الثلاثاء، 7 يناير 2020

"اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ"

"اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ"

قال أبو داود في سننه :حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ قُدَامَةَ بْنِ أَعْيَنَ ، قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ ذَرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ" جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ يُعَرِّضُ بِالشَّيْءِ لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ " فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ" قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ رَدَّ أَمْرَهُ مَكَانَ رَدَّ كَيْدَهُ.
الكتب » صحيح سنن أبي داود » أبواب النوم» باب في رد الوسوسة .الدرر =

الشرح:
الشَّيْطانُ عَدُوٌّ لدودٌ للمؤمِنينَ؛ يُوسوِسُ لهُم بالكُفرِ، ويُلْقي عليهم الشُّبُهاتِ، ولَكنَّ اللهَ يُؤيِّدُ عِبادَه المؤمِنين ويُثبِّتُهم على الحَقِّ، وقد علَّمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُمَّتَه كيفيَّةَ إزالةِ الشُّكوكِ والوَساوسِ عن صُدورِها، وعلَّمَها ماذا تَفعَلُ في مِثْلِ هذه المواقفِ.
وفي هذا الحَديثِ يَروي أبو هُرَيرةَ رضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «جاءَهُ ناسٌ من أصحابِه فقالوا: يا رَسولَ اللهِ، نَجِدُ في أَنْفُسِنا الشَّيءَ»، أي: مِن الوَساوِسِ ومِن كَيدِ الشَّيطان، ثُمَّ «نُعَظِّمُ أنْ نَتَكَلَّمَ بِه- أو الكلامَ بِه- ما نُحِبُّ أَنَّ لَنا، وأنَّا تَكَلَّمْنا بِه»، أي: لا نُحبُّ ولا نرضَى أن نُخرجَه من صُدورِنا على ألسِنَتِنا مِمَّا يَحويه من مَعانٍ شَيطانِيَّة، ويَثقُل ذلك علينا، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أَوَ قَدْ وَجَدْتُموه؟»، أي: هل وَجَدْتُم ما يُلقيه الشَّيطانُ في نُفوسِكُم، ثمَّ دَفعَكُم إيمانُكُم عن التَّحدُّث به؟ قالوا: «نَعَمْ». فقال النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ذاكَ صَريحُ الإيمانِ»، والمعنى: أنَّ الإيمانَ الخالِصَ والخَوفَ من اللهِ في قُلوبِكُم هو الذي يَمنَعُكُم من قَبول ما يُلْقيهِ الشَّيطانُ في أنْفُسِكم والتَّصديقِ به، حتى صارَ ما يُلقيه إليكم مُجرَّدَ وَسوَسةٍ، ولا يَتمَكَّنُ في قُلوبِكُم منْها شَيءٌ، ولا تَطمَئنُّ إليه أنفُسُكُم. وفي حَديثِ ابنِ عبَّاس رضِيَ اللهُ عنهما عند أبي داوُد، أنَّه لمَّا شَكَى إليه رَجُلٌ ذلك قال: «
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ»؛ فَبيَّنَ أنَّ الأَمرَ انتَهى بأنَّه كان حَديثَ نفْسٍ ولم يَزِدْ على ذلك، وظَهرَ أنَّ صَريحَ الإيمَان ليس معناه: أنَّ الوَسوسةَ نَفسَها هي الإيمَانُ؛ وذلك لأنَّها إنَّما تَتولَّدُ من فِعْلِ الشَّيطان وتَسوِيلِه؛ فَلا تَكونُ إيمانًا صريحًا.
وفي الحَديثِ: بَيانُ أنَّ الشَّيطانَ يَتربَّصُ للمُؤمِن؛ ليَزِيغَهُ عن الإيمانِ إلى الكُفرِ.
وفيه: أنَّ المُؤمِن يَنبَغي عليه التَّخلُّصُ من وَساوِسِ الشَّيطانِ ودَفْعُها
.
الدرر =

"جاءَ ناسٌ مِن أصْحابِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَسَأَلُوهُ: إنَّا نَجِدُ في أنْفُسِنا ما يَتَعاظَمُ أحَدُنا أنْ يَتَكَلَّمَ به، "قالَ: وقدْ وجَدْتُمُوهُ؟" قالوا: نَعَمْ، قالَ: ذاكَ صَرِيحُ الإيمانِ."الراوي : أبو هريرة - المحدث : مسلم - المصدر : صحيح مسلم-الصفحة أو الرقم: 132 - خلاصة حكم المحدث : صحيح = الدرر =


الشرح:وفي هذا الحديثِ أنَّهُ جاءَ ناسٌ مِن أصْحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فَسألُوهُ: إنَّا نجدُ في أنفسِنا ما يَتعاظَمُ أحدُنا أن "يتَكلَّمَ بهِ" أي: بذلكَ الشيءِ مِن غايةِ قُبحِه وإنكارِنا له في الواقعِ، لكنَّه يأتِينا في خواطِرَ، فيتأكَّدُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم مِنهم بِحدوثِ ذلكَ، فيقولُ: وقدْ وجدْتُموهُ؟ قالوا: نَعمْ. قالَ "ذاكَ صَريحُ الإيمانِ أي: إنَّ إنكارَكُمْ لتلكَ الأفكارِ السيِّئةِ العَظيمةِ التي يتسبَّبُ فيها الشيطانُ دليلٌ على صِدقِ الإيمانِ لدَيكمْ، ومَا فَعلتُموهُ هوَ الإيمانُ الحقيقيُّ في عَدمِ التفكُّرِ في ذاتِ اللهِ وتركِ اللهَّثِ وراءَ الشيطانِ؛ وذلكَ أنَّ الشيطانَ يُلقي الشُّبهاتِ في قلوبِ الناسِ بأنَّ اللهَ هوَ الخالقُ، فمَن الذي خلَقهُ؟ والمؤمنُ الحقُّ يُلقي هذه الشُّبُهاتِ خلفَ ظَهرِه ويَطرحُها، ويَستعيذُ باللهِ من الشيطانِ.
وفي الحديثِ: بيانُ أنَّ الشيطانَ يُوسوِسُ لابنِ آدمَ حتى يُخرِجَهُ من الإيمانِ فليحْذرِ المؤمنُ.
وفيه: بيانُ موقِفِ المؤمنِ من وَساوسِ الشَّيطانِ وإلقائهِ الشُّبهاتِ بأنْ يصمُتَ ولا يتكلَّمَ بذلكَ بل يَستعيذُ باللهِ.
= الدرر =

من خلال الأحاديث السابقة ، فإن مجمل ما عالج به النبي صلى الله عليه وسلم شكوى الصحابة ، ما يلي :
أولًا :
تبشيرهم بقوله " ذاك صريح الإيمان " ، و " ذاك محض الإيمان " ، قال القرطبي " معنى هذا الحديث : أن هذه الإلقاءات والوساوس التي تلقيها الشياطين في صدور المؤمنين تنفر منها قلوبهم ، ويعظم عليهم وقوعها عندهم ، وذلك دليل صحة إيمانهم ، ويقينهم ، ومعرفتهم بأنها باطلة ، ومن إلقاءات الشياطين ، ولولا ذلك لركنوا إليها ، ولقبلوها ، ولم تعظم عندهم ، ولا سموها وسوسة "
المفهم للقرطبي : 1 / 344 .
وبمعناه قول النووي في شرحه" استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان ، فإن استعظام هذا ، وشدة الخوف منه ، ومن النطق به ، فضلًا عن اعتقاده ، إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالًا محققًا ، وانتفت عنه الريبة والشكوك " .
شرح النووي على مسلم : 2 / 2.5.
ثم حكى رحمه الله قولًا آخر في المراد بالحديث ، حيث " قيل : معناه أن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه ، فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه ، وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء ، ولا يقتصر في حقه على الوسوسة ، بل يتلاعب به كيف أراد ، فعلى هذا معنى الحديث : سبب الوسوسة محض الإيمان ، أو الوسوسة علامة محض الإيمان ، وهذا القول اختيار القاضى عياض " شرح النووي على صحيح مسلم : 2 / 2.5 .
ثانيًا :
تهوينه صلى الله عليه وسلم ما يجدونه بقوله "
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ" أي أنّ كيد الشيطان وإغوائه لم يبلغا منكم شيئًا ، وقد صار منتهاه إلى أمرٍ ليس بضارِّكم به ، إلا إرادة حزن المؤمن ، وهذا من دأبه مع المؤمنين ، كما قال تعالى في موطن آخر "إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" سورة المجادلة : 10. .

ثالثًا :
الله تعالى برحمته رفع المؤاخذة عن كل ما لا طاقة للإنسان به ، ولم يحمل عباده الآصار والأغلال ، وذلك لما نزل قوله تعالى"
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ "سورة البقرة: 286.
رابعًا : من حصل له ذلك يقول يلجأ إلى والله وستعيذ به سبحانه.
قال الله تعالى "إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" فصلت/36.
وقال تعالى "وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ" المؤمنون/97-98 .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم "وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا ، حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ . كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ" رواه الترمذي :2863، وصححه الألباني في صحيح الترمذي . هنا=
وبشارةٌ لمن أحاطت به الوساوس والخواطر والظنون من كل جانب ألاَّ ييأس ، ولا يضعف ، ولا يحزن ، فالله الأكبر : هو وليُّه ، وكافيه ما أهمّه .والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
= هنا =

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق