية ولد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ولم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ; ولا كان من الصحابة باتفاق العلماء ; ولا كان من المشهورين بالدين والصلاح وكان من شبان المسلمين ; ولا كان كافرا ولا زنديقا ; وتولى بعد أبيه على كراهة من بعض المسلمين ورضا من بعضهم وكان فيه شجاعة وكرم ولم يكن مظهرا للفواحش كما يحكي عنه خصومه . وجرت في إمارته أمور عظيمة : - أحدها مقتل الحسين رضي الله عنه ; وهو لم يأمر بقتل الحسين ولا أظهر الفرح بقتله ; ولا نكت بالقضيب على ثناياه - رضي الله عنه - ولا حمل رأس الحسين - رضي الله عنه - إلى الشام لكن أمر بمنع الحسين رضي الله عنه وبدفعه عن الأمر . ولو كان بقتاله فزاد النواب على أمره ; ...... فطلب منهم الحسين رضي الله عنه أن يجيء إلى يزيد ; أو يذهب إلى الثغر مرابطا ; أو يعود إلى مكة . فمنعوه رضي الله عنه إلا أن يستأسر لهم وأمر عمر بن سعد بقتاله ، فقتلوه مظلوما ، له ولطائفة من أهل بيته . رضي الله عنهم وكان قتله رضي الله عنه من المصائب العظيمة فإن قتل الحسين , وقتل عثمان قبله : كانا من أعظم أسباب الفتن في هذه الأمة وقتلتهما من شرار الخلق عند الله" انتهى .
"مجموع الفتاوى" (3/410-413) .
وقال أيضا (25/302-305) :
"فلما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما يوم عاشوراء قتلته الطائفة الظالمة الباغية ، وأكرم الله الحسين بالشهادة ، كما أكرم بها من أكرم من أهل بيته . أكرم بها حمزة وجعفرا وأباه عليا وغيرهم وكانت شهادته مما رفع الله بها منزلته وأعلى درجته ، فإنه هو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة ، والمنازل العالية لا تنال إلا بالبلاء ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل : أي الناس أشد بلاء ؟ فقال : (الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل . يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ، وإن كان في دينه رقة خفف عنه ، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة) رواه الترمذي وغيره .
فكان الحسن والحسين قد سبق لهما من الله تعالى ما سبق من المنزلة العالية ، ولم يكن قد حصل لهما من البلاء ما حصل لسلفهما الطيب ، فإنهما ولدا في عز الإسلام ، وتربيا في عز وكرامة ، والمسلمون يعظمونهما ، ويكرمونهما ، ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستكملا سن التمييز ، فكانت نعمة الله عليهما أن ابتلاهما بما يلحقهما بأهل بيتهما ، كما ابتلى من كان أفضل منهما ، فإن علي بن أبي طالب أفضل منهما ، وقد قتل شهيدا ، وكان مقتل الحسين مما ثارت به الفتن بين الناس ، كما كان مقتل عثمان رضي الله عنه من أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن بين الناس ، وبسببه تفرقت الأمة إلى اليوم ....
فلما خرج الحسين رضي الله عنه ورأى أن الأمور قد تغيرت ، طلب منهم أن يدعوه يرجع أو يلحق ببعض الثغور ، أو يلحق بابن عمه يزيد فمنعوه هذا وهذا ، حتى يستأسر وقاتلوه فقاتلهم فقتلوه وطائفة ممن معه مظلوما شهيدا ، شهادة أكرمه الله بها وألحقه بأهل بيته الطيبين الطاهرين . وأهان بها من ظلمه واعتدى عليه " انتهى .
الإسلام سؤال وجواب
نسأل الله رب العالمين أن يرضى عن الحسن وعن الحسين، وعن آل البيت أجمعين، وأن يجمعنا معهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى من الجنة.
الحُسين رضي الله تبارك وتعالى عنه ريحانةُ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نُحِبُّه ونُوَالِيه ولا نغلو فيه رضي الله تبارك وتعالى عنه, لم يكن أفضلَ من أبيه, ولا أفضلَ ومن عثمان, ولا أفضلَ من عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين, وقُتل شهيدًا مظلومًا أكرمه الله ربُّ العالمين بالشهادة، فكان ماذا؟!
ننصب عليه المناحة كما تفعل الرافضة!!
ويأتونَ بتلك الأفعال الخبيثة القبيحة, وغَلَوا في عليٍّ وبَنِيِه، وكَفَّرُوا الأصحاب رضوان الله عليهم, وسَبُّوا أمهات المؤمنين,على المسلمين أن يَتَنَبَّهُوا لخطورة هؤلاء, وألا يُشاكلُوهم, وعليهم ألا يُشاكلوا - أعني: أهل السُّنَّة - عليهم ألا يُشاكلوا النَّواصب الذين يُبغضون آل البيت, يتخذون يوم عاشوراء عيدًا ومَوسِمًا! وليس كذلك, إنما هو يوم صالحٌ يصوم فيه المُسلم لله ربِّ العالمين تَقَرُّبًا، يُكَفِّر اللهُ له بصيامه ذنوبَ سَنَةٍ مَضَت بشروط تكفير الذنوب كما هو معلوم.
نسأل الله أنْ يعفو عنَّا جميعًا وأنْ يرحمنا إنَّه على كل شيء قدير، نسأل الله أنْ يوفقنا لكل خير, وأنْ يهدينا للتي هي أقوم, وأنْ يُقيمنا على ذلك حتى نلقى وجه ربِّنا الكريم.
وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
"الحسنُ والحُسَينُ سيِّدا شبابِ أهْلِ الجنَّةِ وأبوهما خيرٌ منهُما"الراوي : عبدالله بن عمر - المحدث : الألباني - المصدر : صحيح ابن ماجه -الصفحة أو الرقم: 96 - خلاصة حكم المحدث : صحيح-الدرر السنية
وكان هذا القتل فيه ابتلاء ومحنة وتمحيص ؛ ولهذا تفرَّق الناس من بعد ذلك القتل الذي حصل له إلى طرائق : ما بين غالٍ متجاوز لحد الله ، وبين جافٍ غير مبالٍ بمكانة أولياء الله وأصفيائه ، وبين
أهل توسطٍ واعتدال وقوامٍ وسداد ألا وهم : أهل السنة والجماعة ؛ أهل
الوسطية والاعتدال بلا تفريط ولا إفراط ولا غلو ولا جفاء .
-
أما طائفة من الناس فتحوَّل عندهم يوم عاشوراء من كل عام إلى يوم
مناحةٍ ومأتم يمارسون فيه أعمالاً لا تُرضي الله سبحانه وتعالى وليست هي
من دين الله بل جاء الدين الإسلامي بتحريمها ومنعها وتجريمها وبيان
عقوبة فاعلها ؛ من نياحةٍ ولطمٍ للخدود وشقٍّ للجيوب ودعاءٍ بدعوى
الجاهلية بل إلى ما هو أعظم من ذلك ألا وهو الشرك بالله بالاستغاثة
بالحسين والالتجاء إليه وسؤاله قضاء الحاجات وتفريج الكربات في أمور لا
تُسأل ولا يلتجأ فيها إلا إلى رب الأرض والسماوات . والنياحة قال عنها
نبينا عليه الصلاة والسلام :« النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ
مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ
قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ » هنا، وقال عليه الصلاة والسلام : « لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ » هنا،
فبدل أن يكون يوم عاشوراء يوم صيام شكراً لله عز وجل تحوَّل عند أقوامٍ
بسبب هذه الحادثة إلى يوم مناحة ومأتم تمارس فيه أعمال جاهلية ليست من
دين الله عز وجل ، بل إن كثيراً منهم يتقرَّب في ذلك اليوم بأن يريق
شيئاً من دمه إما من ناصيته أو من ظهره ويعتقد أن ذلك موجباً للغفران
ورفعة الدرجات !! وهيهات أن يكون ذلك العمل من دين الله عز وجل أو أن
يكون من شرعه أو أن يكون مما يقرُّه الحسين ابن علي وغيره من سادات
الصحابة وأولياء الله المتقين .- وقابل هؤلاء القوم الغلاة أقوامُ آخرين عاملوا أهل البيت بالجفاء والتنقُّص والاحتقار وعدم معرفة أقدارهم ؛ ألا وهم الناصبة الذين ناصبوا آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام العداء ، فجعلوا ذلك اليوم يوم فرح يوسِّعون فيه على أنفسهم باللباس وبالأطعمة وبالحلوى وبالزينة ونحو ذلك . وهذه طريقةٌ مقابلة للطريقة الأولى مضادة لها ؛ فالأولون غلاة ، وهؤلاء جفاة، ولا أعلم لأهل هذه الطريقة وجودا في هذا الزمان.
- وخير الأمور أوساطها لا تفريطها ولا إفراطها وهو الطريق الذي عليه أهل السنة والجماعة والحق والاستقامة بأن مضوا على سنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم يصومونه شكراً لله جل وعلا ، وأما ما حدث للحسين في ذلك اليوم فإنه معدود عند أهل السنة جريمة عظيمة وظلم وعدوان ، والحسين رضي الله عنه قُتل في ذلك اليوم شهيداً في سبيل الله لكننا لم نُؤمر عند قتل الشهداء لا الحسين ولا غيره أن نتخذ ذلك اليوم مأتماً أو يوم مناحةً أو نحو ذلك ؛ فهذه كلها من أعمال الجاهلية وليست من دين الله تبارك وتعالى في شيء .
فلنحمد الله جل علا أن هدانا وأن شرح صدورنا للحق وأن جنَّبنا طرائق الغلاة والجفاة وأن جعلنا أهل وسطية واعتدال ، ولنتقرب إلى الله بحبِّ آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولنعرف لهم قدرهم ولنرعى لهم حقهم بلا غلو ولا جفاء ولا إفراط ولا تفريط .
وبمناسبة الإشارة إلى قصة قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما ظلماً والإشارة إلى مكانة آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام الذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نعرف لهم حقهم وأن نرعى لهم مكانتهم ، بهذه المناسبة إحقاقاً للحق وبياناً للصواب أشير هنا إلى إمام من الأئمة وعلَمٍ من الأعلام ومجدِّدٍ من المجددين أصلح الله عز وجل به الدين وهدى به العباد وجدَّد به الملة إنه الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى؛ فهذا الإمام معروفٌ بمواقفه النبيلة وجهوده العظيمة ونصرته لدين الله تبارك وتعالى . ولقد ادَّعى أقوام لا خلاق لهم أن هذا الإمام -وحاشاه - يبغض آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام ، وادَّعوا ظلما وكذبا وزورا أنه يسب آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام وأنه لا يعرف لهم مكانة ولا يرعى لهم قدرا {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } [الكهف:5] ، وحاشا هذا الإمام وغيره من أئمة المسلمين وعلماء الدين أن يكونوا بهذه الصفة أو بهذه المثابة التي لا يكون عليها سفهاء الناس فضلاً عن أئمة الفضل أهل الرفعة والمكانة والنبل .
ومن يقرأ تاريخ هذا الإمام وحياته الكريمة ويطَّلع على مؤلفاته المباركة يجد بجلاءٍ ووضوح المكانة العظيمة والقدر الرفيع الذي يتبوأه آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام في قلب هذا الإمام رحمه الله ؛ ولهذا جاء في مواضع كثيرة من كتبه الثناء العاطر على آل البيت وبيان مكانتهم العظيمة ومنزلتهم الرفيعة وبيان حقوقهم والواجب نحوهم، بل إنه -رحمه الله- من شدة حبه لآل بيت النبي عليه الصلاة والسلام وعظيم معرفته بمكانتهم سمى عامة أولاده بأسماء آل البيت ؛ فأولاده -رحمه الله- هم : علي والحسن والحسين وفاطمة وإبراهيم وعبد الله ، وجميع هذه الأسماء من أسماء آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام وسمى إضافةً لهؤلاء عبد العزيز ، وهذا من الشواهد والدلائل البينات على عظيم ما قام في قلب هذا الإمام من مكانة لآل بيت النبي عليه الصلاة والسلام ومع ذلك يدَّعي الأفّاكون أنه يبغض آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم!! { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } [الشعراء:227] . هنا
oلم يرد فيما يفعله الناس في يوم عاشوراء من الكحل، والاغتسال، والحنّاء، والمصافحة، وطبخ الحبوب، وإظهار السرور، وغير ذلك – لم يرد في شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، ولا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئا، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعين، لا صحيحا ولا ضعيفا، لا في كتب الصحيح ولا في السنن ولا المسانيد، ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة. ( مجموع الفتاوى: (25/160-161) ).
o وحديث التوسعة على الأهل: " من وسع على عياله وأهله يوم عاشوراء، أوسع الله عليه سائر سنته "، قال فيه الألباني: طرقه كلها واهية، وبعضها أشد ضعفا من بعض. ( ضعيف الترغيب والترهيب: (1/313) ).
o وأما ما يفعلونه اليوم من أن عاشوراء يختص بذبح الدجاج وغيرها، ومن لم يفعل ذلك عندهم فكأنه ما قام بحق ذلك اليوم، وكذلك طبخهم فيه الحبوب، وغير ذلك، ولم يكن السلف رضوان الله عليهم يتعرضون في هذه المواسم ولا يعرفون تعظيمها إلا بكثرة العبادة والصدقة والخير واغتنام فضيلتها، لا بالمأكول، بل كانوا يبادرون إلى زيادة الصدقة وفعل المعروف.( المدخل: (1/280) ).هنا
- "من أحبَّهما فقد أحبَّني ، و من أبغضَهما فقد أبغضَني "يعني الحسَنَ و الحُسَينَ.الراوي : أبو هريرة - المحدث : الألباني - المصدر : السلسلة الصحيحة-الصفحة أو الرقم: 2895 - خلاصة حكم المحدث : صحيح- الدرر السنية
****************
هل يجوز لنا القول بأن الحسين مات شهيدا ؟
الحمد لله
نعم ؛ قُتِلَ الحُسين رضي الله عنه شهيداً .
وذلك أن أهل العراق (الكوفة) كتبوا إليه ليخرج إليهم ليبايعوه على الإمارة ، وذلك بعد موت معاوية رضي الله عنه ، وتولية ابنه يزيد .
ثم تغير أهل الكوفة على الحسين بعد ما تولاها عبيد الله بن زياد من قِبَل يزيد بن معاوية ، وقَتَلَ مسلمَ بنَ عقيل رسولَ الحسين إليهم ، فكانت قلوب أهل العراق مع الحسين ، غير أن سيوفهم مع عبيد الله بن زياد .
فخرج إليهم الحسين وهو لا يعلم بمقتل مسلم بن عقيل ، ولا بتغيرهم نحوه .
وقد أشار عليه ذوو الرأي والمحبة له بعدم الخروج إلى العراق ، ولكنه أصَرَّ على الخروج إليهم.
فممن أشار عليه بهذا : عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وأبو سعيد الخدري ، وجابر بن عبد الله ، والمسور بن مخرمة ، وعبد الله بن الزبير ، رضي الله عنهم أجمعين .
فسار الحسين إلى العراق ، ونزل بكربلاء ، وعلم أن أهل العراق تنكروا له ، فطلب الحسين من الجيش الذي جاء لمقاتلته إحدى ثلاث خصال : إما أن يتركوه يرجع إلى مكة ، وإما أن يسير إلى يزيد بن معاوية ، وإما أن يذهب للثغور للجهاد في سبيل الله .
فأبوا إلا أن يستسلم لهم ، فأبى الحسين ، فقاتلوه ، فقتل مظلوماً شهيداً رضي الله عنه .
"البداية والنهاية" (11/473-520) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"فإن يزيد بن معاوية ولد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ولم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ; ولا كان من الصحابة باتفاق العلماء ; ولا كان من المشهورين بالدين والصلاح وكان من شبان المسلمين ; ولا كان كافرا ولا زنديقا ; وتولى بعد أبيه على كراهة من بعض المسلمين ورضا من بعضهم وكان فيه شجاعة وكرم ولم يكن مظهرا للفواحش كما يحكي عنه خصومه . وجرت في إمارته أمور عظيمة : - أحدها مقتل الحسين رضي الله عنه ; وهو لم يأمر بقتل الحسين ولا أظهر الفرح بقتله ; ولا نكت بالقضيب على ثناياه - رضي الله عنه - ولا حمل رأس الحسين - رضي الله عنه - إلى الشام لكن أمر بمنع الحسين رضي الله عنه وبدفعه عن الأمر . ولو كان بقتاله فزاد النواب على أمره ; ...... فطلب منهم الحسين رضي الله عنه أن يجيء إلى يزيد ; أو يذهب إلى الثغر مرابطا ; أو يعود إلى مكة . فمنعوه رضي الله عنه إلا أن يستأسر لهم وأمر عمر بن سعد بقتاله ، فقتلوه مظلوما ، له ولطائفة من أهل بيته . رضي الله عنهم وكان قتله رضي الله عنه من المصائب العظيمة فإن قتل الحسين , وقتل عثمان قبله : كانا من أعظم أسباب الفتن في هذه الأمة وقتلتهما من شرار الخلق عند الله" انتهى .
"مجموع الفتاوى" (3/410-413) .
وقال أيضا (25/302-305) :
"فلما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما يوم عاشوراء قتلته الطائفة الظالمة الباغية ، وأكرم الله الحسين بالشهادة ، كما أكرم بها من أكرم من أهل بيته . أكرم بها حمزة وجعفرا وأباه عليا وغيرهم وكانت شهادته مما رفع الله بها منزلته وأعلى درجته ، فإنه هو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة ، والمنازل العالية لا تنال إلا بالبلاء ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل : أي الناس أشد بلاء ؟ فقال : (الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل . يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ، وإن كان في دينه رقة خفف عنه ، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة) رواه الترمذي وغيره .
فكان الحسن والحسين قد سبق لهما من الله تعالى ما سبق من المنزلة العالية ، ولم يكن قد حصل لهما من البلاء ما حصل لسلفهما الطيب ، فإنهما ولدا في عز الإسلام ، وتربيا في عز وكرامة ، والمسلمون يعظمونهما ، ويكرمونهما ، ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستكملا سن التمييز ، فكانت نعمة الله عليهما أن ابتلاهما بما يلحقهما بأهل بيتهما ، كما ابتلى من كان أفضل منهما ، فإن علي بن أبي طالب أفضل منهما ، وقد قتل شهيدا ، وكان مقتل الحسين مما ثارت به الفتن بين الناس ، كما كان مقتل عثمان رضي الله عنه من أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن بين الناس ، وبسببه تفرقت الأمة إلى اليوم ....
فلما خرج الحسين رضي الله عنه ورأى أن الأمور قد تغيرت ، طلب منهم أن يدعوه يرجع أو يلحق ببعض الثغور ، أو يلحق بابن عمه يزيد فمنعوه هذا وهذا ، حتى يستأسر وقاتلوه فقاتلهم فقتلوه وطائفة ممن معه مظلوما شهيدا ، شهادة أكرمه الله بها وألحقه بأهل بيته الطيبين الطاهرين . وأهان بها من ظلمه واعتدى عليه " انتهى .
الإسلام سؤال وجواب
نسأل الله رب العالمين أن يرضى عن الحسن وعن الحسين، وعن آل البيت أجمعين، وأن يجمعنا معهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى من الجنة.
الحُسين رضي الله تبارك وتعالى عنه ريحانةُ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نُحِبُّه ونُوَالِيه ولا نغلو فيه رضي الله تبارك وتعالى عنه, لم يكن أفضلَ من أبيه, ولا أفضلَ ومن عثمان, ولا أفضلَ من عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين, وقُتل شهيدًا مظلومًا أكرمه الله ربُّ العالمين بالشهادة، فكان ماذا؟!
ننصب عليه المناحة كما تفعل الرافضة!!
ويأتونَ بتلك الأفعال الخبيثة القبيحة, وغَلَوا في عليٍّ وبَنِيِه، وكَفَّرُوا الأصحاب رضوان الله عليهم, وسَبُّوا أمهات المؤمنين,على المسلمين أن يَتَنَبَّهُوا لخطورة هؤلاء, وألا يُشاكلُوهم, وعليهم ألا يُشاكلوا - أعني: أهل السُّنَّة - عليهم ألا يُشاكلوا النَّواصب الذين يُبغضون آل البيت, يتخذون يوم عاشوراء عيدًا ومَوسِمًا! وليس كذلك, إنما هو يوم صالحٌ يصوم فيه المُسلم لله ربِّ العالمين تَقَرُّبًا، يُكَفِّر اللهُ له بصيامه ذنوبَ سَنَةٍ مَضَت بشروط تكفير الذنوب كما هو معلوم.
نسأل الله أنْ يعفو عنَّا جميعًا وأنْ يرحمنا إنَّه على كل شيء قدير، نسأل الله أنْ يوفقنا لكل خير, وأنْ يهدينا للتي هي أقوم, وأنْ يُقيمنا على ذلك حتى نلقى وجه ربِّنا الكريم.
وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق