الاثنين، 10 أكتوبر 2016

05- الخاتمة من مجلس 13 إلى 15


المجلس الثالث عشر
من مجالس قراءة متن
القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى
الخاتمة

إذا قال قائل قد عرفنا بطلان مذهب أهل التأويل في باب الصفات، ومن المعلوم أن الأشاعرة من أهل التأويل فكيف يكون مذهبهم باطلًا وقد قيل: إنهم يمثلون اليوم خمسة وتسعين بالمائة من المسلمين؟!
وكيف يكون باطلاً
وقدوتهم في ذلك أبو الحسن الأشعري؟
وكيف يكون باطلاً
وفيهم فلان وفلان من العلماء المعروفين بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم؟
قلنا: الجواب عن السؤال الأول: أننا لا نسلم أن تكون نسبة الأشاعرة بهذا القدر بالنسبة لسائر فِرق المسلمين، فإن هذه دعوى تحتاج إلى إثبات عن طريق الإحصاء الدقيق.
ثم لو سلمنا أنهم بهذا القدر أو أكثر فإنه لا يقتضي عصمتهم من الخطأ؛ لأن
العصمة في إجماع المسلمين لا في الأكثر.
ثم نقول: إن
إجماع المسلمين قديمًا ثابت على خلاف ما كان عليه أهل التأويل، فإن السلف الصالح من صدر هذه الأمة "وهم الصحابة" الذين هم خير القرون والتابعون لهم بإحسان وأئمة الهدى من بعدهم كانوا
مجمعين على إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من الأسماء والصفات، وإجراء النصوص على ظاهرها اللائق بالله تعالى من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. وهم خير القرون بنص الرسول صلى الله عليه وسلم، وإجماعهم حجة مُلزمة؛ لأنه مقتضى الكتاب والسنة، وقد سبق نقل الإجماع عنهم في القاعدة الرابعة من قواعد نصوص الصفات.

والجواب عن السؤال الثاني: أن أبا الحسن الأشعري وغيره من أئمة المسلمين لا يدَّعون لأنفسهم العصمة من الخطأ، بل لم ينالوا الإمامة في الدين إلا حين عرفوا قدر أنفسهم ونزلوها منزلتها وكان في قلوبهم من تعظيم الكتاب والسنة ما استحقوا به أن يكونوا أئمة، قال الله تعالى"
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ" السجدة: 24. وقال عن إبراهيم"إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِرًا لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"النحل: 120 - 121.
ثم إن هؤلاء المتأخرين الذين ينتسبون إليه
لم يقتدوا به الاقتداء الذي ينبغي أن يكونوا عليه، وذلك أن أبا الحسن كان له مراحل ثلاث في العقيدة:
المرحلة الأولى: مرحلة الاعتزال: اعتنق مذهب المعتزلة أربعين عامًا يقرره ويناظر عليه، ثم رجع عنه وصرح بتضليل المعتزلة وبالغ في الرد عليهم
"مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيميه ص72 جـ4..
المرحلة الثانية: مرحلة بين الاعتزال المحض والسنة المحضة سلك فيها طريق أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كُلاب
"مجموع الفتاوى" ص556 جـ5.قال شيخ الإسلام ابن تيميه ص471 من المجلد السادس عشر من مجموع الفتاوى، لابن قاسم "والأشعري وأمثاله برزخ بين السلف والجهمية أخذوا من هؤلاء كلامًا صحيحًا ومن هؤلاء أصولاً عقلية ظنوها صحيحة وهي فاسدة". أهـ.
المرحلة الثالثة: مرحلة اعتناق مذهب أهل السنة والحديث مقتدياً بالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كما قرره في كتابه: "الإبانة عن أصول الديانة" وهو من آخر كتبه أو آخرها.
قال في مقدمته"
جاءنا - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - بكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، جمع فيه علم الأولين، وأكمل به الفرائض والدين، فهو صراط الله المستقيم، وحبله المتين، من تمسك به نجا، ومن خالفه ضل وغوى وفي الجهل تردى، وحث الله في كتابه على التمسك بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فقال عز وجل"وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا"الحشر: 7.. إلى أن قال: فأمرهم بطاعة رسوله كما أمرهم بطاعته، ودعاهم إلى التمسك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كما أمرهم بالعمل بكتابه، فنبذ كثير ممن غلبت شقوته، واستحوذ عليهم الشيطان، سنن نبي الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم، وعدلوا إلى أسلاف لهم قلدوهم بدينهم ودانوا بديانتهم، وأبطلوا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفضوها وأنكروها وجحدوها افتراءً منهم على الله "قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ".
ثم ذكر - رحمه الله - أصولاً من أصول المبتدعة، وأشار إلى بطلانها ثم قال "فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة، والجهمية، والحرورية، والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون؟
قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا - عز وجل - وبسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل قائلون، ولمن خالف قولَه مجانبون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل" ثم أثنى عليه بما أظهر الله على يده من الحق وذِكر ثبوت الصفات، ومسائل في القدر، والشفاعة، وبعض السمعيات، وقرر ذلك بالأدلة النقلية والعقلية.
والمتأخرون الذين ينتسبون إليه أخذوا بالمرحلة الثانية من مراحل عقيدته، والتزموا طريق التأويل في عامة الصفات، ولم يثبتوا إلا الصفات السبع المذكورة في هذا البيت:
حي عليم قدير والكلام له إرادة وكذاك السمع والبصر
على خلاف بينهم وبين أهل السنة في كيفية إثباتها
.ولما ذكر شيخ الإسلام ابن تيميه ما قيل في شأن الأشعرية ص359 من المجلد السادس من مجموع الفتاوى لابن قاسم قال:
"ومرادهم الأشعرية الذين ينفون الصفات الخبرية، وأما من قال منهم بكتاب (الإبانة) الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك فهذا يعد من أهل السنة. وقال قبل ذلك في ص310: وأما الأشعرية فعكس هؤلاء وقولهم يستلزم التعطيل، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وكلامه معنى واحد، ومعنى آية الكرسي وآية الدين، والتوراة، والإنجيل واحد، وهذا معلوم الفساد بالضرورة". أهـ.
وقال تلميذه ابن القيم في النونية ص312 من شرح الهراس ط الإمام:
واعلم بأن طريقهم عكس الطريق المستقيم لمن له عينان
إلى أن قال:
فاعجب لعميان البصائر أبصروا كون المقلد صاحب البرهان
ورأوه بالتقليد أولى من سواه بغير ما بصر ولا برهان
وعموا عن الوحيين إذ لم يفهموا معناهما عجباً لذي الحرمان
وقال الشيخ محمد أمين الشنقيطي في تفسيره "أضواء البيان" ص319 جـ2 على تفسير آية استواء الله تعالى على عرشه التي في سورة الأعراف "اعلم أنه غلط في هذا خلق لا يحصى كثرة من المتأخرين، فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من معنى الاستواء واليد مثلاً في الآيات القرآنية هو مشابهة صفات الحوادث وقالوا: يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعاً. قال: ولا يخفى على أدنى عاقل أن حقيقة معنى هذا القول أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله تعالى والقول فيه بما لا يليق به - جل وعلا-. والنبي صلى الله عليه وسلم الذي قيل له"وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ". لم يبين حرفاً واحداً من ذلك مع إجماع من يعتد به من العلماء على أنه صلى الله عليه وسلم لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، وأحرى في العقائد لاسيما ما ظاهره المتبادر منه الكفر والضلال المبين حتى جاء هؤلاء الجهلة من المتأخرين فزعموا أن الله أطلق على الظاهر المتبادر كفر وضلال يجب صرف اللفظ، عنه، وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتاب أو سنة، سبحانك هذا بهتان عظيم. ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله - جل وعلا - ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والحق الذي لا يشك فيه أدنى عاقل أن كل وصف وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فالظاهر المتبادر منه السابق إلى فهم من في قلبه شيء من الإيمان هو التنزيه التام عن مشابهة شيء من صفات الحوادث. قال: وهل ينكر عاقل أن السابق إلى الفهم المتبادر لكل عاقل هو منافاة الخالق للمخلوق في ذاته وجميع صفاته؟ والله لا ينكر ذلك إلا مكابر.
والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات لا يليق بالله، لأنه كفر وتشبيه، إنما جر إليه ذلك تنجيس قلبه بقذر التشبيه بين الخالق والمخلوق، فأداة شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله - جل وعلا - وعدم الإيمان بها مع أنه - جل وعلا - هو الذي وصف بها نفسه، فكان هذا الجاهل مشبهًا أولاً، ومعطلاً ثانيًا، فارتكب ما لا يليق بالله ابتداءً وانتهاءً، ولو كان قلبه عارفًا بالله كما ينبغي، معظماً لله كما ينبغي، طاهرًا من أقذار التشبيه لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه أن وصف الله تعالى بالغ من الكمال والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فيكون قلبه مستعدًا للإيمان بصفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق على نحو قوله"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"215
. أهـ. كلامه رحمه الله.
والأشعري أبو الحسن - رحمه الله - كان في آخر عمره على مذهب أهل السنة والحديث، وهو إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. ومذهب الإنسان ما قاله أخيرًا إذا صرح بحصر قوله فيه كما هي الحال في أبي الحسن كما يعلم من كلامه في "
الإبانة". وعلى هذا فتمام تقليده اتباع ما كان عليه أخيرًا وهو التزام مذهب أهل الحديث والسنة؛ لأنه المذهب الصحيح الواجب الاتباع الذي التزم به أبو الحسن نفسه.
______________
(210) سورة السجدة، الآية: 24.
(211) سورة النحل، الآيتان: 120 - 121.
(212) "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيميه ص72 جـ4.
(213) "مجموع الفتاوى" ص556 جـ5.
(214) سورة الحشر، الآية: 7.
(215) سورة الشورى، الآية: 11.

***************** 


المجلس الرابع عشر
من مجالس قراءة متن
القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى
تابع الخاتمة
الأسئلة الثلاثة:
إذا قال قائل قد عرفنا بطلان مذهب أهل التأويل في باب الصفات، ومن المعلوم أن الأشاعرة من أهل التأويل فكيف يكون مذهبهم باطلًا وقد قيل:
إنهم يمثلون اليوم خمسة وتسعين بالمائة من المسلمين؟!

وكيف يكون باطلاً وقدوتهم في ذلك أبو الحسن الأشعري؟

وكيف يكون باطلاً وفيهم فلان وفلان من العلماء المعروفين بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم؟


والجواب عن السؤال الثالث من وجهين:
الأول: أن الحق لا يوزن بالرجال، وإنما يوزن الرجال بالحق، هذا هو الميزان الصحيح وإن كان لمقام الرجال ومراتبهم أثر في قبول أقوالهم كما نقبل خبر العدل ونتوقف في خبر الفاسق، لكن ليس هذا هو الميزان في كل حال، فإن الإنسان بشر يفوته من كمال العلم وقوة الفهم ما يفوته، فقد يكون الرجل دَيِّنًا وذا خلق ولكن يكون ناقص العلم أو ضعيف الفهم، فيفوته من الصواب بقدر ما حصل له من النقص والضعف، أو يكون قد نشأ على طريق معين أو مذهب معين لا يكاد يعرف غيره فيظن أن الصواب منحصر فيه ونحو ذلك.
الثاني: أننا إذا قابلنا الرجال الذين على طريق الأشاعرة بالرجال الذين هم على طريق السلف وجدنا في هذه الطريق من هم أجَلّ وأعظم وأهدى وأقْوَم من الذين على طريق الأشاعرة، فالأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبوعة ليسوا على طريق الأشاعرة.
وإذا ارتقيت إلى من فوقهم من التابعين لم تجدهم على طريق الأشاعرة.
وإذا علوت إلى عصر الصحابة والخلفاء الأربعة الراشدين لم تجد فيهم من حذا حذو الأشاعرة في أسماء الله تعالى وصفاته وغيرهما مما خرج به الأشاعرة عن طريق السلف.
ونحن لا ننكر أن لبعض العلماء المنتسبين إلى الأشعري لهم  قدَمَ صدقٍ في الإسلام والذَّب عنه، والعناية بكتاب الله تعالى وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم رواية ودراية، والحرص على نفع المسلمين وهدايتهم،ولكن هذا لا يستلزم عصمتهم من الخطأ فيما أخطئوا فيه، ولا قبول قولهم في كل ما قالوه، ولا يمنع من بيان خطئهم ورده لما في ذلك من بيان الحق وهداية الخلق.ولا ننكر أيضًا أن لبعضهم قصدًا حسنًا فيما ذهب إليه وخفي عليه الحق فيه، ولكن لا يكفي لقبول القول حسن قصد قائله، بل لابد أن يكون موافقًا لشريعة الله - عز وجل - فإن كان مخالفًا لها وجب رده على قائله كائنًا من كان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" رواه مسلم، كتاب الأقضية (178.
ثم إن كان قائله معروفًا بالنصيحة والصدق في طلب الحق اعتذر عنه في هذه المخالفة وإلا عومل بما يستحقه بسوء قصده ومخالفته.
فإن قال قائل: هل تُكَفِّرون أهل التأويل أو تُفَسِّقُونهم؟
قلنا: الحكم بالتكفير والتفسيق ليس إلينا بل هو إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو من الأحكام الشرعية التي مردها إلى الكتاب والسنة، فيجب التثبت فيه غاية التثبت، فلا يكفر ولا يفسق إلا من دل الكتاب والسنة على كفره أو فسقه.
والأصل في المسلم الظاهر العدالة بقاء إسلامه وبقاء عدالته حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي. ولا يجوز التساهل في تكفيره أو تفسيقه؛ لأن في ذلك محذورين عظيمين:
أحدهما: افتراء الكذب على الله تعالى في الحكم، وعلى المحكوم عليه في الوصف الذي نَبَزَهُ به.
الثاني: الوقوع فيما نبز به أخاه إن كان سالمًا منه. ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كَفَّر الرجلُ أخاه فقد باء بها أحدهما". وفي رواية: "إن كان كما قالَ وإلا رجعت عليه". وفيه عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "ومن دعا رجلاً بالكفرِ أو قال عدوَ اللهِ وليسَ كذلك إلا حارَ عليه" رواه مسلم، كتاب الإيمان (60، 61.
وعلى هذا فيجب قبل الحكم على المسلم بكفر أو فسق أن ينظر في أمرين:
أحدهما: دلالة الكتاب أو السنة على أن هذا القول أو الفعل موجب للكفر أو الفسق.
الثاني: انطباق هذا الحكم على القائل المعين أو الفاعل المعين بحيث تتم شروط التكفير أو التفسيق في حقه وتنتفي الموانع.
ومن أهم الشروط أن يكون عالمًا بمخالفته التي أوجبت أن يكون كافرًا أو فاسقًا؛ لقوله تعالى:"وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا" النساء، الآية: 115. وقوله: "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ" التوبة، الآيتان: 115، 116.
ولهذا قال أهل العلم: لا يكفر جاحد الفرائض إذا كان حديث عهد بإسلام حتى يُبَيَّنَ له.
ومن الموانع أن يقع ما يوجب الكفر أو الفسق بغير إرادة منه ولذلك صور:
منها: أن يُكره على ذلك فيفعله لداعي الإكراه لا اطمئنانًا به، فلا يكفر حينئذ؛ لقوله تعالى"مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" النحل، الآية: 106
ومنها: أن يُغْلَقَ عليه فكرُهُ، فلا يدري ما يقول لشدة فرح أو حزن أو خوف أو نحو ذلك.
ودليله ما ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح" رواه مسلم، كتاب التوبة (2745 - 2747.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه - رحمه الله - ص180 جـ12 مجموع الفتاوى لابن قاسم: "وأما التكفير فالصواب أن من اجتهد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقصد الحق فأخطأ لم يكفر بل يغفر له خطؤه، ومن تبين له ما جاء به الرسول فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر، ومن اتبع هواه وقَصَّرَ في طلبِ الحقِّ وتكلم بلا علم فهو عاصٍ مذنبٌ ثم قد يكون فاسقًا. وقد يكون له حسنات ترجح على سيئاته".أهـ.
وقال في ص229 جـ3 من المجموع المذكور في كلام له: "هذا مع أني دائمًا ومن جالسني يعلم ذلك مني أني من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا عُلِمَ أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة وفاسقًا أخرى وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية. وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا بمعصية. وذكر أمثلة ثم قال:
"
وكنت أُبَيِّن أن ما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضًا حق لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، إلى أن قال:
والتكفير هو من الوعيد؛ فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحُجَّةُ، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض آخر، أوجب تأويلها وإن كان مخطئًا.
وكنت دائمًا أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: "إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين. ففعلوا به ذلك فقال الله: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك. فغفر له" رواه البخاري، كتاب الرقاق (6481)، ومسلم، كتاب التوبة (2756، 2757..
فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذرى بل اعتقد أنه لا يُعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخافُ اللهَ أن يعاقبَهُ فغفرَ له بذلك.
والمتأوِّلُ من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من مثل هذا".أهـ.
وبهذا عُلم الفرقُ بين القولِ والقائلِ، وبين الفعلِ والفاعلِ، فليس كلُّ قولٍ أو فعلٍ يكون فِسقًا أو كفرًا يُحْكَمُ على قائلِهِ أو فاعلِهِ بذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله ص165 جـ35 من مجموع الفتاوى "وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع، يقال هي كفر قولًا يطلق كما دلت على ذلك الدلائل الشرعية، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه، مثل من قال: إن الخمر أو الربا حلال لقرب عهده بالإسلام أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلامًا أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن الكريم ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها. إلى أن قال: فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة كما قال الله تعالى: "لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ " سورة النساء، الآية 165:. وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان.أهـ.
وبهذا عُلم أن المقالة أو الفعلة قد تكون كفرًا أو فسقًا، ولا يلزم من ذلك أن يكون القائم بها كافرًا أو فاسقًا إما لانتفاء شرط التكفير أو التفسيق أو وجود مانع شرعي يمنع منه. لكن من انتسب إلى غير الإسلام أعطي أحكام الكفار في الدنيا، ومن تبين له الحق فأصر على مخالفته تبعًا لاعتقاد كان يعتقده أو متبوع كان يعظمه أو دنيا كان يؤثرها فإنه يستحق ما تقتضيه تلك المخالفة من كفر أو فسوق. فعلى المؤمن أن يبني معتقده وعمله على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيجعلهما إمامًا له يستضيء بنورهما، ويسير على منهاجِهِمَا؛ فإن ذلك هو الصراط المستقيم الذي أمر الله تعالى به في قوله: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" الأنعام، الآية: 153.
وليحذر ما يسلكه بعض الناس من كونه يبني معتقده أو عمله على مذهب معين، فإذا رأى نصوص الكتاب والسنة على خلافه حاول صرف هذه النصوص إلى ما يوافق ذلك المذهب على وجوه متعسفة، فيجعل الكتاب والسنة تابعين لا متبوعين، وما سواهما إمامًا لا تابعًا! وهذه طريق من طرق أصحاب الهوى؛ لا أتباع الهدى، وقد ذم الله هذه الطريق في قوله: "وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ" سورة المؤمنين، الآية: 71.
والناظر في مسالك الناس في هذا الباب يرى العجب العجاب، ويعرف شدة افتقاره إلى ربه فهو حري أن يستجيب الله تعالى له سؤله، يقول الله تعالى"وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" البقرة، الآية: 186.
فنسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن رأى الحق حقًا واتبعه، ورأى الباطل باطلاً واجتنبه. وأن يجعلنا هداة مهتدين، وصلحاء مصلحين وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا منه رحمته إنه هو الوهاب. والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على نبي الرحمة وهادي الأمة إلى صراط العزيز الحميد بإذن ربهم وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

تم في اليوم الخامس عشر من شهر شوال سنة 1404هـ
بقلم مؤلفه الفقير إلى الله
محمد الصالح العثيمين



المجلس الخامس عشر
من مجالس قراءة متن
القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى
تابع الخاتمة

نص الكلمة التي نشرناها في "مجلة الدعوة" السعودية
في عدد (911) الصادر يوم الاثنين الموافق 4/1/1404هـ
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا.
أما بعد:
فقد كنا تكلمنا في بعض مجالسنا على معنى معية الله تعالى لخلقه، ففهم بعض الناس من ذلك ما ليس بمقصود لنا ولا معتقد لنا، فكثر سؤال الناس وتساؤلهم ماذا يقال في معية الله لخلقه؟
وإننا:
أ لئلا يعتقد مخطئ أو خاطئ في معية الله ما لا يليق به.
بـ ولئلا يتقول علينا متقول ما لم نقله أو يتوهم واهم فيما نقوله ما لم نقصده.
جـ ولبيان معنى هذه الصفة العظيمة التي وصف الله بها نفسه في عدة آيات من القرآن الكريم ووصفه بها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
نقرر ما يأتي:
أولاً: معية الله تعالى لخلقه ثابتة بالكتاب والسنة، وإجماع السلف، قال الله تعالى"وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ" الحديد، الآية: 4. وقال تعالى"إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ" النحل، الآية: 128. وقال تعالى لموسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون"لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى" طه، الآية: 46. وقال عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم"إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" التوبة: الآية: 40. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت" وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" 1002.. حسنه شيخ الإسلام ابن تيميه في العقيدة الواسطية، وضعفه بعض أهل العلم، وسبق قريبًا ما قاله الله تعالى عن نبيه من إثبات المعية له.
وقد أجمع السلف على إثبات معية الله تعالى لخلقه.
ثانيًا: هذه المعية حق على حقيقتها، لكنها معية تليق بالله تعالى ولا تشبه معية أي مخلوق لمخلوق؛ لقوله تعالى عن نفسه"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" الشورى، الآية: 11. وقوله"هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّّا. وقوله"وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ" الإخلاص، الآية: 4 . وكسائر صفاته الثابتة له حقيقة على وجه يليق به ولا تشبه صفات المخلوقين.
قال ابن عبد البر: "أهل السنة مجمعون على الصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محدودة". أ.هـ. نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيميه في الفتوى الحموية ص87 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوى لابن قاسم.
وقال شيخ الإسلام في هذه الفتوى ص102 من المجلد المذكور: "ولا يحسب الحاسب أن شيئًا من ذلك - يعني مما جاء في الكتاب والسنة - يناقض بعضَهُ بعضًا ألْبَتَّه مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: "وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ" الحديد، الآية: 4. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قِبَلَ وجهِهِ"صحيح البخاري 753. ونحو ذلك، فإن هذا غلط وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله"هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" الحديد، الآية: 4. فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: "والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه"ضعيف.
وذلك أن كلمة - مع - في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرُهَا في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قُيِّدَت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى فإنه يقال: مازلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا. ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة. أ.هـ. كلامه.
ثالثًا: هذه المعية تقتضي الإحاطة بالخلق علمًا وقدرة، وسمعًا وبصرًا وسلطانًا وتدبيرًا وغير ذلك من معاني ربوبيته إن كانت المعية عامة لم تخص بشخص أو وصف كقوله تعالى"وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ" الحديد، الآية: 4. وقوله"مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا" المجادلة، الآية: 7.
فإنْ خُصت بشخصٍ أو وصفٍ اقتضت مع ذلك النصر والتأييد والتوفيق والتسديد.
مثال المخصوصة بشخص: قوله تعالى لموسى وهارون"إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى" طه، الآية: 46. وقوله عن النبي صلى الله عليه وسلم"لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" التوبة، الآية: 40.
ومثال المخصوصة بوصف: قوله تعالى"وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" الأنفال، الآية: 46. وأمثاله في القرآن الكريم كثيرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه في الفتوى الحموية ص103 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوى لابن قاسم قال: "ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد. فلما قال"يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا. إلى قوله"وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ" الحديد، الآية: 4. دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته. قال: ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه في الغار لا تحزن إن الله معنا، كان هذا أيضًا حقًا على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد، وكذلك قوله"إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ" النحل، الآية: 128 .وكذلك قوله لموسى وهارون"إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى". هنا المعية على ظاهرها وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد.
إلى أن قال: "ففرق بين معنى المعية ومقتضاها وربما صار مقتضاها من معناها فيختلف باختلاف المواضع".أهـ.
وقال محمد بن الموصلي في كتاب"استعجال الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" لابن القيم في المثال التاسع ص409 ط الإمام: "وغاية ما تدل عليه - مع - المصاحبة والموافقة والمقارنة في أمر من الأمور، وذا الاقتران في كل موضع بحسبه ويلزمه لوازم بحسب متعلقه، فإذا قيل: الله مع خلقه بطريق العموم كان من لوازم ذلك علمه بهم وتدبيره لهم وقدرته عليهم، وإذا كان ذلك خاصاً كقوله"إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ". كان من لوازم ذلك معيته لهم بالنصرة والتأييد والمعونة.
فمعية الله تعالى مع عبده نوعان: عامة وخاصة، وقد اشتمل القرآن الكريم على النوعين، وليس ذلك بطريق الاشتراك اللفظي بل حقيقتها ما تقدم من الصحبة اللائقة. أهـ.
وذكر ابن رجب في شرح الحديث التاسع عشر من الأربعين النووية: "أن المعية الخاصة تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة، وأن العامة تقتضي علمه واطلاعه ومراقبته لأعمالهم".
وقال ابن كثير في تفسير آية المعية في سورة المجادلة: ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه المعية معية علمه، قال: ولا شك في إرادة ذلك ولكن سمعه أيضًا مع علمه بهم وبصره نافذ فيهم فهو - سبحانه - مطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء". أهـ.
رابعًا: هذه المعية لا تقتضي أن يكون الله تعالى مختلطًا بالخلق أو حالاً في أمكنتهم، ولا تدل على ذلك بوجه من الوجوه؛ لأن هذا معنى باطل مستحيل على الله عز وجل، ولا يمكن أن يكون معنى كلام الله ورسوله شيئًا مستحيلًا باطلًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه في "العقيدة الواسطية" ص115 ط ثالثة من شرح محمد خليل الهراس: "وليس معنى قوله"وَهُوَ مَعَكُمْ" أنه مختلط بالخلق فإن هذا لا توجبه اللغة، بل القمر آية من آيات الله تعالى من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان". أهـ.
ولم يذهب إلى هذا المعنى الباطل إلا الحلولية من قدماء الجهمية وغيرهم الذين قالوا: إن الله بذاته في كل مكان. تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا. و "كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا".
وقد أنكر قولَهم هذا من أدركه من السلف والأئمة، لما يلزم عليه من اللوازم الباطلة المتضمنة لوصفه تعالى بالنقائص وإنكار علوه على خلقه.
وكيف يمكن أن يقول قائل: إن الله تعالى بذاته في كل مكان أو إنه مختلط بالخلق وهو - سبحانه - قد "وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ" البقرة، الآية: 255 ، "وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ" الزمر، الآية: 67.
خامسًا: هذه المعية لا تناقض ما ثبت لله تعالى من علوه على خلقه، واستوائه على عرشه، فإن الله تعالى قـد ثبت له العلو المطلق علو الذات، وعلو الصفة، قال الله تعالى"وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ" البقرة، الآية: 255. وقال "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى" الأعلى، الآية: 1. وقال تعالى"وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" النحل، الآية: 60.
وقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة، والإجماع والعقل، والفطرة على علو الله تعالى.
أما أدلة الكتاب والسنة فلا تكاد تحصر.مثل قوله تعالى"فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ" غافر، الآية: 12. وقوله تعالى"وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه" الأنعام، الآية: 18. وقوله"أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا" الملك، الآية: 17.وقوله"تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ المعارج، الآية: 4.وقوله"قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّك" النحل، الآية: 102. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا تأمَنوني وأنا أمينُ من في السماءِ"صحيح مسلم 1064. وقوله: "والعرش فوق الماء والله فوق العرش" صححه ابن القيم – لايعتمد على هذا التصحيح – توقف-. وقوله " ولا يصعدُ إلى اللهِ إلا الطِّيبُ "البخاري 7430 معلق
ومثل إشارته إلى السماء يوم عرفة. يقول: "اللهم اشهد" صحيح مسلم 1218، يعني على الصحابة حين أقروا أنه بلغ.
ومثل إقراره الجارية حين سألها: "أين الله؟" قالت: في السماء. قال: "أعتقها فإنها مؤمنة"صحيح مسلم 537.
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة.
وأما الإجماع: فقد نقل إجماع السلف على علو الله تعالى غير واحد من أهل العلم.
وأما دلالة العقل على علو الله تعالى: فلأن العلو صفة كمال والسفول صفة نقص، والله تعالى موصوف بالكمال منزه عن النقص.
وأما دلالة الفطرة على علو الله تعالى: فإنه ما من داع يدعو ربه إلا وجد من قلبه ضرورة بالاتجاه إلى العلو من غير دراسة كتاب ولا تعليم معلم.
وهذا العلو الثابت لله تعالى بهذه الأدلة القطعية لا يناقض حقيقة المعية وذلك من وجوه:
الأول: أن الله تعالى جمع بينهما لنفسه في كتابه المبين المنزه عن التناقض؛ ولو كانا متناقضين لم يجمع القرآن الكريم بينهما.
وكل شيء في كتاب الله تعالى تظن فيه التعارض فيما يبدو لك فأعد النظر فيه مرة بعد أخرى حتى يتبين لك. قال الله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا" النساء, الآية: 82..
الثاني: أن اجتماع المعية والعلو ممكن في حق المخلوق. فإنه يقال: مازلنا نسير والقمر معنا، ولا يعد ذلك تناقضًا، ومن المعلوم أن السائرين في الأرض والقمر في السماء، فإذا كان هذا ممكناً في حق المخلوق فما بالك بالخالق المحيط بكل شيء.
قال الشيخ محمد خليل الهراس ص115 في شرحه "العقيدة الواسطية" عند قول المؤلف: بل القمر آية من آيات الله تعالى، من أصغر مخلوقاته وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان. قال: وضرب لذلك مثلاً بالقمر الذي هو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغيره أينما كان، قال: فإذا جاز هذا في القمر وهو من أصغر مخلوقات الله تعالى؛ أفلا يجوز بالنسبة إلى اللطيف الخبير الذي أحاط بعباده علماً وقدرة والذي هو شهيد مطلع عليهم يسمعهم ويراهم ويعلم سرهم ونجواهم، بل العالم كله سمواته وأرضه من العرش إلى الفرش بين يديه كأنه بندقة في يد أحدنا، أفلا يجوز لمن هذا شأنه، أن يقال: إنه مع خلقه مع كونه عاليًا عليهم بائنًا منهم فوق عرشه؟!. أهـ.
الوجه الثالث: أن اجتماع العلو والمعية لو فرض أنه ممتنع في حق المخلوق لم يلزم أن يكون ممتنعًا في حق الخالق، فإن الله لا يماثله شيء من خلقه"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" الشورى، الآية: 11.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه في "العقيدة الواسطية" ص116 ط ثالثة من شرح الهراس: "وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه وفوقيته لا ينافي ما ذكره من علوه وفوقيته، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته وهو عليٌّ في دنوه قريبٌ في علوه". أهـ.
وخلاصة القول في هذا الموضوع كما يلي:
 1 أن معية الله تعالى لخلقه ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف.
 2 أنها حق على حقيقتها على ما يليق بالله تعالى من غير أن تشبه معية المخلوق للمخلوق.
 3أنها تقتضي إحاطة الله تعالى بالخلق علمًا وقدرة، وسمعًا وبصرًا وسلطانًا وتدبيرًا، وغير ذلك من معاني ربوبيته إن كانت المعية عامة، وتقتضي مع ذلك نصرًا وتأييدًا وتوفيقًا وتسديدًا إن كانت خاصة.
4 أنها لا تقتضي أن يكون الله تعالى مختلطًا بالخلق، أو حالاً في أمكنتهم، ولا تدل على ذلك بوجه من الوجوه.
 5 إذا تدبرنا ما سبق علمنا أنه لا منافاة بين كون الله تعالى مع خلقه حقيقة، وكونه في السماء على عرشه حقيقة. سبحانه وبحمده لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حرره الفقير إلى الله تعالى
محمد الصالح العثيمين
في 27/11/1403هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق