الاثنين، 31 مايو 2021

02- شرح القواعد الفقهية

 


2 ـ ذي النِّعَمِ الواسعةِ الغزيرةْ* والحِكَمِ الباهرةِ الكثيرةْ


النِّعَمِ : جمع نِعمة ـ بكسر النون ـ وهي : المنفعةُ المفعولةُ على جهة الإحسان إلى الغير
وأما النَّعمة ـ بفتح النون ـ فهي التَّنَعُّمُ .
الواسعةِ : من السَّعة ، وهي ضد الضيق .
الغزيرةْ: من الغزارة ، وهي الكثرة ضد القِلة .
ونِعَم اللهِ تعالى موصوفةٌ بهاتين الصفتين.قال تعالى " وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ " . سورة النحل / آية : 18 . لاَ تُحْصُوهَا ـ : لسعتها وكثرتها .
فهذا بيان لسعة وكثرة فضله وعطاياه الشاملة لجميع خلقه ، فلا يخلو مخلوق من نعمِهِ طرفة عين ، ولا سيّما الآدمي ، فإنَّ الله فضَّله وشرّفه ، وسخر له ما في السموات وما في الأرض ، وأسبغ عليه نعمَه الظاهرة والباطنة ، ولا يمكن تعداد نعمه لسعتها وكثرتها .
ولكنه تعالى رضِيَ مَنْ شَكَر نعمه ، بالاعتراف بها ، والتحدث بها ، وصرفها في طاعة الله ، وأن لا يستعان بشيءٍ من نعمه على معاصيه .

والحِكَمِ : جمع حِكْمة ، وهي : اسم جامع لكل ما يمنع من الوقوع في الخطأ ، وذلك بوضع كل شيء في مكانه المناسب من جميع الوجوه ، وهذا في حق من له الكمال المطلق سبحانه وتعالى .
الباهرةِ : أي المدهشة للعقول لعظمتها ودقتها .
والحِكَمِ الباهرةِ الكثيرةْ: يعني أن حكمه تعالى كثيرة تبهر العقول ، وتتعجب منها غاية العجب ، فإن جميع مخلوقاته ومأموراته مشتملة على غاية الحكمة .
ومَنْ نظر في هذا الكون وعجائبه وسمائِه وأرضه ، وشمسه وقمره ، وكواكبه وفصوله وحَيَوانِهِ ، وأشجاره ونباته ، وجباله وبحاره ، وجميع ما يحتوي عليه ، رأى فيه العجائب العظيمة ، ويكفي الإنسان نفسه ، فإنه إذا نظر إلى كل عضو من أعضائِه علِمَ أنه لا يصلح في غير مَحَلِّهِ .

فإذا أردت أن تكون حكيمًا ، فيجب أن تفهم هذا ، وتضع الأمور في أماكنها ، كما يحب الله ويرضى ، وهذا فضل من الله ، قال تعالى "يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا " . سورة البقرة / آية : 269 .

رسالة القواعد الفقهية / السعدي / ص : 6 / بتصرف . وشرحها للدكتور / مصطفى كرامة مخدوم .

o تعقيب :

من حِكَم الله ما لا يدركه العباد ، ولكن المتقرر عند أهل الإيمان قولاً وعملاً واعتقادًا أن أحكام الله لها حِكم ومصالح ، وأن على العبد الانقياد والتسليم ـ للأحكام الشرعية ـ سواء ظهرت له الحكمة أو لم تظهر له .
منظومة القواعد الفقهية ... / شرح : عُبيد الجابري .

===============
3 ـ ثُمَّ الصلاةُ مَعْ سلامٍ دائمِ* على الرسولِ القُرَشِىِّ الخَاتِمِ

4 ـ وآلهِ وصحبهِ الأبرارِ * الحَائِزِي مراتبَ الفَخارِ
ثُمَّ: حرف عطف ، هذا عطف جملة على جملة ، وليس عطف مفرد على مفرد .القواعد الفقهية ... / شرح : عُبيد الجابري . الصلاةُ مَعْ سلامٍ : الثناء والذكر الجميل ، وكذلك الدعاء
إذا تأمل الإنسان كلام العرب ، وراعاه كله ، وجد أن المراد بالصلاة : الثناء والذكر الجميل ، وأنه لا يُراد بلفظ الصلاة في جميع المواطن الدعاء . يدل على هذا أن بعض النصوص الواردة في الصلاة لا يمكن أن تُفسر بالدعاء ، مثل : نسبة الصلاة لله ـ عز وجل ـ " هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ " سورة الأحزاب / آية : 43 ، لا يمكن أن يُقال هو الذي يدعو .
ثم أيضًا إن الدعاء يتعدى باللام ـ دعا فلان لفلان ـ ، بينما الصلاة تتعدى بلفظ على .
لذلك فإن الأظهر ـ هنا ـ أن يُراد بلفظ الصلاة الثناء والذكر الجميل .
مَعْ سلامٍ: بمعنى التحية ، كما يأتي أيضًا بمعنى السلامة من النقص .
وقول البعض : إن المراد بالصلاة من الله الرحمة ، هذا قول مرجوح ، فإن النصوص الشرعية جاءت بالتفريق بين الصلاة والرحمة ، والله سبحانه جمع بينهما في قوله تعالى :
" أُولَئكَ عَليْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمةٌ " سورة البقرة / آية : 157 .
والأصل في العطف إفادة المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه . وهذا الأصح ، وقد رواه البخاري تعليقًا :
قال البخاري في صحيحه معلَّقًا : قال أبو العالية : صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة وصلاة الملائكة الدعاء .
صحيح البخاري . متون / ( 65 ) ـ كتاب : تفسير القرآن / ( 10 ) ـ باب : قوله" إن الله وملائكته يصلون ... " سورة الأحزاب ( آية : 56 ) / ص : 577 .
فالصلاة من الله : هي ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى ففيها حصول الخير ، وصلاتنا وسلامنا على الرسول : فهي دعاء الله بأن يذكر رسولنا بالثناء الجميل والمحامد في الملأ الأعلى وأن يسلمه ويدفع عنه الشر والآفات والنقائص .
والأولى عند ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الجمع بين الصلاة والسلام ، لظاهر قوله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" .سورة الأحزاب / آية : 56 .
حيث أمرنا بالفعلين الصلاة والسلام عليه .
على الرسولِ : الرسول هو من أُوحِيَ إليه بشرع وأُمر بتبليغه .
أما النبي : من بُعِثَ لتقرير شرع مَنْ قَبْله ، وهو بالطبع مأمور بتبليغه ، إذ من المعلوم أن العلماء مأمورون بذلك والأنبياء بذلك أولى كما لا يخفى .
شرح العقيدة الطحاوية ـ تحقيق الألباني / ص : 38 / بتصرف .
القُرَشِىِّ : أي المنسوب إلى قريش ، وهم بنو النضر بن كنانة ، فكل من كان من ولده فهو قرشي ، وهذا هو الراجح من أقوال أهل النسب لقوله صلى الله عليه وسلم :" نحن بنو النضر بن كنانة ، لا نَقْفوا أُمَّنَا (1) ، ولا ننتفي مِن أبينا " .
سنن ابن ماجه [ المجلد الواحد ] / تحقيق الشيخ الألباني / ( 20 ) ـ كتاب : الحدود / ( 37 ) ـ باب :من نفى رجلاً من قبيلته / حديث رقم : 2612 / ص : 444 / حديث حسن .
( 1 ) لا نَقْفوا أُمَّنَا : أي لا نتبع أُمَّنا في النسب ، لأن الولد ينسب لأبيه دون أمه .
القواعد الفقهية ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم .
الخَاتِمِ: الذي ختم الله به أنبياءَه ورسله ، فلا نبي بعده .
قال تعالى" مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبيِينَ " . سورة الأحزاب / آية : 40 .
* عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أنا خاتم الأنبياء ... " .
رواه البزار ، وقال الشيخ الألباني : صحيح لغيره في : صحيح الترغيب والترهيب / ج : 2 / ( 11 ) ـ كتاب : الحج /( 14 ) ـ باب : التغيب في الصلاة في المسجد الحرام / حديث رقم : 1175 / ص : 45 .
الخاتم ، هذا وصف للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والخاتِم بكسر التاء اسم فاعل ، فكأنه قد جاء آخر الرسل ، والخاتَم بفتح التاء اسم آله ، كأنه قد خُتمت به الرسالة فإن قال قائل : إن عيسى ـ عليه السلام ـ سيأتي في آخر الزمان ، فكيف يوصف محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه خاتم الرسل ؟! والجواب على ذلك :
أن عيسى ـ عليه السلام ـ قد تقدم زمانه ، ثم إن عيسى ـ عليه السلام ـ لا يأتي بصفة كونه نبيًّا ، وإنما يأتي بصفة كونه عبدًا متبِعًا لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا يأتي بشرع جديد ، وإنما يكون متبِعًا لهدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
القواعد الفقهية ... / شرح : سعد بن ناصر الشثري .
وآلهِ : صلى المؤلف أيضًا على آل النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ويكون بذلك متبِعًا لهدي النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ؛ فإن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كان قد أمر أصحابه في التشهد بالصلاة عليه وعلى آله ، ولذلك نقول : اللهم صل على محمد ، وعلى آل محمد .
و " الآل " في لغة العرب يراد بها عدد من المعاني ، منها القرابة . فآل فلان قرابته ، ويراد به الأتباع ، فيُقال آل فلان بمعنى أتباعه ، ولذلك فُسر قوله ـ عز وجل ـ " ... أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ".سورة غافر / آية : 46 ، فإن المراد بآل فرعون هنا أتباعه لأن مِنْ قرابة فرعون من هداه الله عز وجل ودخل في دين الإسلام .
القواعد الفقهية ... / شرح : سعد بن ناصر الشثري .
آله : وآل النبيّ على الراجح هم : أتباعه على دينه إلى يوم القيامة ، فيدخل فيهم الصحابة ، فيكون عطفهم عليهم من باب عطف الخاص على العام ، لمزيتهم وشرفهم بالعلم النافع والعمل الصالح والتقَى الذي أوجب لهم مفاخر الدنيا والآخرة رضي الله عنهم .
رسالة القواعد الفقهية / السعدي / ص : 7 / بتصرف .
والغالب في: الآل : أنه لا يضاف إلا إلى ما فيه شرفٌ ، فلا يُقال : آل الزَّبال ، ... .
منظومة القواعد ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم .
وصحبهِ : الصحب اسم جمع لصاحب . كركب جمع راكب ، وهو في اللغة المُعَاشِر الملازِم .
والمراد : الصحابي ، والصحابي هو من لقي النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ مؤمنًا به ولو لم تطل صحبته ، ومات على ذلك ، ولو تخللت ذلك رِدة بعدها إسلام ، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ـ أما غيره من الناس فإنه لا يكون صاحبًا إلا من لازمه مدة يستحق بها أن يقال صاحب ـ ، أما لو مات على ردته فهو كافر ولا يسمى صحابيًّا ، فمن مات على الكفر فهو صاحب إبليس وليس صاحب محمد ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ .
وهنا على القول بأن آل النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أتباعه عى دينه ، فعطف الصحابة من عطف الخاص على العام ، وفي الجمع بين الصحب والآل مخالفة للمبتدعة لأنهم يوالون الآل دون الصحب وقد جاءت النصوص في فضل الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وبيان مكانتهم ، ومنزلتهم .
قال تعالى " وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعوهُم بِإِحْسانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنهُ .". سورة التوبة / آية : 100 .
وقال تعالى" مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا " . سورة الفتح / آية : 29 . إلى غير ذلك من النصوص .
الأبرارِ : الأبرار جمع " بارّ " وهو كل مؤمن جَمع بين الإخلاص والصدق في الأقوال والأعمال ، فهم اتصفوا بذلك ، إيمان مع صدق وإخلاص ـ رضوان الله عليهم ـ .
منظومة ... / شرح : عبيد الجابري .
الحَائِزِي مراتبَ الفَخارِ : " الحائزي " : حاز الشيء جمعه . " المراتب " : جمع مرتبة وهي المنزِلة . " الفخار " : جمع مفخرة وهي المأثرة والمنقبة وقيل الشرف .
وشرف الصحبة لا يعدلُه شرف ، فأصحاب محمد ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ اجتمع لهم من الشرف والمآثر والمناقب ما لا يجتمع لغيرهم ألْبتة . ومن تلكم المناقب :
1ـ السبق بالإسلام . 2 ـ تمام الاتباع .
3 ـ أنهم هم صفوة الأمة .
4ـ العدالة ، فالصحابة كلهم عدول ، ولهذا نص علماء المصطلح على أن جهالة الصحابي لا تضر ، فإذا قال الثقة : حدثني من صحب النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أو رجل من صحب النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فلا نبحث . أما مَنْ دون الصحابة من الناس يبحث في حاله من حيث الثقة والضعف والكذب . وأما الصحابة فلا يُبحث عن أحوالهم ، فهم عدول ، ورضي الله عنهم ليوم القيامة ويُقال في من دون الصحابة من الأسانيد : هذا على شرط الشيخين أو على شرط ...
منظومة القواعد ... / شرح : عبيد الجابري / بتصرف .

5 ـ اعلَم ـ هُدِيتَ ـ أَنَّ أفضلَ المِنَنْ * عِلمٌ يُزيلُ الشَّكَ عَنْكَ والدَّرنْ

6 ـ وَيكْشِفُ الحقَّ لذي القلوبِ * وَيُوصِلُ العَبْدَ إلى المَطْلوبِ
إن الله عز وجل امتن على عباده بنعم كثيرة ، ومن أفضل وأعظم ما مَنَّ الله تعالى به على عبده هو العلم النافع . لذا قال الناظم :
اعلَم هُدِيتَ :هذه الجملة مشتملةعلى: " التحريض " وهو قوله " اعلَم " ، ومشتملة أيضًا على " الدعاء " وهو قوله " هُديتَ " ، أي اعلم هداك الله .
هُدِيتَ : دعاء له بالهداية ، وهي التوفيق .
فإذا اجتمع هذان الأمران في خطاب ، فهو مبالغة في الحث والتحريض .
والدعاء لطالب العلم بالتوفيق والخير فيه تأليفٌ لقلوب الطُّلاب على مشقة العلم والصبر على تحصيله ، وهو من أخلاق العلماء ، ودعاء العالم الصالح من مظان الإجابة . والأصل فيه قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لابن عباس ـ رضي الله عنهما " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".
* ..... عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : أنه سكب للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وَضوءًا عند خالته ميمونة فلما خرج قال " من وضع لي وَضوئي ؟ "

قالت : ابن أختي يا رسول الله ، قال " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " .
أخرجه الطبراني ، وصححه الشيخ الألباني في : سلسلة الأحاديث الصحيحة / ج : 6 / حديث رقم : 2589 / ص : 173 .
أفضلَ المِنَنْ : أي : أحسن النعم التي وهبها الله للعبد بعد نعمة الإيمان .و " المنن " مِنَّة وهي النعمة ، مَنَّ اللهُ عليَّ بكذا ، أي أنعم عليَّ بكذا .
قال تعالى" لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ " .سورة آل عمران / آية : 164 .
أي : أنْعَم . وإذا قلتَ " منَّ " عني بكذا معناه : قطع .
عِلمٌ يُزيلُ الشَّكَ عَنْكَ والدَّرنْ :قام الناظم هنا ببيان منزلة العلم ، وأن العلم نعمة من النعم التي ينعم الله بها على عباده ، وقد جاءت النصوص متواترة في بيان فضل العلم ، ومكانته ، ومنزلته ، منها قوله سبحانه :
" هلْ يَستَوِي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ " .سورة الزمر / آية : 9 .منظومة القواعد ... / شرح : عبيد الجابري / بتصرف .
وضابط العلم النافع هو : إنه يزيل عن القلب شيئين :
الشك والدرن .
العلم هو : إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع .
الشك هو : التردد ، وضده اليقين ، والمراد به مرض الشبهات .
والدرن هو : القّذَرُ وزنًا ومعنى ، والمراد به هنا مرض الشهوات .
والمرض قسمان : حسي ، ومعنوي .
أما الحسي : فهو اعتلال البدن بالأمراض .
والمعنوي نوعان :
مرض الشبهات: وهي الأباطيل التي تُشبه الحق ، سُميت بذلك لشبهها بالحق ، ومنه قوله تعالى " هُوَ الّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنا وَما يذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ " .سورة آل عمران / آية : 7 .
2 ـ مرض الشهوات (1) : وهي الغرائز المحرمة كالزنا .
( 1 ) الشهوة : المقصود بها هنا : حب المعاصي .

ومنه قوله تعالى " فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ " .سورة الأحزاب / آية : 32 .
وقد يجتمعان في العبد ، وقد ينفرد أحدهما .
فضابط العلم النافع هو ما أزال عن القلب : الشبهة ، والشهوة . لأن الشبهات تورث الشك ،وأما الشهوات فتورث درن القلب وقسوة القلب ، وتثبيط البدن عن الطاعات .
فإذا أزال العلم النافع الشبهة والشهوة حل محل الأول اليقين الذي هو ضد الشك ، وحل محل الثاني الإيمان التام الذي يوصل العبد إلى المطلوب من رضا الله ـ عز وجل ـ ، وكلما ازداد الإنسان علمًا حصل له كمال اليقين وكمال الإرادة وكمال الخشية ، قال تعالى "إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَماءُ ".سورة فاطر / آية : 28 .
وإذا كان العلم بهذه المنزلة وبهذه المثابة فإنه ينبغي للإنسان أن يحرص على طلبه وأن يستزيد من طلب العلم ،وكذلك لم يسأل النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ المزيد من شيء إلا من العلم كما أمره ربه سبحانه، قال تعالى "وَقل رَّبِّ زِدْني عِلْمًا"سورة طه / آية : 114 .
القواعد الفقهية ... / خالد الصقعبي / بتصرف .
فما العلاج ؟ !
مرض الشبهات : يعالج باليقين (1) .
( 1 ) باليقين : أي بالعلم ليتضح الحق الذي يؤدي إلى اليقين.
ومرض الشهوات : يعالج بالصبر (2) .
( 2 ) بالصبر : أي بالصبر عن المعصية ، والصبر على الطاعة
وبهما تُنالُ الإمامةُ في الدين ؛ قال تعالى"وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ " .سورة السجدة / آية : 24 . وجمع الله بينهما في قوله تعالى" إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ". سورة العصر / آية : 3 .
فالحق يدفع الشبهات ، والصبر يكف عن الشهوات . فضابط العلم النافع : هو العم الذي يزيل عن صاحبه الشبهات والشهوات .
ودرجات اليقين ثلاثة : كل واحدة أعلى من الأخرى : علم اليقين ، وعين اليقين ، وق اليقين .
فعلم اليقين : كعلمنا الآن الجنة والنار .
وعين اليقين : إذا ورد الناس القيامة . قال تعالى "وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ* وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ " .سورة الشعراء / آية : 90 ، 91 . فرأَوهما قبل الدخول .
وحق اليقين : إذا دخلوهما. الدرة المرضية شرح منظومة / ص : 32 .
وثمرة العلم النافع : أن يكشف الحق لذي القلوب ويوصل العبد إلى المطلوب ، من رضا الله .

لذا قال الناظم :
6 ـ وَيكْشِفُ الحقَّ لذي القلوبِ* وَيُوصِلُ العَبْدَ إلى المَطْلوبِ
يكْشِفُ : أي يظهر ويُبرِز .
الحقَّ : هو الثابت واللازم من العلم النافع ـ وضده الباطل وهو الزائل .
لذِي القلوبِ : الأصل أن يقالَ : لذوي القلوب بالجمع ، لكن مراعاة الوزنِ يوقعُ في هذه المضايق .
لذِي القلوبِ : أي لأصحاب القلوب الواعية ، لأن القلوب قسمان : قلوب واعية وهي المستعدة لقبول الحق ، وقلوب منكوسة وهذه لا يصل إليها من الحق شيئًا ، أعمتها الأهواء والفتن حتى أصبحت لا تعرف معروفًا ولا تنكر منكرًا إلا ما أُشربت من الهوى .
القواعد الفقهية شرح : عبيد الجابري .منظومة القواعد ... / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم .
والمراد بذوي القلوب : أصحاب العقول ، والقلب يطلقُ على العقل ، كقوله تعالى" إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكرَى لِمَن كانَ لَهُ قَلْبٌ ... " .سورة ق / آية : 37 .
أي : عقل ؛ لأن القلب محل الفهم والإدراك ، كما قال تعالى "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا " . سورة الأعراف / آية : 179 .
فأُضيف كل عمل إلى آلته وأداته .
وَيُوصِلُ العَبْدَ : أي يُبْلِغُه . والعبد يطلق على ثلاثة معانٍ ؛ كما ذكره الراغب الأصفهاني :

1 ـ عبدٌ بحكم الشرع : وهو الإنسان الذي يصحُّ بيعه ، ويُقابله الحُرُّ ، ومنه قولُه تعالى "وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ" . سورة البقرة / آية : 178 .
2 ـ عبدٌ بالإيجاد : وهو كل من أوجده اللهُ تعالى ، فيشمل المخلوقات جميعًا ، كما قال تعالى "إن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ".سورة مريم / آية : 93 .
3 ـ عبدٌ بالطاعة والعبادة ، وهو نوعان :
أ ـ عبدٌ لله تعالى : وهذه عبودية شرف ، ومنه قوله تعالى " وَعِبادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا" . سورة الفرقان / آية : 63 .
ب ـ عبدٌ لغير الله : وهذه عبوديةُ ذِلَّةٍ ومَهانةٍ ، ومنه الحديث : تَعسَ عبد الدينار .
* فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال " تعس عبدُ الدينار والدرهم والقطيفة والخميصةِ إن أُعطِىَ رضيَ ... ، وإن لم يُعْطَ لم يرض " .
صحيح البخاري . متون / ( 56 ) ـ كتاب : الجهاد والسير / ( 70 ) ـ باب :الحراسة في الغزو في سبيل الله / حديث رقم : 2886 / ص : 340 .
والعبد في البيت المذكور ؛ من الإطلاق الثاني ، وهو العبدُ بالإيجاد الشامل للمعاني الأخرى .

وأصل مادة " عبد " يدل على التذليل ، كما تقول العرب : طريق مُعبَّد أي : مُذَلَّل .
وتقول : عَبَّدْتُ فلانًا ، أي : ذللتُه واتخذتُه عبدًا ، ومنه قوله تعالى "أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ".سورة الشعراء / آية : 22 .
المَطْلوبِ : أي المقصود .
ففي هذا إشارة إلى أن العلم ليس مقصودًا لذاته ، وإنما يُطلبُ للوصول به إلى العمل ورضا الله تعالى ورِضوانه ، كما قيل : هتف العلمُ بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل .
منظومة القواعد الفقهية / للسعدي / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم / بتصرف .
o مستخلص ووقفة :
المعنى الإجمالي للبيتين : اعلم وفقك الله أن منن الله على العباد كثيرة ، وأفضل ما منَّ الله على عبده ـ بعد نعمة الإيمان ـ العلم النافع ، وهذا هو الخير الذي أشار إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
* ..... قال : سمعتُ معاوية بن أبي سُفيان ، وهو يخطبُ يقول : إني سمعتُ رسولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يقول " من يرد الله به خيرًا يفقهْهُ في الدين ، وإنما أنا قاسم ويعطي اللهُ " .
صحيح مسلم . متون / ( 12 ) ـ كتاب الزكاة / ( 33 ) ـ باب : النهي عن المسألة /حديث رقم : 100 ـ ( 1037 ) / ص : 245.
وكل مسلم يفقه في الدين ، فمن مات على التوحيد له نصيب من هذا الحديث ، فهو يفقه شيئًا في الدين ، وليس معنى ذلك أنه يفقه كل شيء ، ويتفاوت الناس ي ذك زيادة ونقصًا .
فهذا الحديث يجعلك تجتهد في تحصيل الفهم في دينك ، والفهم مِنَّة من الله سبحانه وتعالى .
لذا كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسأل الله العلم النافع ، ويتعوذ من العلم الذي لا ينفع .
الدرة المرضية في شرح منظومة القواعد الفقهية / ص : 31 .
* عن أم سلمة ، أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كان يقول إذا صلى الصبح حين يُسلِّمُ :
" اللهم ! إني أسألُك علمًا نافعًا ، ورزقًا طيبًا ، وعملاً مُتَقبَّلاً " .سنن ابن ماجه المجلد الواحد / تحقيق الشيخ الألباني / ( 5 ) ـ كتاب : إقامة الصلوات والسنة فيها / ( 32 ) ـ باب : ما يُقال بعد التسليم / حديث رقم : 925 / ص : 170 / صحيح .
* عن كثير بن قيس ؛ قال : كنت جالسًا عند أبي الدرداء في مسجد دمشق ، فأتاه رجل ، فقال : يا أبا الدرداءِ ! أتيتُك من المدينة ـ مدينة رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ . لحديث بلغني أنك تُحدث به عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال : فما جاء بك تجارةٌ ؟ . قال : لا . قال : ولا جاء به غيرُهُ ؟ قال : لا .
قال : فإني سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يقول " من سلك طريقًا يلتمسُ فيه علمًا سَهَّل الله له طريقًا إلى الجنة ، وإن الملائكةَ لتضعُ أجنحتها رضًا لطالب العلم ، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض ، حتى الحيتان في الماء ، وإن فضل العالم على العابد كفضلِ القمر على سائر الكواكب ، إن العلماء هم ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا ، وإنما ورَّثوا العلم ،
فمن أخذه أخذ بحظ وافر (1)" .
سنن ابن ماجه [ المجلد الواحد ] / تحقيق الشيخ الألباني / ( 17 ) ـ باب : فضل العلماء والحث على طلب العلم / حديث رقم : 223 / ص : 56 / صحيح .
( 1 ) الحظ الوافر : النصيب الوافر . حاشية سنن ابن ماجه / ص : 56 .
ما هو العلم المقصود ؟
هو العلم النافع الذي يزكي النفس ويوَلِّد فيها خشية الله تعالى فتسري منها إلى سائر الجوارح ، ويثمر العمل الصالح الذي ينال به رحمة الله تعالى والجنة .
حاشية اللآليء والدرر السعدية / ص : 47 .
* عن زيد بن أرقم ، قال لا أقولُ لكم إلا كما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يقول : كان يقول " اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل ، والجبن والبخل ، والهَرَمِ ، وعذاب القبر . اللهم آتِ نفسي تقواها ، وزكِّهَا أنت خيرُ من زكاها ، أنت وليُّهَا ومولاها ، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفسٍ لا تشبع ، ومن دعوة لا يُستجاب لها " .
صحيح مسلم . متون / ( 48 ) ـ كتاب : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار / ( 18 ) ـ باب :التعوذ من شر ما عمل ، ومن شر ما لم يعمل / حديث رقم : 73 ( 2722 ) / ص : 689 .
تعوذ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من علم لا ينفع ، لتعدد أنواع العلوم فمنها :
أ ـ علوم ضارة ضررًا محضًا ، أو شرها أعظم من خيرها .
كعلوم السحر ، وتعلم الباطل بغير بصيرة بالحق .
ب ـ ومنها علوم مباحة وهي التي تُشغل العبد عن العلوم النافعة في دينه .
ج ـ ومنها العلم الشرعي الذي لا يعمل به صاحبه ، يعرف الخير فيتركه ويعرف الشر فيقتحمه .
د ـ أما العلوم النافعة فهي علوم الدين ، وما أعان عليها من علوم الآلة . بشرط أن تثمر هذه العلوم خشية الله ، وتثمر الخشية العمل الصالح الذي ينال به رضا الله .
اللآليء والدرر السعدية / للسعدي / ص : 48 / بتصرف .
س : من هو القلب الخاشع ؟
القلب الخاشع هو الذي يخاف ويضطرب عند ذكر الله سبحانه وتعالى ، ثم يلين ويطمئن ويركن إلى حمى مولاه ، فمن كان كذلك ، كان قلبه محلاً لنور الله الذي يجعله الله في قلب عبده فرقانًا بين الحق والباطل .
[ ونور القلب الخاشع هو العلم النافع ] .
حاشية : اللآليء والدُّرر السعدية / للسعدي / ص : 47 / بتصرف .
فندعو بما علمنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم :
* فعن أبي هريرة قال : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يقول " اللهم ! انفعني بما علمتني ، وعلمني ما ينفعني ، وزدني علمًا " .
سنن ابن ماجه [ المجلد الواحد ] / تحقيق الشيخ الألباني / ( 23 ) ـ باب :
الانتفاع بالعلم والعمل به / حديث رقم : 251 / ص : 61 / صحيح .
* وصية الرسول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بطلبة العلم :
عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال " سيأتيكم أقوامٌ يطلبون العلمَ ، فإذا رأيتموهم فقولوا لهم : مرحبًا مرحبًا بوصية رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، واقنوهم " . قلتُ للحَكَم (1) : ما " اقنوهم " ؟ . قال : علموهم .
سنن ابن ماجه [ المجلد الواحد ] / تحقيق الشيخ الألباني / ( 22 ) ـ باب :
الوصاة بطلبة العلم / حديث رقم : 247 / حسن .
( 1 ) الحَكَم : من رجال هذا السند [ ... قال حدثنا الحَكَمُ بن عبدَةَ ، عن أبي هارون العبديّ ، عن أبي سعيد الخدري ] .
ـ وحاصل ذلك أن العلم : شجرة تثمر كل قول حسن وعمل صالح ، والجهل شجرة تثمر كل قول وعمل خبيث
وإذا كان العلم بهذه المثابة فينبغي للإنسان أن يحرص كل الحرص ، ويجتهد كل الاجتهاد في تحصيله ، وأن يديم الاستعانة بالله في تحصيله ، ويبدأ بالأهم فالأهم.
ومن أهمه معرفة أصوله وقواعده التي ترجع مسائله إليها .
رسالة القواعد الفقهية / للسعدي / ص : 8 / بتصرف .
لذا قال الناظم ـ رحمه الله ـ :
فاحرص على فهمك للقواعد ... .


7 ـ فَاحْرِصْ عَلى فَهمكَ للقواعِدِ * جَامِعةِ المسائل الشوارِدِ
8 ـ فَتَرْتَقي في العِلْمِ خَيرَ مُرْتَقَى * وَتَقْتَفِي سُبْلَ الذي قَدْ وُفِّقا

لما ذكر الناظم عليه رحمة الله تعالى عموم أهمية العلم الشرعي وفضله وحض عليه وحرض على تحصيله ، خص من العلم الشرعي ما يريد شرحه وهي القواعد الفقهية ، فحض على تحصيل هذا العلم وفهمه فقال : احرص على فهمك ... .
منظومة القواعد ... / شرح : خالد إبراهيم الصقعبي .
احْرِصْ : هو شدة الطلب والعناية .
والفَهمِ: الإدراك للشيء .
القواعِدِ : جمع قاعدة، وهي في اللغة : الأساس . ومنه قوله تعالى :
" فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ " . سورة النحل / آية : 26 .
وفي الاصطلاح : حكم كلي تدخل فيه جزئيات كثيرة .
وتُطلق القواعد على القواعد الأصولية والقواعد الفقهية ، والمراد هنا الثاني ، بقرينة قول الناظم : جامعة المسائل الشوارد ، وكون النظم في علم القواعد الفقهية ، ولكنه باعتبار الغالب ؛ لأنه ذكر بعض القواعد الأصولية أيضًا ـ مثل : قواعد ألفاظ العموم ، ... ـ .
والفرق بينهما من وجوه : سبق ذكرها في بداية المبحث .
المسائل : هي الوقائع التي يُسألُ عنها .
الشوارِدِ : جمع شاردة ، وهي النافرة وغيرُ المجموعة .
فمن شأن القواعد الفقهية أنها تجمعُ المسائل المتناثرة تحت حُكم كُلِّيّ ، فَيسهُل على الإنسانِ معرفة أحكام الجزئيات ، ودراسة الفقه ، لأن دراسة الفقه عن طريق القواعد أسهل وأشمل ، كما أن دراسته عن طريق الجزئيات أدق وأحكم .
والجزئيات الفقهية لا تتناهى ، ويستجد في كل زمان من المسائل ما لم يكن معروفًا قبل ذلك . قال الأهدلُ عن الفقه
وهو فنٌ واسعٌ منتشرُ فروعه بالعدِّ لا تنحصرُ .
وإنما تضبطُ بالقواعد فحفظها من أعظم الفوائدِ .
ـ والحفظ وحده لا يكفي ولابد من الفهم كما ذكر الناظم .
شرح منظومة القواعد الفقهية / للسعدي / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم / بتصرف .
تَرْتَقي : أي تعلو وتصعدُ . والمرتقى هو : الشيء الذي يحصل به الارتقاء ، كالدَّرَجِ والسُّلّم .
الاقتفاء : اتباع الأثر .
السُّبْل : جمع سبيل ، وهو الطريق وزنًا ومعنى ، ويُذَكَّر ويؤنث .
و " باء " السُّبْل في النظم ساكنةٌ ، مراعاةً للوزنِ .
والمعنى : أنك لو حرصت على فهم القواعد الكلية للعلوم التي تجمع المسائل المتفرقة ، فإنك تعلو بذلك في منازل العلم ، وتكون بذلك متبِعًا لآثار العلماء الموفقين لطريق الحق .
منظومة القواعد الفقهية / للسعدي / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم / بتصرف يسير .
وقوله : وتقتفي سُبل ... : فيه إشارة إلى أن المرء يجب عليه الاتباع ، والسير على منهج الصالحين ممن قَبله ، وعلى ذلك تدل النصوص الشرعية ؛ منها قوله تعالى "وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ " .سورة التوبة / آية : 100 . وقوله سبحانه ". وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ .".سورة لقمان / آية : 15 .
بل أن الله توعد من ترك سبيل المؤمنين في قوله سبحانه " وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لهُ الْهدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءتْ مَصِيرًا " . سورة النساء / آية : 115 .
القواعد الفقهية ... / شرح : الشيخ سعد بن ناصر الشثري .
*******************


9 ـ هَذِهِ قَوَاعدٌ نَظَمْتُها *مِن كُتْبِ أهلِ العِلْمِ قدْ حصَّلتُها
10ـ جَزاهُم المَوْلى عَظِيمَ الأَجْرِ* والعَفوَ مَعْ غُفْرانِه والبِرِّ
قَوَاعدٌ : بالتنوين مراعاة للوزن ، والأصل بدون تنوين ، لأنه ممنوع من الصرف لأنه صيغة منتهى الجموع ، على وزن مفاعل ، ولكن الاضطرار مبيحٌ لذلك باتفاق ، قال ابنُ مالكٍ :
ولاضطرارٍ وتناسب صرِّف ذو المنعِ والمصروفُ قد لا ينصرِفْ .
نَظَمْتُها : أي جعلتها في نظم ، والنظم : عقد المنثور ، كما أن الحلّ هو نثرُ المنظومِ ، وأصل النظم في اللغة : جمع اللؤلؤ في سلكٍ ، وإنما اختار النظمَ ـ مع ضيقه ـ لسهولة حفظه وطولِ بقائه في الذهنِ .
ففي هذا إشارة إلى منهج المؤلِّف في القواعد الفقهية ، بأن هذا المؤلَّف خاص بالقواعد ، وفيه إشارة إلى أنها منظومة ، وفيه إشارة إلى أن هذه القواعدَ ليست من بنات أفكارهِ ، ونتائج اختراعاتِه ، ولكنها مُستفادةٌ من كتب العلماء .
وهذا من أدب الناظم ، وحُسن أخلاقه ، فإن من بركة العلم أن يُنْسَبَ إلى صاحبه .وهذا منهج أهل الإيمان فمنهجهم أنهم لا ينسِبون إلى أنفسهم ما ليس لهم .
* فعن أسماء بنت أبي بكر ، أن امرأة قالت : يا رسول الله ، إن لي جارة ـ تَعني ضَرَّة ـ هل عليَّ جناحٌ إن تَشَبَّعْتُ لها بما لم يعطِ زوجي (1) ؟ قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم " المتشبِّعُ بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زور " .
سنن أبي داود [ المجلد الواحد ] / تحقيق الشيخ الألباني / ( 35 ) ـ كتاب : الأدب / ( 92 ) ـ باب :فيمن يتشبع بما لم يعط / حديث رقم : 4997 / ص : 903 / صحيح .


( 1 ) تشبعت لها ... زوجي : أي ادعت أمام ضرتها بأن زوجها أعطاها كذا وكذا ، وهو لم يعطها ، ولكن لتكيد ضرتها أو ... .
جزاهم : أي : أثابهم .
المولى : لفظ مشترك ، يُطلقُ على المعتَقِ ، والمعتِقِ ، والمالكِ ، والناصرِ ، والجار ، وابن العم ، والصاحب ، والقريب ، والحليف .
والمراد هنا : المالك والناصر ، وهو الله تعالى ، لقوله سبحانه "ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهمْ " .سورة محمد / آية : 11 .
عَظِيمَ الأَجْرِ: من باب إضافة الصفة إلى الموصوف ، والمراد . أجرًا عظيمًا .
والعَفوَ مَعْ غُفْرانِه : العفو والغُفْران : بمعنى التجاوز عن الذنب ، والأول ـ العفو ـ أبلغ ؛ لأنه يفيد محو الشيء وإزالته ، بخلاف الغفران فإنه يدل على التغطية ، وهذا لا يفيد الإزالة .
وهذه دعوة طيبة دعا بها الشيخ السعدي للعلماء الأفاضل ، فنستفيد هذا الأدب ، فالدعاء لأهل العلم من حُسن الأدب ، وجميل الأفعال وهي صفة وسِمة للمؤمنين أجمعين ، كما قال تعالى "وَالَّذِينَ جَاءُو مِن بَعْدِهِم يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا " . سورة الحشر / آية : 10 .
فالدعاء لأهل الإيمان من القربات التي يتقرب بها العباد إلى ربهم ـ عز وجل ـ وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم " من لا يشكر الناس ، لا يشكر الله " .
رواه الترمذي عن أبي هريرة . وصححه الشيخ الألباني في : صحيح الجامع ... /
الهجائي / ج : 2 / حديث رقم : 6601 / ص : 1122 .
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم " ... ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئوا به فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه " .
سنن أبي داود / تحقيق الشيخ الألباني / ( 3 ) ـ كتاب : الزكاة / ( 38 ) ـ باب :عطية من سأل بالله عز وجل / حديث رقم : 1672 / ص : 290 / صحيح .
ومعروف العلوم أعظم من معروف المال ، ولهذا تستغفر النملة في جُحرِها ، والحيتان في بحرها لمعلم الناس الخير .
منظومة القواعد الفقهية / للسعدي / شرح : د . مصطفى كرامة مخدوم / بتصرف .
فجزى الله معلمي الناس الخير خير الجزاء ، ونستغفر لهم مع من في السموات والأرض ومع الحيتان في البحر .
* فعن أبي الدرداء قال : سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يقول " إنه ليستغفرُ للعالم مَن في السمواتِ ومن في الأرض ، حتى الحيتان في البحر " .
سنن ابن ماجه [ المجلد الواحد ] / تحقيق الشيخ الألباني / ( 20 ) ـ باب :

ثواب معلِّم الناس الخير / حديث رقم : 239 / ص : 59 / صحيح .
جزاهم المولى عظيم الأجر والعفو مع غفرانه والبِرِّ ..... آمين .
 
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق